فصل: ذِكْرَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْبَرْزَخِ وَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.فَضِيلَةُ قِصَرِ الْأَمَلِ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ».
وَعَنْ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَهُ: «إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ خَصْلَتَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَإِنَّهُ الْحُبُّ لِلدُّنْيَا».
وَسَبَبُ طُولِ الْأَمَلِ: حُبُّ الدُّنْيَا وَالْأُنْسُ بِهَا وَالْجَهْلُ بِاسْتِبْعَادِ الْمَوْتِ فَجْأَةً، وَلَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا وَقْتَ لَهُ مِنْ شَبَابٍ وَشَيْبٍ وَكُهُولَةٍ، وَمِنْ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَخَرِيفٍ وَرَبِيعٍ، وَمِنْ لَيْلٍ وَنَهَارٍ، فَلَا يُقَدِّرُ نُزُولَ الْمَوْتِ بِهِ مَعَ رُؤْيَاهُ مَنْ مَاتَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يُقَدِّرُ أَنْ تُشَيَّعَ جِنَازَتُهُ وَهُوَ لَا يَزَالُ يُشَيِّعُ الْجَنَائِزَ، فَمَا أَغْفَلَهُ وَمَا أَجْهَلَهُ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يَقِيسَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَابُدَّ وَأَنْ تُحْمَلَ جِنَازَتُهُ وَيُدْفَنَ فِي قَبْرِهِ، وَلَا عِلَاجَ لِذَلِكَ إِلَّا الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْعِقَابِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، فَمَهْمَا حَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ بِذَلِكَ ارْتَحَلَ عَنْ قَلْبِهِ حُبُّ الدُّنْيَا، فَإِنَّ حُبَّ الْخَطِيرِ هُوَ الَّذِي يَمْحُو عَنِ الْقَلْبِ حُبَّ الْحَقِيرِ.

.الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْعَمَلِ وَحَذَرُ آفَةِ التَّأْخِيرِ:

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» أَيْ إِنَّهُ لَا يَغْتَنِمُهُمَا، ثُمَّ يَعْرِفُ قَدْرَهُمَا عِنْدَ زَوَالِهِمَا.
وَكَانَ الحسن يَقُولُ فِي مَوْعِظَتِهِ: الْمُبَادِرَةَ الْمُبَادِرَةَ فَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْفَاسُ لَوْ حُبِسَتِ انْقَطَعَتْ عَنْكُمْ أَعْمَالُكُمُ الَّتِي تَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَبَكَى عَلَى عَدَدِ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مَرْيَمَ: 84] يَعْنِي الْأَنْفَاسَ، آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ فِرَاقُ أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ دُخُولُكَ فِي قَبْرِكَ.
وَسَبَبُ التَّأْخِيرِ هُوَ الْأُنْسُ بِالدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَالتَّسْوِيفُ، فَلَا يَزَالُ يُسَوِّفُ وَيُؤَخِّرُ وَلَا يَخُوضُ فِي شُغُلٍ إِلَّا وَيَتَعَلَّقُ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشُّغُلِ عَشَرَةُ أَشْغَالٍ أُخَرَ، وَهَكَذَا عَلَى التَّدَرُّجِ يُؤَخِّرُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ وَيُفْضِي بِهِ شُغُلٌ إِلَى شُغُلٍ بَلْ إِلَى أَشْغَالٍ إِلَى أَنْ تَخْطَفَهُ الْمَنِيَّةُ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَسِبُهُ فَتَطُولُ عِنْدَ ذَلِكَ حَسْرَتُهُ؛ وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ وَصِيَاحُهُمْ مِنْ سَوْفَ يَقُولُونَ: وَاحُزْنَاهُ مِنْ سَوْفَ وَالْمُسَوِّفُ الْمِسْكِينُ لَا يَدْرِي أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَى التَّسْوِيفِ الْيَوْمَ هُوَ مَعَهُ غَدًا، وَإِنَّمَا يَزْدَادُ بِطُولِ الْمُدَّةِ قُوَّةً وَرُسُوخًا، وَيَظُنُّ أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَائِضِ فِي الدُّنْيَا فَرَاغٌ قَطُّ، هَيْهَاتَ فَمَا يَفْرَغُ مِنْهَا إِلَّا مَنِ اطَّرَحَهَا.
فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ** وَمَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ

نَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَجْعَلَ لَنَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَسْرَةً إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ.

.بَيَانُ سَكْرَةِ الْمَوْتِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْجَنَائِزِ وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ:

اعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيِ الْعَبْدِ الْمِسْكِينِ كَرْبٌ وَلَا هَوْلٌ وَلَا عَذَابٌ سِوَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ بِمُجَرَّدِهَا لَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَنَغَّصَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ وَيَتَكَدَّرَ عَلَيْهِ سُرُورُهُ وَيُفَارِقَهُ سَهْوُهُ وَغَفْلَتُهُ، وَحَقِيقًا بِأَنْ يُطَوِّلَ فِيهِ فِكْرَهُ وَيُعَظِّمَ لَهُ اسْتِعْدَادَهُ، لَاسِيَّمَا وَهُوَ فِي كُلِّ نَفَسٍ بِصَدَدِهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كَرْبٌ بِيَدِ سِوَاكَ لَا تَدْرِي مَتَى يَغْشَاكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَنَائِزَ عِبْرَةٌ لِلْبَصِيرِ، وَفِيهَا تَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ لَا لِأَهْلِ الْغَفْلَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُهُمْ مُشَاهَدَتُهَا إِلَّا قَسْوَةً؛ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ أَبَدًا إِلَى جِنَازَةِ غَيْرِهِمْ يَنْظُرُونَ، وَلَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْجَنَائِزِ يُحْمَلُونَ، أَوْ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ عَلَى الْقُرْبِ لَا يَقَدِّرُونَ وَلَا يَتَفَكَّرُونَ أَنَّ الْمَحْمُولِينَ عَلَى الْجَنَائِزِ هَكَذَا يَحْسَبُونَ، فَبَطَلَ حُسْبَانُهُمْ، وَانْقَرَضَ عَلَى الْقُرْبِ زَمَانُهُمْ. فَلَا يَنْظُرُ عَبْدٌ إِلَى جِنَازَةٍ إِلَّا وَيُقَدِّرُ نَفْسَهُ مَحْمُولًا عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهَا عَلَى الْقُرْبِ وَكَأَنْ قَدْ، وَلَعَلَّهُ فِي غَدٍ أَوْ بَعْدَ غَدٍ، قَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: كُنَّا نَشْهَدُ الْجَنَائِزَ فَلَا نَرَى إِلَّا مُتَقَنِّعًا بَاكِيًا، فَهَكَذَا كَانَ خَوْفُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْآنَ لَا نَنْظُرُ إِلَى جَمَاعَةٍ يَحْضُرُونَ جِنَازَةً إِلَّا وَأَكْثَرُهُمْ يَضْحَكُونَ وَيَلْهُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا فِي مِيرَاثِهِ وَمَا خَلَّفَهُ لِوَرَثَتِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُ أَقْرَانُهُ وَأَقَارِبُهُ إِلَّا فِي الْحِيلَةِ الَّتِي بِهَا يَتَنَاوَلُ بَعْضَ مَا خَلَّفَهُ، وَلَا يَتَفَكَّرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ فِي جِنَازَةِ نَفْسِهِ فِي حَالِهِ إِذَا حُمِلَ عَلَيْهَا. وَلَا سَبَبَ لِهَذِهِ الْغَفْلَةِ إِلَّا قَسْوَةُ الْقُلُوبِ بِكَثْرَةِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ حَتَّى نَسِينَا اللَّهَ تَعَالَى وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَالْأَهْوَالَ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا، فَصِرْنَا نَلْهُو وَنَغْفُلُ وَنَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُغْنِينَا.
فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْيَقَظَةَ مِنْ هَذِهِ الْغَفْلَةِ.
فَمِنْ آدَابِ حُضُورِ الْجِنَازَةِ: التَّفَكُّرُ وَالتَّنَبُّهُ وَالِاسْتِعْدَادُ وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا عَلَى هَيْئَةِ التَّوَاضُعِ، وَمِنْ آدَابِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِالْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الصَّلَاحَ، فَإِنَّ الْخَاتِمَةَ مَخْطَرَةٌ لَا يُدْرَى حَقِيقَتُهَا.
وَأَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ: فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ لِلتَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ثُمَّ أَذِنَ فِي ذَلِكَ بَعْدُ.
وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَفِي خَيْرُ زِيَارَتِهِنَّ بِشَرِّهَا، لِأَنَّهُنَّ يُكْثِرْنَ الْهُجْرَ عَلَى رُؤُوسِ الْمَقَابِرِ، وَلَا يَخْلُونَ فِي الطَّرِيقِ عَنْ تَكَشُّفٍ وَتَبَرُّجٍ وَهَذِهِ عَظَائِمُ، وَالزِّيَارَةُ سُنَّةٌ فَكَيْفَ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِهَا؛ نَعَمْ لَا بَأْسَ بِخُرُوجِ الْمَرْأَةِ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ تَرُدُّ أَعْيُنَ الرِّجَالِ عَنْهَا، وَذَلِكَ بِشَرْطِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الدُّعَاءِ وَتَرْكِ الْحَدِيثِ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ.
وَالْمُسْتَحَبُّ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبَلًا لِوَجْهِ الْمَيِّتِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ وَلَا يَمْسَحَ الْقَبْرَ وَلَا يَمَسَّهُ وَلَا يُقَبِّلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ النَّصَارَى.
قَالَ نافع: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَأَيْتُهُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَجِيءُ إِلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ. السَّلَامُ عَلَى أبي بكر. السَّلَامُ عَلَى أَبِي وَيَنْصَرِفُ.
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا وَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَقَابِرِ يَقُولُ: آنَسَ اللَّهُ وَحْشَتَكُمْ، وَرَحِمَ غُرْبَتَكُمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَقَبِلَ اللَّهُ حَسَنَاتِكُمْ.
فَالْمَقْصُودُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلزَّائِرِ الِاعْتِبَارُ بِهَا، وَلِلْمَزُورِ الِانْتِفَاعُ بِدُعَائِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ الزَّائِرُ عَنِ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلَا عَنِ الِاعْتِبَارِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِهِ بِأَنْ يَتَصَوَّرَ فِي قَلْبِهِ الْمَيِّتَ كَيْفَ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ، وَكَيْفَ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى الْقُرْبِ سَيَلْحَقُ بِهِ. وَيُسْتَحَبُّ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَأَنْ لَا يُذْكَرَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا».

.بَيَانُ الْمَأْثُورِ عِنْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ:

حَقٌّ عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَدُهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ أَقَارِبِهِ أَنْ يُنْزِلَهُ فِي تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَوْتِ مَنْزِلَةَ مَا لَوْ كَانَ فِي سَفَرٍ فَسَبَقَهُ الْوَلَدُ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ مُسْتَقَرُّهُ وَوَطَنُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ تَأَسُّفُهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَاحِقٌ بِهِ عَلَى الْقُرْبِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا تَقَدُّمٌ وَتَأَخُّرٌ، وَهَكَذَا الْمَوْتُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ السَّبْقُ إِلَى الْوَطَنِ إِلَى أَنْ يَلْحَقَ الْمُتَأَخِّرُ، وَإِذَا اعْتَقَدَ هَذَا قَلَّ جَزَعُهُ وَحُزْنُهُ، لَاسِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ مِنَ الثَّوَابِ مَا يُعَزَّى بِهِ كُلُّ مُصَابٍ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَسِقْطٌ أُقَدِّمُهُ بَيْنَ يَدَيَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ فَارِسٍ أُخَلِّفُهُ خَلْفِي» وَإِنَّمَا ذَكَرَ السِّقْطَ تَنْبِيهًا بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَإِلَّا فَالثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ مَحَلِّ الْوَلَدِ مِنَ الْقَلْبِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَحْتَسِبُهُمْ إِلَّا كَانُوا لَهُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَوِ اثْنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَوِ اثْنَانِ» وَلِيُخْلِصِ الْوَالِدُ الدُّعَاءَ لِوَلَدِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ أَرْجَى دُعَاءٍ وَأَقْرَبُهُ إِلَى الْإِجَابَةِ، وَقَفَ أبو سنان عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ مَا وَجَبَ لِي عَلَيْهِ فَاغْفِرْ لَهُ مَا وَجَبَ لَكَ عَلَيْهِ فَإِنَّكَ أَجْوَدُ وَأَكْرَمُ وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَهُ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ بِرِّي فَهَبْ لَهُ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ طَاعَتِكَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَذَكَّرَ عِنْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ الْفَجَائِعَ الْكُبْرَى لِيَتَسَلَّى بِهَا عَنْ شِدَّةِ الْجَزَعِ، فَمَا مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا وَيَتَصَوَّرُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَمَا يَدْفَعُهُ اللَّهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهُوَ الْأَكْثَرُ.

.ذِكْرَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْبَرْزَخِ وَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ:

كَمَا أَنَّ لِلْمَوْتِ شِدَّةً فِي أَحْوَالِهِ وَسَكَرَاتِهِ وَخَطَرًا فِي خَوْفِ الْعَاقِبَةِ، كَذَلِكَ الْخَطَرُ فِي مُقَاسَاةِ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَدِيدَانِهِ، ثُمَّ لِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَسُؤَالِهِمَا، ثُمَّ لِعَذَابِ الْقَبْرِ وَخَطَرِهِ إِنْ كَانَ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الْأَخْطَارُ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ نَفْخِ الصُّورِ، وَالْبَعْثِ يَوْمَ النُّشُورِ، وَالْعَرْضِ عَلَى الْجَبَّارِ، وَالسُّؤَالِ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَنَصْبِ الْمِيزَانِ لِمَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ، ثُمَّ جَوَازِ الصِّرَاطِ، ثُمَّ انْتِظَارِ النِّدَاءِ عِنْدَ فَصْلِ الْقَضَاءِ إِمَّا بِالْإِسْعَادِ وَإِمَّا بِالْإِشْقَاءِ. فَهَذِهِ أَحْوَالٌ وَأَهْوَالٌ لَابُدَّ لَكَ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، ثُمَّ الْإِيمَانِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ وَالتَّصْدِيقِ، ثُمَّ تَطْوِيلِ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ لِيَنْبَعِثَ مِنْ قَلْبِكَ دَوَاعِي الِاسْتِعْدَادِ لَهَا. وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ صَمِيمَ قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ سُوَيْدَاءِ أَفْئِدَتِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ شِدَّةُ تَشَمُّرِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِحَرِّ الصَّيْفِ وَبَرْدِ الشِّتَاءِ وَتَهَاوُنِهِمْ بِحَرِّ جَهَنَّمَ وَزَمْهَرِيرِهَا مَعَ مَا تَكْتَنِفُهُ مِنَ الْمَصَاعِبِ وَالْأَهْوَالِ، بَلْ إِذَا سُئِلُوا عَنِ الْيَوْمِ الْآخِرِ نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ ثُمَّ غَفَلَتْ عَنْهُ قُلُوبُهُمْ، وَمَنْ أُخْبِرَ بِأَنَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ مَسْمُومٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ الَّذِي أَخْبَرَهُ صَدَقْتَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ لِتَنَاوُلِهِ كَانَ مُصَدِّقًا بِلِسَانِهِ وَمُكَذِّبًا بِعَمَلِهِ، وَتَكْذِيبُ الْعَمَلِ أَبْلَغُ مِنْ تَكْذِيبِ اللِّسَانِ. فَمَثِّلْ نَفْسَكَ وَقَدْ بُعِثْتَ مِنْ قَبْرِكَ مَبْهُوتًا مِنْ شِدَّةِ الصَّعْقَةِ شَاخِصَ الْعَيْنِ نَحْوَ النِّدَاءِ، وَقَدْ ثَارَ الْخَلْقُ ثَوْرَةً وَاحِدَةً مِنَ الْقُبُورِ الَّتِي طَالَ فِيهَا بَلَاهُمْ وَقَدْ أَزْعَجَهُمُ الرُّعْبُ مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَشِدَّةِ الِانْتِظَارِ لِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزُّمَرِ: 68] فَتَفَكَّرْ فِي الْخَلَائِقِ وَذُلِّهِمْ وَانْكِسَارِهِمْ وَاسْتِكَانَتِهِمُ انْتِظَارًا لِمَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ، وَأَنْتَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُنْكَسِرٌ كَانْكِسَارِهِمْ، مُتَحَيِّرٌ كَتَحَيُّرِهِمْ، فَكَيْفَ حَالُكَ وَحَالُ قَلْبِكَ هُنَالِكَ وَقَدْ بُدِّلَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ، وَطُمِسَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ وَاشْتَبَكَ النَّاسُ وَهُمْ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُشَاةٌ، وَازْدَحَمُوا فِي الْمَوْقِفِ شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ مُنْفَطِرَةً قُلُوبُهُمْ. فَتَأَمَّلْ يَا مِسْكِينُ فِي طُولِ هَذَا الْيَوْمِ، وَشِدَّةِ الِانْتِظَارِ فِيهِ، وَالْخَجْلَةِ وَالْحَيَاءِ مِنَ الِافْتِضَاحِ عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى الْجَبَّارِ تَعَالَى وَأَنْتَ عَارٍ مَكْشُوفٌ ذَلِيلٌ مُتَحَيِّرٌ مَبْهُوتٌ مُنْتَظِرٌ لِمَا يَجْرِي عَلَيْكَ الْقَضَاءُ بِالسَّعَادَةِ أَوْ بِالشَّقَاوَةِ، وَأَعْظِمْ بِهَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّهَا عَظِيمَةٌ، وَاسْتَعِدَّ لِهَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ شَأْنُهُ الْقَاهِرِ سُلْطَانُهُ الْقَرِيبِ أَوَانُهُ يَوْمَ تَذْهَلُ فِيهِ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الْحَجِّ: 2] يَوْمَ تَرَى السَّمَاءَ فِيهِ قَدِ انْفَطَرَتْ، وَالْكَوَاكِبَ مِنْ هَوْلِهِ قَدِ انْتَثَرَتْ، وَالنُّجُومَ الزَّوَاهِرَ قَدِ انْكَدَرَتْ، وَالشَّمْسَ قَدْ كُوِّرَتْ، وَالْجِبَالَ قَدْ سُيِّرَتْ، وَالْعِشَارَ قَدْ عُطِّلَتْ، وَالْوُحُوشَ قَدْ حُشِرَتْ، وَالْبِحَارَ قَدْ سُجِّرَتْ، وَالنُّفُوسَ إِلَى الْأَبْدَانِ قَدْ زُوِّجَتْ، وَالْجَحِيمَ قَدْ سُعِّرَتْ، وَالْجَنَّةَ قَدْ أُزْلِفَتْ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ بَعْضَ دَوَاهِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَكْثَرَ مِنْ أَسَامِيهِ لِتَقِفَ بِكَثْرَةِ أَسَامِيهِ عَلَى كَثْرَةِ مَعَانِيهِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِكَثْرَةِ الْأَسَامِي تَكْرِيرَ الْأَسَامِي وَالْأَلْقَابِ، بَلِ الْغَرَضُ تَنْبِيهُ أُولِي الْأَلْبَابِ، فَتَحْتَ كُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ سِرٌّ، وَفِي كُلِّ نَعْتٍ مِنْ نُعُوتِهَا مَعْنًى، فَاحْرِصْ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا. فَمِنْ أَسَامِيهَا: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَيَوْمُ الْحَسْرَةِ [مَرْيَمَ: 39]، وَيَوْمُ النَّدَامَةِ [يُونُسَ: 54 وَسَبَأٍ: 33]، وَيَوْمُ الْمُحَاسَبَةِ [ص: 26، 53]، وَيَوْمُ الزَّلْزَلَةِ [الْحَجِّ: 1 وَالزَّلْزَلَةِ: 1]، وَيَوْمُ الصَّاعِقَةِ [الطُّورِ: 45 وَالزُّمَرِ: 68]، وَيَوْمُ الْوَاقِعَةِ [الْوَاقِعَةِ: 1 وَالْحَاقَّةِ: 13، 15]، وَيَوْمُ الْقَارِعَةِ [الْقَارِعَةِ: 1، وَالْحَاقَّةِ: 4]، وَيَوْمُ الْغَاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1]، وَيَوْمُ الرَّاجِفَةِ [النَّازِعَاتِ: 6]، وَيَوْمُ الْحَاقَّةِ [الْحَاقَّةِ: 1، 2]، وَيَوْمُ الطَّامَّةِ [النَّازِعَاتِ: 34]، وَيَوْمُ الصَّاخَّةِ [عَبَسَ: 33]، وَيَوْمُ التَّلَاقِ [غَافِرٍ: 15]، وَيَوْمُ التَّنَادِ [غَافِرٍ: 32]، وَيَوْمُ الْجَزَاءِ [غَافِرٍ: 17]، وَيَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20]، وَيَوْمُ الْعَرْضِ [الْكَهْفِ: 48]، وَيَوْمُ الْوَزْنِ [الْأَعْرَافِ: 8، 9]، وَيَوْمُ الْفَصْلِ [الصَّافَّاتِ: 21 وَالنَّبَأِ: 17 وَالْمُرْسَلَاتِ: 38]، وَيَوْمُ الْجَمْعِ [الشُّورَى: 7]، وَيَوْمُ الْبَعْثِ [الرُّومِ: 56]، وَيَوْمُ الْخِزْيِ [آلِ عِمْرَانَ: 192 وَالنَّحْلِ: 27]، وَيَوْمٌ عَسِيرٌ [الْفُرْقَانِ: 26 وَالْمُدَّثِّرِ: 9]، وَيَوْمُ الدِّينِ [الْحِجْرِ: 35 وَالصَّافَّاتِ: 20]، وَيَوْمُ النُّشُورِ [الْمُلْكِ: 15 وَالْقَمَرِ: 7]، وَيَوْمُ الْخُلُودِ [ق: 34]، وَيَوْمٌ لَا رَيْبَ فِيهِ [آلِ عِمْرَانَ: 9 وَالنِّسَاءِ: 87]، وَيَوْمٌ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [الْبَقَرَةِ: 48، 123]، وَيَوْمٌ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إِبْرَاهِيمَ: 42]، وَ{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عَبَسَ: 34- 36] {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 88- 89].
فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِلْغَافِلِينَ، يُرْسِلُ اللَّهُ لَنَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ الْمُبِينَ، وَيُخْبِرُنَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَنْ نُعُوتِ يَوْمِ الدِّينِ، ثُمَّ يُعَرِّفُنَا غَفْلَتَنَا وَيَقُولُ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ: 1- 3] ثُمَّ يُعَرِّفُنَا قُرْبَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [الْقَمَرِ: 1] {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [الْمَعَارِجِ: 6- 7] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الْأَحْزَابِ: 63] ثُمَّ يَكُونُ أَحْسَنُ أَحْوَالِنَا أَنَّ نَتَّخِذَ دِرَاسَةَ هَذَا الْقُرْآنِ عَمَلًا فَلَا نَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهُ، وَلَا نَنْظُرَ فِي كَثْرَةِ أَوْصَافِ هَذَا الْيَوْمِ وَأَسَامِيهِ، وَلَا نَسْتَعِدَّ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ دَوَاهِيهِ.
فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْغَفْلَةِ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْنَا اللَّهُ بِوَاسِعِ رَحْمَتِهِ.

.صِفَةُ السُّؤَالِ:

ثُمَّ تَفَكَّرْ يَا مِسْكِينُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِيمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْكَ مِنَ السُّؤَالِ شِفَاهًا مِنْ غَيْرِ تُرْجُمَانٍ، فَتُسْأَلُ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، فَبَيْنَا أَنْتَ فِي كُرَبِ الْقِيَامَةِ وَعَرَقِهَا وَشَدَّةِ عَظَائِمِهَا إِذْ نَزَلَتْ مَلَائِكَةٌ مِنْ أَرْجَاءِ السَّمَاءِ إِلَى مَوْقِفِ الْعَرْضِ عَلَى الْجَبَّارِ، فَيَقُومُونَ صَفًّا صَفًّا مُحَدِّقِينَ بِالْخَلَائِقِ مِنَ الْجَوَانِبِ، وَيُنَادُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَرْتَعِدُ الْفَرَائِصُ وَتَضْطَرِبُ الْجَوَارِحُ وَتُبْهَتُ الْعُقُولُ، وَيَتَمَنَّى أَقْوَامٌ أَنْ يُذْهَبَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَلَا تُعْرَضَ قَبَائِحُ أَعْمَالِهِمْ عَلَى الْجَبَّارِ وَلَا يَكْشِفَ سَتْرَهُمْ عَلَى مَلَأِ الْخَلَائِقِ. وَقَبْلَ الِابْتِدَاءِ بِالسُّؤَالِ يَظْهَرُ نُورُ الْعَرْشِ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزُّمَرِ: 69] وَأَيْقَنَ قَلْبُ كُلِّ عَبْدٍ بِإِقْبَالِ الْجَبَّارِ لِمُسَاءَلَةِ الْعِبَادِ، وَيَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَا يَرَاهُ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ وَالسُّؤَالِ دُونَ مَنْ عَدَاهُ، فَيَبْدَأُ سُبْحَانَهُ بِالْأَنْبِيَاءِ: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [الْمَائِدَةِ: 109] فَيَا لَشِدَّةِ يَوْمٍ تَذْهَلُ فِيهِ عُقُولُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ شِدَّةِ الْهَيْبَةِ، ثُمَّ يُؤْخَذُ وَاحِدٌ وَاحِدٌ فَيَسْأَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى شِفَاهًا عَنْ قَلِيلِ عَمَلِهِ وَكَثِيرِهِ، عَنْ سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَعَنْ جَمِيعِ جَوَارِحِهِ وَأَعْضَائِهِ. فَكَيْفَ تَرَى حَيَاءَكَ وَخَجْلَتَكَ وَهُوَ يَعُدُّ عَلَيْكَ إِنْعَامَهُ وَمَعَاصِيَكَ، وَأَيَادِيَهُ وَمُسَاوِيَكَ، فَإِنْ أَنْكَرْتَ شَهِدَتْ عَلَيْكَ جَوَارِحُكَ وَأَنْتَ بِقَلْبٍ خَافِقٍ وَطَرْفٍ خَاشِعٍ وَأُعْطِيتَ كِتَابَكَ الَّذِي لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ إِلَّا أَحْصَاهَا، فَكَمْ مِنْ فَاحِشَةٍ نَسِيتَهَا فَتَذْكُرُهَا، وَكَمْ مِنْ طَاعَةٍ غَفَلْتَ عَنْ آفَاتِهَا فَانْكَشَفَ لَكَ عَنْ مُسَاوِيهَا، فَلَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ قَدَمٍ تَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَبِأَيِّ لِسَانٍ تُجِيبُ، وَبِأَيِّ قَلْبٍ تَعْقِلُ مَا تَقُولُ، وَفِي الْخَبَرِ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ». فَأَعْظِمْ يَا مِسْكِينُ بِحَيَاتِكَ عِنْدَ ذَلِكَ وَبِخَطَرِكَ. ثُمَّ لَا تَغْفُلْ عَنِ الْفِكْرِ فِي الْمِيزَانِ وَتَطَايُرِ الْكُتُبِ إِلَى الشَّمَائِلِ وَالْأَيْمَانِ: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [الْقَارِعَةِ: 6: 11].