فصل: ذكر فتوح قلعة ماردين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر فتح ماكسين والشمسانية:

قال: حدثني زهمان بن رقيم عن الصلت بن مجالد عن القيل بن ميسور قال لما ارتحل عبد الله عن قرقيسيا ونزل على ماكسين فتحها صلحا على أربعة آلاف درهم من نقد بلادهم وألف حمل طعام حنطة وشعير فقلقوا من ذلك فترك لهم النصف وكذلك أهل الشمسانية ثم نزل على عربان فجاؤا إليه وصالحوه بما صالح به أهل ماكسين ثم ارتحل إلى المجدل فملكها وأقام ينتظر ما يرد عليه من أخبار أميره عياض بن غنم وهو نازل على نهر البلخ فكتب إليه يعلمه بما فتح الله على يديه فلما وصل الكتاب إليه كتب إليه أن الزم مكانك حتى يأتيك أمري والسلام قال سهل بن مجاهد بن سعيد لما فتح الله على يد عبد الله بن غسان أرض الخابور صلحا واقام بالمجدل أنشد قيس بن أبي حازم البجلي هذه الأبيات:
أقمنا منار الدين في كل جانب ** وصلنا على أعدائنا بالقواضب.

ودان لنا الخابور مع كل أهله ** بفتيان صدق من كرام العرائب.

هزمناهم لما التقينا بماسح ** وثار عجاج النقع مثل السحائب.

وكل همام في الحروب نخاله ** يكر بحمل في صدور الكتائب.

وجندل وفد الروم في كل جانب ** تركناهمو في القاع نهبا لناهب.

وما زال نصر الله يكنف جمعنا ** ويحفظنا من طارقات النوائب.

فلله حمد في المساء وبكرة ** وما لاح نجم في سدوان الغياهب.

.ذكر فتوح قلعة ماردين:

قال: حدثني سوار بن كثير عن يوسف بن عبد الرزاق عن الكامل عن المثني بن عامر عن جده قال لما فتحت مدائن الخابور صلحا بلغ قتل الملك شهرياض صاحب أرض ربيعة وعين وردة وراس العين فعظم عليه وكبر لديه فجمع أرباب دولته وهو نازل على أرض الطير وقال لهم: هذه ثلاث مدائن من بلادنا قد ملكت وقلعتان والعرب المتنصرة قد مضت عنا فقال له البطريق توتا: ايها الملك انه لا بد للعرب منا ولا بد لنا منهم ويعطي الله النصر لمن يشاء غير انه كان من الرأي إنك لو زوجت ابنك عمودا الملكة مارية بنت أرسوس بن جارس صاحب ماردين ومرين لأعانتنا قلعة المرأة.
قال الراوي: وكان السبب في بناء القلعتين المذكورتين أن هذا الرجل ارسوس بن جارس كان من أهل طبرزند وكان بطلا مناعا وكان أول من بنى المملكة بأرمينية وكان منفردا بطبرزند وكان يغير في بلاد الروم حيث شاء حتى كتب أهل تلك البلاد إلى الملك الأعظم يستغيثون به من يده فارسله الملك هرقل من انطاكية إلى ديار ربيعة و قال له: ابن لك حصنا تسكن فيه فلما توسط أرض جبل ماردين نزل تحته ونظر وإذا على قلة الجبل موضع نار وكان فيه عابد من عباد الفرس وكان مشهورا عندهم بالعبادة وكانت الهدايا تقبل إليه من أقصى بلاد خراسان والعراق وكان اسمه دين فلم يمر به أرسوس حتى صادقه وكان يحمل إليه الهدايا والتحف وكان العابد لا يحتجب عنه ولم يزل معه حتى انه وقع به منفردا فقتله وغيبه فلما عدمه أهل تلك الأرض قالوا: مات دين ثم أن أرسوس بني بيت النار وجعله حصنا وكانت له ابنة يقال لها مارية فلما رأت اباها بني له مكانا وتحصن فيه بنت أيضا قلعة بازائه وحصنتها وجعلت فيها أموالها وذخائرها ورجالها وكانت كلما خطبها أحد تراه دونها لأنها من بيت المملكة.
وكان بالقرب من قلعتها دير بسفح الجبل وفي الدير راهب قد انقطع فيه وكان من أجمل الناس وجها وكان اسمه فرما قال فأتت إليه زائرة فلما رأته وقعت محبته في قلبها فلم تزل تتردد إليه وتتجاسر عليه إلى أن صارت بينهما صحبة فسلمت نفسها إليه فحملت منه فلما تكامل حملها ولدت في خفية ولدا ذكرا فسلمته إلى دايتها وقالت لها انظري كيف تفعلين بهذا الغلام فإني أحبه ولا اريد قتله لأنه أن علم أبي بقصتي قتلني ثم أخرجت له ذخائر نفيسة وجعلتها في قماطه وخيطت عليها وقالت من وقع به ينفقها على تربيته ثم إنها افتقدت بدنه وإذا على خده الأيمن شامة سوداء بقدر الظفر ورأت أذنه اليمنى وفيها زيادة قال فأخذته الداية ونزلت به ليلا ومعها خادم وكان مطلعا على أسرار الملكة فأتت به إلى أسفل القلعة في الطريق الاعظم وهناك عمود من رخام وغالبه غائص في الأرض وهو قائم على رأس ذلك العمود قاعدة من الرخام فوضعت ذلك.
المولود على القاعدة خوفا عليه من الوحش أن يقربه فيأكله ثم رجعت هي والخادم إلى القلعة.
قال الراوي: وكان من قضاء الله وقدره أن صاحب الموصل الملك الانطاق قد بعث رسولا لشهرياض ثم أرسوس بن جارس صاحب ماردين فجاز سحرا في الطريق الذي فيه العمود فسمع بكاء الطفل فدنا منه وهو على جواده فنظر عصابة الذهب فأخذه وسلمه إلى جارية كانت معه في السفر وقال لها احتفظي على هذا المولود فلا شك أن له شأنا ثم أوصل الرسالة إلى صاحب ماردين وارتحل إلى راس العين وأعاد الجواب على الملك شهرياض وأجرى الله على لسانه بأن حدث الملك شهرياض بقصة الطفل الذي وجده على العمود فقال أعطني إياه فإنه ليس لي ولد يرثني ويخلفني في ملكي فدفعه إليه فأخذه الملك ودفعه للحواضن والدايات فربوه إلى أن ركب الخيل ونشأ وترعرع فسماه الملك عمودا وسماه الناس ولد الملك وتربى في النعمة وتعلم طريقة الملوك من ركوب الخيل والرماية والقتال والمعالجة والصراع إلى أن سما ذكره وانتشر في الناس فخره وكان لا يأوي إلى عين وردة بل أكثر زمانه في الصيد والقنص وبنى له قصرا على رأس المغارة يأوي إليه وسمي القصر باسمه عمودا وليس عند أمه مارية خبر بما فعل الزمان به وانقضت الأيام واندرجت الأعوام حتى قدم عسكر المسلمين يريد فتح أرض الجزيرة فلما شاور الملك أرباب دولته في أمر العرب اشار عليه توتا أن يزوج ولده عمودا من الملكة فإنها لا تصلح إلا له وهي بكر ولها من العمر ثلاثون سنة وقد خطبها الملوك وأبناؤهم فلم ترض بهم لأنها تراهم دونها وأنت إذا طلبتها لولدك لم يمتنع من ذلك ابوها ويفرح بمصاهرتك فأجابه إلى ذلك وبعث إلى أرسوس بن جارس هدية عظيمة وقال لتوتا كن أنت الواسطة في ذلك فسار توتا إلى ارسوس وسلم عليه ودفع إليه الهدية فقبلها وتحدث معه فيما ذكرناه فاجابه إلى ذلك وطلب منه الصداق مائة ألف دينار والبارعية وجملين وعشرين أميرا من العرب ليقتلهم قربانا للمسيح ليلة زفافها فاجابه توتا إلى ذلك فركب ارسوس إلى قلعة ابنته ودخل عليها وأعلمها بالخبر فرضيت فخرج من عندها وجمع القسوس والشمامسة وزوج ابنته لعمودا وليس عندهم خبر من أحكام القدر.
قال الراوي: ورجع توتا إلى الملك شهرياض وأعلمه أن الأمر قد انبرم وأعلمه بما اشترط عليه أرسوس من القلعتين البارعية وجملين ومائة ألف ديناروعشرين أميرا من العرب ليقربهم ليلة زفافها ففرح بذلك وأنفذ الأموال وقال إذا زفت إليه سلمت إلى ابيها القلعتين ثم إنه طلب عمودا وأخبره أنه قد زوجه ابنة ارسوس بن جارس وقال له: اعلم يا بني أن من جملة الصداق عشرين من فرسان العرب فتجهز وخذ العسكر واقصد العرب.
وأمر أن يخرج معه توتا الوزير ورودس صاحب حران وقال لهم: أن قدرتم أن تكبسوا العرب فافعلوا ومضوا في عشرين ألفا.
قال الراوي: واتت عياضا عيونه وأخبرته بما جرى وانهم قد اقبلوا اليك وهم رودس صاحب حران وصاحب كفر توتا وعمودا ابن الملك في عشرين ألفا وهم يريدون كبسكم في الليل فاستيقظوا لأنفسكم قال فجمع عياض وجوه الصحابة واستشارهم فقال خالد بن الوليد: اكتب من وقتك إلى عبد الله بن غسان وسهل بن عدي أن يسيروا الينا من قوتهم ويعلمهم بما قصد العدو فيكونون منهم على حذر فإذا قربوا منهم يكمنون لهم حتى يعبروهم ويصير أصحابنا من ورائهم ونكمن نحن عن يمينهم وشمالهم ثم نطبق عليهم فقالوا: كلهم هذا هو الرأي المصيب وخرج خالد في ألفين وكتب في الحال إلى عبد الله وسهل يأمرهما باللحوق بعسكر خالد ويوصيهما بما يفعلان وبعث الكتاب مع سراقة بن دارم فوصل إليهما في يومه على ناقة له فلما وصل وقرأ الكتاب ارتحلوا من ساعتهم وأطلع الصحابة على الخبر فركبوا وأنفذ عبد الله عيونه يتجسسون له خبر العدو.
قال الراوي: وأما خالد فإنه انفصل من عياض في ألفين ولم يأخذ بهم على الجادة بل ارسل ألفا عن يمين الطريق وأمر عليهم ابن سعدا وألفا عن يسار الطريق مع خالد وأمر سعدا أن لا يبعد عن الطريق وارسل عيونه.
قال الواقدي: انه لما سار عمودا وتوتا ورودس في العشرين ألف فارس لم يزالوا سائرين إلى أن بقي بينهم وبين عسكر عياض بن غنم عشرة فراسخ فنزلوا في مكان يستريحون ويعلقون على خيلهم ويلبسون لامة الحرب.
قال الواقدي: وسار جيش عبد الله بن غسان من ورائهم وسار خالد بن الوليد عن يمينهم ونجيبه بن سعد عن يسارهم وليس عند الروم خبر من ذلك فلما علم خالد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحدقوا بالقوم أرسل يعلم المسلمين أن يتأهبوا إلى وقوع الصوت قال فتأهبوا ثم أن خالدا أخذ خمسمائة من أبطال المسلمين وترك خمسمائة مع عدي بن سالم الهلالي و قال له: إذا رايت الحرب قد اشتعل نارها وتطاير شرارها فاخرج من كمينك ثم أن خالدا لما قصد جيش العدو بمن معه وتظاهر لهم رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قال فسمعت الروم أصواتهم فلبسوا سلاحهم ولم يركب منهم سوى رودس وأصحابه وهم خمسة آلاف ولم يكن فيهم مستيقظ سواه وتوتا مشغول مع عمودا قال: وإن صاحب حران استقبل خالدا واستصغر شأنه لما رآه في شرذمة قليلة فطمع فيه واشتغلت الروم بالنظر إليهم وقالوا: رودس يكفينا أمرهم قال فبينما هم.
ينظرون إذ صاح خالد بعدو الله رودس وانحط عليه انحطاط السحاب وهو يقول هذه الأبيات.
وانا لقوم لا تكل سيوفنا ** من الضرب في أعناق سوق الكتائب

سيوف دخرناها لقتل عدونا ** واعزاز دين الله من كل خائب

قتلنا بها كل البطارق عنوة ** جلاء لأهل الكفر من كل جانب

إلى أن ملكنا الشام قهرا وغلظة ** وصلنا على أعدائنا بالقواضب

أنا خالد المقدام ليث عشيرتي ** إذا همهمت أسد الوغى في المغالب

وفاجأ رودس بطعنة فالقاه على وجه الأرض فأوثقه غلامه همام وحمل في أصحابه هو ومن معه قال فهم في ذلك إذ خرج عليهم نجيبه بن سعد وعدي بن سالم وأشرف من بعدهم عبد الله ابن غسان فامتلأت الأرض بالزعقات وارتجت سائر الجهات وصدموهم على الخيل العربيات ونادوا باسم جبار الأرض والسموات وأطبقوا عليهم من كل جانب وكان التوفيق للصحابة مصاحبا فما لحقت الروم أن تركب على خيلها إلا والسيف يعمل فيهم فطحطحوهم وفرقوا مواكبهم واستوثقوا منهم أسرى وأخذوا عمودا وتوتا فكانت الأسارى أربعة آلاف والقتلى الفا وسبعمائة وستة وستين وولى الباقي الأدبار فوصلوا إلى الملك شهرياض فأعلموه بما وقع فضاقت عليه الأرض بما رحبت وعلم أن دولته قد انقرضت وإن ايامه قد اضمحلت ومضت فأحضر من بقي من أرباب دولته فاستشارهم فيما يفعل فقالوا: أيها الملك أن مقامنا على رأس العين سفه فإن بينه وبين حران والرها وسروج بعيد يطمع العرب في بلادنا بل الرأي أن نرحل ونتوسط البلاد وتكون قلاعنا اقرب منا والميرة تصل الينا من كل جانب فإن كانت لنا وانهزمت العرب أخذنا عليهم سائر الطرقات وإن كانت علينا انهزمنا إلى ماردين وقلعة مازن وكفر توتا وقصدنا جملين وتل توتا والبارعية وتل سماوي وتل القرع والصور ودجلة الجبل ونأمن على أنفسنا قال فأجابهم إلى ذلك وارتحل من برج الطير وقصد رأس العين ورتب آلة الحصار وترك في المدينة عشرة آلاف فارس مع مرتودس وكان من الفرسان المشهورة وهو متزوج بابنة الملك شهرياض فلما رتب أمره رحل إلى مرج رغبان.
حدثنا أبو يعلى عن طاهر المطوعي عن أبي طالب بن مليحة عن وهبان بن بشر بن هزارد قال قرأت الفتوح من أوله إلى آخره بجامع الرصافة على أحمد بن عامر الحوفي وأحمد قرأ على سعدان بن صاحب وابن صاحب قرأ على يحيى بن سعيد المروزي ويحيى قرأ على أبي عبد الله ابن محمد الواقدي وهو يومئذ قاضي الجانب الغربي قال لما نزل الملك شهرياض على مرج رغبان بجيوشه ارتحل عياض في اثره بعدما كتب.
بخبر الوقعة وفتح زبا وزلوبيا والخابور إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله الدعاء وبعث الكتاب والخمس الخمس وما أخذه من القلاع وأرسله مع حبيب بن صهبان وضم إليه مائة فارس فاسر إلى المدينة وأما عياض بن غنم ومن معه من عساكر المسلمين فإنهم تبعوا شهرياض إلى أن نزلوا مع العدو بمرج رغبان قال فنزلوا في مقابلتهم قال: واتصلت الاخبار بارسوس بن جارس صاحب ماردين بأسر عمودا فأحضر ابنته إليه وقال لها أي بنية اعلمي أن بعلك قد أسر وهو ابن الملك ونحن نخاف العار بأن يقال مارية بنت أرسوس ما كانت موافقة على ابن الملك وإنه لما تزوج بها اسر وقد حرت في أمري فقالت له مارية: يا أبت وحق المسيح لقد قلت الحق وتكلمت بالصدق فما عندك من الرأي قال لها وما عندك أنت قالت أريد أن أتنكر وأدخل إلى عسكر المسلمين وآتي أميرهم وأقول له إني قد أتيت أسلم على يديك لرؤيا رأيتها وهو أني رأيت المسيح في النوم ومعه الحواريون وكأني أشكو للمسيح ما نزل بنا منكم وكأنه يقول لي اسلمي فإن القوم على الحق وقد جئتكم لأسلم وأمللكم قلعة أبي وتتركوني أنا في قلعتي فإذا قال أميرهم فكيف تملكيننا قلعة أبيك وهي أمنع الحصون وأحصن القلاع فاقول له يرسل معي من فرسانهم مائة فارس من صناديدهم وأدخلهم في قلعتي وأجعلهم في صناديق وأرسلهم إلى قلعة أبي واسير معهم إلى والى قلعة أبي وأقول هذه الصناديق فيها أموالي واريد أن أجعلها في خزانة أبي فإذا حصل القوم عندي رميتهم في المطأمير واقول لهم لست أدعكم حتى ترسلوا إلى أميركم يرسل الي بعلي فقال لها أبوها إنك تريدين أن تلقي نفسك في الهلاك وإن العرب لا تتم عليهم الحيل لانهم هم أربابها قالت وإن طلبوا مني رهائن فإذا وقع الفداء باصحابهم طلبت الرهائن مع بعلي فقال لها دبري ما تريدين فلعل أن يكون فيه المصلحة قال فنزلت في الليل وقصدت مرج رغبان ومعها خادم وأربعة مماليك يسوقون بغلتها وعليها من الهدايا والتحف والطرف قال فلما وصلت إلى تنيس التقت بغلمان أبيها وحاجبه ومعهم أربعون أسيرا من العرب منهم عبد الله بن غسان وأمثاله قال: وكان السبب في ذلك أن عياض بن غنم لما ارتحل يطلب راس العين مع هؤلاء السادة الذين مع عبد الله بن غسان بحسب العادة في سيرهم إلى حران وسروج والرها لياتوا بالطعام والميرة للعسكر فساروا فلما توسطوا البلاد لقيهم السائس ابن نقولا وجرجيس بن شمعون وقد أقبل بميرة عظيمة لعسكر الملك شهرياض ومعهم ثلاثة آلاف غائصون في الحديد فلما رأوا قلة المسلمين طمعوا فيهم فاقبلوا وأطبقوا عليهم من كل جانب فأخذوهم قبضا بالكف وأحضروهم بين يدي الملك شهرياض فهم بقتلهم فقال له وزيره: أيها الملك ليس هذا براي لأن ولدك عمودا في يد العدو ورودس صاحب حران وتوتا صاحب الحجاب فإن أنت قتلتهم قتلوا أصحابك وولدك والصواب إنك ترسلهم إلى قلعة ماردين يعني قلعة المرأة وتسلمهم إلى.
الملكة مارية ويكونون عندها فإذا طلبتهم العرب تقول لهم أنهم بقلعة ماردين وليس هم في أسرنا ونحن لا نبالي بمن هم عندهم فيكون أعظم لحرمتك وهيبتك فاستصوب رايه وأرسلهم إلى مارية مع صاحب أبيها فالتقت بهم على تنيس كما ذكرنا فأمرت الحاجب أن يوصلها إلى قلعتها ففعل ثم إنها سارت حتى أتت إلى عسكر المسلمين في حندس الليل فكان يطوف في العسكر سهل بن عدي ونجيبه بن سعد في جماعة فلما رأوها أتوا اليها وسألوها عن حالها فقالت أريد أميركم فأتوا بها إلى عياض بن غنم.
فلما وقفت بين يديه قدمت له الهدايا وهمت أن تسجد له فنهاها وقال أن الله قد اعزنا بالإسلام وانقذنا من الضلال بمحمد صلى الله عليه وسلم فازال عن قلوبنا الغل والحسد واتباع الهوى وشرفنا بالتحية ونزهنا أن يسجد بعضنا لبعض وما يرغب في ذلك إلا الجبابرة من ملوك الأرض وإن الله يقول العظمة ردائي والكبرياء ازاري فمن نازعني فيهما قصمته ولا ابالي ومارية تفهم ما يقوله فلما انتهى قالت أيها الملك أن الله بهذا نصركم علينا قال لها فمن أنت قالت أنا مارية بنت أرسوس بن جارس صاحب ماردين وإن الذي بايديكم اسيرا هو بعلي ولا صبر عليه وهو عمودا فلما كثرت فكرتي فيه واشتد شوقي إليه رأيت المسيح في نومي والحواريين وقد أمرني باتباعكم وقد أتيت اليكم بهذه النية بأن اتبع دينكم وأسلم لكم القلعتين فلعتي وقلعة أبي على شرط أن تبقوني في قلعتي ولا تغيروا من أمري شيئا وأقيم أنا وبعلي فيها وأكون الحاكمة على أهل بلدي قال: فتبسم عياض من قولها وقال: يا مارية أما إنك ما أتيت الينا إلا لتنصبين علينا بسبب بعلك وكيف يكون هذا بعلك وهو ولدك وحديثه كذا وكذا قال فلما سمعت الجارية الحديث من عياض بن غنم امتقع لونها وتغير كونها وقالت له: يا سيدي ومن اين لك هذا وإن عمودا ولدي وهو ولد الملك شهرياض قال لها رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة وحدثني بذلك كله فقالت إني اريد أن أراه فإن كان ولدي فإن لي فيه علامة فأمر عياض بن غنم بحضوره فأتى به سعيد بن زيد فلما نظرت إليه ووقعت عينها عليه ورأت الشامة التي على خده وزيادة اذنه ورأت عصابتها وما فيها من الجواهر صاحت صيحة عظيمة أذهلت من حضر وترامت عليه والتزمته وقالت ولدي لا شك فيه وقد صدق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله قال: ونظر الغلام إلى أمه فتحرك الدم في بدنه فغشي عليه من البكاء فلما أفاق بكى بكاء شديدا هو وأمه فلما سكتا قال لهما عياض قد وجب عليكما أن توحدا الله شكرا على ما أنعم عليكما فإنه يزيد الشاكرين ورحمته قريب من المحسنين ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ليس له حد ولا قبل ولا بعد هو الاول وعليه المعول وهو الآخر وله المفاخر قال فلما سمع عمودا ما قاله عياض قال: والله ما في قولك زور ولا محال وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله قال:
فلما نظرت مارية أمه إليه وقد أسلم وافقته في الحال وعرجت عن طريق المحال وشهدت لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة فقال عياض بن غنم ومن حضر من المسلمين تقبل الله منكما إسلامكما ووفقكما واعلما أن الله قد طهر قلوبكما وغفر ذنوبكما فاستأنفا العمل ولكن كيف السبيل إلى هذه القلعة المنيعة.
فقالت ابشر فإن أصحابكم اسروا عند حران وقد وجههم شهرياض الي لأفدي بهم منكم هذا الغلام عمودا وقد سيرتهم إلى قلعتي وها أنا أسير إليهم واحصلهم في قلعة أبي وأفك اسرهم وأملك بهم القلعة أن شاء الله تعالى فقال لها عياض لقد وفقك الله في كل حال وصرف وجهك عن المحال ولقد صعب علي اسر أصحابي ولكن قد طاب قلبي بما قلت من الصواب فدعي ولدك عندنا وارجعي إلى أبيك فإذا رأيتيه فقولي له قد تمت حيلتك علينا فإذا حصلت عند اصحابنا فافعلي ما فيه الصلاح فقالت السمع والطاعة ثم ودعت زوجها أي ولدها والمسلمين وسارت من ليلتها إلى ماردين فوجدت اباها قد نزل إلى خدمة الملك إلى مرج رغبان ووجدت الحاجب الذي كانت معه الأسرى قد أوصلهم إلى قلعة أبيها وتركهم تحت قبضته وكان هذا الحاجب من عقلاء الناس ممن قرأ التوراة والانجيل والزبور وكان راهبا في مبدأ أمره وكانت له صومعة على عمود رخام قائم طويل وصنع على رأس العمود قائمة عظيمة وعقد عليها قبة وكان يصعد اليها بسلم ابريسم معلق بأعلى القبة وله سكتان في الأرض فإذا حصل في القبة انتزع السكتين وأخذ السلم إليه فشاع خبره ونما ذكره بالعبادة والرهبانية فلما توجه إلى بلادهم وفتحت الخابور صلحا اجتمع حول ذلك العمود أمم وقالوا: يا ابانا ما الذي تشير به علينا فإن العرب قد توجهت الينا وقد فتحوا الشام واكثر العراق وحصلوا في أرضنا فما الذي نصنع قال فاطلع عليهم من القبة وقال.
يا معاشر النصرانية ما زالت النعم عليكم ظاهرة وباطنة مطمئنين في البلاد وقد ذلت لكم رقاب العباد نصركم المسيح على سائر الامم ورد عنكم سائر الغمم ومهد لكم الأرض في الطول والعرض إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتردون المظالم إلى أهلها وتحكمون بالحق وتتبعون شريعتكم وتزجرون أنفسكم عن أكل الحرام واتباع الزنا فلما غيرتم غير بكم وفي انجيل يحيى وانجيل مرقص مكتوب من اتبع سنن الحق وعود لسانه طريق الصدق وفعل بأوامر ربه وألزم نفسه بما يعنيه ولم يبخس الناس اشياءهم وداوم على صلاته وعمل بأوامر شريعته ولم يتبع هواه بلغه زهده ما تمناه ومن جار وبغى وظلم وتجبر وحاد عن طريق الحق كان فناؤه عاجلا ولنفسه بيده قاتلا وخربت داره ونفد ادخاره وكان الخوف شعاره والجحيم دثاره وفي التوراة.
مكتوب لا تظملوا انه لا يحب الظالمين وقد بلغني أن في القرآن مكتوبا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] فأصلحوا ذات بينكم واجعلوا تقوى الله نصب عيونكم وقاتلوا عن أهلكم وحريمكم واتبعوا شريعة نبيكم وأخرجوا إلى جهاد عدوكم فإن الجهاد اليوم أفضل من جميع العبادات المأمور بها فإنه من جاهد أعداه كانت الجنة مأواه إلا وإني نازل إلى صومعتي هذه فلا يتخلف أحد منكم ثم إنه ارسل سلمه ونزل فلما رأوه وقد نزل اقبلوا عليه بالسلام وقبلوا يديه ورجليه فاتى بهم إلى كنيسة دمائر وكنيسة باذا فصلى بهم ودعا ثم أمرهم بالجهاد وقصد دير ملوخ هو قبله من دار عبديدان الروم وكان فيه راهب فناداه باسمه و قال له: ليس هذا وقت العبادة فأنزله من صومعته وسار إلى نصيبين فخرج إلى لقائه الملك قرقياقس فترجل إليه وصافحه وسار بين يديه إلى البيعة وزار دير يعقوب وهرع إليه أهل نصيبين فوعظهم وأمرهم بالجهاد وقصدر راس العين وبلغ خبره لأرسوس بن جارس فلما أسر عبد الله بن غسان ومن معه بعثهم مع الراهب ميتا بن عبد المسيح ولقيته مارية في الطريق كما ذكرنا وأمرته بأن يسير بهم إلى قلعتها فلما ابعد عنها لقي أباها في عسكره فسأله عما هو فيه فأخبره أن الملك شهرياض ارسله بهؤلاء الأسرى.
فقال له: من أنت قال ميتا بن عبد المسيح فلما سمع ارسوس قوله فرح به وقال: وحق ديني لي زمان ارقبك ولست أستغني عن رايك ولكن انطلق بهؤلاء إلى قلعتي وتول أنت حفظهم حتى يأتيك أمري وخذ خاتمي هذا فانطلق وأوصلهم إلى القلعة ووضعهم في الاعتقال: وتولى حفظهم بنفسه وجعل ينظر إلى حسن عبادتهم وجودة تلاوتهم فأقبل عليهم وقال لهم: أخبروني كم فرض عليكم في اليوم والليلة فقال عبد الله بن غسان خمس صلوات فمن أتى بها بركوعها وسجودها على الكمال لا يرد على النار قال الله تعالى في كتابه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «الصلاة صلة ما بين العبد وربه فيها اجابة الدعاء وقبول الاعمال وبركة الرزق وراحة الابدان وستر بينه وبين النار وثقل في الميزان وجواز على الصراط ومفتاح الجنة» وهذه الصلاة فرضت على جميع الامم فلم يؤدوها وقصروا فيها حتى فرضها الله علينا فأديناها والصلاة جامعة لجميع الطاعات فمن جملتها الجهاد وإن المصلي مجاهد عدوين نفسه والشيطان وفي الصلاة الصوم فإن المصلي لا يأكل ولا يشرب وزادت على الصيام التمسك بمناجاة ربه وفي الصلاة الحج وهو القصد إلى بيت الله الحرام والمصلي قصد رب البيت وزاد على الحج بقربه من ملكوت ربه قال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «جميع المفترضات افترضها الله في الأرض إلا الصلاة فإن الله افترضها في السماء وأنا بين يديه» وقال: يا محمد هذه الصلاة افترضتها على جميع الانبياء وأما أمتك فقد سلمتها إليهم وجعلت جميع الطاعات كلها فيها.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل وقال لي: يا محمد قم فاصنع مثل ما أصنع فتقدم وصلى ركعتين وقال لي: يا محمد هذه صلاة الصبح وهي أول صلاة صلاها ولذلك سماها الاولى ثم صلى به مرة أخرى إذ صار ظل كل شيء مثله و قال له: هذه صلاة الظهر ثم صلى العصر أول وقتها وقال هذه صلاة العصر ثم صلى به مرة أخرى إذ صارت الشمس مصفرة ثم صلى والشمس قد غربت وقال هذه المغرب ثم صلى به عند مغيب الشفق وقال هذه عشاء الأخرى ثم صلى المرة الخامسة والفجر قد طلع وقال هذه صلاة الصبح وقال نبينا فرضت الصلاة مثنى مثنى فزيدت في الحضر وتركت صلاة السفر على حالها» فقال ميتا لعبد الله بن غسان يا أخا العرب فما معنى رفع أيديكم في الصلاة للتكبير فقال إلا ترى أن الغريق لما يجد شيئا يتعلق به لينجو من الغرق وكذلك العبد في الصلاة فهو غريق في بحار الخطايا والمعصية يرفع يديه ويقول يا رباه خد بيدي فإني غريق في بحار الخطايا والمعصية هارب منك اليك وأما معنى القراءة في الصلاة فهو عتاب بين العبد وربه وأما الركوع فمعناه أنا عبدك وقد مددت يميني اليك وأما الرفع من الركوع وقول العبد ربنا لك الحمد يعني على عتق رقبتي من الذنوب يقول الله تعالى بقول العبد أنا عبدك قد أعتقتك من الذنوب وأما معنى السجدة الاولى ووضع الجبهة على الأرض كأنه يقول منها خلقتني والرفع منها أخرجتني والسجدة الثانية وفيها تعيدني والرفعة الأخرى ومنها تخرجني تارة أخرى وأما معنى السلام على اليمين اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني كتابي بشمالي ولما حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته قال: «من حافظ على الصلوات الخمس كانت كمثل نهر عذب يغتسل فيه أحدكم كل يوم خمس مرات فهل يبقى من درنه شيء فكذلك الصلوات الخمس لا تبقى على العبد خطيئة».
فلما سمع الراهب ميتا كلام عبد الله قال أشهد أنكم على الحق وإن دينكم حق وقولكم صدق ثم أسلم وبعده بقليل وصلت مارية لما علمت أن الصحابة في قلعة أبيها فلما صارت في أعلى القلعة ونزلت في دار أبيها باتت على قلق بسبب الصحابة فلما كان قد دخل عليها ميتا وسلم عليها فقالت له: يا ميتا مال الذي صنعت بالعرب قال استوثقت منهم حتى يرى الملك فيهم رأيه فقالت والله ما قصرت ولكن اجعلهم معنا في البيعة حتى يروا حسن عبادتنا وقراءتنا الانجيل فلعلهم أن يدخلوا في ديننا فقال السمع والطاعة ثم إنه نقلهم إلى البيعة فلما كان الليل أتت البيعة فرأت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في القيود ولم يكن هناك ميتا فقالت له: يا ميتا أنت من علماء ديننا وما يخفى عليك الحق اطلعت على دين هؤلاء القوم فالحق معنا أو معهم فقال: أيتها الملكة ليس على الحق من غطاء الحق مع هؤلاء العرب والذي قد جئتني به فانجزيه من قبل أن تطلبيه فلا تقدري عليه وقد رأيت بيان صدق القوم وصدق دينهم حتى جمع الله.
بينك وبين ولدك عمودا قال فلما سمعت كلام ميتا بقيت باهتة فيه فقالت له: ومن أين لك هذا قال رايته في نومي وحدثها بما كان كأنه كان حاضرا فسجدت شكرا لله فلما رفعت راسها وثبت قائمة وحلتهم من وثاقهم ودفعت إليهم السلاح وأمرت ميتا أن يكرمهم وقالت له: أنا ادبر كيف نقبض على الوالي ونملك القلعة ثم إنها سارت إلى قلعتها وولت عليها من هي به مطمئنة الفكرة وأخرجت منها من تخشى جانبه واستوثقت منها وأما ميتا فإنه جعل الصحابة في البيعة في بيت المذبح وقال لهم: إذا كانت غداة غد وأتى الوالي وأصحابه إلى الصلاة فاخرجوا عليهم فإن الله ينصركم عليهم.
قال الراوي: فلما كان الصبح أقبل الوالي وخواصه ليصلوا وضربت النواقيس وأتى القس ليفتح باب المذبح ويقرب القربان 1 فلما فتح الباب خرج عبد الله بن غسان وأصحابه الاربعون وكبروا تكبيرة واحدة ارتعدت لها القلعة وما فيها وبذلوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم واحتووا على القلعة وما فيها وسمع أهل الربض التكبير فعلموا أنهم قد ملكوا القلعة فولوا على وجوههم هاربين قال فلما سمعت مارية التكبير والصياح علمت أن قلعة أبيها قد ملكت فغلقت أبواب قلعتها وأرسلت من تثق به إلى عياض بن غنم وأخبرته بما جرى فشكر الله على ذلك ووصل أكثر المنهزمين إلى الملك شهرياض وأعلموه أن قلعة ماردين ملكها العرب فصعب عليه وأيقن بتلف ملكه ووقع الرعب في قلبه وقلوب عسكره وبلغ أرسوس الخبر أن قلعته ملكت وخزائنه أخذت فكتم أمره إلى الليل وأخذ من يثق به وصار يطلب حران فوصل اليها في الليلة الثانية فلما قرب من الباب قام إليهم الحرس فصاح بهم أصحابه وقالوا: افتحوا هذا البطريق رودس يعنون بطريقهم الاول وقد تخلص من العرب ففتحوا لهم فدخل أرسوس وملك المدينة وفشا الخبر في تلك البلاد أن أرسوس صاحب ماردين قد ملك حران بالحيلة فقصد إليه جميع من يطلب الديوان فصار عنده جيش عظيم.