فصل: كتاب الخنثى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: منحة الخالق على البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***


كتاب الخنثى

وهو على وزن فعلى بالضم من التخنث وهو اللين، والتكسر، ومنه المخنث وتخنث في كلامه وسمي خنثى؛ لأنه يتكسر وينقص حاله عن حال الرجل وجمعه خناثى، وفي الشرع ما ذكره المؤلف قال في النهاية لما فرغ من بيان أحكام من له آلة واحدة من النساء، والرجال شرع في بيان من له آلتان فقدم ذكر الأول لما أن الواحد قبل الاثنين ولأن الأول هو الأعم، والأغلب وهذا كالنادر فيه ا هـ‏.‏ أقول‏:‏ فيه بحث أما أولا فلأن ما ذكر في الكتب السابقة من الأحكام ليس بمخصوص بمن له آلة واحدة بل يعم من له آلة واحدة ومن له آلتان‏.‏ ألا ترى أن الأحكام المارة في كتاب الوصايا مثلا جارية بأسرها في حق الخنثى أيضا وكذلك الحال في أحكام سائر الكتب المتقدمة كلها أو جلها فما معنى قوله لما فرغ من أحكام من له آلة واحدة شرع في بيان أحكام من له آلتان وجعل المصنف في الهداية لكتاب الخنثى فصلين، ووضع الفصل الأول لبيانه، والفصل الثاني لأحكامه حيث قال‏:‏ فصل في بيانه، ثم قال‏:‏ فصل في أحكامه فهو في هذا الكتاب إنما شرع حقيقة في بيان من له آلتان لا في بيان أحكامه وإنما ذكر أحكامه في الفصل الثاني بعد أن ذكر بيان نفسه في الفصل الأول وإن صح أن يقال شرع في أحكامه أيضا بتأويل ما فما معنى تخصيص الشروع بالثاني في قوله شرع في بيان أحكام من له آلتان‏.‏ وقال في العناية‏:‏ لما فرغ من أحكام من غلب وجوده ذكر أحكام من هو نادر الوجود‏.‏ ا هـ‏.‏ وإنما قال المشكل، ولم يقل المشكلة؛ لأن ما لم يعلم تذكيره ولا تأنيثه الأصل فيه التذكير قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏هو من له فرج وذكر‏)‏ يعني الخنثى من له فرج المرأة وذكر الرجل، وظاهر عبارة المؤلف أنه لا بد من الآلتين قال البقالي أو لا يكون فرج ولا ذكر ويخرج بوله من ثقب في المخرج أو غيره ولا يخفى أن الله يخلق ما يشاء فيخلق ذكرا فقط أو أنثى فقط أو خنثى‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏فإن بال من الذكر فغلام وإن بال من الفرج فأنثى‏)‏؛ لأنه «عليه الصلاة والسلام سئل كيف يورث فقال من حيث يبول»‏.‏ وعن علي رضي الله عنه مثله، وروي أن قاضيا من العرب في الجاهلية رفع عليه هذه الواقعة فجعل يقول هو ذكر وامرأة فاستبعد قوله ذلك فتحير ودخل فجعل يتقلب على فراشه ولا يأخذه النوم لتحيره وكانت له بنت تغمز رجله فسألته عن ذكره فأخبرها بذلك فقالت‏:‏ دع المحال وأتبع الحكم المبال فخرج إلى قومه فحكى لهم ذلك فاستحسنوا فعرف بذلك أن هذا الحكم كان في الجاهلية فأقره الشرع ولأن البول من أي عضو كان فهو دليل على أنه هو العضو الأصلي الصحيح، والآخر بمنزلة العيب، وذلك إنما يقع به الفصل عند الولادة؛ لأن منفعة تلك الآلة خروج البول، وذلك عند انفصاله من أمه وما سوى ذلك من المنافع يحدث بعده فعلم بذلك أنه هو الأصل قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏فإن بال منهما‏)‏ فالحكم للأسبق؛ لأنه دليل على أنه هو العضو الأصلي ولأنه كما خرج البول حكم بموجبه؛ لأنه علامة تامة فلا يتغير بعد ذلك بخروج البول من الآلة الأخرى قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏فإن استويا‏)‏ أي في السبق ‏(‏فمشكل‏)‏ لعدم المرجح قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولا عبرة بالكثرة‏)‏ وهذا عند أبي حنيفة، وقالا ينسب إلى أكثرهما بولا؛ لأنه يدل على أنه العضو الأصلي ولأن للأكثر حكم الكل في أصول الشرع فيترجح بالكثرة وله أن كثرة ما يخرج ليس بدليل على الآلة؛ لأن ذلك لاتساع المخرج وضيقه لا؛ لأنه هو العضو الأصلي ولأن نفس الخروج دليل بنفسه فالكثرة لا يقع بها الترجيح عند المعارضة كالشاهدين، والأربعة‏.‏ وقد استقبح أبو حنيفة اعتبار ذلك فقال‏:‏ هل رأيت قاضيا يكيل البول بالأواقي‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏فإن بلغ وخرجت له لحية أو وصل إلى النساء فرجل وكذا إذا احتلم من الذكر‏)‏؛ لأن هذه من علامة الذكر‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن ظهر له ثدي أو لبن أو أمكن وطؤه فامرأة‏)‏؛ لأن هذه من علامات النساء قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن لم تظهر له علامة أو تعارضت فمشكل‏)‏ لعدم ما يوجب الترجيح، وعن الحسن أنه يعد أضلاعه فإن أضلاع الرجل تزيد عن أضلاع المرأة بواحدة‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏فيقف بين صف الرجال، والنساء‏)‏؛ لأنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى؛ لأنه لو وقف في صف النساء فإن كان ذكرا تفسد صلاته في صف النساء ولو وقف في صف الرجال تبطل صلاة من يحاذيه إن كان أنثى فلا يتخلل الرجال ولا النساء وإن وقف في صف النساء فإن كان بالغا تفسد صلاته وإن كان مراهقا يستحب له أن يعيد، والأصل في أحكامه أن يؤخذ بالأحوط فالأحوط ويعيد الذي عن يمينه ويساره والذي خلفه الصلاة احتياطا لاحتمال أنه امرأة ويستحب أن يصلي بقناع لاحتمال أنه امرأة ولو كان بالغا حرا يجب عليه ذلك ويجلس في صلاته جلوس المرأة؛ لأنه إن كان رجلا فقد ترك سنة‏.‏ وهو جائز في الجملة وإن كان امرأة فقد ارتكب مكروها بجلوسه جلوس الرجال، والأصل فيه فيما يرجع إلى العبادات قال محمد‏:‏ أحب إلي أن يصلي بقناع لاحتمال أنه امرأة يريد قبل البلوغ وإن صلى بغيره فإن كان غير بالغ لا يؤمر بالإعادة إلا استحسانا تخلقا واعتبارا، وفي الهداية‏:‏ صلى بغير قناع امرأة أن يعيد، وهو الاستحسان هذا إذا كان الخنثى مراهقا غير بالغ فإن كان بالغا فإن بلغ بالسن ولم يظهر فيه شيء من علامات الرجال، والنساء لا تجزيه الصلاة بغير قناع إذا كان الخنثى حرا، وفي السغناقي، وفي بعض النسخ وإن كان بالغا فصلى بغير قناع امرأة فإنه يعيد وهذا بطريق الاحتياط هكذا لفظ المبسوط ولم يتعرض فيه أن طريق الاحتياط فيه على وجه الاستحباب أو على وجه الوجوب، والظاهر هو الوجوب‏.‏

قال ويجلس في صلاته كجلوس المرأة ولو أحرم هذا الخنثى، وقد راهق ولم يبلغ ولم يستبن أنه امرأة قال أبو يوسف‏:‏ لا علم لي بلباسه، وقال محمد‏:‏ إن لبس المخيط كان أحوط لجواز أنها أنثى فلا يحل لها كشف العورة، قال ويكره أن يلبس الحلي وأراد به ما بعد البلوغ بالسن إذا لم يظهر به علامات يستدل بها على كونه رجلا أو امرأة ويكره لبس الحرير أيضا قال‏:‏ وأكره له أن ينكشف قدام الرجال أو قدام النساء ومعناه إذا كان قد راهق فإن قلت‏.‏

وهل يكره أن يخلو به رجل أجنبي ليس بمحرم منه أو يخلو هو بامرأة أجنبية ليس بمحرم منها قلت نعم إذا خلا بالخنثى رجل محرم منه فلا بأس وكذلك الخنثى إذا خلا بامرأة هو محرم منها ولا يسافر الخنثى بامرأة هي غير محرم منه ولا بأس أن يسافر الخنثى مع محرم من الرجال ثلاثة أيام ولياليها ولا يختنه رجل وامرأة؛ لأن الخنثى صبي أو صبية فإن كان صبيا يجوز للرجال أن تختنه وإن كان مراهقا يشتهى أو لا وإن كان صبية فلا بأس للنساء أن تختنها إذا كانت غير مراهقة؛ لأنها لا تشتهى، وإذا كانت غير مراهقة وهي تشتهى أو لا‏.‏

فإن قيل ما الفرق بين الحياة، والموت حيث قلتم إذا مات الخنثى ييمم بالصعيد ولا يغسله رجل ولا امرأة ولم تقولوا أنه يشترى له جارية من ماله أو من مال أبيه أو من مال بيت المال إذا لم يكن لها ثم مال ثم يبيعها الإمام بعدما غسلته ويرد ثمنها إلى بيت المال قلنا شراء الجارية بعد موت الخنثى لتغسله لا تفيد إباحة الغسل؛ لأنه لا يملكها الخنثى ولا يبقى على ملكه لحاجة الغسل فأما ما دام حيا فهو من أهل الملك؛ لأنه رجل أو امرأة فيملك الجارية التي اشتريت له وإذا ملك الجارية التي اشتريت له كان شراء الجارية يفيد إباحة الختان‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وتبتاع له أمة تختنه‏)‏ يعني بماله؛ لأنه يجوز لمملوكه النظر إليه مطلقا إن كان ذكرا وللضرورة إن كان أنثى، ويكره أن يختنه رجل لاحتمال أنه ذكر أو امرأة لاحتمال أنه أنثى فكان الاحتياط فيما ذكرنا؛ لأنه لا يحرم على تقدير أن يكون ذكرا وعلى تقدير أن يكون أنثى؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف، والأصل في مسائل النكاح لو زوج الأب هذا الخنثى امرأة قبل بلوغه أو زوجة فالنكاح موقوف لا يفسد ولا يبطل ولا يتوارثان حتى يستبين أمر الخنثى؛ لأن التوارث حكم النكاح النافذ لا حكم النكاح الموقوف‏.‏

فإن زوجه الأب امرأة وبلغ وظهر علامات الرجال ونحوه حكم بجواز النكاح إلا أنه إذا لم يصل إليها فإنه يؤجل سنة كما يؤجل غيره إذا لم يصل إلى امرأته ولو أن هذا الخنثى المشكل تزوج خنثى مثله فالنكاح يكون موقوفا إلى أن يستبين حالهما فإن تبين حالهما فالنكاح جائز وإن مات أحدهما أو ماتا قبل أن يزول الإشكال لم يتوارثا وإن ماتا وتركا أحد الأبوين فأقام كل واحد من ورثتهما البينة أنه هو الزوج وأن الآخر هو الزوجة لا يقضي بشيء من ذلك، ولو أن رجلا قبل هذا الخنثى بشهوة ليس لهذا الرجل أن يتزوج بمحارمه حتى يتبين أمره‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏فإن لم يكن له مال فمن بيت المال ثم تباع‏)‏؛ لأن بيت المال أعد لنوائب المسلمين فيدخل في ملكه تعذرا للحاجة، وهي حاجة الختان فإذا ختنته تباع ويرد ثمنها إلى بيت المال فإذا زوج امرأة فختنته ثم طلقها جاز؛ لأنه إن كان ذكرا صح النكاح وإن كان أنثى فنظر الجنس أخف ثم يفرق بينهما لاحتمال أنه ذكر فيصح النكاح بينهما فتحصل الفرقة ثم تعتد إن خلا بها احتياطا ولو حلف بعتق أو طلاق بأن قال‏:‏ إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت طالق أو فعبدي حر فولدت خنثى لم يقع حتى يستبين؛ لأن الخنثى لم يثبت بالشك، ولو قال‏:‏ كل عبد لي حر أو قال كل أمة لي حرة وله مملوك خنثى لا يعتق حتى يستبين أمره لما قلنا، وإن قال القولين جميعا عتق للتيقن بأحد الوصفين؛ لأنه لا يخلو عن أحدهما‏.‏

وإن قال الخنثى‏:‏ أنا رجل وامرأة لم يقبل قوله إذا كان مشكلا؛ لأنه دعوى بلا دليل وذكر في النهاية معزيا إلى الذخيرة‏:‏ إن قال الخنثى المشكل أنا ذكر أو أنثى كان القول قوله؛ لأن الإنسان أمين في حق نفسه، والقول قول الأمين ما لم يعرف خلاف ما قال كما إذا قالت المعتدة انقضت عدتي وأنكر الزوج كان القول قولها ما لم يعرف خلاف قولها بأن قالت في مدة لا تنقضي في مثلها العدة، والأولى ما ذكره في النهاية‏.‏

ولا يحضر الخنثى غسل رجل ولا امرأة لاحتمال أنه ذكر أو أنثى ويستحب أن يسجى قبره؛ لأنه إن كان أنثى أقيم واجب وإن كان ذكرا لا يضره التسجية وإذا أراد أن يصلى عليه وعلى رجل وامرأة وضع الرجل مما يلي الإمام، والخنثى خلفه، والمرأة خلف الخنثى ويؤخر عن الرجل لاحتمال أنه امرأة ويقدم على المرأة لاحتمال أنه رجل ولو دفن مع رجل في قبر واحد للعذر جعل خلف الرجل لاحتمال أنه امرأة ويجعل بينهما حاجزا من صعيد ليكون في حكم القبرين وكذا الرجلان إذا دفنا في قبر واحد وإن دفن مع امرأة قدم الخنثى لاحتمال أنه أنثى ويدخل قبره ذو رحم محرم منه لاحتمال أنه أنثى ولم يتعرض المؤلف لما يتعلق بالخنثى من الحدود، والقصاص ولا لما يتعلق به من الأيمان ولا لما يتعلق به من الدعوى، والبينة ولا لبيان الاختلاف الواقع فيه ولا لبيان شهادته قال في الأصل‏.‏

ولو أن رجلا قذف الخنثى المشكل قبل البلوغ أو قذف الخنثى رجلا فلا حد على القاذف أما إذا كان القاذف هو الخنثى فلأنه صبي أو صبية فأما إذا كان القاذف رجلا آخر فلأنه غير محصن؛ لأن البلوغ من أحد شرائط إحصان القذف كالإسلام وإن قذف الخنثى بعد بلوغه بالسن فإن ظهر له علامة يستدل بها على كونه ذكرا أو أنثى حد حد الرجال أو النساء ولو قذف الخنثى رجلا بعد ظهور علامة الرجال أو قذفه رجل فهما سواء فيجب الحد وإن لم يظهر له علامة فلا حد على قاذفه وهذا؛ لأن الخنثى وإن صار محصنا بالبلوغ إلا أنه لم يظهر عليه علامة الأنوثة أو الذكورة يجوز أن يكون هذا رجلا وأن يكون امرأة فإن كان امرأة، فهو بمنزلة الرتقاء؛ لأنها لا تجامع كالرتقاء‏.‏

ومن قذف رجلا مجبوبا أو امرأة رتقاء لا حد عليه وإن كان الخنثى هو القاذف يحد؛ لأنه مجبوب بالغ أو رتقاء بالغة، والمجبوب البالغ، والرتقاء البالغة إذا قذف إنسانا يجب عليه الحد وإن سرق بعدما أدرك يجب عليه الحد وإن سرق منه ما يساوي عشرة يقطع السارق رجل أو امرأة ولو قطع يد هذا الخنثى قبل أن يبلغ أو يستبين أمره فلا قصاص على قاطعه سواء كان القاطع رجلا أو امرأة وعلى هذا الخلاف إذا قتل الخنثى رجلا أو امرأة عمدا كان عليه القصاص‏.‏

وإن قطع هذا الخنثى يد رجل أو امرأة فعلى عاقلته أرش ذلك وبعد البلوغ إذا قطع يد إنسان قبل أن يستبين أمره عمدا فإنه يجب عليه الأرش في ماله وإن شهد مغنما يرضخ له ولا يسهم وإن ارتد عن الإسلام قبل أن يدرك أو بعدما أدرك لا يقتل عندهم جميعا أما قبل فإنه صبي أو صبية وردة الصبي لا تصح عند أبي يوسف وعند أبي حنيفة ومحمد أنه وإن كان يصح ردة الصبي العاقل، والصبية العاقلة إلا أنه لا يقتل على الردة عندهما وبعد البلوغ تصح ردته بالإجماع إلا أنه لا يخلو إما أن يكون رجلا أو امرأة فإن كان رجلا حل قتله ولا يحل إن كان امرأة فلا يحل بالشك وإن كان من أهل الذمة لا يوضع عليه خراج رأسه حتى يدرك ويستبين أمره ولا يدخل في القامة‏.‏

ولو كان الخنثى أبوه حيا فقال هو غلام ولا يعرف ذلك إلا بقوله كان القول قوله وكذلك لو قال هي جارية فالقول قوله إذا لم يكن مشكل الحال؛ لأن الوصي قائم مقام الأب وإن كان مشكل الحال لم يصدق وإن قتل الخنثى خطأ قبل أن يستبين أمره قال القول في ذلك قول القاتل أنه ذكر أو أنثى إن كانت الدية تجب على القاتل إن لم يكن له عاقلة وإن كان له عاقلة فالقول قول العاقلة، وإن قالوا لا ندري فالقول قولهم ووجب عليهم دية وإن قالوا‏:‏ إنه أنثى وورثة الخنثى ادعوا أنه ذكر‏.‏ فالقول قول العاقلة؛ لأنهم يدعون على القاتل، والعاقلة زيادة خمسة آلاف درهم، والقاتل، والعاقلة ينكرون ذلك فيقضى عليهم بدية المرأة ويتوقف العقل إلى أن يستبين أمره أنه ذكر أو أنثى رجل مات وترك ذكرا و خنثى وزوجة فمات الخنثى بعد موت أبيه فادعت أم الخنثى أنه ذكر وأنه كان ورث من أبيه نصف المال بعد الثمن؛ لأنه مات وترك ابنين وامرأة ثم مات الخنثى فورثت ثلث ذلك النصف؛ لأن الخنثى مات وترك أما وأخا ترث الأم ثلث ذلك النصف، وقال ابن الميت وهو أخو الخنثى لا بل كانت الخنثى جارية وورثت الثلث من الميت بعد الثمن ثم ماتت فورثت أنت ثلث ذلك فالقول قول أخي الخنثى إلا أن الأخ يستحلف على العلم بالله ما تعلم أنه كان ذكرا وإذا أقامت الأم البينة أنه كان يبول من مبال الرجال ولا يبول من مبال النساء فإنه يرث من أبيه ميراث النصف بعد الثمن ثم ترث الأم ثلث ذلك النصف من الخنثى، وإن أقام أخو الخنثى البينة أنه يبول من مبال النساء ولا يبول من مبال الرجال وأنها ورثت الثلث من الأب بعد الثمن فلأم الخنثى ذلك الثلث‏.‏

وإن أقام رجل البينة أن أبا الخنثى كان زوجها منه على ألف درهم وطلب ميراثها وصدقه الابن أو كذبه ولم تقم الأم البينة أن أب الخنثى على ما ادعت فإنه يقبل قول الزوج ويجعل عليه المهر وورث من الخنثى ميراث الزوج وورث أم الخنثى، وأخو الخنثى من الصداق الذي يبقى على الزوج وما ترك الخنثى وإن أقام الأخ بينة على ما ادعت أنه كان يبول من مبال الرجال ولا يبول من مبال النساء إن أقام الزوج البينة أنها كانت أنثى وتبول من مبال النساء ولا تبول من مبال الرجال كانت بينة الأخ أولى بالرد ولو أن هذا الخنثى المشكل الذي مات صغيرا وترك مالا أقامت امرأة بينة أن أباه زوجها إياه في حياته ومهرها ألف درهم وأنه كان غلاما يبول من حيث يبول الغلام ولم يكن يبول من حيث يبول النساء وكذبها الأخ ابن الميت قال‏:‏ اصدق المرأة واجعله غلاما واجعل صداقها في ميراثه من ميراث الغلام‏.‏ فإن أقام الأخ ابن الميت البينة بأنه كان جارية يبول من حيث تبول الجارية قال لا أقبل بينتهما على ذلك فأقضي ببينة المرأة وهذا إذا جاءا معا فأما إذا أقام الزوج البينة أولا وقضى القاضي بذلك ثم أقامت المرأة البينة فإنه لا يقبل منها لترجيح الأولى بالقضاء فإن وقت أحد من البينتين وقتا قبل الأخرى فإنه يقضي بأسبقهما تاريخا وإن لم يوقت ذكر أنهما يبطلان وهذا إذا كانت المرأة تدعي الصداق ومتى لم تدع فإنها تتهاتر البينتان وإن كان هذا الصبي حيا لم يمت، والمسألة بحالها‏.‏ قال هذا كله باطل ولا أقضي بشيء منه بلا توقف في ذلك حتى يستبين حاله متى أدرك وليس حالة الحياة عندي بمنزلة ما بعد الموت‏.‏

ولو أن هذا الخنثى حين مات بعد أبيه وهو مراهق أقام رجل البينة أن أباه زوجه إياها على هذا الوقف بألف وأمره بدفعه إليه وأنه كان يبول من حيث تبول النساء وكذبه الورثة فهذا على وجهين أما إن جاءت البينات معا أو جاءت إحداهما قبل صاحبتها فإن جاءتا معا فلا يخلو أما إن لم يوقتا أو وقتا وقتا ووقتهما على السواء أو كان وقت أحدهما أسبق فإن لم يوقتا أو وقتا ووقتهما على السواء تهاترت البينات جميعا وهذا بخلاف ما لو لم يدع الزوج نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول وإنما ادعى النكاح على الخنثى لا غير وباقي المسألة بحالها ذكر أن البينة المثبتة أنها امرأة أولى وإن وقتا وقتا ووقت أحدهما أسبق فالسابق أولى فإن جاءت إحداهما قبل الأخرى إن جاءت الأخرى قبل القضاء بالأولى فالجواب فيه كالجواب فيما لو جاءتا معا فأما إذا قضى القاضي بالأولى ثم جاءت الأخرى لا تقبل الأخرى بخلاف ما لو جاءتا معا ولم يؤرخا أو أرخا فتاريخهما على السواء فإنه لا يقضي بواحدة منهما‏.‏

ولو أن هذا الخنثى المشكل مات قبل أن يظهر أمره فأقام رجل البينة أن أباه زوجها إياه بألف درهم برضاها وأنها ولدت منه هذا الولد قال أجزت بينته وأجعلها امرأته وأجعل الولد ابنها، وإن لم يقم هذا الرجل البينة أن أباها زوجها إياه برضا منه وأنه دخل بها وأنها ولدت منه هذا الولد فإنه يقضي بكون الخنثى رجلا وألزمه الولد فإن اجتمعت الدعوتان جميعا وجاءت البينات معا ولم يوقتا أو وقتا على السواء فإنها تهاترت البينات جميعا وجاءت البينات معا فإن قامت إحدى هاتين البينتين وقضى القاضي بشهادتهما ثم جاءت البينة الأخرى بعد ذلك قال لا أقبل البينة الثانية‏.‏

وإن كان هذا الخنثى المشكل من أهل الكتاب فادعى رجل مسلم أن أباه زوجه إياها على مهر مسمى برضاها وأقام بينة من أهل الكتاب قال أقضي ببينة المسلم وأجعلها امرأته وأبطل بينة المرأة وكذلك لو كان الرجل من أهل الكتاب وبينته من أهل الإسلام فيقضي للرجل دون المرأة وهذا بخلاف ما لو وقع الدعوى في المال فادعى المسلم مالا في يد ذمي وأقام على ذلك شاهدين كتابيين وأنه يقضي بالمال بينهما ولا ترجح إحدى الشهادتين بالإسلام‏.‏

ولو مات أبو الخنثى ثم مات هذا الخنثى فادعت أمه ميراث غلام وأقر الوصي بذلك وجحد بقية الورثة وقالوا هي جارية قال إذا جاءت الدعوى في الأموال لم يصدق وعلى الأم على ما ادعى وإن كان هذا الخنثى حيا لم يمت فقال أنا غلام وطلب ميراث غلام من أبيه، وصدقه الوصي في ذلك وأنكر بقية الورثة ذلك وقالوا هي جارية قال لا أعطيه ميراث غلام ولا أصدقه على ذلك إلا ببينة وإن كان وصيه أخوه زوجه امرأة ثم مات الخنثى وطلبت المرأة ميراثها، وقال الوصي هو غلام وقد جاز النكاح ورثت المرأة منه، وقال بقية الورثة‏:‏ هي جارية لا يلزم الورثة الذين أنكروا ميراث الغلام في حقهم ويلزم الوصي المقر ميراث غلام في نصيبه وترث المرأة من الخنثى ميراث الخنثى من المقر‏.‏

وإن كان له أخ لأبيه وأمه فأقر أنه جارية وزوجها رجلا ثم مات الخنثى، وقد راهق قبل أن يعلم أنها امرأة وزوجها ثم مات الخنثى قبل أن يعرف حاله فإن النكاح جائز على الأخ الأول وهو الوصي ولا يجوز على من أنكر من بقية الورثة، والنكاح الثاني الذي أقر به الأخ الثاني الذي ليس بوصي باطل في حقه ولا يجوز في حق بقية الورثة، قال‏:‏ وإن لم يعرف أي النكاحين أول قال أبطل هذا كله ولا أورث شيئا منهما وإن عرفت الذي أقر أنها امرأة وزوجها رجلا أنها أول قال‏:‏ ألزمه ميراث الأخ في نصيبه ولا ألزم غيره وأبطل النكاح خنثى مشكل مراهق وخنثى مثله مشكل تزوج أحدهما صاحبه على أن أحدهما رجل، والآخر امرأة إذا مات وأقام كل واحد من ورثتهما بينة أنه هو الزوج وأن الآخر هو الزوجة قال لا أقضي بشيء من ذلك وإن جاءت إحدى البينتين قبل الأخرى وقضى بها ثم جاءت البينة الثانية قال أبطل البينة الأخرى وقضاء الأول ماض على حاله بشهادة للخنثى حتى يدرك وبعدما أدرك إذا لم يستبن أمره يوقف أمره في حق الشهادة حتى يتبين أنه رجل أو امرأة أو صبي هذا الخنثى المشكل يعطي له خمسمائة درهم وتوقف الخمسمائة الأخرى إلى أن يتبين حاله أو يموت قبل التبين فإن تبين أنه ذكر دفعت الزيادة إليه وإن تبين أنه جارية دفعت إلى ورثة الموصي وهذا قول علمائنا قال الشيخ رحمه الله‏:‏ يعطي له نصف وصية الغلام خمسمائة ونصف وصية الجارية مائتان وخمسون فيعطى له سبعمائة وخمسون ويوقف مائتان وخمسون إلى أن يتبين حاله فإن تبين أنه ذكر يعطي مائتين وخمسين وإن تبين أنه أنثى يؤخذ منه مائتان وخمسون‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وله أقل النصيبين‏)‏ يعني لو مات أبوه كان له الأقل من نصيب الذكر ومن نصيب الأنثى فإنه ينظر نصيبه على أنه ذكر وعلى أنه أنثى فيعطي الأقل منهما وإن كان محروما على أحد التقديرين فلا شيء له مثاله‏:‏ أخوان لأب وأم أحدهما خنثى مشكل كان المال بينهما أثلاثا للأخ الثلثان، وللخنثى الثلث فيقدر أنثى؛ لأنه أقل ولو قدر ذكرا كان له النصف‏.‏

ولو تركت امرأة زوجا، وأما وأختا لأب وأم هي خنثى كان للزوج النصف وللأم الثلث من النصف الباقي وللخنثى ما بقي وهو السدس على أنه عصبة، ولو قدر أنثى كان له النصف وكانت المسألة تعول إلى ثمانية‏.‏

ولو تركت زوجا وأما وأخوين من أم وأخا لأب وأم هو خنثى كان للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للخنثى؛ لأنه عصبة ولم يفضل له شيء ولو قدر أنثى كان له النصف فعالت المسألة إلى تسعة‏.‏

ولو ترك الرجل ولد أخ هو الخنثى وعما لأب وأم أو لأب كان المال للعم ويقدر الخنثى أنثى؛ لأن بنت الأخ لا ترث ولو قدر ذكرا كان المال له دون العم؛ لأن ابن الأخ مقدم على العم، وقال الشعبي‏:‏ للخنثى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى وعن ابن عباس مثله؛ لأنه مجهول، والتوزيع على أحوال عند الجهل طريق معهودة في الشرع كما في العتق المبهم، والطلاق المبهم إذا تعذر البيان فيه بموت الموقع قبل البيان، ولنا أن الحاجة إلى إثبات الملك ابتداء فلا يثبت مع الشك فصار كما إذا كان الشك في وجوب المال بسبب آخر غير الميراث بخلاف المستشهد به؛ لأن سبب الاستحقاق متيقن به وهو الإنشاء السابق ومحلية كل واحد من العبدين، والمعتقين بحكم ذلك السبب ثابت لكل واحد منهما على السواء من غير ترجيح أحدهما على الآخر بالشك‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏فلو مات أبوه وترك ابنا له سهمان وللخنثى سهم‏)‏؛ لأنه الأقل وهو متيقن فيستحقه، وعلى قول الشعبي نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى واختلف أبو يوسف ومحمد في تخريج قول الشعبي فقال أبو يوسف المال بينهما على سبعة أسهم أربعة للذكر وثلاثة للخنثى اعتبر نصيب كل واحد منهما حالة انفراده فإن الذكر لو كان وحده كان كل المال له، والخنثى إن كان ذكرا كان له كل المال وإذا كان أنثى كان له نصف المال فيأخذ نصف النصيبين نصف الكل ونصف النصف وذلك ثلاثة أرباع المال وللابن كل المال فيجعل كل ربع سهما فبلغ سبعة أسهم للابن أربعة وللخنثى ثلاثة أرباع وليس للمال ثلاثة أرباع وأربعة أرباع فيضرب كل واحد منهم بجميع حقه اعتبارا بطريق العول، والمضاربة، وقال محمد رحمه الله‏:‏ المال بينهما على اثني عشر سهما سبعة للابن أيضا وخمسة للخنثى ويعتبر هو نصيب كل واحد منهما في حالة الاجتماع فيقول لو كان الخنثى ذكرا كان المال بينهما نصفين ولو كان أنثى كان أثلاثا فالقسمة على تقدير ذكورته من اثنين وعلى تقدير أنوثته من ثلاثة وليس بينهما موافقة فيضرب إحداهما في الأخرى تبلغ ستة للخنثى على تقدير أنه أنثى سهمان وعلى تقدير أنه ذكر ثلاثة فله نصف النصيبين وليس للثلاثة نصف صحيح فيضرب الستة في اثنين تبلغ اثني عشر فيكون للخنثى ستة على تقدير أنه ذكر وله أربعة على تقدير أنه أنثى فيأخذ نصف النصيبين خمسة؛ لأن نصف الستة ثلاثة ونصف الأربعة اثنان ألا ترى أن الابن يأخذ في هذه المسألة سبعة؛ لأن نصيب الابن على تقدير أن الخنثى ذكر ستة وعلى تقدير أنه أنثى ثمانية فنصف النصيبين سبعة ولو كان معها بنت فعند أبي يوسف تكون المسألة من تسعة؛ لأن نصيب البنت النصف حالة انفرادها وللابن الكل وللخنثى ثلاثة أرباع حال انفراد كل منهما فيجعل كل ربع سهما تبلغ تسعة وعند محمد له خمس وثمن؛ لأن على تقدير أنه ذكر كان له خمسان فله نصف وهو الخمس وعلى تقدير أنه أنثى كان له ربع فله نصفه وهو الثمن فمخرج الخمس من خمسة ومخرج الثمن من ثمانية وليس بينهما موافقة فتضرب إحداهما في الأخرى تبلغ أربعين ومنها تصح المسألة للخنثى خمسها ثمانية وثمنها خمسة فاجتمع له ثلاثة عشر سهما، والبنت على تقدير أنه ذكر خمسان وهو ستة عشر وعلى تقدير أنه أنثى ربع وهو عشرة فيكون له نصف النصيبين ثلاثة عشر، والابن خمسان على تقدير ذكورته ونصف على تقدير أنوثته فله نصف النصيبين ثمانية عشر وعلى هذا تخرج المسائل ولو كانوا أكثر من ذلك على المذهبين والله أعلم‏.‏

‏(‏مسائل شتى‏)‏ قد كانت عادة المصنفين أنهم يذكرون آخر الكتاب ما لم يذكر في الأبواب السابقة من المسائل استدراكا للفائت ويترجمون لتلك المسائل بمسائل شتى أو بمسائل منثورة فعمل المصنف هنا أيضا كذلك جريا على عادتهم، وفي بعض النسخ مسائل شتى أي متفرقة وهو جمع شتيت وهو التفرق فإن قلت جاءني القوم شتى يكون نصبا على الحال أي متفرقين قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏إيماء الأخرس وكتابته كالبيان بخلاف معتقل اللسان في وصيته ونكاح وطلاق وبيع وشراء وقود‏)‏ وقال الشافعي لا فرق بين معتقل اللسان والأخرس، ولنا أن الإشارة إنما تقوم مقام العبارة إذا صارت معهودة وذلك في الأخرس دون معتقل اللسان حتى لو امتد ذلك وصارت إشارته معهودة صار بمنزلة الأخرس، وقدر مدة الامتداد في المحيط بشهر وفي جامع الفصولين بستة أشهر وقدر التمرتاشي الامتداد بسنة وذكر الحاكم أبو محمد رواية عن أبي حنيفة فقال إذا دامت العقلة إلى وقت الموت يجوز إقراره بالإشارة ويجوز الإشهاد عليه؛ لأنه عجز عن النطق بمعنى لا يرجى زواله فكان كالأخرس قال وعليه الفتوى وأطلق في الأخرس فشمل الأصلي والعارض والمراد الأصلي أما الوصية؛ لأن التقصير جاء من قبله حيث أخر الوصية إلى هذا الوقت بخلاف الأخرس؛ لأنه لا تفريط من جهته ولأن العارض على شرف الزوال دون الأصل فلا يقاس أحدهما على الآخر، وإذا كان إيماء الأخرس وكتابته كالبيان وهو النطق باللسان تلزمه الأحكام بالإشارة والكتابة حتى يجوز نكاحه وطلاقه وعتقه وبيعه وشراؤه إلى غير ذلك من الأحكام؛ لأن الإشارة تكون بيانا من القادر على النطق فالعاجز أولى ولأنه صلى الله عليه وسلم بين الشهر بالإشارة حيث قال‏:‏ «الشهر هكذا وأشار بأصابعه» قالوا والكتاب ممن يأتي بمنزلة الخطاب ممن ذكر أقول‏:‏ فيه شيء وهو أن هذا يدل على بعض المدعي ولا يدل على بعضه الآخر بل يدل على خلافه فإن كتابة الأخرس حجة فيما سوى الحدود وليس بحجة في الحدود، وهذا الدليل المذكور لا يدل على عدم كونها في الحدود إذ لا فرق فيه بين الحدود وما سواها بل يدل على كونها حجة في الحدود أيضا إذا كانت مستبينة مرسومة وهو بمنزلة النطق في الغائب والحاضر على ما قالوا، فإنه إذا كان بمنزلة النطق في حق الحاضر أيضا لم يكن حجة ضرورة فينبغي أن يكون حجة في الحدود أيضا كما كان النطق حجة فيها فليتأمل في المخلص‏.‏ والدليل على أن الدلالة كالبيان هو أنه صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة بالكتاب كالخطاب فإذا كان خطابا في حق القادر ففي حق الأخرس أولى؛ لأن عجزه ظاهر وألزم عادة؛ لأن الغائب يقدر على الحضور بل يقدر ظاهرا والأخرس لا يقدر على نطق والظاهر بقاؤه على الدوام، ثم الكتاب على ثلاثة مراتب مستبين ومرسوم وهو أن يكون معنونا أي مصدر بالعنوان وهو أن يكتب في صدره من فلان بن فلان على ما جرت به العادة في سير الكتب فيكون هذا كالنطق فيلزم حجة ومستبين غير مرسوم كالكتابة على الجدران وأوراق الأشجار أو على الكاغد لا على وجه الرسم فإن هذا يكون لغوا؛ لأنه لا عرف في إظهار الأمر بهذا الطريق فلا يكون حجة إلا بانضمام شيء آخر إليه كالبينة والإشهاد عليه والإملاء على الغير حتى يكتبه؛ لأن الكتابة قد تكون تجربة وقد تكون للتحقيق وبهذه الإشارة تتبين الجهة وقيل الإملاء من غير إشهاد لا يكون حجة والأول أظهر وغير مستبين كالكتابة على الهواء أو الماء وهو بمنزلة كلام غير مسموع ولا يثبت به شيء من الأحكام وإن نوى، وقول المؤلف وقود وعلل في الهداية بأن القصاص فيه معنى العوضية؛ لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر وليس فيها معنى العوضية فلا تثبت مع الشبهة لعدم الحاجة‏.‏ أقول‏:‏ فيه بحث أما الأول فلأن ما ذكر ها هنا من جواز ثبوت القصاص مع الشبهة مخالف لما صرح به فيما مر في عدة مواضع منها كتاب الكفالة فإنه قال فيه ولا تجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة؛ لأن مبنى الكل على الدرء فلا يجب فيها الاستيثاق ومنها كتاب الشهادات فإنه قال فيه ولا تقبل في الحدود والقصاص شهادة النساء؛ لأن شبهة البدلية لقيامها مقام شهادة الرجال فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات ثم قال في باب الشهادة الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق لا يسقط بالشبهة ولا تقبل فيما يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص ومنها كتاب الوكالة حيث قال فيه وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق، وكذا بإيفائها واستيفائها إلا في الحدود والقصاص فإن الوكالة لا تصح باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس؛ لأنها تدرأ بالشبهات، وكذا في كتاب الدعوى ومنها كتاب الجنايات فإنه صرح فيه في مواضع كثيرة منه بعدم ثبوت القصاص بالشبهة بل جعلها أصلا مؤثرا في سقوط القصاص وفرع عليه كثيرا من مسائل سقوط القصاص بتحقق نوع من الشبهة في كل واحدة منها لا يخفى على الناظر في تمام ذلك الكتاب، وأما ثانيا فلأن قيد الخالصة في قوله أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر مستدرك فإن حد القذف غير خالص لله تعالى بل فيه حق الله تعالى وحق العبد مقدم‏.‏ كما صرحوا به على أنه زاجر لا يثبت بالشبهة ولا تكون إشارة الأخرس حجة فيه أيضا كما صرحوا به لا يثبت بالشبهة فيما مر آنفا فلا يتم التفريق بالنظر إليه وقول المؤلف الإشارة والكتابة كالبيان دلت هذه المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن كان قادرا على الكتابة لأنه جمع بينهما فقال أشار وكتب قال صاحب العناية ولنا في دعوى الجميع بينهما نظر؛ لأنه قال في الجامع الصغير وإذا كان الأخرس يكتب أو يومئ وكلمة أولا حد الشيئين لا للجمع على أنا نقول قال في الأصل وإن كان الأخرس لا يكتب وكانت له إشارة تعرف في نكاحه وطلاقه وشرائه وبيعه فهو جائز ويعلم من إشارة رواية الأصل أن الإشارة من الأخرس لا تعتبر مع القدرة على الكتابة؛ لأنه تبين حكم إشارة الأخرس بشرط أن لا يكتب فافهم إلى هنا قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏لا في حد‏)‏ يعني إشارته لا تكون كالبيان في الحدود لأنها تندرئ بالشبهة لكونها حق الله تعالى فلا حاجة إلى إثباتها ولعله كان مصدقا للقاذف إن قذف هو فلا يتيقن بطلبه الحد وإن كان هو القاذف فقذفه ليس بصريح والحد لا يجب إلا بالقذف بصريح الزنا، وفي القصاص اعتبر طلبه؛ لأنه حق العبد وهذا لأن الحد لا يثبت ببيان فيه شبهة‏.‏ ألا ترى أن الشهود لو شهدوا بالوطء الحرام أو أقر هو بالوطء الحرام لا يجب عليه الحد ولو شهدوا بالقتل المطلق أو أقر بمطلق القتل يجب عليه القصاص وإن لم يقر بالتعمد وهذا لأن القصاص فيه معنى المعاوضة؛ لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد، أما الحدود الخالصة حق الله تعالى جعلت زاجرة ليس فيها معنى البدلية أصلا فلا يثبت مع الشبهة لعدم الحاجة وذكر في كتاب الإقرار أن الكتاب من الغائب ليس بحجة في قصاص يجب عليه ويحتمل عليه أن يكون الجواب في الأخرس كذلك فيكون في الغائب والأخرس روايتان ويحتمل أن يكون مفارقا لذلك؛ لأن الغائب يمكنه الوصول في الجملة فيعتبر بالنطق ولا كذلك الأخرس لتعذر وجود النطق في حقه للآفة التي به فدلت المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن كان قادرا على الكتابة، بخلاف ما ذكر بعض أصحابنا من أن الإشارة لا تعتبر مع القدرة على الكتابة قالوا‏:‏ لأن الإشارة حجة ضرورية ولا ضرورة مع القدرة على الكتابة قلنا كل واحد منهما حجة ضرورية ففي الكتابة زيادة بيان لم توجد في الإشارة؛ لأن قصد البيان في الكتابة معلومة حسا وعيانا، وفي الإشارة زيادة أثر لم توجد في الكتابة؛ لأن الأصل في البيان هو الكلام؛ لأنه وضع له والإشارة أقرب إليه لأن العلم الحاصل بها حاصل بما هو مفصل بالتكلم وهو إشارته بيده أو برأسه صارت أقرب إلى النطق من آثار الأقلام فاستويا ولا يقدم على الآخر بل يخير ولهذا ذكره بكلمة أو التي للتخيير وقالوا فيمن صمت يوما أو يومين الحكم كالمعتقل اللسان‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏غنم مذبوحة وميتة فإن كانت المذبوحة أكثر تحرى وأكل وإلا لا‏)‏ وقال الشافعي لا يجوز الأكل في حالة الاختيار ولنا أن الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة، ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرم من مسروق ومغصوب ومع ذلك يباح التناول اعتمادا على الظاهر وهذا لأن القليل منه لا يمكن التحرز عنه ولا يستطاع الامتناع عنه فسقط اعتباره دفعا للحرج كقليل النجاسة في البدن أو الثوب، بخلاف ما إذا كانت الميتة أكثر أو استويا؛ لأنه لا ضرورة إليه فيمكن الاحتراز فلا تؤكل قال في العناية أخذا من النهاية طولب بالفرق بين هذا وبين الثياب فإن المسافر إذا كان معه ثوبان أحدهما نجس والآخر طاهر ولا يميز بينهما وليس معه ثوب غيرهما فإنه يتحرى ويصلي في الذي يقع تحريه أنه طاهر فقد جوز هناك التحري فيما إذا كان الثوب النجس والطاهر نصفين وفي المذكية والميتة لم يجوز وأجيب بأن وجه الفرق هو أن حكم الثياب أخف من غيرها لأن الثياب لو كانت كلها نجسة كان له أن يصلي في بعضها ثم لا يعيد صلاته؛ لأنه مضطر على الصلاة، بخلاف ما نحن فيه من الغنم ويؤيده أن الرجل إذا لم يكن معه إلا ثوب نجس فإن كان ثلاثة أرباعه نجسا وربعه طاهرا يصلي فيه ولا يصلي عريانا بالإجماع فلما جازت صلاته وهو نجس بيقين فلأن يجوز بالتحري حالة الاشتباه أولى‏.‏ ا هـ‏.‏ أقول‏:‏ الجواب عندي والسؤال فيهما نظر أما الأول فلأن تجويز التحري فيما إذا كان الثوب النجس والطاهر نصفين إنما هو في حالة الاختيار كما صرحوا به في شرح الجامع الصغير وصرح به صاحب الهداية بقوله وهذا إذا كانت الحالة حالة الاختيار، وأما في حالة الضرورة فيباح له التناول في جميع ذلك فلا تتوجه المطالبة بالفرق بين المسألتين رأسا لظهور اختلاف حكم الحالين الاختيار والاضطرار قطعا، وأما الثاني فلأن ما ذكر فيه لا يقتضي كون حكم الثياب أخف من حكم غيرها لأن جواز الصلاة في بعض الثياب عند كون كلها نجسة فعدم لزوم إعادة الصلاة إذ ذاك إذ هو في حالة الاضطرار كما أفصح عنه المجيب بقوله لأنه مضطر إلى الصلاة فيها وكون ما نحن فيه من الغنم بخلاف ذلك إنما هو في حالة الاختيار كما تحققته فمن أين يثبت حكم كون الثياب أخف من حكم غيرها مطلقا حتى يصلح أن يجعل مدارا للفرق بين تلك المسألتين‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏لف ثوب نجس رطب في ثوب طاهر يابس فظهر رطوبته على الثوب ولكن لا يسيل إذا عصر لا يتنجس‏)‏ وذكر المرغيناني أنه إن كان اليابس هو الطاهر يتنجس؛ لأنه يأخذ قليلا من النجس الرطب وإن كان اليابس هو النجس والطاهر هو الرطب لا يتنجس؛ لأن اليابس هو النجس يأخذ من الطاهر ولا يأخذ الرطب من اليابس شيئا ويحمل على أن مراده فيما إذا كان الرطب ينفصل منه شيء وفي لفظه إشارة إليه حيث نص على أخذ الليلة وعلى هذا إذا نشر الثوب المبلول على محل نجس هو يابس لا يتنجس الثوب لما ذكرنا من المعنى وقال قاضي خان في فتاواه إذا نام الرجل على فراش فأصابه مني ويبس وعرق الرجل وابتل الفراش من عرقه إن لم يظهر أثر البلل في بدنه لا يتنجس بدنه، وإن كان العرق كثيرا حتى ابتل الفراش ثم أصاب تلك الفراش جسده فظهر أثره في جسده يتنجس بدنه، وكذا الرجل إذا غسل رجله ومشى على أرض نجسة بغير مكعب فابتل الأرض من بلل رجله واسود وجه الأرض لكن لم يظهر أثر تلك الأرض في رجله وصلى جازت صلاته وإن كان بلل الماء في الرجل كثيرا حتى ابتل وجه الأرض وصار طينا ثم أصاب الطين رجله لا تجوز صلاته ولو مشى على أرض نجسة رطبة ورجله يابسة تنجس‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏رأس شاة متلطخ بدم أحرق وزال عنه الدم فاتخذ منه مرقة جاز والحرق كالغسل‏)‏ لأن النار تأكل ما فيه من النجاسة حتى لا يبقى فيه شيء أو يحيله فيصير الدم رمادا فيطهر بالاستحالة، ولهذا لو حرقت العذرة وصارت رمادا طهرت بالاستحالة كالخمر إذا تخللت وكالخنزير إذا وقع في المملحة وصار ملحا وعلى هذا قالوا إذا تنجس التنور يطهر بالنار حتى لا ينجس الخبز وكذلك آلة الخباز تطهر بالنار‏.‏

وقال رحمه الله‏:‏ ‏(‏سلطان جعل الخراج لرب الأرض جاز وإن جعل العشر لا‏)‏ وهذا عند أبي يوسف وقال أبو حنيفة ومحمد لا يجوز فيهما؛ لأنهما في جماعة المسلمين ولأبي يوسف أن صاحب الخراج له حق في الخراج فصح تركه عليه وهو صلة من الإمام والعشر حق الفقراء على الخلوص كالزكاة فلا يجوز تركه عليه وعلى قول أبي يوسف الفتوى‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو دفع الأراضي المملوكة إلى قوم ليعطوا الخراج جاز‏)‏ معناه أن أصحاب الأراضي إذا عجزوا عن زراعة الأرض وأداء الخراج دفع الإمام الأراضي إلى غيرهم بالأجرة، أي يؤاجر الأراضي للقادرين على الزراعة ويأخذ الخراج من أجرتها فإن فضل شيء من أجرتها يدفع إلى أربابها وهم الملاك؛ لأنه لا وجه لإزالة ملكهم بغير رضاهم من غير ضرورة ولا وجه إلى تعطيل حق المقاتلة فتعين ما ذكرنا فإن لم يجد من يستأجرها باعها الإمام لمن يقدر على الزراعة لأنه إذا لم يبعها يفوت حق المقاتلة في الخراج أصلا، ولو باع يفوت حق المالك في العين والفوات إلى خلف كلا فوات فيبيع تخفيفا للنظر من الجانبين وليس له أن يملكها غيرهم بغير عوض وإذا باعها يأخذ الخراج الماضي من الثمن إذا كان عليهم خراج ورد الفضل إلى أصحابها ثم قيل هذا قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن عندهما القاضي يملك بيع مال المديون بالدين والنفقة وعند أبي حنيفة لا يملك ذلك فلا يبيعها لكن يأمر صاحبها ببيعها وقيل هذا قول الكل والفرق لأبي حنيفة بين هذا وبين غيره من الديون أن في هذا إضرارا خاصا ونفعا عاما والنفع العام مقدم على الضرر الخاص ولأن الخراج متعلق برقبة الأرض فصار كدين العبد المأذون له في التجارة ودين الميت في التركة فإن القاضي يملك البيع فيهما لتعلق الحق بالرقبة فكذا هذا وذكر في النوادر عن أبي حنيفة أن أهل الخراج إذا هربوا إن شاء الإمام عمرها من بيت المال والغلة للمسلمين وإن شاء دفع إلى قوم وأطعمهم على شيء إذ كأنه ما يأخذ للمسلمين؛ لأن فيه حفظ الخراج على المسلمين والملك على أربابها فإذا عمدها من بيت المال يكون بقدر ما ينفق في عمارتها قرضا؛ لأن الإمام مأمور بتهيئة بيت المال بأي وجه يتهيأ له‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو نوى قضاء رمضان ولم يعين اليوم صح ولو عن رمضانين كقضاء الصلاة صح وإن لم ينو أول الصلاة عليه أو آخر صلاة عليه‏)‏ معناه لو كان عليه قضاء صوم يوم أو أكثر من رمضان واحد فقضاه ناويا عنه ولم يعين أنه عن يوم كذا جاز فكذا لو صام ونوى عن يومين أو أكثر جاز عن يوم واحد ولو نوى عن رمضانين أيضا يجوز وكذا قضاء الصلاة يجوز وإن لم يعين الصلاة ويومها ولم ينو أول صلاة عليه وهذا قول بعض المشايخ والأصح أنه يجوز في رمضان واحد ولا يجوز في رمضانين ما لم يعين أنه صائم عن رمضان سنة كذا على ما بينا، وكذا في قضاء الصلاة لا يجوز ما لم يعين الصلاة ويومها بأن عين ظهر يوم كذا مثلا ولو نوى أول ظهر عليه أو آخر ظهر عليه جاز؛ لأن الصلاة عليه تعينت بتعينه، وكذا الوقت يعين لكونه أولا وآخرا فإن نوى أول صلاة عليه وصلى مما يليه يصير أولا أيضا فيدخل في نيته أول ظهر عليه ثانيا وكذلك ثالثا إلى ما لا يتناهى، وكذا الآخر وهذا مخلص من لم يعرف الأوقات التي فاتته أو اشتبهت عليه أو أراد التسهيل على نفسه والأصل فيه أن الفروض متزاحمة فلا بد من تعيين ما يريد أداءه حتى تبرأ ذمته منه؛ لأن فرضا من الفروض لا يتأدى بنية فرض آخر فكذا هذا ووجب التعيين والشرط تعيين الجنس بالنية؛ لأنها شرعت لتمييز الأجناس المختلفة ولهذا يكون التعيين في الجنس الواحد لغوا لعدم الفائدة والتصرف إذا لم يصادف محله يكون نيته لغوا ويعرف اختلاف الجنس باختلاف السبب والصلوات كلها من قبيل المختلف حتى الظهرين من يومين والعصرين من يومين؛ لأن وقت الظهر من يوم غير وقت الظهر من يوم آخر حقيقة وحكما؛ لأن الخطاب لم يتعلق بوقت يجمعهما بل بدلوك الشمس ونحوه‏.‏ والدلوك في يوم غير الدلوك في يوم آخر بخلاف صوم رمضان؛ لأنه متعلق بشهود الشهر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ وهو واحد؛ لأنه عبارة عن ثلاثين يوما بلياليها فلذلك لا يحتاج فيه إلى تعيين صوم كذا حتى لو كان عليه قضاء يوم بعينه فصامه بنية يوم آخر وكان عليه قضاء صوم يومين أو أكثر فصام ناويا عن قضاء يومين أو أكثر جاز، بخلاف ما إذا نوى عن رمضانين أوعن رمضان آخر حيث لا يجوز عن واحد منهما لاختلاف السبب وصار كما إذا نوى ظهرين أو ظهرا عن عصر أو نوى ظهر يوم السبت وعليه ظهر يوم الخميس، وعلى هذا أداء الكفارة لا يحتاج إلى التعيين في جنس واحد ولو عين لغا وفي الأجناس لا بد منه، وقد ذكرنا تفاصيلها في كفارة الظهار وذكر في المحيط في كتاب الكفارات نية التعين في الصلاة لم تشترط باعتبار أن الواجب مختلف متعدد بل باعتبار أن مراعاة الترتيب واجب عليه ولا يمكنه مراعاة الترتيب إلا بنية التعين حتى لو سقط الترتيب بكثرة الفوائت يكفيه نية الظهر لا غير وهذا مشكل، وما ذكره أصحابنا مثل قاضي خان وغيره خلاف ذلك وهو المعتمد لما ذكرنا من المعنى ولأن الأمر كما كان قاله لجوازه مع وجود الترتيب أيضا لإمكان صرفه إلى الأول إذ لا يجب التعيين عنده ولا يفيد‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏قتل بعض الحاج عذر في ترك الحج‏)‏؛ لأن أمن الطريق شرط الوجوب أو شرط للأداء على ما بينا في المناسك ولا يحصل ذلك مع قتل بعض الحجاج في الطريق للحج فكان معذورا في ترك الحج فلا يأثم بذلك وقد ذكرناها مستوفاة في المناسك وذكرنا الخلاف فلا نعيدها ولك أن تقول القول المختار فيما إذا كان بينك وبين مكة بحر كان الغالب فيه السلامة يجب الحج وإلا لا فينبغي أن يعرف هنا ويقال إن كان الغالب في الطريق إلا من يجب وإلا لا‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏توزن من شدي‏)‏ يعني أنت صرت زوجة لي ‏(‏فقالت المرأة شدم‏)‏ يعني صرت لم ينعقد النكاح؛ لأن هذا لا يدل على الإيجاب والقبول فقوله تو بضم التاء المثناة فوق وسكون الواو معناه أنت وقوله زن بفتح الزاي المعجمة وبالنون هو اسم للمرأة وقوله من بفتح الميم والنون ومعناه أنا وقوله شدم بضم الشين المعجمة وفتح الدال المهملة في آخره ميم آخر الحروف ساكنة معناه صرت وهذه اللفظة تتصرف كاللفظ العربي فمصدره شدن والماضي شد والمضارع شودا إذا أريد الإخبار عن الجمع يقال شديم بكسر الدال وزيادة الياء آخر الحرف بعد الدال قبل ميم المتكلم‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قال رجل لامرأة خويشتن رازن من كردا يندى‏)‏ معناه هل جعلت نفسك لي زوجة فقالت المرأة في جوابه كردا يندم يعني جعلت وقال الرجل بزير فتم يعني قبلت ينعقد النكاح متمما لاشتماله على الإيجاب والقبول قوله خويشتن يؤدي معنى ‏"‏ نفسك ‏"‏ وهو بكسر الخاء المعجمة يكتب بالواو بعدها من غير أن يتلفظ بها وكذلك الياء بعد الواو وشين معجمة ساكنة بعدها تاء مثناة من فوق مفتوحة وفي آخره نون وقوله را بفتح الراء بعدها ألف ساكنة تؤدي معنى التخصيص للإشارة بها وهي مفعول وقوله من يعني أنا وقوله كردانيدي بالكاف الصماء المفتوحة والراء الساكنة والدال المفتوحة والنون المكسورة بعدها ألف وبعدها ياء ساكنة ودال مهملة مكسورة وفي آخره ياء أخرى ساكنة وهذه للخطاب تؤدي معنى الجعل والتصيير وقوله كردايندم كذلك إلا أنه للمتكلم وحده، وكذلك للمخاطبة إذا زيد ياء بعد الدال مثل كردانيدي وإذا أريد جمع المخاطب يزاد بعد الدال ياء المخاطب مثل كردانيد بد وإذا أريد المتكلم مع الغير يزاد فيه ياء بعد الدال وقبل الميم ويقال كردانيديم وقوله بزير فتم بفتح الباء الصماء يكون مخرجه قريبا من مخرج الفاء وبكسر الزاي المعجمة بعدها ياء ساكنة وبعدها راء مفتوحة وبعدها فاء ساكنة وبعدها تاء مثناة من فوق مفتوحة وفي آخر ميم ساكنة‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قال رجل لآخر دوختر خويشتن رابيسر من أرزاني داشتي‏)‏ معناه هل جعلت ابنتك لائقة لابني فقال أبو البنت في جوابه داشتم يعني جعلت لا ينعقد النكاح؛ لأنه ليس بمشتمل على الإيجاب والقبول ولا يلزم من جعل ابنته لائقة لابنه حصول العقد بينهما قوله دختر بضم الدال المهملة وسكون الخاء المعجمة وفتح التاء المثناة فوق وفي آخر راء معناه البنت وقوله بيسر لفظان مركبان الأول لفظ باء الوحدة يؤدي معنى لام الاختصاص والثاني لفظ بيسر بضم الباء الفارسية وفتح السين المهملة وفي آخره راء معناه الابن قوله أرزاني بفتح الهمزة وسكون الراء وبفتح الزاي وكسر النون بعد الألف الساكنة وفي آخره ياء آخر الحروف ساكنة ومعناه ها هنا معنى اللائق وقوله داشتى بفتح الدال المهملة وسكون الألف وسكون الشين المعجمة والتقاء الساكنين في لغتهم شائع وكسر التاء المثناة من فوق وفي آخره ياء آخر الحرف ساكنة وقوله داشتم بزيادة التاء آخر الحروف قبل الميم وهذه قاعدة مطردة عندهم‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏منعها‏)‏ كلام إضافي مبتدأ أي منع المرأة زوجها ‏(‏عن الدخول عليها و‏)‏ الحال أنه ‏(‏هو‏)‏ أي الزوج ‏(‏يسكن معها في بيتها نشوز‏)‏ لأنها حبست نفسها منه بغير حق فلا تجب النفقة لها ما دامت على منعه فيتحقق النشوز منها فصار كحبسها نفسها في منزل غيرها هذا إذا منعته ومرادها السكنى في منزلها وإن كان المنع لينقلها إلى منزله لا تكون ناشزة؛ لأن السكنى واجبة لها عليه فكان حبسها نفسها منه بحق فلا تسقط نفقتها؛ لأن التقصير جاء من جهته فصار كما إذا حبست نفسها لاستيفاء مهرها بخلاف ما إذا حبست بسبب دين عليها أو غصبها غاصب وذهب بها؛ لأن الفوات ليس من قبله وبخلاف ما إذا كانت ساكنة معه في منزله ولم تمكنه من الوطء؛ لأنه يمكنه الوطء كرها غالبا فلا يعد منعا‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو سكن في بيت الغصب فامتنعت لا تكون ناشزة‏)‏ لأنها محقة؛ لأن السكنى فيه حرام‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏قالت لا أسكن مع أمتك وأريد بيتا على حدة وليس لها ذلك‏)‏ لأنه لا بد له ممن يخدمه فلا يمكن منعه من ذلك‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏قالت الزوجة لزوجها مرا طلاق بغلي‏)‏ يعني اعطني طلاقا ‏(‏فقال الزوج داده كيرا وكرده كيرا وداده باد وكرده باد ينوي يقع‏)‏ معناه الاعتبار للنية وعدمها فإن نوى بهذه الألفاظ الطلاق وقع فإن لم ينو لا يقع؛ لأنه من الكنايات عندهم فلأنه من النية قوله داده بفتح الدال بعدها ألف ساكنة ومعناه الإعطاء وقوله كير بكسر الكاف الصماء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء معناه الأصل امسك ولكن معناه هنا افرضي وقدري يعني قدري الطلاق قد أعطى قوله كرده بفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال وسكون الهاء وهو اسم مفعول من كرداني الذي هو المصدر ومعناه الفعل والعمل قوله باز بفتح الباء وسكون الألف والزاي المعجمة معناه فليمكن‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قال الزوج داده است وكرده است يقع‏)‏ الطلاق ‏(‏نوى‏)‏ الوقوع ‏(‏أولا‏)‏ أي وإن لم ينو قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قال الزوج داده أنكار وكرده أنكار‏)‏ لا يقع الطلاق ‏(‏وإن نوى الوقوع‏)‏ والفرق بينهما أن في الأولى إخبارا عن وقوع فيقع الطلاق وفي الثاني ليس بإخبار؛ لأن معنى قوله داده أنكار افرضي أنه وقع أو احسبي فلا يقع به شيء وأنكار بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الكاف الصماء وفي آخره راء مهملة، ومعناه افرض وقدري قوله ‏(‏وي مرانشا يد تاقيامت أو همه عمر‏)‏ لا يقع طلاق ‏(‏إلا بنية‏)‏؛ لأنه من الكنايات قوله وي بفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف بمعنى هي التي هو ضمير الغائب وقوله مرا بفتح الميم والراء مقصورة ومعناه لا خلى وقوله نشايد بفتح النون والشين المعجمة وياء ساكنة بعد ياء مفتوحة آخر الحروف ودال مهملة ومعناه لا يليق قوله أو همه بفتح الهاء والميم وسكون الهاء ومعناه الجميع والمعنى يعني لا يليق في جميع عمرى أو مدة عمري أو إلى يوم القيامة قوله تا بفتح التاء المثناة من فوق مقصورة ومعناه إلى يوم القائمة، والحاصل في معنى هذا التركيب لا يليق بي إلى يوم القيامة‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قال الزوج حيلة زنان كن إقرارا بالثلاث‏)‏ أي لوقوع الطلاق الثلاث؛ لأن معنى كلامه افعلي حيلة النساء مقصودهم بهذا احفظي عدتك أو عدي أيام عدتك فإن هذا عندهم كناية عن وقوع الطلاق الثلاث؛ لأن المرأة لا تشتغل بأمور العدة إلا بعد وقوع الثلاث‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قال حيله خويش كن لا‏)‏ يعني ليس بإقرار بالثلاث؛ لأن هذا ليس بكناية عن الطلاق عندهم بخلاف الصورة الأولى قوله خويش بكسر الخاء المعجمة والواو ولا يتلفظ بها عندهم وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة وشين معجمة ومعناه أنت هنا؛ لأنه يجيء بمعنى آخر في غير هذا الموضوع‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قالت المرأة كابين من ترابخشيدم‏)‏ معناه وهبت لك المهر ‏(‏مراجنك بادزار‏)‏ معناه خلصني من نزاعك فاحكم علي بالمهر ‏(‏إن طلقها سقط المهر وإلا لا‏)‏ أي وإن لم يطلقها لا يسقط؛ لأنه أجابها إلى سؤالها هو الطلاق حتى يسقط المهر وقوله ترى بضم التاء المثناة من فوق وبالراء المقصورة معناه لك وقوله بخشيدم بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وبفتح الدال المهملة وفي آخره ميم ساكنة ومعناه وهبت ومصدره وهبت بخشيدن‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قال المولى لعبده يا مالكي أو قال لأمته أنا عبدك لا يعتق‏)‏؛ لأنه ليس بصريح للعتق ولا كناية له بخلاف قوله يا مولاي؛ لأن حقيقته تنبئ عن ثبوت الولاء على العبد وذلك بالعتق فيعتق ‏(‏ولو قال شخص بر من سوكند لست كه‏)‏ يعني على اليمين‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قال ابن كار‏)‏ يعني هذا الفعل ‏(‏نكنم‏)‏ يعني لا أفعل ‏(‏فهذا إقرار باليمين بالله تعالى‏)‏؛ لأنه أخر عن يمينه على ترك هذا الفعل فيكون إقرارا باليمين مني فهل يحنث في يمينه وتلزمه الكفارة قوله بر بفتح الباء الموحدة وسكون الراء تؤدي معناه علي، وقوله من بفتح الميم وسكون النون ومعناه أنا وقوله سوكند بفتح السين المهملة وسكون الواو وفتح الكاف الصماء وسكون النون وآخره دال ساكنة معناه اليمين وقوله أين بكسر الهمز وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون ساكنة أيضا تؤدي معنى هذا وقوله كار بفتح الكاف وسكون الألف والراء وهو الفعل وقوله نكنم مضارع منفي؛ لأن النون المفتوحة في الأول هي حرف النفي وكنم معناه افعل للمتكلم وحده واشتقاقه من كردن الذي هو المصدر فالماضي كرد والمتكلم وحدة كنم ومع الغير كنيم بزيادة الياء قبل الميم‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن قال شخص برمن سوكندا ست بطلاق لزمه ذلك فإن قال قلت ذلك‏)‏ أي هذا القول ‏(‏كذبا لا يصدق‏)‏ لأنه أخبر عن يمين منعقدة وقوله بعد ذلك قلت ذلك كذبا رجوع منه فلا يصدق ولو قال ‏(‏مراسو كند خانه است كه أين كار نكنم‏)‏ معناه أنا حالف بيمين البيت أن لا أفعل هذا الفعل ‏(‏فهو إقرار باليمين بالطلاق‏)‏ لأن اليمين مبناه على العرف وفي العرف يكنون عن المرأة يقال بيتي قال كذا يكنون به المرأة فقوله خانه يقال للبيت وكني به عن امرأته وبقيت ألفاظه فسرناها‏.‏

‏(‏قال المشتري للبائع بها بازاده‏)‏ معناه رد الثمن ‏(‏فقال البائع بدهم‏)‏ يعني أرد ‏(‏يكون فسخا للبيع الذي كان بينهما‏)‏؛ لأن استرداده الثمن رد وفسخ للعقد قوله بها بفتح الباء الموحدة والهاء المقصورة معناه الثمن وقوله بفتح الباء يؤدي معنى تخصيص الإشارة كما ذكرنا قوله بازده بفتح الباء الموحدة وسكون الألف وسكون الزاي وكسر الدال المهملة وسكون الهاء معناه أعط‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏العقار المتنازع فيه لا يخرج من يد ذي اليد ما لم يبرهن المدعي‏)‏ أي إذا ادعى عقارا لا يكتفي بذكر المدعي أنه في يد المدعى عليه حتى يصح دعواه بل لا بد أن يبرهن أنه في يده أو يعلم القاضي بذلك في الصحيح؛ لأن يد المدعى عليه لا بد منه لتصح الدعوى عليه وهو شرط فيها ويحتمل أن يكون في يد غيره فبإقامة البينة فتبقى تهمة المواضعة فيقضي القاضي عليه بإخراجه من يده لتحقيق يده بخلاف المنقول؛ لأن اليد فيه مشاهدة فلا يحتاج إلى إثباتها بالبينة فإن قيل هذه مكررة مع قوله في كتاب الدعوى ولا تثبت اليد في العقار بتصادقها بل ببينة أو إعلام قاض بخلاف المنقول قلنا لا تكرار؛ لأن تلك بالنظر إلى ثبوت اليد وهذه بالنظر إلى أن القاضي هل يملك إخراجها من ذي اليد‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏عقار لا في ولاية القاضي‏)‏ لا يصح قضاؤه فيه؛ لأنه لا ولاية له في ذلك المكان وقد اختلف المشايخ هل يعتبر المكان أو لا فقيل يعتبر المكان وقيل يعتبر الأهل حتى لا ينفذ قضاؤه في غير ذلك على قول من اعتبر المكان ولا في غير ذلك الأهل على قول من اعتبر الأهل وإن خرج القاضي مع الخليفة من المصر قضى وإن خرج وحده لم يجز قضاؤه وهذا ينبغي أن يكون على قول من اعتبر المكان؛ لأن القضاء من إعلام الدين فيكون المصر شرطا فيه كالجمعة والعيدين وعن أبي يوسف أن المصر ليس بشرط فيه وإليه أشار محمد في كتاب أدب القاضي فقال إن المصر ليس بشرط لنفوذ القضاء وفي الخلاصة والصحيح أن المعتبر الأهل لا المكان حتى لو قضى على الأهل والعقار في غير ولايته نفذ وعليه عمل القضاء الآن‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏إذا قضى القاضي في حادثة ببينة ثم قال رجعت عن قضائي أو بدا لي غير ذلك أو وقعت في تلبيس الشهود أو أبطلت حكمي ونحو ذلك لا يعتبر والقضاء ماض إن كان بعد دعوى صحيحة وشهادة مستقيمة‏)‏؛ لأن رواية الأول قد ترجح بالقضاء فلا ينقض باجتهاد مثله ولا يملك الرجوع عنه ولا إبطاله؛ لأنه تعلق به حق الغير وهو المدعي، ألا ترى أن الشهادة لما اتصلت بالقضاء لا يصح رجوعه ولا يملك إبطالها لما ذكرنا فكذا القضاء وقال الشعبي‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بالقضاء ثم ينزل القرآن بعد ذلك بخلافه فلا يرد قضاءه» وقال صاحب المحيط وهذا يدل على أن القاضي إذا قضى باجتهاد في حادثة لا نص فيها ثم تحول عن رأيه فإنه يقضي في المستقبل بما هو أحسن عنده ولا ينقض القضاء الذي قضاه بالرأي؛ لأنه لم ينقض بالقرآن بعده فهذا أولى، بخلاف ما إذا قضى باجتهاده في حادثة ثم تبين نص بخلافه فإنه ينقض ذلك القضاء والفرق أن القاضي حال ما قضى باجتهاده فالنص الذي هو مخالف لاجتهاده كان موجودا منزلا إلا أنه خفي عليه وكان الاجتهاد في محل النص فلا يصح وحال ما قضى باجتهاده كان الاجتهاد في محل لا نص فيه فصح وصار ذلك شريعة له فإذا نزل القرآن بخلافه صار ناسخا لتلك الشريعة‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏خبا قوما ثم سأل رجلا عن شيء فأقر به وهم يرونه ويسمعون كلامه وهو لا يراهم جازت شهادتهم عليه بذلك الإقرار‏)‏؛ لأن الإقرار موجب بنفسه وقد علموه وهو يكفي في أداء الشهادة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من شهد بالحق وهم يعلمون‏}‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن سمعوا كلامه ولم يروه لا‏)‏ أي لا تجوز شهادتهم؛ لأن النغمة تشبه النغمة فيحتمل أن يكون المقر غيره فلا يجوز لهم أن يشهدوا عليه مع الاحتمال إلا إذا كانوا دخلوا البيت وعلموا أنه ليس فيه أحد سواهم ثم جلسوا على الباب وليس للبيت ملك غيره ثم دخل رجل فسمعوا إقرار الداخل ولم يروه وقت الإقرار؛ لأن العلم حصل لهم في هذه الصورة فجاز لهم أن يشهدوا عليه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏باع عقارا وبعض أقاربه حاضر يعلم البيع ثم ادعى لا تسمع دعواه‏)‏ أطلق القريب هنا وفي الفتاوى لأبي الليث عنه فقال لو باع عقارا وابنه أو امرأته حاضرة تعلم به وتصرف المشتري فيه زمانا ثم ادعى الابن أنه ملكه ولم يكن ملك أبيه وقت البيع اتفق مشايخنا على أنه لا تسمع مثل هذه الدعوة؛ لأن حضوره عند البيع وتركه فيما يصنع إقرار منه بأنه ملك البائع وأنه لا حق له في المبيع وجعل سكوته في هذه الحالة كالإفصاح بالإقرار قطعا للأطماع الفاسدة لأهل العصر في الإضرار بالناس وتقييد القريب يقتضي جواز ذلك مع القريب، وقال في الخلاصة والأصح أنها تسمع من القريب وغيره وذكره في الهداية في كتاب الكفالة قبل الفصل في الضمان قال‏:‏ ومن باع دارا وكفل عنه رجل بالدرك فهو تسليم؛ لأن الكفالة لو كانت مشروطة فيه فتمامه بقبوله ثم بالدعوى يسعى في نقض ما تم من جهته وإن لم تكن مشروطة فيه فالمراد بها أحكام البيع وترغيب المشتري فيه إذ لا يرغب فيه بدون الكفالة فنزل منزلة الإقرار بملك البائع ولو شهد وختم ولم يكفل لم يكن تسليما وهو على دعواه؛ لأن الشهادة لا تكون مشروطة في البيع وليست بشرط فيه ولا هي بإقرار الملك؛ لأن البيع مرة يوجد من المالك وتارة من غيره ولعله كتب شهد بذلك فهو تسليم إلا إذا كتب الشهادة على إقرار المتعاقدين، ولو باع ضيعة ثم ادعى أنها وقف عليه وعلى أولاده لا تسمع دعواه للتناقض؛ لأن إقدامه على البيع إقرار منه وإذا أراد تحليف المدعى عليه ليس له ذلك وإن أقام البينة على ذلك قيل تقبل؛ لأن الشهادة على الوقف تقبل من غير دعوى؛ لأنها من باب الحسبة فإذا قبلت انتقض البيع وقيل لا تقبل وهو أصوب وأحوط؛ لأنه بإقامة البينة أن الضيعة وقف عليه يدعي فساد البيع وحقا لنفسه فلا تقبل للتناقض وقال في الجامع الصغير إذا بيع متاع إنسان بين يديه وهو ينظر لا يصح؛ لأنه سكوت يحتمل الرضا والسخط وقال ابن أبي ليلى سكوته يكون إجازة منه للبيع، وفي جامع الفصولين والصحيح أن سكوته لا يكون تسليما لاحتمال أنه إنما سكت لغيبة شهوده أو لأن القاضي لو خاصم عنده لا يقضي له لما علم من حال القاضي‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وهبت مهرها لزوجها فماتت فطالب ورثتها بمهرها وقالوا كانت الهبة في مرض موتها وقال بل في الصحة فالقول له‏)‏ أي للزوج والقياس أن يكون القول للورثة؛ لأن الهبة حادثة والحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات ووجه الاستحسان أنهم اتفقوا على سقوط المهر عن الزوج؛ لأن الهبة في مرض الموت تفيد الملك وإن كانت للوارث، ألا ترى أن المريض إذا وهب عبده لوارثه فأعتقه الوارث أو باعه نفذ تصرفه ولكن يجب عليه الضمان إن مات المورث وفي ذلك المرض ردا للوصية للوارث بقدر الإمكان فإذا سقط عنه المهر بالاتفاق فالوارث يدعي العود عليه والزوج ينكر والقول قول المنكر‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏أقر بدين أو غيره ثم قال كنت كاذبا فيما أقررت حلف المقر له على أن المقر ما كان كاذبا فيما أقر به ولست بمبطل فيما أدعيه عليه والإقرار ليس بسبب للملك‏)‏ وهذا قول أبي يوسف وقالا‏:‏ لا يحلف؛ لأن الإقرار حجة ملزمة شرعا فلا يصار معه إلى اليمين كالبينة بل أولى؛ لأن احتمال الكذب فيه أبعد لتضرره بذلك ووجه الاستحسان أن العادة جرت بين الناس أنهم يكتبون الصك إذا أرادوا الاستدانة قبل الأخذ ثم يأخذون المال فلا يكون الإقرار ليلا، وكذا لو ادعى وارث المقر يحلف المقر له على الصحيح؛ لأن الوارث ادعى الجزء الذي في يد المقر له فاليمين على نفي العلم أننا لا نعلم أنه كاذب فيحلف وعليه الفتوى لتغير أحوال الناس وكثرة الخداع والخيانات وهو يتضرر بذلك والمدعي لا يضره اليمين إن كان صادقا فيصار إليه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏لو قال لآخر وكلتك ببيع هذا فسكت صار وكيلا‏)‏؛ لأن سكوته وعدم رده من ساعته دليل القبول عادة ونظيره هبة الدين ممن عليه الدين فإنه إذا سكت صحت الهبة وسقط الدين لما بينا وإن قال من ساعته لا أقبل بطل وبقي الدين على حاله، وكذا لو قال جعلت أرضي عليك وقفا فسكت صحت ولو قال لا أقبل بطل وقال الأنصاري الوقف لا يبطل بقوله لا أقبل؛ لأنه وقف لله تعالى والأشبه أن يكون هذا قول أبي يوسف لما عرف من أصله أنه يصير وقفا بمجرد قوله وقفت داري‏.‏

قال ‏(‏وكلها بطلاقها لا يملك عزلها‏)‏ لأنه يمين من جهته لما فيه من معنى اليمين وهو تعليق الطلاق بفعلها ولا يصح الرجوع عن اليمين وهو تمليك من جهتها؛ لأن الوكيل هو الذي يعمل لغيره وهي عاملة لنفسها فلا تكون وكيلة بخلاف الأجنبي‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وكلتك بكذا على أني متى عزلتك فأنت وكيلي‏)‏ يقول في عزله عزلتك ثم عزلتك أي ثم يقول عزلتك؛ لأن الوكالة يجوز تعليقها بالشرط فيجوز تعليقها بالعزل عن الوكالة فإن عزله انعزل عن الوكالة المنجزة ثم تنجزت المعلقة فصار توكيلا جديدا تم بالعزل الثاني قد رجع عن الوكالة الثانية‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو قال كلما عزلتك فأنت وكيلي يقول رجعت عن الوكالة المعلقة وعزلت عن الوكالة المنجزة‏)‏ وقيل يقول في عزله كلما وكلتك فأنت معزول؛ لأنه كلما صار وكيلا انعزل فيحصل مقصود بذلك والأول أوجه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏قبض بدل الصلح شرطا إن كان دينا بدين‏)‏ بأن وقع على دراهم عن دنانير أو على شيء آخر في الذمة؛ لأنه متى وقع الصلح على غير ما يستحقه الدائن بعقد المداينة يحمل على المعاوضة صار صرفا أو بيعا وفيه لا يجوز الافتراق عن الدين بالدين «لنهيه عليه الصلاة والسلام عن الكالئ بالكالئ» وقد بيناه من قبل في كتاب الصلح وغيره قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإلا لا‏)‏ أي إن لم يكن دينا بدين لا يشترط قبضه؛ لأن الصلح إذا وقع على عين متعينة لا يبقى دينا في الذمة فجاز الافتراق عنه وإن كان مال الربا كما وقع الصلح على شعير بعينه عن حنطة في الذمة وقد بيناه من قبل‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ادعى رجل على صبي دارا فصالحه أبوه على مال الصبي فإن كان للمدعي بينة جاز إن كان بمثل القيمة أو أكثر مما يتغابن الناس فيه‏)‏ لأن للصبي فيه منفعة وهي سلامة العين له؛ لأنه لو لم يصالح يستحقه المدعي فتنقد بالمثل وبقدر ما يتغابن فيه عادة؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن لم يكن للمدعي بينة أو كانت غير عادلة لا‏)‏ يعني لا يصح؛ لأنه يكون متبرعا بمال الصبي بالصلح لا مشتريا له؛ لأنه لم يستحق المدعي شيئا من ماله لولا الصلح فلا منفعة للصبي في هذا الصلح بل فيه ضرر فلا يجوز؛ لأن الولاية نظرية قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏ وإن كان الأب هو المدعي للصغير ولا بينة يجوز كيفما كان؛ لأنه لم يثبت للصبي فيما ادعاه الأب له ملك ولا معنى الملك وهو التمكن من الأخذ فكان محصلا له مالا من غير أن يخرج من ملك الصبي شيئا بمقابلته فكان نفعا محضا، فإن كان له بينة عادلة لا تجوز إلا بالمثل وبأقل لقدر ما يتغابن فيه؛ لأنه صار في معنى الملك لتمكنه من الأخذ بالبينة العادلة ووصي الأب في هذا كالأب؛ لأنه قائم مقامه قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏قال لا بينة فبرهن أو لا شهادة لي فشهد تقبل‏)‏ ومعنى الأول أن يقول المدعي ليس له بينة على دعواي هذا الحق ثم جاء بالبينة تقبل؛ لأن التوفيق بينهما ممكن بأن كانت له بينة فنسي ثم ذكرها بعد ذلك أو كان لا يعلمها ثم علمها وعن أبي حنيفة أنها لا تقبل؛ لأنه أكذب بينته ومعنى الثاني أن يقول الشاهد لا شهادة لفلان عندي في حق له ثم يشهد له به تقبل شهادته روى ذلك عن أبي حنيفة؛ لأنه يحتمل أن تكون له شهادة قد نسيها أو لم يعلمها ثم علمها ولهذا لو قال لا أعلم لي حقا على فلان، ثم أقام البينة أن له عليه حقا تقبل لإمكان التوفيق، بخلاف ما إذا قال ليس لي عليه حق ثم ادعى حقا حتى لا تسمع دعواه؛ لأن المناقضة بين الإقرار والدعوى ثابتة فلا يمكن التوفيق بينهما ونفي الحجة في هذا كنفي الشهادة لا كنفي الحق، حتى إذا قال لا حجة لي على فلان ثم أتى بحجة تقبل؛ لأنه يقول نسيت ولو قال هذه الدار ليست لي أو قال ذلك العبد ثم أقام بينة أن الدار والعبد له تقبل ببينته؛ لأنه لم يثبت بإقراره حقا لأحد وكل إقرار لم يثبت به لغيره حقا كان لغوا ولهذا يصح دعوى الملاعن نسب ولد نفي بلعانه نسبه؛ لأنه حين نفاه لم يثبت فيه حقا لأحد‏.‏

قال رحمه الله تعالى ‏(‏للإمام الذي ولاه الخليفة أن يقطع أغصانا من الطريق الجادة إن لم يضر بالمارة‏)‏؛ لأن للإمام ولاية التصرف في حق الكافة فيما فيه نظر للمسلمين فإذا رأى في ذلك مصلحة لهم كان له أن يفعله من غير أن يلحق ضررا بأحد، ألا ترى أنه إذا رأى أن يدخل بعض الطرق في المسجد أو بالعكس وكان في ذلك مصلحة للمسلمين كان له أن يفعل ذلك والإمام الذي ولاه الخليفة بمنزلة الخليفة؛ لأنه نائبه فكان فيه مثله‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏خوفها بالضرب حتى وهبته مهرها لم يصح إن قدر على الضرب‏)‏؛ لأنها مكرهة عليه إذ الإكراه على المال يثبت بمثله؛ لأن التراضي شرط في تمليك الأموال والرضا ينتفي بمثله فلا يصح‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن أكرهها على الخلع وقع الطلاق ولا يسقط المال‏)‏؛ لأن طلاق المكره واقع ولا يلزمها المال به إذ الرضا شرط فيه على ما بينا من قبل في كتاب الإكراه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو أحالت إنسانا على الزوج بالمهر، ثم وهبت المهر للزوج لا يصح‏)‏ لأنه تعلق به حق المحتال على مثال الرهن وإن كان أسوة الغرماء عند موتها فيرد تصرفها فيه فصار كما لو باع المرهون أو وهبه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏اتخذ بئرا في ملكه أو بالوعة فنز منها حائط جاره فطلب تحويله لا يجبر عليه وإن سقط الحائط منه لم يضمن‏)‏ لأنه تصرف في خالص ملكه ولأن هذا تسبب وبه لا يجب الضمان إلا إذا كان متعديا كوضع الحجر على الطريق واتخاذ ذلك في ملكه ليس بتعد فلا يضمن‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو عمر دار زوجته بماله بإذنها فالعمارة لها والنفقة دين عليها؛ لأن الملك لها‏)‏ وقد صح أمرها بذلك فينتقل الفعل إليها فتكون كأنها هي التي عمرته فيبقى على ملكها وهو غير متطوع بالإنفاق فيرجع لصحة أمرها فصار كالمأمور بقضاء الدين قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولنفسه بلا إذنها فله‏)‏ أي إذا عمر لنفسه من غير إذن المرأة كانت العمارة له؛ لأن الآلة التي بنى بها ملكه فلا يخرج عن ملكه بالبناء من غير رضاه فيبقى على ملكه ويكون غاصبا للعرصة وشاغلا ملك غيره بملكه فيؤمر بالتفريغ إن طلبت زوجته ذلك قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو عمرها لها بلا إذنها فالعمارة لها وهو متطوع‏)‏ أي عمرها لها بغير إذنها كان لها البناء وهو متطوع بالبناء فلا يكون له الرجوع عليها به؛ لأنه لا ولاية له في إيجاب ذلك عليها‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو أخذ غريمه فنزعه إنسان من يده لم يضمن‏)‏ أي لا يضمن النازع فلا يضاف إليه التلف كما إذا حل قيد العبد فائق فإن الحال لا يضمن؛ لأن التلف لم يحصل بفعله وإنما حصل بفعل العبد وهو مختار وكذا إذا دل السارق فإن الفعل حصل بفعل السرقة لا بدلالته وكمن أمسك هاربا من عدو حتى قتله العدو فإن الممسك لا يجب عليه الضمان فكذا هذا‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏في يده مال إنسان فقال له سلطان ادفع إلى هذا المال وإلا أقطع يدك أو أضربك خمسين فدفع لم يضمن‏)‏ أي لا يضمن الدافع؛ لأنه مكره عليه فكان الضمان على المكره أو على الآخذ أيهما شاء المالك إذا كان الأخذ مختارا وإلا فعلى المكره فقط‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وضع منجلا في الصحراء ليصيد به حمار وحش وسمى عليه فجاء في اليوم الثاني ووجدا الحمار مجروحا ميتا لم يؤكل‏)‏ لأن الشرط أن يذبحه إنسان أو يجرحه وبدون ذلك لا يحل وهو كالنطيحة والمتردية حتى لو وجده ميتا من ساعته لا يحل لعدم شرطه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏كره من الشاة الحياء والخصية والغدة والمثانة والمرارة والدم المسفوح والذكر‏)‏ لما روى الأوزاعي عن واصل بن مجاهد قال‏:‏ «كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشاة الذكر والأنثيين والقبل والغدة والمرارة والمثانة» قال أبو حنيفة الدم حرام وكره الستة وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ وكره ما سواه؛ لأنه مما تستخبثه النفس وتكرهه وهذا المعنى سبب الكراهة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحرم عليهم الخبائث‏}‏ وروى ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن القنفذ فتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه‏}‏ الآية فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول «ذكر القنفذ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال خبيث من الخبائث»‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏للقاضي أن يقرض مال الغائب والطفل واللقطة‏)‏؛ لأنه قادر على الاستخلاص فلا يفوت الحفظ به وهذه المسألة مكررة مع قوله في كتاب القاضي إلى القاضي ويقرض القاضي مال اليتيم ويكتب الصك بخلاف الأب والوصي والملتقط؛ لأنهم عاجزون عن استخلاصه فيكون تضييعا إلا أن الملتقط إذا أنشد اللقطة ومضى مدة النشد ينبغي أن يجوز له الإقراض من الفقراء؛ لأنه لو تصدق به عليهم في هذه الحالة جاز فالقرض أولى‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏صبي حشفته ظاهرة بحيث لو رآه إنسان ظنه مختونا ولا تقطع جلدة ذكره إلا بتشديد ترك كشيخ أسلم وقال أهل النظر لا يطيق الختان‏)‏؛ لأن قطع جلده لتنكشف الحشفة، فإن كانت الحشفة ظاهرة فلا حاجة إلى القطع، وإن كان يواري الحشفة يقطع الفضل ولو ختن ولم تقطع الجلدة كلها ينظر إن قطع أكثر من النصف يكون ختانا؛ لأن للأكثر حكم الكل، وإن قطع النصف فما دونه لا يعتد به لعدم الختان حقيقة وحكما والأصل أن الختان سنة كما جاء في الخبر وهو من شعائر الإسلام وخصائصه حتى لو اجتمع أهل بلد على تركه يحاربهم الإمام فلا يترك إلا للضرورة وعذر الشيخ الذي لا يطيق ذلك ظاهر فيترك‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ووقته سبع سنين‏)‏ أي وقت الختان سبع سنين وقيل لا يختن حتى يبلغ؛ لأن الختان للطهارة ولا طهارة عليه قبله فكان إيلاما قبله من غير حاجة وقيل أقصاه اثنا عشر سنة وقيل تسع سنين وقيل وقته عشر سنين؛ لأنه يؤمر بالصلاة إذا بلغ عشرا اعتيادا وتخلقا فيحتاج إلى الختان؛ لأنه شرع للطهارة وقيل إن كان قويا يطيق ألم الختان يختن وإلا فلا وهو أشبه بالفقه وقال أبو حنيفة لا علم لي بوقته ولم يرو عن أبي يوسف ومحمد فيه شيء وإن المشايخ اختلفوا فيه، وختان المرأة ليس بسنة وإنما هو مكرمة للرجال في لذة الجماع وقيل سنة والأصل أن إيصال الألم إلى الحيوان لا يجوز شرعا إلا لمصالح تعود إليه وفي الختان إقامة السنة وتعود إليه أيضا مصلحته لأنه جاء في الحديث‏:‏ «الختان سنة يحارب على تركها» وكذا يجوز كي الصغير وربط قرحته وغيره من المداواة وكذا يجوز ثقب أذن البنات الأطفال؛ لأن فيه منفعة للزينة وكان يفعل ذلك من وقته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير والحامل لا تفعل ما يضر بالولد ولا ينبغي لها أن تحتجم ما لم يتحرك الولد فإذا تحرك فلا بأس ما لم تقرب الولادة فإذا قربت فلا تحتجم لأنه يضره وأما الفصد فلا تفعله مطلقا ما دامت حبلى؛ لأنه يخاف على الولد منه وكذا يجوز فصد البهائم وكيها وكل علاج فيه منفعة لها وجاز قتل ما يضر من البهائم كالكلب العقور والهرة إذا كانت تأكل الحمام والدجاج لإزالة الضرر ويذبحها ولا يضر بها؛ لأنه لا يفيد فيكون معذبا لها بلا فائدة‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والمسابقة بالفرس والإبل والأرجل والرمي جائزة‏)‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا سبق إلا في خف أو نعل أو حافر وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع أن يسابق رجلا كان لا يسابق أبدا فسبقه سلمة بن الأكوع» وقال الزهري كانت المسابقة بين أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم بالخيل والركاب والأرجل ولأن الغزاة يحتاجون إلى رياضة خيلهم وأنفسهم والتعلم للكلب والقدد مباح قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وحرم شرط الجعل من الجانبين لا من أحد الجانبين‏)‏ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بالخيل وراهن» ومعنى شرط الجعل من الجانبين أن يقول إن سبق فرسك فلك علي كذا، وإن سبق فرسي فلي عليك كذا وهو قمار فلا يجوز؛ لأن القمار من القمر الذي يزاد تارة وينقص أخرى وسمي القمار قمارا؛ لأن كل واحد من القمارين ممن يجوز أن يذهب ماله إلى صاحبه ويجوز أن يستفيد مال صاحبه فيجوز الازدياد والنقصان في كل واحدة منهما فصار ذلك قمارا وهو حرام بالنص ولا كذلك إذا شرط من جانب واحد بأن يقول إن سبقتني فلك علي كذا، وإن سبقتك فلا شيء لي عليك؛ لأن النقصان والزيادة لا يمكن فيهما وإنما في أحدهما يمكن الزيادة وفي الأخرى النقصان فلا يكون مقامرة؛ لأن المقامرة مفاعلة منه فيقتضي أن يكون من الجانبين وإذا لم يكن في معناه جاز استحسانا لما روينا والقياس أنه لا يجوز لما فيه من تعليق الملك على الخطر ولهذا لا تجوز فيما عدا الأربعة المذكورة في الكتاب كالبغل، وإن كان الجعل مشروطا من أحد الجانبين وفي الحديث إشارة إليه؛ لأنه خصص هؤلاء والمراد به الاستباق بلا جعل يجوز في كل شيء ولا يمكن إلحاق ما شرط فيه الجعل؛ لأنه ليس في معناه؛ لأن المانع فيه من وجهين القمار والتعليق بالخطر، وفي الآخر من وجه واحد هو التعليق بالخطر لا غير فليس بمثل له حتى يقاس عليه وشرطه أن تكون الغاية مما تتحملها الفرس، وكذا شرطه أن يكون في كل واحد من الفرسين احتمال السبق‏.‏ أما إذا علم أن أحدهما يسبق لا محالة فلا يجوز؛ لأنه إنما جاز لحاجة الرياضة على خلاف القياس وليس في هذا إيجاب المال للغير على نفسه بشرط لا منفعة فيه فلا يجوز ولو شرط الجعل من الجانبين وأدخلا ثالثا محللا جاز إذا كان فرس المحلل كفؤا لفرسيهما يجوز أن يسبق أو سبق فلا محالة وإلا فلا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أدخل فرسا بين الفرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس» رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وصورة إدخال المحلل أن يقول للثالث إن سبقتنا فالمالان لك، وإن سبقناك فلا شيء لنا عليك ولكن الشرط الذي شرطناه بينهما وهو أن أيهما سبق كان له الجعل على صاحبه باق على حاله ويأخذ أيهما غلب المال المشروط له من صاحبه وإنما جاز هذا؛ لأن الثالث لا يغرم على التقادير كلها قطعا ويقينا، وإنما يحتمل أن يأخذ أولا يأخذ فخرج بذلك من أن يكون قمارا فصار كما إذا شرط من جانب واحد؛ لأن القمار هو الذي يستوفى فيه من الجانبين في احتمال الغرامة على ما بيناه، ولو قال واحد من الناس لجماعة من الفرسان أو للاثنين فمن سبق فله كذا من مال نفسه أو قال للرماة من أصاب الهدف فله كذا جاز؛ لأنه من باب التنفيل فإذا كان للتنفيل من بيت المال كالسلب ونحوه يجوز فما ظنك بخالص ماله‏.‏ فصار أنواع السبق أربعة‏:‏ ثلاثة منها جائزة وواحدة منها لا تجوز، وقد ذكرنا الجميع ويعرف ذلك بالتأمل وعلى هذا الفقهاء إذا تنازعوا في المسائل وشرط للمصيب منهم جعلا جاز ذلك إذا لم يكن من الجانبين على ما ذكرنا في الخيل؛ لأن المعنى يجمع الكل إذ التعليم في البابين يرجع إلى قوة الدين أو إعلاء كلمات الله تعالى والمراد بالجواز المذكور في باب المسابقة الحل لا الاستحقاق حتى لو امتنع المغلوب من الدفع لا يجبره القاضي فلا يقضي عليه به، وقد قدمنا ذلك فيما تقدم‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولا يصلي على غير الأنبياء والملائكة إلا بطريق التبع‏)‏؛ لأن في الصلاة من التعظيم ما ليس في غيرها من الدعوات وهي زيادة الرحمة والتقرب من الله تعالى ولا يليق ذلك مما يتصور منه الخطأ والذنوب وإنما يدعى له بالعفو والمغفرة والتجاوز، وقوله إلا تبعا بأن يقول اللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم؛ لأن فيه تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا في الترحم على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول اللهم ارحم محمدا قال بعضهم لا يجوز؛ لأنه ليس فيه ما يدل على التعظيم مثل الصلاة والسلام ولهذا يجوز أن يدعى بهذا اللفظ لغير الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام وهو مرحوم قطعا فيكون تحصيل الحاصل، وقد استغنينا عن هذه بالصلاة فلا حاجة إليها وقال بعضهم يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أشوق العباد إلى مزيد رحمه الله‏.‏ ومعناها معنى الصلاة فلم يوجد ما يمنع من ذلك ثم الأولى أن يدعو للصحابة بالرضا فيقول رضي الله عنهم‏:‏ لأنهم كانوا يبالغون في طلب الرضا من الله تعالى ويجتهدون في فعل ما يرضيه ويرضون بما لحقهم من الابتلاء من جهته أشد الرضا فهؤلاء أحق بالرضا وغيرهم ولا يلحق أدناهم ولو أنفق ملء الأرض ذهبا والتابعين بالرحمة فيقول رحمهم الله ولمن بعدهم بالمغفرة والتجاوز فيقول غفر الله لهم وتجاوز عنهم لكثرة ذنوبهم أو لقلة اهتمامهم بالأمور الدينية‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والإعطاء باسم النيروز والمهرجان لا يجوز‏)‏ أي الهدايا باسم هذين اليومين حرام بل كفر وقال أبو حفص الكبير رحمه الله لو أن رجلا عبد الله تعالى خمسين سنة ثم جاء يوم النيروز وأهدى إلى بعض المشركين بيضة يريد تعظيم ذلك اليوم فقد كفر وحبط عمله وقال صاحب الجامع الأصغر إذا أهدى يوم النيروز إلى مسلم آخر ولم يرد به تعظيم اليوم ولكن على ما اعتاده بعض الناس لا يكفر ولكن ينبغي له أن لا يفعل ذلك في ذلك اليوم خاصة ويفعله قبله أو بعده لكي لا يكون تشبيها بأولئك القوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من تشبه بقوم فهو منهم» وقال في الجامع الأصغر رجل اشترى يوم النيروز شيئا يشتريه الكفرة منه وهو لم يكن يشتريه قبل ذلك إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما تعظمه المشركون كفر، وإن أراد الأكل والشرب والتنعم لا يكفر‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولا بأس بلبس القلانس‏)‏ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له قلانس يلبسها، وقد صح ذلك ذكره في الذخيرة‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ويسن لبس السواد وإرسال ذنب العمامة بين الكتفين إلى وسط الظهر‏)‏؛ لأن محمدا رحمه الله ذكر في السير الكبير في باب الغنائم حديثا يدل على أن لبس السواد مستحب ومن أراد أن يجدد اللف للعمامة ينبغي له أن ينقضها كورا فكورا فإن ذلك أحسن من رفعها على الرأس وإلقائها في الأرض دفعة واحدة وأن المستحب إرسال ذنب العمامة بين الكتفين واختلفوا في مقدار الذنب قيل شبر وقيل إلى وسط الظهر وقيل إلى موضع الجلوس وكان محمد رحمه الله يتعمم بالعمامة السوداء فدخلت عليه يوما مستورة فبقيت تنظر إلى وجهه وهي متحيرة فقال لها ما شأنك فقالت أتعجب من بياض وجهك تحت سواد عمامتك فوضعها عن رأسه ولم يتعمم بالعمامة السوداء بعد ذلك، ويستحب للرجل أن يلبس أحسن ثيابه وكان أبو حنيفة يأمر أصحابه بذلك ويلبس بأربعمائة دينار وأباح الله تعالى الزينة بقوله‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده‏}‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه»، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء قيمته أربعة آلاف درهم وربما قام إلى الصلاة وعليه رداء قيمته أربعة آلاف درهم‏.‏

قال رحمه الله تعالى ‏(‏وللشاب العالم أن يتقدم على الشيخ الجاهل‏)‏؛ لأنه أفضل منه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ ولهذا يقدم في الصلاة وهي أحد أركان الإسلام وهي ثالثة الإيمان وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏ والمراد بأولي الأمر العلماء في أصح القولين والمطاع شرعا مقدم وكيف لا يتقدمون «والعلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على ما جاءت به السنة»‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولحافظ القرآن أن يختم في كل أربعين يوما‏)‏؛ لأن المقصود من قراءة القرآن فهم معانيه والاعتبار بما فيه لا مجرد التلاوة وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها‏}‏ وذلك يحصل بالتأني لا بالتواني في المعاني فقدر الختم أقله أربعون يوما كل يوم حزب ونصف أو ثلثا حزب أو أقل، والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏