فصل: الْآفَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْمَدْحُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.بَيَانُ الْعِلَاجِ الَّذِي بِهِ يُمْنَعُ اللِّسَانُ عَنِ الْغِيبَةِ:

اعْلَمْ أَنَّ مَسَاوِئَ الْأَخْلَاقِ كُلَّهَا إِنَّمَا تُعَالَجُ بِمَعْجُونِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَعِلَاجُ كَفِّ اللِّسَانِ عَنِ الْغِيبَةِ إِجْمَالًا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِسَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا اغْتَابَ لِارْتِكَابِهِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَمَهْمَا آمَنَ الْعَبْدُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي الْغِيبَةِ لَمْ يُطْلِقْ لِسَانَهُ بِهَا خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ، وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا أَنْ يَتَدَبَّرَ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا عَيْبًا اشْتَغَلَ بِعَيْبِ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ». وَمَهْمَا وَجَدَ عَيْبًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِيَ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ ذَمَّ نَفْسِهِ وَيَذُمَّ غَيْرَهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّ عَجْزَ غَيْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي التَّنَزُّهِ عَنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ كَعَجْزِهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا خِلْقِيًّا فَالذَّمُّ لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ، فَإِنَّ مَنْ ذَمَّ صَنْعَةً فَقَدْ ذَمَّ صَانِعَهَا. وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْعَبْدُ عَيْبًا فِي نَفْسِهِ فَلْيَشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا يُلَوِّثَنَّ نَفْسَهُ بِأَعْظَمِ الْعُيُوبِ، فَإِنَّ ثَلْبَ النَّاسِ وَأَكْلَ لَحْمِ الْمَيْتَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ، بَلْ لَوْ أَنْصَفَ لَعَلِمَ أَنَّ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ جَهْلٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ. وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ تَأَلُّمَ غَيْرِهِ بِغِيبَتِهِ كَتَأَلُّمِهِ بِغِيبَةِ غَيْرِهِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُغْتَابَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْضَى لِغَيْرِهِ مَا لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ انْكَفَّ عَنِ الْغِيبَةِ لِسَانُهُ.

.بَيَانُ تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ بِسُوءِ الظَّنِّ:

اعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ حَرَامٌ مِثْلُ سُوءِ الْقَوْلِ، فَكَمَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ أَنْ تُحَدِّثَ غَيْرَكَ بِلِسَانِكَ بِمَسَاوِئِ الْغَيْرِ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُحَدِّثَ نَفْسَكَ وَتُسِيءَ الظَّنَّ بِأَخِيكَ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِهِ إِلَّا عَقْدَ الْقَلْبِ وَحُكْمَهُ عَلَى غَيْرِهِ ظَنًّا بِأَمْرٍ سَيِّئٍ، فَأَمَّا الْخَوَاطِرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يَظُنَّ، وَالظَّنُّ عِبَارَةٌ عَمَّا تَرْكَنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الْحُجُرَاتِ: 12] وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ أَنَّ أَسْرَارَ الْقُلُوبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَعْتَقِدَ فِي غَيْرِكَ سُوءًا إِلَّا إِذَا انْكَشَفَ لَكَ بِعِيَانٍ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، فَإِنْ لَمْ يَنْكَشِفْ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا الشَّيْطَانُ يُلْقِيهِ إِلَيْكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُكَذِّبَهُ؛ فَإِنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الْحُجُرَاتِ: 6] وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنُّ السُّوءِ» وَحِينَئِذٍ فَإِذَا خَطَرَ لَكَ وَسْوَاسُ سُوءِ الظَّنِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَتُقَرِّرَ عَلَيْهَا أَنَّ حَالَهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ كَمَا كَانَ، وَأَنَّ مَا رَأَيْتَهُ مِنْهُ يَحْتَمِلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَإِنْ قُلْتَ: فَبِمَاذَا يُعْرَفُ عَقْدُ الظَّنِّ وَالشُّكُوكُ تَخْتَلِجُ وَالنَّفْسُ تُحَدِّثُ؟ فَنَقُولُ: أَمَارَةُ عَقْدِ الظَّنِّ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْقَلْبُ مَعَهُ عَمَّا كَانَ، فَيَنْفِرَ عَنْهُ نُفُورًا مَا، وَيَسْتَثْقِلَهُ وَيَفْتُرَ عَنْ مُرَاعَاتِهِ وَتَفَقُّدِهِ وَإِكْرَامِهِ وَالِاغْتِمَامِ بِسَبَبِهِ.
وَالْمَخْرَجُ مِنْهُ أَنْ لَا يُحَقِّقَهُ، أَيْ لَا يُحَقِّقُ فِي نَفْسِهِ بِعَقْدٍ وَلَا فِعْلٍ لَا فِي الْقَلْبِ وَلَا فِي الْجَوَارِحِ. وَرُبَّمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ أَنَّ هَذَا مِنْ فِطْنَتِكَ وَسُرْعَةِ تَنَبُّهِكَ وَذَكَائِكَ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ نَاظِرٌ بِغُرُورِ الشَّيْطَانِ وَظُلْمَتِهِ. وَمَهْمَا عَرَفْتَ هَفْوَةَ مُسْلِمٍ بِحُجَّةٍ، فَانْصَحْهُ فِي السِّرِّ، وَلَا يَخْدَعَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَيَدْعُوَكَ إِلَى اغْتِيَابِهِ.
وَمِنْ ثَمَرَاتِ سُوءِ الظَّنِّ: التَّجَسُّسُ، فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَقْنَعُ بِالظَّنِّ، وَيَطْلُبُ التَّحْقِيقَ، فَيَشْتَغِلُ بِالتَّجَسُّسِ وَهُوَ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الْحُجُرَاتِ: 12] فَالْغِيبَةُ وَسُوءُ الظَّنِّ وَالتَّجَسُّسُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمَعْنَى التَّجَسُّسِ أَنْ لَا يَتْرُكَ عِبَادَ اللَّهِ تَحْتَ سِتْرِ اللَّهِ، فَيَتَوَصَّلُ إِلَى الِاطِّلَاعِ وَهَتْكِ السِّتْرِ، حَتَّى يَنْكَشِفَ لَهُ مَا لَوْ كَانَ مَسْتُورًا عَنْهُ كَانَ أَسْلَمَ لِقَلْبِهِ وَدِينِهِ. وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ حُكْمُ التَّجَسُّسِ وَحَقِيقَتُهُ.

.بَيَانُ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ فِي الْغِيبَةِ:

اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ التَّوَصُّلُ إِلَى غَرَضٍ صَحِيحٍ فِي الشَّرْعِ إِلَّا بِذِكْرِ مَسَاوِئِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِيهِ، وَلَا إِثْمَ، وَذَلِكَ فِي أُمُورٍ:
مِنْهَا: التَّظَلُّمُ، وَذَلِكَ كَمَظْلُومٍ يَرْفَعُ ظُلَامَتَهُ عَلَى إِنْسَانٍ إِلَى أَمِيرٍ لِيَسْتَوْفِيَ لَهُ حَقَّهُ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ إِلَّا بِنِسْبَتِهِ إِلَى الظُّلْمِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا»، وَعَنْهُ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ».
وَمِنْهَا: الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، وَرَدِّ الْعَاصِي إِلَى مَنْهَجِ الصَّلَاحِ.
وَمِنْهَا: الِاسْتِفْتَاءُ، كَمَا يَقُولُ لِلْمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبِي أَوْ زَوْجَتِي أَوْ أَخِي، إِذَا لَمْ يُفِدِ الْإِبْهَامَ أَوِ التَّعْرِيضَ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ هند بنت عتبة أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أبا سفيان رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، أَفَآخُذُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ؟ فَقَالَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» فَذَكَرَتِ الشُّحَّ وَالظُّلْمَ لَهَا وَلِوَلَدِهَا، وَلَمْ يَزْجُرْهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ إِذْ كَانَ قَصْدُهَا الِاسْتِفْتَاءَ.
وَمِنْهَا: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِ مِنَ الشَّرِّ، كَمَا إِذَا عَلِمْتَ مِنْ إِنْسَانٍ ضَرَرًا فَحَذَّرْتَ شَخْصًا مِنْهُ، وَكَالْمُزَكِّي يَطْعَنُ فِي الشَّاهِدِ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَشَارُ فِي التَّزْوِيجِ وَإِيدَاعِ الْأَمَانَةِ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَعْرِفُهُ عَلَى قَصْدِ النُّصْحِ لِلْمُسْتَشِيرِ، لَا عَلَى قَصْدِ الْوَقِيعَةِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ يُعْرِبُ عَنْ عَيْبِهِ، كَالْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ، فَلَا حَرَجَ فِي ذِكْرِهِ؛ لِضَرُورَةِ التَّعْرِيفِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَكْرَهُهُ صَاحِبُهُ لَوْ عَلِمَهُ بَعْدَ أَنْ قَدْ صَارَ مَشْهُورًا بِهِ، نَعَمْ إِنْ وَجَدَ عَنْهُ مَعْدَلًا وَأَمْكَنَهُ التَّعْرِيفُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَهُوَ أَوْلَى؛ وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْأَعْمَى: الْبَصِيرُ؛ عُدُولًا عَنِ اسْمِ النَّقْصِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِالْفِسْقِ مُتَظَاهِرًا بِهِ، وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يُذَكْرَ بِهِ، فَلَا غِيبَةَ لَهُ بِمَا يَتَظَاهَرُ بِهِ.

.بَيَانُ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُغْتَابِ أَنْ يَنْدَمَ وَيَتُوبَ وَيَتَأَسَّفَ عَلَى مَا فَعَلَهُ؛ لِيَخْرُجَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ يَسْتَحِلُّ الْمُغْتَابَ لِيُحِلَّهُ، فَيَخْرُجُ مِنْ مَظْلِمَتِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخْشَ مَحْذُورًا، وَقَالَ الحسن: يَكْفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ دُونَ الِاسْتِحْلَالِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كأبي ضمضم، كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى النَّاسِ» أَيْ لَا أَطْلُبُ مَظْلِمَةً فِي الْقِيَامَةِ مِنْهُ وَلَا أُخَاصِمُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِبَاحَةَ تَنَاوُلِ عِرْضِهِ، بَلِ الْعَفْوَ عَنْ جَرِيمَتِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 199] وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ».

.الْآفَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: النَّمِيمَةُ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [الْقَلَمِ: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الْهُمَزَةِ: 1] قِيلَ: الْهُمَزَةُ: النَّمَّامُ وَقَالَ تَعَالَى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [الْمَسَدِ: 4]
قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ نَمَّامَةً حَمَّالَةً لِلْحَدِيثِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ».
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّكُمْ إِلَى اللَّهِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَى اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِخْوَانِ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَثَرَاتِ».
وَحَدُّ النَّمِيمَةِ هُوَ كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ، سَوَاءٌ كَرِهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوِ الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ، أَوْ كَرِهَهُ ثَالِثٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَشْفُ بِالْقَوْلِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ، أَوْ بِالرَّمْزِ، أَوْ بِالْإِيمَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْقُولُ مِنَ الْأَعْمَالِ أَوْ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا وَنَقْصًا فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ. بَلْ حَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إِفْشَاءُ السِّرِّ وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ، بَلْ كُلُّ مَا رَآهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ، إِلَّا مَا فِي حِكَايَتِهِ فَائِدَةٌ لِمُسْلِمٍ، أَوْ دَفْعٌ لِمَعْصِيَةٍ، كَمَا إِذَا رَأَى مَنْ يَتَنَاوَلُ مَالَ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَالْبَاعِثُ عَلَى النَّمِيمَةِ إِمَّا إِرَادَةُ السُّوءِ لِلْمَحْكِيِّ عَنْهُ، أَوْ إِظْهَارُ الْحُبِّ لِلْمَحْكِيِّ لَهُ، أَوِ التَّفَرُّجُ بِالْحَدِيثِ وَالْخَوْضُ فِي الْفُضُولِ وَالْبَاطِلِ.
وَكُلُّ مَنْ حُمِلَتْ إِلَيْهِ نَمِيمَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يُسَارِعَ إِلَى صِدْقِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ: 6] وَأَنْ يَنْهَاهُ وَيَنْصَحَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَظُنَّ بِالْغَائِبِ سُوءًا، وَأَنْ لَا يَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى التَّجَسُّسِ.
وَقَالَ الحسن: مَنْ نَمَّ إِلَيْكَ نَمَّ عَلَيْكَ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّمَّامَ يَنْبَغِي أَنْ يُبْغَضَ وَلَا يُوثَقَ بِقَوْلِهِ وَلَا بِصَدَاقَتِهِ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْعُذْرِ وَالْخِيَانَةِ وَالْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ مِمَّنْ يَسْعَى فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشُّورَى: 42] وَالنَّمَّامُ مِنْهُمْ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ» وَالنَّمَّامُ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. أَيُّ خِصَالِ الْمُؤْمِنِ أَوْضَعُ لَهُ؟ فَقَالَ: كَثْرَةُ الْكَلَامِ، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ، وَقَبُولُ قَوْلِ كُلِّ أَحَدٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ صَحَّ مَا نَقَلَهُ النَّمَّامُ إِلَيْكَ لَكَانَ هُوَ الْمُجْتَرِئَ بِالشَّتْمِ عَلَيْكَ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوْلَى بِحِلْمِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَابِلْكَ بِشَتْمِكَ.

.الْآفَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كَلَامُ ذِي الْوَجْهَيْنِ:

وَهُوَ ذُو اللِّسَانَيْنِ الَّذِي يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ، وَيُكَلِّمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَلَامٍ يُوَافِقُهُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي مُعَادَاتِهِ، وَذَمِّهِ الْآخَرَ، وَوَعْدِهِ بِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى خَصْمِهِ، وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ. نَعَمْ إِذَا دَخَلَ عَلَى مُتَعَادِيَيْنِ وَجَامَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ- لَمْ يَكُنْ ذَا لِسَانَيْنِ وَلَا مُنَافِقًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُصَادِقُ مُتَعَادِيَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ نَقَلَ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ فَهُوَ ذُو لِسَانَيْنِ، وَهُوَ شَرٌّ مِنَ النَّمَّامِ؛ لِأَنَّ النَّمَّامَ يَنْقُلُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَقَطْ، وَهَذَا يَزِيدُ النَّقْلَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَيَزِيدُ أَنْ يُحَسِّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُعَادَاةِ مَعَ صَاحِبِهِ. نَعَمْ مَنِ ابْتُلِيَ بِمُرَاعَاةِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فِي قَوْلٍ مَا لِضَرُورَةٍ وَخَافَ مِنْ تَرْكِهِ- فَهُوَ مَعْذُورٌ؛ فَإِنَّ اتِّقَاءَ الشَّرِّ جَائِزٌ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّا لَنُكَشِّرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ. وَقَالَتْ عائشة: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ هُوَ». ثُمَّ لَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ، فَقَالَ: «يَا عائشة، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ الَّذِي يُكْرَمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ» وَلَكِنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْإِقْبَالِ وَفِي الْكَشْرِ وَالتَّبَسُّمِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الثَّنَاءُ، وَلَا التَّصْدِيقُ، وَلَا تَحْرِيكُ الرَّأْسِ فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ بَاطِلٍ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُنَافِقٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَيَسْكُتُ بِلِسَانِهِ وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ، وَلِلضَّرُورَاتِ حُكْمُهَا.

.الْآفَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْمَدْحُ:

وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَمَّا الذَّمُّ فَهُوَ الْغِيبَةُ وَالْوَقِيعَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا، وَالْمَدْحُ يَدْخُلُهُ سِتُّ آفَاتٍ: أَرْبَعٌ مِنَ الْمَادِحِ، وَاثْنَتَانِ فِي الْمَمْدُوحِ، فَأَمَّا الْمَادِحُ:
فَالْأُولَى: أَنَّهُ قَدْ يُفْرِطُ فِيهِ فَيَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْكَذِبِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ، فَإِنَّهُ بِالْمَدْحِ مُظْهِرٌ لِلْحُبِّ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مُضْمِرًا وَلَا مُعْتَقِدًا لِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ، فَيَصِيرُ بِهِ مُرَائِيًا مُنَافِقًا.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَقُولُ مَا لَا يَتَحَقَّقُهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاطْلَاعِ عَلَيْهِ.
وَالرَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَفْرَحُ الْمَمْدُوحُ وَهُوَ ظَالِمٌ أَوْ فَاسِقٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، قَالَ الحسن: مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِطُولِ الْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ فِي الْأَرْضِ.
وَأَمَّا الْمَمْدُوحُ فَيَضُرُّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحْدِثُ فِيهِ كِبْرًا وَإِعْجَابًا، وَهُمَا مُهْلِكَانِ.
الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ فَرِحَ، وَفَتَرَ، وَرَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَلَّ تَشْمِيرُهُ لِلْعَمَلِ، فَإِنْ سَلِمَ الْمَدْحُ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ فِي حَقِّ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ، لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ.
وَعَلَى الْمَمْدُوحِ أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ آفَةِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَآفَةِ الْفُتُورِ، وَيَتَذَكَّرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمَادِحُ، وَأَنَّهُ لَوِ انْكَشَفَ لَهُ جَمِيعُ أَسْرَارِهِ وَمَا يَجْرِي عَلَى خَوَاطِرِهِ لَكَفَّ الْمَادِحُ عَنْ مَدْحِهِ، وَكَانَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ. وَعَلَى الْمَادِحِ أَنْ لَا يَجْزِمَ الْقَوْلَ إِلَّا بَعْدَ خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ، سَمِعَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: أَسَافَرْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَخَالَطْتَهُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَأَنْتَ جَارُهُ صَبَاحَهُ وَمَسَاءَهُ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا أُرَاكَ تَعْرِفُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ لَابُدَّ مَادِحًا أَخَاهُ فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ فُلَانًا وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا».