فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ

حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ وَنَادَوْا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏)‏ وساق إلى آخر الآية ثم قال ولم يقل ماذا خلق ربكم قال ابن بطال‏:‏ استدل البخاري بهذا على أن قول الله قديم لذاته قائم بصفاته لم يزل موجودا به ولا يزال كلامه لا يشبه المخلوقين، خلافا للمعتزلة التي نفت كلام الله، وللكلابية في قولهم هو كناية عن الفعل والتكوين، وتمسكوا بقول العرب قلت بيدي هذا أي حركتها، واحتجوا بأن الكلام لا يعقل إلا بأعضاء ولسان، والباري منزه عن ذلك، فرد عليهم البخاري بحديث الباب والآية، وفيه أنهم إذا ذهب عنهم الفزع قالوا لمن فوقهم ماذا قال ربكم، فدل ذلك على أنهم سمعوا قولا لم يفهموا معناه من أجل فزعهم فقالوا ‏"‏ ماذا قال ‏"‏ ولم يقولوا ماذا خلق وكذا أجابهم من فوقهم من الملائكة بقولهم ‏"‏ قالوا الحق ‏"‏ والحق أحد صفتي الذات التي لا يجوز عليها غيره لأنه لا يجوز على كلامه الباطل، فلو كان خلقا أو فعلا لقالوا خلق خلقا إنسانا أو غيره، فلما وصفوه بما يوصف به الكلام لم يجز أن يكون القول بمعنى التكوين انتهى‏.‏

وهذا الذي نسبه للكلابية بعيد من كلامهم، وإنما هو كلام بعض المعتزلة، فقد ذكر البخاري في خلق أفعال العباد عن أبي عبيد القاسم بن سلام أن المريسي قال في قوله تعالى ‏(‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏)‏ هو كقول العرب‏:‏ قالت السماء فأمطرت‏.‏

وقال الجدار هكذا إذا مال، فمعناه قوله إذا أردناه إذا كوناه، وتعقبه أبو عبيد بأنه أغلوطة، لأن القائل إذا قال‏:‏ قالت السماء لم يكن كلاما صحيحا حتى يقول فأمطرت، بخلاف من يقول قال الإنسان فإنه يفهم منه أنه قال كلاما، فلولا قوله فأمطرت لكان الكلام باطلا، لأن السماء لا قول لها فإلى هذا أشار البخاري، وهذا أول باب تكلم فيه البخاري على مسألة الكلام وهي طويلة الذيل، قد أكثر أئمة الفرق فيها القول، وملخص ذلك قال البيهقي في ‏"‏ كتاب الاعتقاد ‏"‏ القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفات ذاته، وليس شيء من صفات ذاته مخلوقا ولا محدثا ولا حادثا‏.‏

قال تعالى ‏(‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏)‏ فلو كان القرآن مخلوقا لكان مخلوقا بكن ويستحيل أن يكون قول الله لشيء بقول لأنه يوجب قولا ثانيا وثالثا فيتسلسل وهو فاسد‏.‏

وقال الله تعالى ‏(‏الرحمن علم القرآن خلق الإنسان‏)‏ فخص القرآن بالتعليم لأنه كلامه وصفته، وخص الإنسان بالتخليق لأنه خلقه ومصنوعه، ولولا ذلك لقال خلق القرآن والإنسان‏.‏

وقال الله تعالى ‏(‏وكلم الله موسى تكليما‏)‏ ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم قائما بغيره‏.‏

وقال الله تعالى ‏(‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا‏)‏ الآية، فلو كان لا يوجد إلا مخلوقا في شيء مخلوق لم يكن لاشتراط الوجوه المذكورة في الآية معنى لاستواء جميع الخلق في سماعه عن غير الله فبطل قول الجهمية أنه مخلوق في غير الله، ويلزمهم في قولهم أن الله خلق كلاما في شجرة كلم به موسى أن يكون من سمع كلام الله من ملك أو نبي أفضل في سماع الكلام من موسى، ويلزمهم أن تكون الشجرة هي المتكلمة بما ذكر الله أنه كلم به موسى وهو قوله ‏(‏إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني‏)‏ وقد أنكر الله تعالى قول المشركين إن هذا إلا قول البشر، ولا يعترض بقوله تعالى ‏(‏إنه لقول رسول كريم‏)‏ لأن معناه قول تلقاه عن رسول الله كريم كقوله تعالى ‏(‏فأجره حتى يسمع كلام الله‏)‏ ولا بقوله ‏(‏إنا جعلناه قرآنا عربيا‏)‏ لأن معناه سميناه قرآنا، وهو كقوله ‏(‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏)‏ وقوله ‏(‏ويجعلون لله ما يكرهون‏)‏ وقوله ‏(‏ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث‏)‏ فالمراد أن تنزيله إلينا هو المحدث لا الذكر نفسه، وبهذا احتج الإمام أحمد ثم ساق البيهقي حديث نيار بكسر النون وتخفيف التحتانية ابن مكرم أن أبا بكر قرأ عليهم سورة الروم فقالوا هذا كلامك أو كلام صاحبك، قال ليس كلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله، وأصل هذا الحديث أخرجه الترمذي مصححا، وعن علي بن أبي طالب ما حكمت مخلوقا، ما حكمت إلا القرآن، ومن طريق سفيان بن عيينة سمعت عمرو بن دينار وغيره من مشيختنا يقولون‏:‏ القرآن كلام الله ليس بمخلوق‏.‏

وقال ابن حزم في الملل والنحل‏:‏ أجمع أهل الإسلام على أن الله تعالى كلم موسى، وعلى أن القرآن كلام الله وكذا غيره من الكتب المنزلة والصحف، ثم اختلفوا فقالت المعتزلة‏:‏ إن كلام الله صفة فعل مخلوقة وأنه كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة‏.‏

وقال أحمد ومن تبعه‏:‏ كلام الله هو علمه لم يزل وليس بمخلوق‏.‏

وقالت الأشعرية كلام الله صفة ذات لم يزل وليس بمخلوق وهو غير علم الله وليس لله إلا كلام واحد، واحتج لأحمد بأن الدلائل القاطعة قامت على أن الله لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه فلما كان كلامنا غيرنا، وكان مخلوقا وجب أن يكون كلامه سبحانه وتعالى ليس غيره وليس مخلوقا، وأطال في الرد على المخالفين لذلك وقال غيره اختلفوا فقالت الجهمية والمعتزلة وبعض الزيدية والإمامية وبعض الخوارج‏:‏ كلام الله مخلوق خلقه بمشيئته وقدرته في بعض الأجسام كالشجرة حين كلم موسى، وحقيقته قولهم إن الله لا يتكلم وإن نسب إليه ذلك فبطريق المجاز‏.‏

وقالت المعتزلة يتكلم حقيقة لكن يخلق ذلك الكلام في غيره وقالت الكلابية‏:‏ الكلام صفة واحدة قديمة العين لازمة لذات الله كالحياة، وأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وتكليمه لمن كلمه إنما هو خلق إدراك له يسمع به الكلام ونداؤه لموسى لم يزل لكنه أسمعه ذلك النداء حين ناجاه ويحكى عن أبي منصور الماتريدي من الحنفية نحوه لكن قال خلق صوتا حين ناداه فأسمعه كلامه، وزعم بعضهم أن هذا هو مراد السلف الذين قالوا إن القرآن ليس بمخلوق، وأخذ بقول ابن كلاب القابسي والأشعري وأتباعهما وقالوا‏:‏ إذا كان الكلام قديما لعينه لازما لذات الرب وثبت أنه ليس بمخلوق فالحروف ليست قديمة لأنها متعاقبة، وما كان مسبوقا بغيره لم يكن قديما، والكلام القديم معنى قائم بالذات لا يتعدد ولا يتجزأ بل هو معنى واحد إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن أو بالعبرانية فهو توراة مثلا وذهب بعض الحنابلة وغيرهم إلى أن القرآن العربي كلام الله وكذا التوراة، وأن الله لم يزل متكلما إذا شاء وأنه تكلم بحروف القرآن وأسمع من شاء من الملائكة والأنبياء صوته‏.‏

وقالوا إن هذه الحروف والأصوات قديمة العين لازمة الذات ليس متعاقبة بل لم تزل قائمة بذاته مقترنة لا تسبق والتعاقب إنما يكون في حق المخلوق بخلاف الخالق، وذهب أكثر هؤلاء إلى أن الأصوات والحروف هي المسموعة من القارئين، وأبي ذلك كثير منهم فقالوا ليست هي المسموعة من القارئين، وذهب بعضهم إلى أنه متكلم بالقرآن العربي بمشيئته وقدرته بالحروف والأصوات القائمة بذاته وهو غير مخلوق لكنه في الأزل لم يتكلم لامتناع وجود الحادث في الأزل، فكلامه حادث في ذاته لا محدث، وذهب الكرامية إلى أنه حادث في ذاته ومحدث، وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلا وعقلا، وأطال في تقرير ذلك، والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق ثم السكوت عما وراء ذلك، وسيأتي الكلام على مسألة اللفظ حيث ذكره المصنف بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏وقال جل ذكره‏:‏ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏)‏ زعم ابن بطال أنه أشار بذلك إلى سبب النزول لأنه جاء أنهم لما قالوا شفعاؤنا عند الله الأصنام نزلت‏:‏ فأعلم الله أن الذين يشفعون عنده من الملائكة والأنبياء إنما يشفعون فيمن يشفعون فيه بعد إذنه لهم في ذلك انتهى‏.‏

ولم أقف على نقل في هذه الآية بخصوصها وأظن البخاري أشار بهذا إلى ترجيح قول من قال إن الضمير في قوله ‏"‏ عن قلوبهم ‏"‏ للملائكة وأن فاعل الشفاعة في قوله ‏"‏ ولا تنفع الشفاعة ‏"‏ هم الملائكة بدليل قوله بعد وصف الملائكة ‏(‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون‏)‏ بخلاف قول من زعم أن الضمير للكفار المذكورين في قوله تعالى ‏(‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه‏)‏ كما نقله بعض المفسرين، وزعم أن المراد بالتفزيع حالة مفارقة الحياة، ويكون اتباعهم إياه مستصحبا إلى يوم القيامة على طريق المجاز والجملة من قوله ‏"‏ قل ادعوا ‏"‏ إلى آخره معترضة، وحمل هذا القائل على هذا الزعم أن قوله ‏"‏ حتى إذا فزع عن قلوبهم ‏"‏ غاية لا بد لها من مغيا فادعى أنه ما ذكره‏.‏

وقال بعض المفسرين من المعتزلة‏:‏ المراد بالزعم الكفر في قوله تعالى ‏(‏زعمتم‏)‏ أي تماديتم في الكفر إلى غاية التفزيع، ثم تركتم زعمكم وقلتم قال الحق وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، ويفهم من سياق الكلام أن هناك فزعا ممن يرجو الشفاعة هل يؤذن له بالشفاعة أو لا‏؟‏ فكأنه قال‏:‏ يتربصون زمانا فزعين حتى إذا كشف الفزع عن الجميع بكلام يقول الله في إطلاق الإذن تباشروا بذلك، وسأل بعضهم بعضا ماذا قال ربكم قالوا الحق، أي القول الحق وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى‏.‏

قلت‏:‏ وجميع ذلك مخالف لهذا الحديث الصحيح والأحاديث كثيرة تؤيده قد ذكرت بعضها في تفسير سورة سبأ وسأشير إليها هنا بعد، والصحيح في إعرابها ما قاله ابن عطية وهو أن المغيا محذوف كأنه قيل ولا هم شفعاء كما تزعمون بل هم عنده ممتثلون لأمره إلى أن يزول الفزع عن قلوبهم، والمراد بهم الملائكة وهو المطابق للأحاديث الواردة في ذلك فهو المعتمد، وأما اعتراض من تعقبه بأنهم لم يزالوا منقادين فلا يلزم منه دفع ما تأوله لكن حق العبارة أن يقول‏:‏ بل هم خاضعون لأمره مرتقبون لما يأتيهم من قبله خائفون أن يكون ذلك من أمر الساعة إلى أن يكشف عنهم ذلك بإخبار جبريل بما أمر به من إبلاغ الوحي للرسل وبالله التوفيق‏.‏

ثم ذكر فيه ستة أحاديث‏.‏

قوله ‏(‏وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي سمع أهل السموات، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا الحق‏)‏ ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ وثبت ‏"‏ بمثلثة وموحدة مفتوحين بدل ‏"‏ وسكن ‏"‏ هكذا ذكر هذا التعليق مختصرا، وقد وصله البيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن ‏"‏ مسلم بن صبيح ‏"‏ وهو أبو الضحى عن مسروق، وهكذا أخرجه أحمد عن أبي معاوية ولفظه ‏"‏ إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم ‏"‏ قال‏:‏ ويقولون يا جبريل ماذا قال ربكم قال فيقول الحق قال فينادون الحق الحق‏.‏

قال البيهقي رواه أحمد بن شريح الرازي وعلي بن إشكاب وعلي بن مسلم ثلاثتهم عن أبي معاوية مرفوعا أخرجه أبو داود في السنن عنهم ولفظه مثله إلا أنه قال فيقولون‏:‏ ماذا قال ربك قال ورواه شعبة عن الأعمش موقوفا وجاء عنه مرفوعا أيضا‏.‏

قلت‏:‏ هكذا رواه الحسن بن محمد الزعفراني عن أبي معاوية مرفوعا، وأخرجه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد من رواية أبي حمزة السكري عن الأعمش بهذا السند إلى مسروق قال‏:‏ من كان يحدثنا بتفسير هذه الآية لولا ابن مسعود سألناه عنه فذكره موقوفا باللفظ المذكور في الصحيح، ثم ساقه من طريق حفص بن غياث عن الأعمش قال بهذا، وأخرجه ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن علي بن إشكاب مرفوعا‏.‏

وقال هكذا حدث به أبو معاوية مسندا ووجدته بالكوفة موقوفا، ثم أخرجه من رواية عبد الله بن نمير وشعبة كلاهما عن الأعمش موقوفا، ومن رواية شعبة عن منصور والأعمش معا ومن رواية الثوري عن منصور كذلك، وهكذا رواه عبد الرحمن ابن محمد المحاربي وجرير عن الأعمش موقوفا، ورواه فضيل بن عياض عن منصور عن أبي الضحى، ورواه الحسن ابن عبيد الله النخعي عن أبي الضحى مرفوعا، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك عن مسروق كذلك، وأغفل أبو الحسن بن الفضل في الجزء الذي جمعه في الكلام على أحاديث الصوت هذه الطرق كلها، واقتصر على طريق البخاري فنقل كلام من تكلم فيه، وأسند إلى أن الجرح مقدم على التعديل وفيه نظر لأنه ثقة مخرج حديثه في الصحيحين ولم ينفرد به، وقد نقل ابن دقيق العيد عن ابن المفضل وكان شيخ والده أنه كان يقول فيمن خرج له في الصحيحين‏:‏ هذا جاز القنطرة، وقرر ابن دقيق العيد ذلك بأن من اتفق الشيخان على التخريج لهم ثبتت عدالتهم بالاتفاق بطريق الاستلزام لاتفاق العلماء على تصحيح ما أخرجاه ومن لازمه عدالة رواته إلى أن تتبين العلة القادحة بأن تكون مفسرة ولا تقبل التأويل‏.‏

قوله ‏(‏سمع أهل السموات‏)‏ في رواية أبي داود وغيره ‏"‏ سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ‏"‏ ولبعضهم ‏"‏ الصفوان ‏"‏ بدل ‏"‏ الصفا ‏"‏ وفي رواية الثوري ‏"‏ الحديد ‏"‏ بدل ‏"‏ السلسلة ‏"‏ وفي رواية شيبان ابن عبد الرحمن عن منصور عند ابن أبي حاتم ‏"‏ مثل صوت السلسلة وعنده من رواية عامر الشعبي عن ابن مسعود ‏"‏ سمع من دونه صوتا كجر السلسلة ‏"‏ ووقع في حديث النواس بن سمعان عند ابن أبي حاتم ‏"‏ إذا تكلم الله بالوحي أخذت السموات منه رجفة ‏"‏ أو قال ‏"‏ رعدة شديدة من خوف الله، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا ‏"‏ وكذا وقع قوله ‏"‏ ويخرون سجدا ‏"‏ في رواية أبي مالك وكذا في رواية سفيان وابن نمير المشار إليها، ووقع في رواية شعبة ‏"‏ فيرون أنه من أمر الساعة فيفزعون‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنيس‏)‏ بنون مهملة مصغر هو الجهني كما تقدم في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ وأن الحديث الموقوف هناك طرف من هذا الحديث المرفوع، وتقدم بيان الحكمة في إيراده هناك بصيغة الجزم وهنا بصيغة التمريض، وساق هنا من الحديث بعضه وأخرجه بتمامه في الأدب المفرد، وكذا أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني كلهم من طريق همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي عن عبد الله ابن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول فذكر القصة، وأول المتن المرفوع ‏"‏ يحشر الله الناس يوم القيامة - أو قال - العباد، عراة غرلا بهما، قال قلنا‏:‏ وما بهما‏؟‏ قال‏:‏ ليس معهم شيء، ثم يناديهم ‏"‏ فذكره وزاد بعد قوله الديان ‏"‏ لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قال قلنا‏:‏ كيف‏؟‏ وأنا إنما نأتي عراة بهما، قال الحسنات والسيئات ‏"‏ لفظ أحمد عن يزيد بن هارون عن همام وعبيد الله بن محمد بن عقيل مختلف في الاحتجاج به وقد أشرت إلى ذكر من تابعه في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ وقوله ‏"‏ غرلا ‏"‏ بضم المعجمة وسكون الراء، وقد تقدم بيانه في الرقاق في شرح حديث ابن عباس وفيه ‏"‏ حفاة ‏"‏ بدل قوله ‏"‏ بهما ‏"‏ وهو بضم الموحدة وسكون الهاء، وقيل معناه الذين لا شيء معهم، وقيل المجهولون، وقيل المتشابهو الألوان، والأول الموافق لما هنا‏.‏

قوله ‏(‏فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب‏)‏ حمله بعض الأئمة على مجاز الحذف أي يأمر من ينادي واستبعده بعض من أثبت الصوت بأن في قوله يسمعه من بعد إشارة إلى أنه ليس من المخلوقات لأنه لم يعهد مثل هذا فيهم وبأن الملائكة إذا سمعوه صعقوا كما سيأتي في الكلام على الحديث الذي بعده‏.‏

وإذا سمع بعضهم بعضا لم يصعقوا، قال فعلى هذا فصفاته صفة من صفات ذاته لا تشبه صوت غيره إذ ليس يوجد شيء من صفاته من صفات المخلوقين، هكذا قرره المصنف في كتاب خلق أفعال العباد‏.‏

وقال غيره معنى يناديهم يقول، وقوله بصوت أي مخلوق غير قائم بذاته، والحكمة في كونه خارقا لعادة الأصوات المخلوقة المعتادة التي يظهر التفاوت في سماعها بين البعيد والقريب هي أن يعلم أن المسموع كلام الله كما أن موسى لما كلمه الله كان يسمعه من جميع الجهات‏.‏

وقال البيهقي الكلام ما ينطق به المتكلم وهو مستقر في نفسه كما جاء في حديث عمر يعني في قصة السقفية، وقد تقدم سياقه في كتاب الحدود، وفيه‏:‏ وكنت زورت في نفسي مقالة‏.‏

وفي رواية‏:‏ هيأت في نفسي كلاما، قال‏:‏ فسماه كلاما قبل التكلم به، قال‏:‏ فإن كان المتكلم ذا مخارج سمع كلامه ذا حروف وأصوات، وإن كان غير ذي مخارج فهو بخلاف ذلك، والباري عز وجل ليس بذي مخارج، فلا يكون كلامه بحروف وأصوات، فإذا فهمه السامع تلاه بحروف وأصوات، ثم ذكر حديث جابر عن عبد الله بن أنيس وقال اختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديثه فإن كان ثابتا فإنه يرجع إلى غيره، كما في حديث ابن مسعود يعني الذي قبله، وفي حديث أبي هريرة يعني الذي بعده، أن الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتا فيحتمل أن يكون الصوت للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصا في المسألة، وأشار في موضع آخر أن الراوي أراد فينادي نداء فعبر عنه بقوله بصوت انتهى‏.‏

وهذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة ويلزم منه أن الله لم يسمع أحدا من ملائكته ورسله كلامه بل ألهمهم إياه، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين لأنها التي عهد أنها ذات مخارج، ولا يخفى ما فيه إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق سلمنا، لكن تمنع القياس المذكور، وصفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوق، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به ثم‏:‏ إما التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق‏.‏

قوله ‏(‏الديان‏)‏ قال الحليمي هو مأخوذ من قوله ‏"‏ ملك يوم الدين ‏"‏ وهو المحاسب المجازي لا يضيع عمل عامل انتهى، ووقع مرسل أبي قلابة ‏"‏ البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت وكن كما شئت كما تدين تدان ‏"‏ ورجاله ثقات أخرجه البيهقي في الزهد، وقد تقدمت الإشارة إليه في تفسير سورة الفاتحة‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ المعنى لا ملك إلا أنا ولا مجازي إلا أنا، وهو من حصر المبتدأ في الخبر وفي هذا اللفظ إشارة إلى صفة الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغيرها من الصفات المتفق عليها عند أهل السنة، وقوله في آخر الحديث قال ‏"‏ الحسنات والسيئات ‏"‏ يعني أن القصاص بين المتظالمين إنما يقع بالحسنات والسيئات، وقد تقدم بيان ذلك في الرقاق، وتقدم أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ قبل أخيه مظلمة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ قَالَ عَلِيٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قَالَ عَلِيٌّ وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ عَلِيٌّ قُلْتُ لِسُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ لِسُفْيَانَ إِنَّ إِنْسَانًا رَوَى عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَرَأَ فُرِّغَ قَالَ سُفْيَانُ هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو فَلَا أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لَا قَالَ سُفْيَانُ وَهِيَ قِرَاءَتُنَا

الشرح‏:‏

‏(‏حدثنا علي بن عبد الله‏)‏ هو المديني ‏"‏ وسفيان ‏"‏ هو ابن عيينة وقد تقدم بهذا السند والمتن في تفسير سورة الحجر وسياقه هناك أتم، وتقدم معظم شرحه هناك‏.‏

قوله ‏(‏يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية الحميدي عن سفيان كما تقدم في تفسير سورة سبأ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إذا قضى الله الأمر في السماء‏)‏ وقع في حديث ابن مسعود المذكور أولا ‏"‏ إذا تكلم الله بالوحي ‏"‏ وكذا في حديث النواس بن سمعان عند الطبراني‏.‏

قوله ‏(‏ضربت الملائكة بأجنحتها‏)‏ في حديث ابن مسعود ‏"‏ سمع أهل السماء الصلصلة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏خضعانا‏)‏ مصدر كقوله غفرانا قاله الخطابي‏.‏

وقال غيره هو جمع خاضع‏.‏

قوله ‏(‏قال علي‏)‏ هو ابن المديني ‏(‏وقال غيره صفوان ينفذهم‏)‏ قال عياض ضبطوه بفتح الفاء من صفوان، وليس له معنى وإنما أراد لغير المبهم، قوله ينفذهم وهو بفتح أوله وضم الفاء أي يعمهم‏.‏

قلت‏:‏ وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن عبد الله بن زيد عن سفيان بن عيينة بهذه الزيادة ولكن لا يفسر به الغير المذكور لأن المراد به غير سفيان، وذكره الكرماني بلفظ صفوان ينفذ فيهم ذلك بزيادة لفظ الإنفاذ أي ينفذ الله ذلك القول إلى الملائكة، أو من النفوذ أي ينفذ ذلك إليهم أو عليهم، ثم قال ويحتمل أن يراد غير سفيان، قال‏:‏ إن صفوان بفتح الفاء فالاختلاف في الفتح والسكون، وينفذهم غير مختص بالغير بل مشترك بين سفيان وغيره انتهى‏.‏

وسياق على في هذه الرواية يخالف هذا الاحتمال لكن قد وقعت زيادة ‏"‏ ينفذهم ‏"‏ في الرواية التي ذكرتها وهي عن سفيان فيقوى ما قال‏.‏

قوله ‏(‏قال على وحدثنا سفيان - إلى قوله - قال نعم‏)‏ ‏"‏ على ‏"‏ هو ابن المديني المذكور، ومراده أن ابن عيينة كان يسوق السند مرة بالعنعنة ومرة بالتحديث والسماع فاستثبته على من ذلك فقال نعم، وقد تقدم عن علي بن عبد الله المذكور في تفسير سورة الحجر بصيغة التصريح في جميع السند، وكذا عن الحميدي عن سفيان في تفسير سبأ‏.‏

قوله ‏(‏قال علي‏)‏ هو ابن المديني أيضا‏.‏

قوله ‏(‏إن إنسانا روى عن عمرو بن دينار - إلى أن قال - أنه فرغ‏)‏ هو بالراء المهملة والغين المعجمة وزن القراءة المشهورة، وقد ذكرت في تفسير سورة سبأ من قرأها كذلك ووقع للأكثر هنا كالقراءة المشهورة والسياق يؤيد الأول، وقوله قال سفيان هكذا قرأ ‏"‏ عمرو ‏"‏ يعني ابن دينار‏.‏

قوله ‏(‏فلا أدري سمعه هكذا أم لا‏)‏ أي سمعه من عكرمة أو قرأها كذلك من قبل نفسه بناء على أنها قراءته وقول سفيان وهي قراءتنا يريد نفسه ومن تابعه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في تفسير سورة الحجر بالسند المذكور هنا بعد قوله وهو العلي الكبير فسمعها مسترقو السمع هكذا إلى آخر ما ذكر من ذلك، وهذا مما يبين أن التفزيع المذكور يقع للملائكة وأن الضمير في قلوبهم للملائكة لا للكفار بخلاف ما جزم به من قدمت ذكره من المفسرين، وقد وقع في حديث النواس بن سمعان الذي أشرت إليه ما نصه ‏"‏ أخذت أهل السموات منه رعدة خوفا من الله وخروا سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله بما أراد فيمضي به على الملائكة من سماء إلى سماء ‏"‏ وفي حديث ابن عباس عند ابن خزيمة وابن مردويه ‏"‏ كمر السلسلة على الصفوان فلا ينزل على أهل السماء إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم ‏"‏ إلى آخر الآية ثم يقول‏:‏ يكون العام كذا فيسمعه الجن، وعند ابن مردويه من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ‏"‏ لما نزل جبريل بالوحي فزع أهل السماء لانحطاطه، وسمعوا صوت الوحي كأشد ما يكون من صوت الحديد على الصفا فيقولون يا جبريل بم أمرت ‏"‏ الحديث وعنده وعند ابن أبي حاتم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏"‏ لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فكان إذا نزل الوحي سمع الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا فإذا سمعت الملائكة ذلك خروا سجدا، فلم يرفعوا حتى ينزل فإذا نزل قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ فإن كان مما يكون في السماء قالوا الحق، وإن كان مما يكون في الأرض من غيث أو موت تكلموا فيه فسمعت الشياطين فينزلون على أوليائهم من الإنس ‏"‏ وفي لفظ فيقولون يكون العام كذا فيسمعه الجن فتحدثه الكهنة، وفي لفظ ‏"‏ ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقع السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع أهل السموات ‏"‏ الحديث، فهذه الأحاديث ظاهرة جدا في أن ذلك وقع في الدنيا بخلاف قول من ذكرنا من المفسرين الذين أقدموا على الجزم بأن الضمير للكفار وأن ذلك يقع يوم القيامة مخالفين لما صح من الحديث النبوي من أجل خفاء معنى الغاية في قوله ‏"‏ حتى إذا فزع عن قلوبهم ‏"‏ وفي الحديث إثبات الشفاعة وأنكرها الخوارج والمعتزلة، وهي أنواع أثبتها أهل السنة منها الخلاص من هول الموقف وهي خاصة بمحمد رسول الله المصطفى صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيان ذلك واضحا في الرقاق، وهذه لا ينكرها أحد من فرق الأمة، ومنها الشفاعة في قوم يدخلون الجنة بغير حساب، وخص هذه المعتزلة بمن لا تبعة عليه ومنها الشفاعة في رفع الدرجات، ولا خلاف في وقوعها، ومنها الشفاعة في إخراج قوم من النار عصاة أدخلوها بذنوبهم وهذه التي أنكروها، وقد ثبتت بها الأخبار الكثيرة، وأطبق أهل السنة على قبولها وبالله التوفيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ يُرِيدُ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في التغني بالقرآن، وقد مضى شرحه في فضائل القرآن، وقوله في آخره ‏"‏ وقال صاحب له يجهر به ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يجهر بالقرآن ‏"‏ وقد تقدم بيانه هناك، وسيأتي بعد أبواب من وجه آخر مدرجا، وأشار بإيراده هنا إلى حديث فضالة بن عبيد الذي أخرجه ابن ماجه من رواية ميسرة مولى فضالة عن فضالة بن عبيد قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لله عز وجل أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ‏"‏ وذكره البخاري في خلق أفعال العباد عن ميسرة، وقوله ‏"‏أذنا ‏"‏ بفتح الهمزة والمعجمة أي استماعا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَيُنَادَى بِصَوْتٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد في بعث النار ذكره مختصرا، وقد مضى شرحه مستوفى في أواخر الرقاق، وقوله ‏"‏يقول الله يا آدم ‏"‏ في رواية التفسير ‏"‏ يقول الله يوم القيامة يا آدم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار‏)‏ هذا آخر ما أورد منه من هذه الطريق، وقد أخرجه بتمامه في تفسير سورة الحج بالسند المذكور هنا ووقع ‏"‏ فينادي ‏"‏ مضبوطا للأكثر بكسر الدال‏.‏

وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله ‏"‏ إن الله يأمرك ‏"‏ تدل ظاهرا على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك، وقد طعن أبو الحسن بن الفضل في صحة هذه الطريق، وذكر كلامهم في حفص بن غياث، وأنه انفرد بهذا اللفظ عن الأعمش، وليس كما قال فقد وافقه عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة له عن أبيه عن المحاربي، واستدل البخاري في كتاب خلق أفعال العباد على أن الله يتكلم كيف شاء وأن أصوات العباد مؤلفة حرفا حرفا فيها التطريب - بالهمز - والترجيع، بحديث أم سلمة ثم ساقه من طريق يعلى بن مملك بفتح الميم واللام بينهما ميم ساكنة ثم كاف، أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته فذكر الحديث، وفيه ونعتت قراءته فإذا قراءته حرفا حرفا وهذا أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، واختلف أهل الكلام في أن كلام الله هل هو بحرف وصوت أو لا، فقالت المعتزلة‏:‏ لا يكون الكلام إلا بحرف وصوت والكلام المنسوب إلى الله قائم بالشجرة‏.‏

وقالت الأشاعرة كلام الله ليس بحرف ولا صوت وأثبتت الكلام النفسي، وحقيقته معنى قائم بالنفس وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية، واختلافها لا يدل على اختلاف المعبر عنه، والكلام النفسي هو ذلك المعبر عنه، وأثبتت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت، أما الحروف فللتصريح بها في ظاهر القرآن، وأما الصوت فمن منع قال إن الصوت هو الهواء المنقطع المسموع من الحجرة، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر، وصفات الرب بخلاف ذلك فلا يلزم المحذور المذكور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه، وأنه يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه، وقد قال عبد الله بن أحمد ابن حنبل في كتاب السنة سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال لي أبي‏:‏ بل تكلم بصوت، هذه الأحاديث تروى كما جاءت وذكر حديث ابن مسعود وغيره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في فضل خديجة، وفيه ‏"‏ ولقد أمره الله ‏"‏ في رواية المستملي والسرخسي ‏"‏ ولقد أمره ربه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ببيت من الجنة‏)‏ في رواية الكشمهيني ‏"‏ ببيت في الجنة ‏"‏ وقد مضى شرحه مستوفى في المناقب‏.‏

*3*باب كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ وَنِدَاءِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ

وَقَالَ مَعْمَرٌ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أَيْ يُلْقَى عَلَيْكَ وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ أَيْ تَأْخُذُهُ عَنْهُمْ وَمِثْلُهُ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب كلام الرب تعالى مع جبريل ونداء الله الملائكة‏)‏ ذكر في أثرا وثلاثة أحاديث، وفي الحديث الأول‏:‏ نداء الله جبريل، وفي الثاني‏:‏ سؤال الله الملائكة على عكس ما وقع في الترجمة، وكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، ووقع عند مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه في هذا الحديث ‏"‏ أن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه ‏"‏ وذكر في الأدب أن أحمد أخرجه من حديث ثوبان بلفظ ‏"‏ حتى يقول يا جبريل إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضيني ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله ‏(‏وقال معمر‏:‏ وإنك لتلقى القرآن - أي يلقى عليك - وتلقاه أنت - أي تأخذه عنهم - ومثله فتلقى آدم من ربه كلمات‏)‏ معمر هذا قد يتبادر أنه ابن راشد شيخ عبد الرزاق وليس كذلك، بل هو أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي، قال أبو ذر الهروي وجدت ذلك في كتاب المجاز له فقال في تفسير سورة النمل في قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏وإنك لتلقى القرآن‏)‏ أي تأخذه عنهم ويلقى عليك‏.‏

وقال في تفسير سورة البقرة في قوله تعالى ‏(‏فتلقى آدم من ربه كلمات‏)‏ أي قبلها وأخذها عنه، قال أبو عبيدة وتلا علينا أبو مهدي آية فقال‏:‏ تلقيتها من عمى تلقاها عن أبي هريرة تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال في قوله تعالى ‏(‏ولا يلقاها إلا الصابرون‏)‏ أي لا يوفق لها ولا يلقنها ولا يرزقها، وحاصله أنها تأتي بالمعاني الثلاثة وأنها هنا صالحة لكل منها وأصله اللقاء وهو استقبال الشيء ومصادفته‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ هو ابن منصور وتردد أبو علي الجياني بينه وبين إسحاق بن راهويه، وإنما جزمت به لقوله حدثنا عبد الصمد فان إسحاق لا يقول إلا أخبرنا، وقد تقدم في الحديث الثاني من باب ما يكره من كثرة السؤال في ‏"‏ كتاب الاعتصام ‏"‏ نحو هذا و ‏"‏ عبد الصمد ‏"‏ هو ابن عبد الوارث، وقد تقدم في هذا السند في ‏"‏ كتاب الطهارة ‏"‏ حديث آخر وقد جزم أبو نعيم في المستخرج بأن ‏"‏ إسحاق ‏"‏ المذكور فيه هو ابن منصور، وتكلمت على سنده هناك وهو في باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان‏.‏

قوله ‏(‏إن الله قد أحب فلانا‏)‏ كذا هنا بصيغة الفعل الماضي‏.‏

وفي رواية نافع عن أبي هريرة الماضية في الأدب ‏"‏ إن الله يجب فلانا ‏"‏ بصيغة المضارعة، وفي الأول إشارة إلى سبق المحبة على النداء، وفي الثاني إشارة إلى استمرار ذلك وقد تقدمت مباحثه في ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في تعبيره عن كثرة الإحسان بالحب تأنيس العباد وإدخال المسرة عليم لأن العبد إذا سمع عن مولاه أنه يحبه حصل على أعلى السرور عنده وتحقق بكل خير، ثم قال وهذا إنما يتأتى لمن في طبعه فتوة ومروءة وحسن إنابة كما قال تعالى ‏(‏وما يتذكر إلا من ينيب‏)‏ وأما من في نفسه رعونة وله شهوة غالبة فلا يرده إلا الزجر بالتعنيف والضرب، قال‏:‏ وفي تقديم الأمر بذلك لجبريل قبل غيره من الملائكة إظهار لرفيع منزلته عند الله تعالى على غيره منهم، قال ويؤخذ من هذا الحديث الحث على توفية أعمال البر على اختلاف أنواعها فرضها وسنتها، ويؤخذ منه أيضا كثرة التحذير عن المعاصي والبدع لأنها مظنة السخط وبالله التوفيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ‏"‏ الحديث، وقد تقدم شرحه في أوائل ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ والمراد منه قوله فيه ‏"‏ فيسألهم وهو أعلم بهم ‏"‏ أي من الملائكة، وليس في رواية مالك المذكورة هنا التصريح بتسمية الذي يسأل، ووقع التصريح به في بعض طرقه في الصلاة بلفظ ‏"‏ فيسألهم ربهم ‏"‏ وهي من رواية مالك أيضا، والمشهور عند جمهور رواة مالك حذفها، ووقع عند ابن خزيمة من طريق أبي صالح عن أبي هريرة ‏"‏ فيسألهم ربهم ‏"‏ وقد ذكرت لفظه هناك، وتقدم القول في العروج في باب تعرج الملائكة والروح إليه قريبا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ الْمَعْرُورِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن واصل‏)‏ هو المعروف بالأحدب والمعرور بمهملات‏.‏

قوله ‏(‏أتاني جبريل فبشرني‏)‏ هو طرف من حديث تقدم بتمامه مشروحا في كتاب الرقاق‏.‏

قوله ‏(‏وإن سرق وإن زنى‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وإن سرق وزنى ‏"‏ في الموضعين وفي مناسبته للترجمة غموض، وكأنه من جهة أن جبريل إنما يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر يتلقاه عن ربه عز وجل، فكأن الله سبحانه قال له‏:‏ بشر محمدا بأن من مات من أمته لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة فبشره بذلك‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ

قَالَ مُجَاهِدٌ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قوله‏:‏ أنزله بعلمه والملائكة يشهدون‏)‏ كذا للجميع ونقل في تفسير الطبري ‏"‏ أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ المراد بالإنزال إفهام العباد معاني الفروض التي في القرآن وليس إنزاله له كإنزال الأجسام المخلوقة لأن القرآن ليس بجسم ولا مخلوق انتهى، والكلام الثاني متفق عليه بين أهل السنة سلفا وخلفا، وأما الأول فهو على طريقة أهل التأويل، والمنقول عن السلف اتفاقهم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، تلقاه جبريل عن الله وبلغه جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام وبلغه صلى الله عليه وسلم إلى أمته‏.‏

قوله ‏(‏قال مجاهد‏:‏ يتنزل الأمر بينهن‏:‏ بين السماء السابعة والأرض السابعة‏)‏ في رواية أبي ذر عن السرخسي ‏"‏ من ‏"‏ بدل ‏"‏ بين ‏"‏ وقد وصله الفريابي والطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ ‏"‏ من السماء السابعة إلى الأرض السابعة ‏"‏ وأخرج الطبري من وجه آخر عن مجاهد قال‏:‏ الكعبة بين أربعة عشر بيتا من السموات السبع والأرضين السبع، وعن قتادة نحو ذلك ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا فُلَانُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ أَجْرًا

الشرح‏:‏

حديث البراء في القول عند النوم، وقد تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ كتاب الأدعية ‏"‏ والمراد منه قوله فيه ‏"‏ آمنت بكتابك الذي أنزلت‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ وَزَلْزِلْ بِهِمْ زَادَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله بن أبي أوفى وقد تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب الجهاد ‏"‏ والغرض منه هنا ‏"‏ اللهم منزل الكتاب ‏"‏ وقوله في آخره ‏"‏ وزلزلهم ‏"‏ في رواية السرخسي ‏"‏ وزلزل بهم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏زاد الحميدي‏:‏ حدثنا سفيان إلى آخر السند‏)‏ مراده بالزيادة التصريح الواقع في رواية الحميدي لسفيان وإسماعيل وعبد الله، بخلاف رواية قتيبة فإنها بالعنعنة في الثلاثة، وقد أخرجه الحميدي في مسنده هكذا، وأبو نعيم في المستخرج من طريقه‏.‏

وقال‏:‏ أخرجه البخاري عن قتيبة والحميدي وظاهره أن البخاري جمع بينهما في سياقه وليس كذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا قَالَ أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ فَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ فَسَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ حَتَّى يَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أَسْمِعْهُمْ وَلَا تَجْهَرْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏)‏ أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة الحديث، وقد تقدم شرحه في آخر تفسير سورة سبحان، والمراد منه هنا قوله ‏"‏ أنزلت ‏"‏ والآيات المصرحة بلفظ الإنزال والتنزيل في القرآن كثيرة، قال الراغب الفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة أن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إلى إنزاله متفرقا ومرة بعد أخرى، والإنزال أعم من ذلك، ومنه قوله تعالى ‏(‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏)‏ قال الراغب عبر بالإنزال دون التنزيل لأن القرآن نزل دفعة واحدة إلى سماء الدنيا ثم نزل بعد ذلك شيئا فشيئا، ومنه قوله تعالى ‏(‏حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏)‏ ومن الثاني قوله تعالى ‏(‏وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث، ونزلناه تنزيلا‏)‏ ويؤيد التفصيل قوله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل‏)‏ فإن المراد بالكتاب الأول القرآن وبالثاني ما عداه، والقرآن نزل نجوما إلى الأرض بحسب الوقائع بخلاف غيره من الكتب، ويرد على التفصيل المذكور قوله تعالى ‏(‏وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏)‏ وأجيب بأنه أطلق نزل موضع أنزل، قال‏:‏ ولولا هذا التأويل لكان متدافعا لقوله جملة واحدة، وهذا بناه هذا القائل على أن نزل بالتشديد يقتضي التفريق فاحتاج إلى ادعاء ما ذكر، وإلا فقد قال غيره إن الضعيف لا يستلزم حقيقة التكثير بل يرد للتعظيم، وهو في حكم التكثير معنى فبهذا يدفع الإشكال‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ حَقٌّ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ بِاللَّعِبِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى يريدون أن يبدلوا كلام الله‏)‏ كذا للجميع زاد أبو ذر ‏"‏ الآية ‏"‏ قال ابن بطال أراد بهذه الترجمة وأحاديثها ما أراد في الأبواب قبلها أن كلام الله تعالى صفة قائمة به وأنه لم يزل متكلما ولا يزال، ثم أخذ في ذكر سبب نزول الآية، والذي يظهر أن غرضه أن كلام الله لا يختص بالقرآن فإنه ليس نوعا واحدا كما تقدم نقله عمن قاله، وأنه وإن كان غير مخلوق وهو صفة قائمة به فإنه يلقيه على من يشاء من عباده بحسب حاجتهم في الأحكام الشرعية وغيرها من مصالحهم، وأحاديث الباب كالمصرحة بهذا المراد‏.‏

قوله ‏(‏إنه لقول فصل‏:‏ الحق، وما هو بالهزل‏:‏ باللعب‏)‏ كذا لأبي ذر وسقط من أوله لفظ ‏"‏ إنه ‏"‏ من رواية غيره وثبت لكل من عدا أبا ذر حق بغير ألف ولام، وسقطت من رواية أبي زيد المروزي والتفسير المذكور مأخوذ من كلام أبي عبيدة، فإنه قال في ‏"‏ كتاب المجاز ‏"‏ قوله ‏(‏وما هو بالهزل‏)‏ أي ما هو باللعب والمراد بالحق الشيء الثابت الذي لا يزول وبهذا تظهر مناسبة هذه الآية للآية التي في الترجمة ثم ذكر فيه سبعة عشر حديثا معظمها من حديث أبي هريرة وأكثرها قد تكرر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة‏.‏

قوله ‏(‏قال الله يؤذيني ابن آدم يسب الدهر‏)‏ الحديث والغرض منه هنا إثبات إسناد القول إليه سبحانه وتعالى وقوله ‏"‏ يؤذيني ‏"‏ أي ينسب إلي ما لا يليق بي، وتقدم له توجيه آخر في تفسير سورة الجاثية مع سائر مباحثه وهو من الأحاديث القدسية، وكذا ما بعده إلى آخر الخامس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة أيضا، قوله ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ الصوم لي وأنا أجزي به‏)‏ وفيه ‏"‏ والصوم جنة، وللصائم فرحتان ‏"‏ وفيه ‏"‏ ولخلوف فم الصائم ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ كتاب الصيام ‏"‏ وقوله في السند ‏"‏ حدثنا أبو نعيم ‏"‏ يريد الفضل بن دكين الكوفي الحافظ المشهور القديم، وليس هو الحافظ المتأخر صاحب الحلية والمستخرج، وقوله ‏"‏حدثنا الأعمش ‏"‏ كذا للجميع إلا لأبي علي بن السكن فوقع عنده ‏"‏ حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان - وهو الثوري - حدثنا الأعمش ‏"‏ زاد فيه الثوري قال أبو علي الجياني‏:‏ والصواب قول من خالفه من سائر الرواة، ورأيت في رواية القابسي عن أبي المروزي ‏"‏ حدثنا أبو نعيم ‏"‏ أراه ‏"‏ حدثنا سفيان الثوري حدثنا محمد ‏"‏ فحذف لفظ قال بين قوله ‏"‏ أراه، وحدثنا ‏"‏ وأراه بضم الهمزة أي أظنه، وأبو نعيم سمع من الأعمش ومن السفيانين عن الأعمش لكن سفيان المذكور هنا هو الثوري جزما، وعلى تقدير ثبوت ذلك فقائل ‏"‏ أراه ‏"‏ يحتمل أن يكون البخاري ويحتمل أن يكون من دونه وهو الراجح، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من رواية الحارث بن أبي أسامة عن أبي نعيم عن الأعمش بدون الواسطة وهذا من أعلى ما وقع لأبي نعيم من العوالي في هذا الجامع الصحيح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَى رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة أيضا في اغتسال أيوب عليه السلام عريانا، وقد تقدم في ‏"‏ كتاب الطهارة ‏"‏ والغرض منه هنا قوله ‏"‏ فناداه ربه ‏"‏ إلى آخره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة أيضا، قوله ‏(‏يتنزل ربنا‏)‏ كذا للأكثر بمثناة وتشديد، ولأبي ذر عن المستملي والسرخسي ‏"‏ ينزل ‏"‏ بحذف التاء والتخفيف، وقد تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب التهجد ‏"‏ في باب الدعاء في الصلاة في آخر الليل، وترجم له في الدعوات ‏"‏ الدعاء نصف الليل ‏"‏ وتقدم هناك مناسبة الترجمة لحديث الباب مع أن لفظه ‏"‏ حين يبقى ثلث الليل ‏"‏ ومضى بيان الاختلاف فيما يتعلق بأحاديث الصفات في أوائل ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ في باب وكان عرشه على الماء، والغرض منه هنا قوله ‏"‏ فيقول من يدعوني ‏"‏ إلى آخره وهو ظاهر في المراد سواء كان المنادي به ملكا بأمره أو لا، لأن المراد إثبات نسبة القول إليه وهي حاصلة على كل من الحالتين، وقد نبهت على من أخرج الزيادة المصرحة بأن الله يأمر ملكا فينادي في ‏"‏ كتاب التهجد ‏"‏ وتأويل ابن حزم النزول بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا كالفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظان الإجابة وهو معهود في اللغة، تقول فلان نزل لي عن حقه بمعنى وهبه، قال‏:‏ والدليل على أنها صفة فعل تعليقه بوقت محدود ومن لم يزل لا يتعلق بالزمان فصح أنه فعل حادث، وقد عقد شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وهو من المبالغين في الإثبات حتى طعن فيه بعضهم بسبب ذلك في كتابه الفاروق بابا لهذا الحديث، وأورده من طرق كثيرة ثم ذكره من طرق زعم أنها لا تقبل التأويل مثل حديث عطاء مولى أم ضبية عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إذا ذهب ثلث الليل ‏"‏ وذكر الحديث وزاد ‏"‏ فلا يزال بها حتى يطلع الفجر فيقول هل من داع يستجاب له ‏"‏ أخرجه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وهو من رواية محمد بن إسحاق وفيه اختلاف، وحديث ابن مسعود وفيه ‏"‏ فإذا طلع الفجر صعد إلى العرش ‏"‏ أخرجه ابن خزيمة وهو من رواية إبراهيم الهجري وفيه مقال، وأخرجه أبو إسماعيل من طريق أخرى عن ابن مسعود قال ‏"‏ جاء رجل من بني سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علمني ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فإذا انفجر الفجر صعد ‏"‏ وهو من رواية عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه ولم يسمع منه، ومن حديث عبادة ابن الصامت وفي آخره ‏"‏ ثم يعلو ربنا على كرسيه ‏"‏ وهو من رواية إسحاق بن يحيى عن عبادة ولم يسمع منه، ومن حديث جابر وفيه ‏"‏ ثم يعلو ربنا إلى السماء العليا إلى كرسيه ‏"‏ وهو من رواية محمد بن إسماعيل الجعفري عن عبد الله بن سلمة بن أسلم وفيهما مقال، ومن حديث أبي الخطاب ‏"‏ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر ‏"‏ فذكر الوتر وفي آخره ‏"‏ حتى إذا طلع الفجر ارتفع ‏"‏ وهو من رواية ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف، فهذه الطرق كلها ضعيفة وعلى تقدير ثبوتها لا يقبل قوله أنها لا تقبل التأويل فإن محصلها ذكر الصعود بعد النزول فكما قبل النزول التأويل لا يمنع قبول الصعود التأويل، والتسليم أسلم كما تقدم والله أعلم، وقد أجاد هو في قوله في آخر كتابه فأشار إلى ما ورد من الصفات وكلها من التقريب لا من التمثيل، وفي مذاهب العرب سعة، يقولون أمر بين كالشمس وجواد كالريح وحق كالنهار، ولا تريد تحقيق الاشتباه وإنما تريد تحقيق الإثبات والتقريب على الأفهام، فقد علم من عقل أن الماء أبعد الأشياء شبها بالصخر، والله يقول ‏(‏في موج كالجبال‏)‏ فأراد العظم والعلو لا الشبه في الحقيقة، والعرب تشبه الصورة بالشمس والقمر، واللفظ بالسحر، والمواعيد الكاذبة بالرياح، ولا تعد شيئا من ذلك كذبا ولا توجب حقيقة وبالله التوفيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ الْأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، وبهذا الإسناد قال الله أنفق أنفق عليك‏)‏ تقدم القوم في الحكمة في تصديره هذا الحديث بقوله ‏"‏ نحن الآخرون السابقون ‏"‏ في ‏"‏ كتاب الديات ‏"‏ في باب من أخذ حقه أو اقتص، وحاصله أنه أول حديث في النسخة فكان البخاري أحيانا إذا ساق منها حديثا ذكر طرفا من أول حديث فيها ثم ذكر الحديث الذي يريد إيراده، وأحيانا لا يصنع ذلك، وقد وقع له في هذا الحديث بعينه كل من الأمرين، فإن هذا القدر وهو قوله ‏"‏ أنفق أنفق عليك ‏"‏ طرف من حديث طويل أورده بتمامه في تفسير سورة هود، وفيه ‏"‏ وقال‏:‏ يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ‏"‏ الحديث بتمامه، واقتطع هذا القدر فساقه في باب قوله تعالى ‏"‏ لما خلقت بيدي ‏"‏ فذكر أوله ‏"‏ يد الله ملأى ‏"‏ ولم يذكر أوله ‏"‏ نحن الآخرون السابقون ‏"‏ ولا ‏"‏ أنفق أنفق عليك ‏"‏ واقتصر منه هنا على هذا القدر، ووقع في الأطراف للمزي في ترجمة شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة للبخاري في التفسير وفي التوحيد بجميعه عن أبي اليمان عن شعيب انتهى، والمفهوم من إطلاقه أنه في التوحيد نظير ما في التفسير وليس كذلك، والغرض من هذا الحديث نسبة هذا القول إلى الله سبحانه وهو قوله ‏"‏ أنفق أنفق عليك ‏"‏ وهو من الأحاديث القدسية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ هَذِهِ خَدِيجَةُ أَتَتْكَ بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلَامَ وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ابن فضيل‏)‏ هو محمد‏.‏

قوله ‏(‏عمارة‏)‏ هو ابن القعقاع بن شبرمة‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي هريرة فقال هذه خديجة‏)‏ كذا أورده هنا مختصرا، والقائل جبريل كما تقدم في باب تزويج خديجة في أواخر المناقب عن قتيبة بن سعيد عن محمد بن فضيل بهذا السند عن أبي هريرة قال‏:‏ أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذه خديجة إلى آخره، وبهذا يظهر أن جزم الكرماني بأن هذا الحديث موقوف غير مرفوع مردود‏.‏

قوله ‏(‏أتتك‏)‏ في رواية المستملي هنا ‏"‏ تأتيك ‏"‏ بصيغة الفعل المضارع وتقدم هناك بلفظ ‏"‏ أتت ‏"‏ بغير ضمير‏.‏

قوله ‏(‏بإناء فيه طعام أو إناء أو شراب‏)‏ كذا للأصيلي وأبي ذر‏.‏

وفي رواية لأبي ذر ‏"‏ أو إناء فيه شراب ‏"‏ وكذا للباقين وتقدم هناك بلفظ ‏"‏ إدام أو طعام أو شراب ‏"‏ وقال الكرماني قوله ‏"‏ بإناء فيه طعام أو إناء ‏"‏ شك من الراوي هل قال فيه طعام أو قال إناء فقط لم يذكر ما فيه، ويجوز في قوله ‏"‏ أو شراب ‏"‏ الرفع والجر‏.‏

قوله ‏(‏فأقرئها‏)‏ زاد في رواية قتيبة ‏"‏ فإذا هي أتتك فاقرأ عليها ‏"‏ وقد تقدمت مباحثه في الباب المذكور والغرض منه قوله ‏"‏ فأقرئها من ربها السلام ‏"‏ وتقدم هناك حديث عائشة وفيه ‏"‏ وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب ‏"‏ وتقدم شرح المراد بالقصب ومطابقته للترجمة من جهة اقرأ السلام فإنه بمعنى التسليم عليها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة‏:‏ قال الله أعددت لعبادي وهو من الأحاديث القدسية، والإضافة في قوله تعالى‏:‏ لعبادي للتشريف، وتقدم شرحه في تفسير سورة السجدة وسياقه هناك أتم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في الدعاء في التهجد في الليل وقد تقدم قريبا في باب قوله تعالى ‏(‏خلق السموات والأرض بالحق‏)‏ أورده من وجه آخر عن ابن جريج والغرض منه هنا قوله ‏"‏ وقولك الحق ‏"‏ وقد تقدم أن المراد بالحق اللازم الثابت‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِي بَرَاءَتِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ الْعَشْرَ الْآيَاتِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قصة الإفك ذكر منه طرفا، وقد ذكر منه بهذا الإسناد قطعا يسيرة في ستة مواضع منها في الجهاد والشهادات والتفسير وساقه بتمامه في الشهادات وفي تفسير سورة النور وتقدم شرحه فيها، والغرض منه هنا قولها ‏"‏ والله ما كنت أظن أن الله عز وجل كان ينزل في براءتي وحيا يتلى ‏"‏ ومناسبته للترجمة ظاهرة من قولها ‏"‏ يتكلم الله‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها‏)‏ تقدم شرحه في الرقاق في باب ‏"‏ من هم بحسنة أو سيئة ‏"‏ وهو من الأحاديث القدسية أيضا، وكذا الأربعة بعده، ومناسبته للباب ظاهرة أيضا، وقوله ‏"‏فإذا عملها ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فإن ‏"‏ وقوله في آخره ‏"‏ إلى سبعمائة ‏"‏ زاد في رواية أبي ذر عن السرخسي ‏"‏ ضعف ‏"‏ وهي ثابتة للجميع في آخر حديث ابن عباس في الرقاق، واستدل بمفهوم الغاية في قوله ‏"‏ فلا تكتبوها حتى يعملها ‏"‏ وبمفهوم الشرط في قوله ‏"‏ فإذا عملها فاكتبوها له بمثلها ‏"‏ من قال أن العزم على فعل المعصية لا يكتب سيئة حتى يقع العمل ولو بالشروع، وقد تقدم بسط البحث فيه هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَ مَهْ قَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ فَقَالَ أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَذَلِكِ لَكِ ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة أيضا فيما يتعلق بالرحم وفيه قال ‏"‏ ألا ترضين أن أصل من وصلك ‏"‏ وفيه ‏"‏ قالت‏:‏ بلى يا رب ‏"‏ وقد تقدم شرحه في أوائل ‏"‏ كتاب الأدب‏"‏، و ‏"‏ إسماعيل بن عبد الله ‏"‏ شيخه هو ابن أبي أويس، و ‏"‏ سليمان ‏"‏ هو ابن بلال، وصرح إسماعيل بتحديثه له، وقد تقدم له حديث في باب المشيئة والإرادة أدخل فيه أخاه بينه وبين سليمان المذكور، قال النووي‏:‏ الرحم التي توصل وتقطع إنما هي معنى من المعاني لا يتأتى منها الكلام إذ هي قرابة تجمعها رحم واحدة فيتصل بعضها ببعض، فالمراد تعظيم شأنها وبيان فضيلة من وصلها وإثم من قطعها فورد الكلام على عادة العرب في استعمال الاستعارات‏.‏

وقال غيره يجوز حمله على ظاهره وتجسد المعاني غير ممتنع في القدرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ مُطِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَالَ اللَّهُ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِي

الشرح‏:‏

حديث ‏"‏ زيد بن خالد ‏"‏ وهو الجهني ذكر فيه طرفا من حديث مضى بتمامه في آخر الاستسقاء مع شرحه، و ‏"‏ سفيان ‏"‏ فيه هو ابن عيينة، و ‏"‏ صالح ‏"‏ هو ابن كيسان، و ‏"‏ عبيد الله ‏"‏ هو ابن عبد الله بن عتبة، وقد أخرجه النسائي عن قتيبة والإسماعيلي من رواية محمد بن عباد وأبو نعيم من رواية إسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم عن سفيان وذكرت ما في سياقه من فائدة هناك، وقوله هنا ‏"‏ مطر النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بضم الميم أي وقع المطر بدعائه أو نسب ذلك إليه لأن من عداه كان تبعا له يقال مطرت السماء وأمطرت بمعنى واحد، وقيل مطرت في الرحمة وأمطرت في العذاب، وقيل مطرت في اللازم وأمطرت في المتعدي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ اللَّهُ إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إذا أحب عبدي لقائي‏)‏ تقدم الكلام عليه مستوفى في باب من أحب لقاء الله، من ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ بعون الله تعالى، قال ابن عبد البر بعد أن أورد الأحاديث الواردة في تخصيص ذلك بوقت الوفاة النبوية‏:‏ دلت هذه الآثار أن ذلك عند حضور الموت ومعاينة ما هنالك وذلك حين لا تقبل توبة التائب إن لم يتب قبل ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ اللَّهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏قال الله أنا عند ظن عبدي بي‏)‏ تقدم في أوائل التوحيد في باب‏:‏ ويحذركم الله نفسه من رواية أبي صالح عن أبي هريرة، وأوله ‏"‏ يقول الله ‏"‏ وزاد ‏"‏ وأنا معه إذا ذكرني ‏"‏ الحديث، وتقدم شرحه هناك مستوفى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ لِمَ فَعَلْتَ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ فَغَفَرَ لَهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة أيضا في قصة الذي أمر بأن يحرقوه إذا مات، وقد تقدم شرحه في الرقاق، ومن قبل ذلك في ذكر بني إسرائيل ويأتي شيء منه في آخر هذا الباب، وقوله ‏"‏في هذه الطريق ‏"‏ قال رجل لم يعمل خيرا قط إذا مات فحرقوه، فيه التفات ونسق الكلام أن يقول‏:‏ إذا مت فحرقوني، وقوله ‏"‏فأمر الله البحر ليجمع ‏"‏ في رواية المستملي والكشميهني ‏"‏ فجمع‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا قَالَ قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أحمد بن إسحاق‏)‏ هو السرماري بفتح المهملة وبكسرها وبسكون الراء، تقدم بيانه في ذكر بني إسرائيل و ‏"‏ عمرو بن عاصم ‏"‏ هو الكلابي البصري يكنى أبا عثمان وقد حدث عنه البخاري بلا واسطة في ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ وغيرها، فنزل البخاري في هذا السند بالنسبة لهمام درجة، وقد وقع هذا الحديث لمسلم عاليا فإنه أخرجه من طريق حماد بن سلمة عن إسحاق نعم، وأخرجه من طريق همام نازلا كالبخاري، و ‏"‏ إسحاق بن عبد الله ‏"‏ هو ابن أبي طلحة الأنصاري التابعي المشهور، ‏"‏ وعبد الرحمن بن أبي عمرة ‏"‏ تابعي جليل من أهل المدينة، له في البخاري عن أبي هريرة عشرة أحاديث غير هذا الحديث، واسم أبيه كنيته وهو أنصاري صحابي، ويقال إن لعبد الرحمن رؤية‏.‏

وقال ابن أبي حاتم ليست له صحبة ولهم عبد الرحمن ابن أبي عمرة آخر أدركه مالك‏.‏

وقال ابن عبد البر هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمرة نسب لجده‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا هو ابن أخي الراوي عنه‏.‏

قوله ‏(‏إن عبدا أصاب ذنبا وربما قال أذنب ذنبا‏)‏ كذا تكرر هذا الشك في هذا الحديث من هذا الوجه، ولم يقع في رواية حماد بن سلمة ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه عز وجل قال ‏"‏ أذنب عبد ذنبا ‏"‏ وكذا في بقية المواضع‏.‏

قوله ‏(‏فقال وبه أعلم‏)‏ بهمزة استفهام والفعل الماضي‏.‏

قوله ‏(‏ويأخذ به‏)‏ أي يعاقب فاعله‏.‏

وفي رواية حماد ‏"‏ ويأخذ بالذنب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم مكث ما شاء‏)‏ أي من الزمان وسقط هذا من رواية حماد‏.‏

قوله ‏(‏ثم أصاب ذنبا‏)‏ في رواية حماد ثم عاد فأذنب‏.‏

قوله ‏(‏في آخره غفرت لعبدي‏)‏ في رواية حماد ‏"‏ اعمل ما شئت فقد غفرت لك ‏"‏ قال ابن بطال في هذا الحديث أن المصر على المعصية في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبا الحسنة التي جاء بها وهي اعتقاده أن له ربا خالقا يعذبه ويغفر له واستغفاره إياه على ذلك يدل عليه قوله‏:‏ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ولا حسنة أعظم من التوحيد، فإن قيل إن استغفاره ربه توبة منه قلنا ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة، وقد يطلبها المصر والتائب ولا دليل في الحديث على أنه تائب مما سأل الغفران عنه، لأن حد التوبة الرجوع عن الذنب والعزم أن لا يعود إليه والإقلاع عنه والاستغفار بمجرده لا يفهم منه ذلك انتهى‏.‏

وقال غيره شروط التوبة ثلاثة‏:‏ الإقلاع والندم والعزم على أن لا يعود، والتعبير بالرجوع عن الذنب لا يفيد معنى الندم بل هو إلى معنى الإقلاع أقرب وقال بعضهم‏:‏ يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه فإنه يستلزم الإقلاع عنه والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه ومن ثم جاء الحديث‏:‏ ‏"‏ الندم توبة ‏"‏ وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود أخرجه ابن ماجه وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان من حديث أنس وصححه، وقد تقدم البحث في ذلك في باب التوبة من أوائل ‏"‏ كتاب الدعوات ‏"‏ مستوفى‏.‏

وقال القرطبي في المفهم يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكن هذا الاستغفار هو الذي ثبت معناه في القلب مقارنا للسان لينحل به عقد الإصرار ويحصل معه الندم فهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث‏:‏ خياركم كل مفتن تواب، ومعناه الذي يتكرر منه الذنب والتوبة فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة لا من قال أستغفر الله بلسانه وقلبه مصر على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى الاستغفار‏.‏

قلت‏:‏ ويشهد له ما أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس مرفوعا ‏"‏ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه ‏"‏ والراجح أن قوله ‏"‏ والمستغفر ‏"‏ إلى آخره موقوف وأوله عند ابن ماجه والطبراني من حديث ابن مسعود وسنده حسن، وحديث ‏"‏ خياركم كل مفتن تواب ‏"‏ ذكره في مسند الفردوس عن علي قال القرطبي‏:‏ وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه، قال النووي في الحديث‏:‏ إن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفا وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته، وقوله‏:‏ ‏"‏ اعمل ما شئت ‏"‏ معناه ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك، وذكر في ‏"‏ كتاب الأذكار ‏"‏ عن الربيع بن خيثم أنه قال لا تقل‏:‏ أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبا وكذبا إن لم تفعل بل قل‏:‏ اللهم اغفر لي وتب علي، قال النووي هذا حسن، وأما كراهية أستغفر الله وتسميته كذبا فلا يوافق عليه لأن معنى أستغفر الله أطلب مغفرته وليس هذا كذبا، قال ويكفي في رده حديث ابن مسعود بلفظ‏:‏ من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف، أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الحاكم‏.‏

قلت‏:‏ هذا في لفظ أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأما أتوب إليه فهو الذي عنى الربيع رحمه الله أنه كذب وهو كذلك إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال، وفي الاستدلال للرد عليه بحديث ابن مسعود نظر لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة، ويحتمل أن يكون الربيع قصد مجموع اللفظين لا خصوص أستغفر الله فيصح كلامه كله والله أعلم، ورأيت في الحلبيات للسبكي الكبير‏:‏ الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب أو بهما، فالأول فيه نفع لأنه خير من السكوت ولأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جدا، والثالث أبلغ منهما لكنهما لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة، فإن العاصي المصر يطلب المغفرة ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه، إلى أن قال‏:‏ والذي ذكرته من أن معنى الاستغفار هو غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ، لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ أستغفر الله معناه التوبة فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة، ثم قال وذكر بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى ‏(‏وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه‏)‏ والمشهور أنه لا يشترط‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ سَلَفَ أَوْ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالَ كَلِمَةً يَعْنِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا فَلَمَّا حَضَرَتْ الْوَفَاةُ قَالَ لِبَنِيهِ أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ قَالُوا خَيْرَ أَبٍ قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ أَوْ لَمْ يَبْتَئِزْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا وَإِنْ يَقْدِرْ اللَّهُ عَلَيْهِ يُعَذِّبْهُ فَانْظُرُوا إِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي أَوْ قَالَ اَلْإِسْكَنْدَرِيَّة فَإِذَا كَانَ يَوْمُ رِيحٍ عَاصِفٍ فَأَذْرُونِي فِيهَا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي فَفَعَلُوا ثُمَّ أَذْرَوْهُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُنْ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ قَائِمٌ قَالَ اللَّهُ أَيْ عَبْدِي مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ قَالَ مَخَافَتُكَ أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ قَالَ فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ عِنْدَهَا وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى فَمَا تَلَافَاهُ غَيْرُهَا فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا عُثْمَانَ فَقَالَ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ سَلْمَانَ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ فِيهِ أَذْرُونِي فِي الْبَحْرِ أَوْ كَمَا حَدَّثَ حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ وَقَالَ لَمْ يَبْتَئِرْ وَقَالَ خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ وَقَالَ لَمْ يَبْتَئِزْ فَسَّرَهُ قَتَادَةُ لَمْ يَدَّخِرْ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد في قصة الذي أمر أن يحرقوه وتقدم التنبيه عليه في الخامس عشر‏.‏

قوله ‏(‏معتمر سمعت أبي‏)‏ هو سليمان بن طرخان التيمي والسند كله بصريون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق‏.‏

قوله ‏(‏عن عقبة بن عبد الغافر‏)‏ في رواية شعبة عن قتادة ‏"‏ سمعت عقبة ‏"‏ وقد تقدمت في الرقاق مع سائر شرحه وقوله، ‏"‏ أنه ذكر رجلا فيمن سلف - أو - فيمن كان قبلكم ‏"‏ شك من الراوي، ووقع عند الأصيلي ‏"‏ قبلهم ‏"‏ وقد مضى في الرقاق عن موسى بن إسماعيل عن معتمر بلفظ ‏"‏ ذكر رجلا فيمن كان سلف قبلكم ‏"‏ ولم يشك وقوله ‏"‏ قال كلمة ‏"‏ يعني أعطاه الله مالا، في رواية موسى ‏"‏ آتاه الله مالا وولدا ‏"‏ وقوله ‏"‏ أي أب كنت لكم ‏"‏ قال أبو البقاء هو بنصب أي على أنه خبر كنت، وجاز تقديمه لكونه استفهاما ويجوز الرفع وجوابهم بقولهم ‏"‏ خير أب ‏"‏ الأجود النصب على تقدير كنت خير أب فيوافق ما هو جواب عنه، ويجوز الرفع بتقدير‏:‏ أنت خير أب، وقوله ‏"‏فإنه لم يبتئر أو لم يبتئز ‏"‏ تقدم عزو هذا الشك أنها بالراء أو بالزاي لرواية أبي زيد المروزي تبعا للقاضي عياض، وقد وجدتها هنا فيما عندنا من رواية أبي ذر عن شيوخه، وقوله ‏"‏فاسحقوني ‏"‏ أو قال ‏"‏ فاسحكوني ‏"‏ في رواية موسى مثله لكن قال ‏"‏ أو قال فاسهكوني ‏"‏ بالهاء بدل الحاء المهملة والشك هل قالها بالقاف أو الكاف، قال الخطابي في رواية أخرى ‏"‏ فاسحلوني ‏"‏ يعني باللام ثم قال معناه أبردوني بالسحل وهو المبرد، ويقال للبرادة سحالة أو ما اسحكوني بالكاف فأصله السحق، فأبدلت القاف كافا ومثله السهك بالهاء والكاف، وقوله في آخره ‏"‏ قال فحدثت به أبا عثمان ‏"‏ القائل هو سليمان التيمي وذهل الكرماني فجزم بأنه قتادة و ‏"‏ أبو عثمان ‏"‏ هو النهدي، وقوله ‏"‏سمعت هذا من سلمان ‏"‏ إلى آخره ‏"‏ سلمان ‏"‏ هو الفارسي وأبو عثمان معروف بالرواية عنه، وقد أغفل المزي ذكر هذا الحديث من مسند سلمان في الأطراف وقد تقدم أيضا في الرقاق ونبهت على صفة تخريج الإسماعيلي له، وقوله ‏"‏حدثنا موسى حدثنا معتمر وقال لم يبتئر ‏"‏ أي بالراء لم يشك وقد ساقه بتمامه في الرقاق عن ‏"‏ موسى ‏"‏ المذكور وهو ابن إسماعيل التبوذكي، وساق في آخر روايته حديث سلمان أيضا كذلك وقوله بعده وقال لي خليفة هو ابن خياط، وسقط للأكثر لفظ لي ‏"‏ حدثنا معتمر لم يبتئر ‏"‏ يعني بالحديث بكماله، ولكنه قال ‏"‏ لم يبتئز ‏"‏ بالزاي، وقوله فسره قتادة ‏"‏ لم يدخر ‏"‏ وقعت هذه الزيادة في رواية خليفة دون رواية موسى بن إسماعيل وعبد الله بن أبي الأسود، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية عبيد الله بن معاذ العنبري عن معتمر وذكر فيه تفسير قتادة هذا، وكذا أخرجه أبو نعيم في المستخرج من رواية إسحاق بن إبراهيم الشهيدي عن معتمر، وقد استوعبت اختلاف ألفاظ الناقلين لهذا الخبر في هذه اللفظة في كتاب الرقاق بما يغني عن إعادته وبالله التوفيق‏.‏