فصل: ومن باب أرزاق الذرية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب أرزاق العمال:

قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا ليث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي قال: «استعملني عمر رضي الله عنه على الصدقة فلما فرغت أمر بعُمالة فقلت إنما عملت لله قال خذ ما أعطيت فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني».
قوله: عملني معناه أعطاني العمالة.
وفيه بيان جواز أخذ العامل الأجرة بقدر مثل عمله فيما يتولاه من الأمر، وقد سمى الله تعالى للعاملين سهما في الصدقة فقال: {والعاملين عليها} فرأى العلماء أن يعطوا على قدر غنائهم وسعيهم.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا المعافى حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد عن جبير بن نفير عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا، قال وقال أبو بكر رضي الله عنه أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق».
قلت: وهذا يتأول على وجهين أحدهما: أنه إنما أباح له اكتساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجر مثله وليس له أن يرتفق بشيء سواها. والوجه الآخر أن للعامل السكنى والخدمة- فإن لم يكن له مسكن وخادم استؤجر له من يخدمه فيكفيه مهنة مثله ويكتري له مسكن يسكنه مدة مقامه في عمله.

.ومن باب هدايا العمال:

قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وابن أبي خلف لفظه قالا: حَدَّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة، عَن أبي حميد الساعدي «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد يقال له ابن المُتبية على الصدقة فجاء فقال هذا لكم وهذا لي فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا، لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلاّ جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت».
قلت: في هذا بيان أن هدايا العمال سحت وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة وإنما يهدى إليه المحاباة وليخفف عن المهدي ويسوغ له بعض الواجب عليه وهو خيانة منه وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله.
وفي قوله: «ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا» دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة، والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء، والدابة المرهونة يركبها ويرتفق بها من غير عوض. وفي معناه من باع درهما ورغيفا بدرهمين لأن معلومًا أنه إنما جعل الرغيف ذريعة إلى أن يربح فضل الدرهم الزائد، وكذلك كل تلجئة وكل دخيل في العقود يجري مجرى ما ذكرناه على معنى قول هلا قعد في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا فينظر في الشيء وقرينه إذا أفرد أحدهما عن الآخر وفرق بين قِرانها هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا والله أعلم.

.ومن باب ما يلزم الإمام من أمر الرعية:

قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا يزيد بن أبي مريم أن القاسم بن مخيمرة أخبره أن أبا مريم الأزدي أخبره قال دخلت على معاوية فقال ما أنعَمنا بك أبا فلان، وهي كلمة تقولها العرب فقلت حديث سمعته أخبرك به سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره قال فجعل رجلا على حوائج الناس».
قول ما أنعمنا بك يريد ما جاءنا بك أو ما أعملك إلينا وأحسبه مأخوذًا من قوله نعم ونُعمة عين أي قرة عين؛ وإنما يقال ذلك لمن يعتد بزيارته ويفرح بلقائه كأنه يقول ما الذي أطلعك علينا وحيانا بلقائك، ومن ذلك قولهم أنعم صباحًا هذا أو ما أشبهه من الكلام والله أعلم.

.ومن باب قسم الفيء:

قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن عمر دخل على معاوية، فقال حاجتك يا أبا عبد الرحمن؛ فقال عطاء المُحَرّرين فأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما جاء شيء بدأ بالمحررين.
فقلت يريد بالمحررين المعتقين وذلك أنهم قوم لا ديوان لهم وإنما يدخلون تبعًا في جملة مواليهم، وكان الديوان موضوعا على تقديم بني هاشم ثم الذين يلونهم في القرابة والسابقة وكان هؤلاء مؤخرين في الذكر فاذكر بهم عبد الله بن عمر وتشفع في تقديم أعطيتهم لما علم من ضعفهم وحاجتهم. ووجدنا الفيء مقسوما لكافة المسلمين على ما دلت عليه الأخبار إلاّ من استثنى منهم من أعراب الصدقة، وقال عمر بن الخطاب لم يبق أحد من المسلمين إلاّ له فيه حق إلاّ بعض من تملكون من أرقائكم وإن عشت إن شاء الله ليأتين كل مسلم حقه حتى يأتي الراعي بسر وحِمْير لم يعرق فيه جبينه، واحتج عمر رضي الله عنه في ذلك بقوله: {والذين جاءوا من بعدهم} [الحشر: 10] الآية.
وقال أحمد وإسحاق الفيء للغني والفقير إلاّ العبيد، واحتج أحمد في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس من مال البحرين، والعباس رضي الله عنه غني.
والمشهور، عَن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سوى بين الناس ولم يفضل بالسابقة وأعطى الأحرار والعبيد، وعن عمر رضي الله عنه أنه فضل بالسابقة والقدم وأسقط العبيد ثم رد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأمر إلى التسوية بعد، ومال الشافعي إلى التسوية وشبهه بقسم المواريث.

.ومن باب أرزاق الذرية:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعًا فإليّ وعليّ».
قلت: هذا فيمن ترك دينًا لا وفاء له في ماله فإنه يقضي دينه من الفيء، فأما من ترك وفاء فإن دينه مقضي منه ثم بقية ماله بعد ذلك مقسومة بين ورثته، والضَيَاع اسم لكل ما هو معرض أن يضيع إن لم يتعهد كالذرية الصغار والأطفال والزمني الذين لا يقومون بكل أنفسهم وسائر من يدخل في معناهم.
وكان الشافعي يقول ينبغي للإمام أن يحصي جميع من في البلدان من المقاتلة وهم من قد احتلم أو استكمل خمس عشرة سنة من الرجال ويحصي الذرية وهي من دون المحتلم ودون البالغ والنساء صغيرتهن وكبيرتهن ويعرف قدر نفقاتهم وما يحتاجون إليه في مؤناتهم بقدر معايش مثلهم في بلدانهم ثم يعطي المقاتلة في كل عام عطاءهم. والعطاء الواجب من الفيء لا يكون إلاّ لبالغ يطيق مثله الجهاد ثم يعطي الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم في كسوتهم ونفقتهم.
قال: ولم يختلف أحد لقيناه في أن ليس للمماليك في العطاء حق ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة، قال وإن فضل من المال فضل بعد ما وصفت وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في الكراع. وكل ما قوي به المسلمون. فإن استغنى المسلمون وكملت كل مصلحة لهم فرق ما يبقى منه بينهم كله على قدر ما يستحقون في ذلك المال.
قال: ويعطى من الفيء رزق الحكام وولاة الأحداث والصلاة بأهل الفيء وكل من قام بأمر الفيء من وال وكاتب وجندي ممن لا غنى لأهل الفيء عنه رزق مثله.

.ومن باب كراهية الاقتراض في آخر الزمان:

قال أبو داود: حدثنا هشام بن عمار حدثنا سليم بن مطير شيخ من أهل وادي القرى عن أبيه أنه حدثه قال: «سمعت رجلا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع أمر الناس ونهاهم ثم قال هل بلغت، قالوا اللهم نعم ثم قال إذا تجاحفت قريش الملك فيما بينهم وعاد العطاءُ رشا فدعوه فقيل من هذا قالوا هذا أبو الزوائد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم».
قوله: «تجاحفت» يريد تنازعت الملك حتى تقاتلت عليه وأجحف بعضها ببعض.
وقوله: «وعاد العطاء رُشا» هو أن يصرف عن المستحقين ويعطى من له الجاه والمنزلة.

.ومن باب تدوين العطاء:

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرنا ابن شهاب عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري أن جيشًا من الأنصار كانوا بأرض فارس مع أميرهم، وكان عمر بن الخطاب يُعْقب الجيوش في كل عام فشغل عنهم عمر فلما مر الأجل قفل أهل ذلك الثغر فاشتد عليهم وواعدهم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا عمر إنك غفلت عنا وتركت فينا الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعقاب بعض الغزية بعضًا.
الأعقاب أن يبعث الإمام في أثر المقيمين في الثغر جيشا يقيمون مكانهم وينصرف أولئك فإنه إذا طالت عليهم الغيبة والغزية تضرروا به وأضر ذلك بأهليهم، وقد قال عمر رضي الله عنه في بعض كلامه لا تجمروا الجيوش فتفتنوهم يريد لا تطيلوا حبسهم في الثغور.

.ومن باب صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال:

قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس المعنى قالا: حَدَّثنا بشر بن عمر الزهراني قال: حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس وهو ابن الحدثان قال أرسل إليّ عمر حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالسًا على سرير مفضيًا إلى رماله فقال حين دخلت عليه يا مال أنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم بشيء فأقسم فيهم، قلت لو أمرت غيري بذلك فقال خذه فجاء يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص قال نعم فأذن لهم فدخلوا ثم جاءه يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في العباس وعلي قال نعم فأذن لهما فدخلا فقال العباس يا أمير المؤمنين اقضى بيني وبين هذا، يَعني عليًا، فقال بعضهم أجل يا أمير المؤمنين أقض بينهما وارحمهما، قال مالك بن أوس خيل إليَّ أنهما قدما أولئك النفر لذلك فقال عمر اتئدا ثم أقبل على أولئك الرهط، فقال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نُورثُ ما تركنا صدقة» قالوا نعم ثم أقبل على علي والعباس رضي الله عنهما، فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» فقالا نعم، قال فإن الله خص رسول بخاصة لم يخص لها أحدًا من الناس فقال: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير} [الحشر: 6] وكان الله أفاء على رسول بني النضير فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أخذها دونكم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة أهله سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة ويجعل ما بقي أسوة المال، ثم أقبل على أولئك الرهط، فقال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ذلك قالوا نعم. ثم أقبل على العباس وعلى رضي الله عنهما فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان ذلك قالا نعم فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر أنا وليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر فلما توفي قلتُ أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها فقلت إن شئتما أن أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها فأخذتماها مني على ذلك ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إليّ.
قال أبو داود وإنما سألاه أن يصيرها بينهما نصفين فقال عمر رضي الله عنه لا أوقع عليها اسم القسم.
قلت: ما أحسن ما قال أبو داود وما أشبهه بما تأوله، والذي يدل من نفس الحديث وسياق القصة على ما قال أبو داود قول عمر لهما فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فهذا يبين أنهما إنما اختصما إليه في رأي حدث لهما في أسباب الولاية والحفظ فرام كل واحد منهما التفرد به دون صاحبه ولا يجوز عليهما أن يكونا طالباه بأن يجعله ميراثًا ويرده ملكا بعد أن كانا سلماه في أيام أبي بكر وتخليا عن الدعوى فيه وكيف يجوز ذلك وعمر رضي الله عنه يناشدهما الله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» فيعترفان به والقوم الحضور يشهدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وكل هذه الأمور تؤكد ما قاله أبو داود وتصحح ما تأوله من أنهما إنما طلبا القسمة، ويشبه أن يكون عمر إنما منعهما القسمة احتياطا للصدقة ومحافظة عليها فإن القسمة إنما تجري في الأموال المملوكة وكانت هذه الصدقات متنازعة وقت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى فيها الملك والوراثة إلى أن قامت البينة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركته صدقة غير موروثة فلم يسمح لهما عمر بالقسمة ولو سمح لهما بالقسمة لكان لا يؤمن أن يكون ذلك ذريعة لمن يريد أن يمتلكها بعد علي والعباس ممن ليس له بصيرتهما في العلم ولا تقيتهما في الدين فرأى أن يتركها على الجملة التي هي عليها ومنع أن تجول عليها السهام فيتوهم أن ذلك إنما كان لرأي حدث منه فيها أوجب إعادتها إلى الملك بعد اقتطاعها إلى الصدقة، وقد يحتمل ذلك وجهًا آخر وهو أن الأمر المفوض إلى الاثنين الموكول إليهما وإلى أمانتهما وكفايتهما ليمضياه بمشاركة منهما أقوى في الرأي وأدنى إلى الاحتياط من الاقتصار على أحدهما والاكتفاء به دون مقام الآخر ولو أوصى رجل بوصية إلى عمرو وزيد أو وكل رجل زيدًا وعمرًا لم يكن لواحد منهما أن يستبد بأمر منهما دون صاحبه فنظر عمر لتلك الأموال واحتاط فيها بأن فوضها إليهما معًا فلما تنازعاها قال لهما إما تلياها جميعا على الشرط الذي عقدته لكما في أصل التولية وإما أن ترداها إلي فأتولاها بنفسي وأجريها على سبلها التي كانت تجري أيام أبي بكر رضي الله عنه.
قلت: وروي أن عليا رضي الله عنه غلب عليها العباس بعد ذلك فكان يليها أيام حياته ويدل على صحة التأويل الذي ذهب إليه أبو داود أن منازعة علي رضي الله عنه عباسًا لم تكن من قبل أنه كان يراها ملكا وميراثا أن الأخبار لم تختلف عن علي رضي الله عنه أنه لما أفضت إليه الخلافة وخلص له الأمر أجراها على الصدقة ولم يغير شيئا من سبلها.
وحدثني أبو عمر محمد بن عبد الواحد النحوي أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال كان أول خطبة خطبها أبو العباس السفاح في قرية يقال لها العباسية بالأنبار فلما افتتح الكلام وصار إلى ذكر الشهادة من الخطبة قام رجل من آل أبي طالب في عنقه مصحف فقال أذكرك الله الذي ذكرته إلا أنصفتني من خصمي وحكمت بيني وبينه بما في هذا المصحف فقال له ومن ظالمك.
قال أبو بكر الذي منع فاطمة فدك قال فقال له وهل كان بعده أحد قال نعم، قال من قال عمر، قال وأقام على ظلمكم قال نعم قال وهل كان بعده أحد قال نعم، قال من قال عثمان قال وأقام على ظلمكم قال نعم، قال وهل كان بعده أحد قال نعم قال من قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال وأقام على ظلمكم قال فأسكت الرجل وجعل يلتفت إلى ما وراءه يطلب مخلصا فقال له والله الذي لا إله إلاّ هو لولا أنه مقام قمته ثم أني لم أكن تقدمت إليك في هذا قبل لأخذت الذي فيه عيناك أقعد وأقبل على الخطبة.
قوله: مفضيا إلى رماله يريد أنه كان قاعدًا عليه من غير فراش ورمالة ما يرمل وينسج به من شريط ونحوه.
وقوله دف أهل أبيات من قومك معناه أقبلوا ولهم دفيف وهو مشي سريع في مقاربة خطو يريد أنهم وردوا المدينة لضر أصابهم في بلادهم، وفي قول عمر إن الله خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخص بها أحدا من الناس وتلا على أثره الآية دليل على أن أربعة أخماس الفيء كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في حياته.
واختلفوا فيمن هي له بعده وأين تصرف وفيمن توضع فقال الشافعي فيها قولان أحدهما أن سبيلها سبيل المصالح فتصرف إلى الأهم فالأهم من مصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة أولًا فيعطون قدر كفايتهم ثم يبدأ بالأهم فالأهم من المصالح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه لفضيلته وليس لأحد من الأئمة بعده تلك الفضيلة فليس لهم أن يمتلكوها. والقول الآخر أن ذلك للمقاتلة كله يقسم فيهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يأخذه لماله من الرعب والهيبة في طلب العدو والمقاتلة هم القائمون مقامه في إرهاب العدو وإخافتهم.
وكان مالك يرى أن الفيء للمصالح قال وكذلك كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكي عنه أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك فيه مالا أو كان لا يصح منه الملك. قلت وهذا القول أن صح عنه فهو خطأ، وقال بعض أهل العلم الفيء للأئمة بعده.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أيوب عن الزهري قال: قال عمر رضي الله عنه: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6] قال الزهري قال عمر هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة قرى عرينة فدك وكذا وكذا {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] و{للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم}، {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم}، {والذين جاؤوا من بعدهم} [الحشر: 8] فاستوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلاّ له فيها حق أو قال حظ إلاّ بعض من تملكون من أرقائكم.
قلت: مذهب عمر في تأويل هذه الآيات الثلاث في سورة الحشر أن تكون منسوقة على الآية الأولى منها وكان رأيه في الفيء أن لا يخمس كما تخمس الغنيمة لكن تكون جملته لجملة المسلمين مرصدة لمصالحهم على تقديم كان يراه وتأخير فيها وترتيب لها، وإليه ذهب عامة أهل الفتوى غير الشافعي فإنه كان يرى أن يخمس الفيء فيكون أربعة أخماسه لأرزاق المقاتلة والذرية وفي الكراع والسلاح وتقوية أمر الدين ومصالح المسلمين ويقسم خمسه على خمسة أقسام كما قسم سبى الغنيمة واحتج بقوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}.
وكان يذهب إلى أن ذكر الله إنما وقع في أول الآية على سبيل التبرك بالافتتاح باسمه وإنما هو سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل التفسير، قال الشعبي وعطاء بن أبي رباح خمس الله وخمس رسوله واحد، وقال قتادة: {فإن لله خمسه} قال: هو لله، ثم بين قسم الخمس خمسة أخماس، وقال الحسن بن محمد بن الحنفية: هذا مفتاح الكلام لله الدنيا والآخرة.
قلت: والذي ذهب إليه الشافعي هو الظاهر في التلاوة وقد اعتبره بآية الغنيمة وهو قوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41] فحمل حكم الفيء عليها في إخراج الخمس منه ويشهد له على ذلك أمران أحدهما أن العطف الآخر على الأول لا يكون إلاّ ببعض حروف النسق وحرف النسق معدوم في ابتداء الآية الثانية وهي قوله: {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] وإنما هو ابتداء كلام، والمعنى الآخر أن المسمين في الآية الآخرة وهي قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} [الحشر: 10] لو كانوا داخلين في أهل الفيء لوجب أن يعزل حقوقهم ويترك إلى أن يلحقوا كما يفعل ذلك بالوارث الغائب والشريك الظاعن ويحفظ عليه حتى يحضر ولم يكن يجوز أن يستأثر الحاضرون بحقوق الغُيّب إلاّ أن عمر بن الخطاب أعلم بحكم الآية وبالمراد بها، وقد تابعه عامة الفقهاء ولم يتابع الشافعي على ما قاله فالمصير إلى قول الصحابي وهو الإمام العدل المأمور بالاقتداء به في قوله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» أولى وأصوب.
وما أحسب الشافعي عاقه عن متابعة عمر في ذلك إلاّ ما غلبه من ظاهر الآية وأعوزه من دلالة حرف النسق فيما يعتبر من حق النظم والله أعلم.
وقوله إلاّ بعض من تملكون من أرقائكم يتأول على وجهين أحدهما ما ذهب إليه أبو عبيد فانه روى حديثا عن يحيى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي عن مخلد الغفاري أن مملوكين أو ثلاثة لبني غفار شهدوا بدرا فكان عمر يعطي كل رجل منهم في كل سنة ثلاثة آلاف درهم.
قال أبو عبيد: فاحسب أنه إنما أراد هؤلاء المماليك البدريين بمشهدهم بدرا، ألا ترى أنه خص ولم يعم وقال غيره بل أراد به جميع المماليك وإنما استثنى من جملة المسلمين بعضًا من كل فكان ذلك منصرفا إلى جنس المماليك وقد يوضع البعض في موضع الكل كقول لبيد:
أو يعتلق بعض النفوس حمامها

يريد النفوس كلها.
قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة أن عائشة أخبرته بهذا الحديث وذكرت قصة فاطمة وطلبها من أبي بكر ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فأبى أبو بكر عليها وقال لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلاّ عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ، قال فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعباس فغلب عليّ عليها، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمر قال فهما على ذلك إلى اليوم.
وقوله تعروه أي تغشاه وتنتابه يقال عراني ضيف وعراني هم أي نزل بي.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن المغيرة قال جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان حين استخلف فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له فدك فكان ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم ويزوج فيه أيمّهم وأن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى فكانت كذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى لسبيله فلما أن ولي عمر عمل فيها بمثل ما عملا حتى مضى لسبيله ثم أقطعها مروان ثم صارت لعمر بن عبد العزيز، قال عمر رأيت أمرًا منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ليس لي بحق وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت.
قلت: إنما أقطعها مروان في أيام حياة عثمان بن عفان وكان ذلك مما عابوه وتعلقوا به عليه، وكان تأويله في ذلك والله أعلم ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: «إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها وينفق على عياله قوت سنة ويصرف الباقي مصرف الفيء فاستغنى عثمان عنها بماله فجعلها لأقربائه ووصل بها أرحامهم وقد روى أبو داود هذا الحديث.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن الفضيل عن الوليد بن جُميع، عَن أبي الطفيل قال جاءت فاطمة إلى أبي بكر رضي الله عنهما تطلب ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله إذا أطعم نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده».
قلت: وفيه حجة لمن ذهب إلى أن أربعة أخماس الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للأئمة بعده.