فصل: ذكر فتح قرقيسيا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر فتح قرقيسيا:

ولما ملك عبد الله بن غسان القلعة الغربية حين سلمها إليه شرجون بأمر يوقنا وترك يوقنا العرب وهرب إلى قرقيسيا دلهم الراهب شرجون على الطريق نحو السرب إلى القلعة الشرقية فملكوها واحتووا على ما كان لأشفكياص فيها وبعثوا إلى عياض بن غنم وأرسلوا يعلمونه في السر بما صنع يوقنا فدعا له المسلمون وشكروه وارسل يقول لعبد الله بن غسان ولسهل بن عدي احتفظا على ما في القلعة الثانية ولا تأخذا منها قيمة الدرهم الواحد حتى يسلمه يوقنا لبنته واتركا في القلعة من يحفظها واطلبا قرقيسيا وأنزلا عليها والسلام قال فلما وصل الكتاب إليهما فعلا ما أمرهما به عياض ووليا على القلعة الغربية الأحوص بن عامر ومعه مائة فارس وعلى الشرقية زياد بن الاسود في مائة فارس ومضى عبد الله بن سهل إلى قرقيسيا فحال بينهم وبينها الفرات فدلهم بعض السكان تلك الأرض على المخاضة فعبروا في الليل واصبحوا على أرض واحدة مع أعداء الله وأرسلوا إلى ماجن والمحولة والبديل والصور وبعثوا إليهم الامان وأقروهم في منازلهم وقالوا: أن كانت لنا فقد أحسنا فيكم الصنيع وإن كانت علينا انصرفنا عنكم مشكورين على عدلنا فيكم قال فاجاب القوم إلى ذلك وباعوا عليهم الميرة.
قال: حدثنا هلال بن عاصم عن يحيى بن جبير عن سوار بن زيد قال لما بعث عبد الله بن غسان إلى أهل تلك القرى وطيب قلوبهم بعث بعد أيام سهل بن اساف التميمي وكان من الصحابة الاول ومعه مائة من المسلمين ليأتوهم بالطعام والعلوفة من ناحية ماسكين فسار سهل ومن معه فلما وصلوا إلى السمسانية شن عليها الغارة واستاق أموالها فخرج عليه نوفل بن مازن في خمسمائة فارس واستخلصوا منهم ما أخذوه ووقع بينهم القتال فحملوا بأسرار صافية ونيات سامية وأفعال نامية وقلوب تنزهت بالإيمان وألسنة تنطق بذكر الرحمن ولم يزالوا في قتال إلى أن قتل من المسلمين ثلاثون وانهزم سبعة وأربعون واسر سبعة وعشرون من جملتهم سهل بن اساف بن عدى وحدثوا أصحابهم بما كان من المتنصرة ومنهم فعظم ذلك عليهم.
قال الراوي: حدثني نوفل بن عامر عن سالف بن عاصم عن سالم عن الدوسي قال كنت مع سهل بن اساف حين قدمنا على السمسانية وخرج علينا نوفل بن مازن فقال: والله لقد قاتلنا قتالا شديدا ما شهدنا مثله حتى كان من أمر الهزيمة ما كان قال سالم بن عبد الله لما أسرهم نوفل بن مازن شدهم في الحبال وقرن بعضهم إلى بعض ورجلهم عن خيولهم وسار بهم يطلب راس العين فأخبروه أن الملك شهرياض على مرج الطير من جانب النقب فقصد إليه ومعه من بني عمه أربعون رجلا وساقوا أصحاب رسول الله إلى أن أوقفوهم بين يديه وحدثوه بأمرهم فأمر بضرب رقابهم وكان آخر من بقي أميرهم سهل بن أساف وكان أحسن الرجال وجها قال فشفع فيه بعض البطارقة فوهبه له وكان ذلك البطريق اسمه توتا بن لورك وهو صاحب كفرتوتا فأخذه وأتى به إلى قصره في كفرتوتا قال فنظرت إليه ابنته فسالت اباها عنه فقال: أي بنية أن المسيح قد طرح رحمة هذا الشاب في قلبي فسألت الملك فيه فوهبه لي فخذيه اليك فأخذته وأدخلته في بستان قال فلما كان بعض الايام دخلت البستان فنظرت إلى سهل بن اساف وهو يقرأ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] فلما سمعت قراءته أخذت بمجامع قلبها فقالت ما افصح هذا الكلام وأطيبه وألينه للافهام فقال لها هذا كلام الملك العلام الذي أنزله على سيد الانام فقالت الجارية أما محمد فهو نبيكم لا محالة فيه فمن هؤلاء الذين قال فيهم: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} قال هو صاحبه ووزيره أبو بكر الصديق رضي الله عنه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} هو صاحب هذه الفتوح ومجهز هذه الجيوش عمر بن الخطاب: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} هو كاتبه وصهره عثمان بن عفان: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} هو أخوه ابن عمه وصاحب سيفه علي بن أبي طالب فقالت له الجارية: وكان اسمها ابريتا وكانت تكتب بقلم التوراة والانجيل وتتكلم بكلام العرب وكثيرا ما كانت تسأل علماء دينهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعطيها أحد منهم خبرا حتى وقع بيدها سهل بن أساف فقالت من هؤلاء الذين ذكرت قال هم الذين قالوا: وصدقوا وقاتلوا فحققوا وركبوا نجب السوابق فوفقوا وساروا في بادية الطلب فلم يرفقوا فحققوا وركبوا نجب السوابق فوقفوا وساروا في بادية الطلب فلم يرفقوا وكلما لاح لهم علم الافاضل تشوقوا ونودوا في سرائرهم رجال صدقوا ثم أنشد يقول.
رجال من الاحباب تاهت نفوسهم ** ينادونه خوفا ويدعونه قصدا

وقاموا بليل والظلام مغلس ** إلى منزل الاحباب فاستعملوا الكدا

يحثون حث الشوق نحو مليكهم ** وقصدهم الفردوس كي يرزقوا الخلدا

أولئك قوم في العبادة أخصلوا ** فتاهوا به شوقا وماتوا به وجدا

فقالت له الجارية: لقد سمعت من نيسا راهب دير قنا أن الله ينشر دعوه نبيكم في المشرق والمغرب ويملك المشرق والمغرب وأنهم يفضلونه على الآباء والامهات والاخوة والاخوات وأنهم بعد موته يسيرون إليه وإذ ذكر يكثرون الصلاة عليه فقال لها سهل بن اساف أما علمت أنه كان في حياته يدعو لهم ويستغفر لهم ولمن دخل في دينه.
وأقر به ولقد كانت زوجته عائشة رضي الله عنها تقول كانت ليلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مضى الثلث الاول منها والفلك يدور بالنجوم والسماء تزهو بالكواكب والمردة تحرق بالشهب الثواقب وسرادق الله قد مد جناحه وأحال الظلام بادلهامه فبينما أنا في وادي الوتين ساكنة وبجانبي افضل مرسل وأكرم من ابتهل وتوسل وإذا به قد قبضني وبكلامه الشريف ايقظني وهو يقول ايتها العين المتكحلة بعين السبات الغافلة عن موارد الهبات هبي من منامك واعملي ليوم حمامك فقدم قام أولو الالباب ومرغوا خدودهم على الاعتاب وفي التراب قالت فقمت معه للخدمة ووقفنا نشفع للأمة إلى أن برق بارق الصباح وانفلق فلق الأصباح فقال هلمي للصلاة والاستغفار وطلب العفو من العزيز الفغار قالت فوافقته على ما أراد وبلغنا القصد والمراد فلما سكت من تسبيحه وفاح طيب ريحه رايته وهو يتنفس ويقرع بسبابته جوهر سنه فقلت يا سيد الوجود وطيب الآباء والجدود أن العرب لا تقرع سنها إلا لأمر مهم أو لشأن ملم قال تذكرت حال العصاة من أمتي والمخلصين في محبتي وذكرت قوله تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] فقلت يا رسول الله أما أنزل عليك قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] فوالله ليغفرن لك ولآمتك لقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] أنت الذي خلقت السموات والأرضين والعرش والكرسي من أنوارك وأنت الذي ربط براق القرب ببابك أنت الذي اخترقت معالم الملكوت وحملت إلى حضرة القرب والجبروت وأنت الذي أوتيت ليلة القدر وأنت صاحب البطحاء والحرم ولانت لك الاحجار وسلمت عليك الاشجار وانشق لك القمر ليلة الابدار وأنزل عليك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} أنت صاحب عرفات ومنى والمخصوص بالشكر والثنا وسوف يبلغك الله من أمتك المنى أما وعدك الله المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود والكرم والجود وسرادق السعود على أمتك ممدود وسحاب التوفيق عليهم يجود ولواء اصحابك بجواهر قبولك منضود وعليه مرقوم عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فكيف تخاف على أمتك نزول البأس وقد فضلوا على سائر الناس بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] يا سيدي أنت تعلم أن أباك آدم تشفع بك فتاب الله عليه ونوح سأل بك فنجاه الله من الغرق وإبراهيم مع علو قدره بك انجاه الله من النار والحرق وموسى مع تقربه ومكانته بك سأل ربه أن يشرح صدره وييسر أمره.
قال الراوي: وما ذكر سهل للجارية هذه المناقب إلا لأن ترجع إلى دين الإسلام قال فلما سمعت كلامه قالت فما جزاء من يدخل في دينه ويقول بقوله فقال يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وتمحى عنه سيئاته ويكون جزاؤه الرضوان في الجنان ثم قرأ قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
[النساء:110] فلما سمعت الجارية ما تكلم به سهل وقع بقلبها وصغت إليه بلبها وقالت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله ففرح سهل بإسلامها فقالت له: أكتم أمرك إلى الليل حتى أخلصك وأسير معك إلى عسكر الإسلام.
قال الراوي: حدثنا صاعد بن عدي النميري عن أبيه انه سمعه وهو يحدث الناس بالمدينة وقد أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأموال رأس العين وخزائن الملك شهرياض قال: وإن الجارية مضت واستدعت بجواريها وأخذت من مال أبيها ألف دينار فلما جن الليل فتحت باب السر بعدما تجسست فرأت كل من في قصر أبيها نياما فأتت إلى سهل وحلته من وثاقه وقالت له: قم على اسم الله وبركة نبيه فقام سهل بن أساف إلى الباب وأعطته لأمة حرب ولبست هي مثلها وخرجا من الباب وإذا هما بجوادين فركبا وخرجا وسارا مقدار فرسخين عن كفرتوتا وإذا هم بحس الخيل وراءهم فقالت أن كانوا من الروم فعلى مخاطبتهم وإن كانوا من العرب المتنصرة فعليك مخاطبتهم قال فوقفوا غير كثير وإذا بالقوم عدتهم ثلاثة وعشرون فارسا وعليهم ثياب خضر وهم على خيول شهب قال فتأملهم سهل وذا هم أصحابه الذين قتلوا بحضرة الملك قال فدنا منهم سهل وسلم عليهم وقال سبحان الله ألم أشاهد قتلكم قالوا: نعم أما علمت أن الشهداء أحياء لا يموتون وإنما هي نقلة من دار إلى دار وإن الله قد بعث بأرواح الشهداء في هذه الليلة لتزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تلك الليلة ليلة النصف من شعبان فقال لهم: إني أريد المسير معكم وفي صحبتكم قالوا: إنك لا تقدر على ذلك وقد بقي من عمرك احدى وأربعون ليلة وتلحق بنا وأما هذه الجارية فقد أعد الله لها في الجنة ما أعد لأوليائه وقد بنى لها قصرا من الجوهر والياقوت الأحمر على شاطىء نهر الكوثر ستوره معلقة وبالانوار مرونقة وقبابه مزوقة وأسرته موصولة وفرشه مرفوعة واباريقه مصفوفة وزواياه محفوفة وحلله منسوجة وحواشيه بحسن الوفاء مسروجه على أبوابه مكتوب بقلم السر المكنون: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فلما سمعت الجارية قولهم قالت فبم استوجبت هذا النعيم قالوا: بتوحيدك الرب العظيم وتصديقك النبي الكريم قال فصاحت صيحة فإذا هي ميتة قال سهل فنزلت فدفنتها وغاب الشهداء عني وسرت إلى المسلمين فحدثت عبد الله بن غسان وسهل بن عدى بذلك فازداد المسلمون يقينا بذلك وعاش سهل بعدها أحدا وأربعين يوما ومات.
حدثنا صفوان ابن عامر عن خويلد بن ماجد عن عبد الرحمن بن النعمان عمن حدثه عن فتوح الشام وأرض ربيعة الفرس قال لما نزل عسكر المسلمين على قرقيسيا.
مع عبد الله وسهل قال خندق المسلمون على أنفسهم خندقا وتركوا لهم موضعا يدخلون منه ويخرجون قال: واتصلت الأخبار بعياض بن غنم وهو بجانب الرقة وهو يتروى فيمن يبدأ بحربه بشهرياض وجنوده أو بحران والرها فقال له خالد: بن الوليد رضي الله عنه أتترك جيشا قد تهيأ واحتفل لقتالك وتمضي لسواه والرأي أن تلقي هذا العدو فإذا أنت هزمته وأوقعت الهيبة هناك فاقصد ما شئت من البلاد فإنها تفتح أن شاء الله تعالى قال فعول عياض على ذلك وإذا قد أتته جواسيسه وأخبروه أنه قد تهيأ لحربكم الملك شهرياض ونوفل وطرباطس صاحب دارا والمؤزر وصاحب جملين وأرمانوس صاحب تل سماوي وأرجو وصاحب البارعية وشهرياض صاحب ماردين ورودس صاحب حران والرها وقد صارت جريدتهم مائتي ألف وقد ضمنوا للملك لقاءكم وقالوا: لا نلقي العدو إلا بأهالينا وأولادنا وأموالنا وحريمنا حتى لا ينهزم منا أحد وقد تقدم اليكم الأرمن وبعدهم الروم وهم دون الفرات فلما سمع عياض ذلك بعث إليهم الوليد بن عقبة ووصاه بما اراد قال فقدم على بني تغلب وجمع أمراءهم وهم نوفل بن مازن وعاصم والاشجع وميسرة وحزام وقارب وقال: يا فتيان العرب اعلموا أن من نظر في العواقب أمن من المعاطب وليس أنتم أحد سننا ولا اقوى جنانا ولا أجرا في الجولان ولا أوسع ميدانا من بني غسان وليس فيكم من يشبه جبلة بن الأيهم وكان في ستين ألفا وقد نصرنا الله عليهم وقتلنا ساداتها والصواب أن ترجعوا الينا وتكونوا من حزبنا قال فأجابوه بأجمعهم إلا طائفة اياد الشمطاء فإنهم ارتحلوا إلى بلاد الروم ووصل عرب بني تغلب إلى جيش عياض بن غنم مسلمهم وكافرهم فرحب بهم وطيب قلوبهم وقال لهم: يا معاشر العرب أن الله سبحانه وتعالى قد أراد بكم خيرا بوصولكم الينا ونزوعكم عن عبدة الصليب وقد اراكم الله اعزاز دينه وشرف نبيه وقد وعدنا ووعده الحق بملك كسرى وقيصر وأخذ كنوزهما وما كان ينطق عن الهوى وقال الله في حقنا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الانبياء:105] قال فأسلم كافرهم وبقوا جميعهم مسلمين.
قال الراوي: اخبرنا سيف عن خالد بن سعيد قال لما علم عياض بهروب اياد الشمطاء إلى بلاد الروم كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فأرسل عمر رضي الله عنه إلى هرقل وولده قسطنطين يقول لهم أن لم تصرفوهم عن أرضكم لأفنين كل نصراني عندنا.
قال الراوي: فلما وصلت رسالة عمر إلى هرقل وولده أنفذ بهم إليه قال: وعزم عياض على لقاء الملك شهرياض وأما ما كان من شهرياض صاحب قرقيسيا فإنه جمع بطارقته وقال لهم: أعلموا أنه قد بلغني عمن تقدم من الملوك انهم كانوا يجيشون.
الجيوش ولا يستغنون عن الحيل وأنا أريد في غداة غد أن أخرج إلى لقاء العرب فإذا اصطفت الصفوف فرجلوني عن جوادي واشهروا علي سلاحكم كأنكم تريدون قتلي فاقول لكم أنا معتذر إنما أردت أن أجرب خبر حميتكم لدينكم وظننت انه قد أخذكم الخوف من هؤلاء فإذا سمعتم مني ذلك فارجعوني إلى اجلالي واعظامي ثم ناوشوهم الحرب فأهرب أنا إليهم وأقول لهم إني أردت أن اسلمكم البلد فهاش القوم علي كما رأيتم وهموا بقتلي وقد جئت اليكم راغبا في صحبتكم فإذا أمنوني وغفلوا عني قتلت أميرهم في الليل وأنا أعلم أن القوم بعده يهون علي أمرهم ثم أعول على انهزامهم فقال له وزيره الارمني: وكيف تسمح بنفسك وتلقيها في اضيق المسالك وإن أنت فعلت ذلك لا نأمن عليك من العرب ويعتبنا خالك يقول لنا كيف تركتموه يمضي إلى العرب فقال عبد الله يوقنا لقد صدق السيد في قوله وكيف نتركك تمضي إليهم وأنا أدبر لك مع هؤلاء القوم تدبيرا يكون أقرب من هذا وأهون.
فقال شهرياض والوزير الارمني وما هذا التدبير أيها الملك قال أن نخرج غدا بأجمعنا ونلقاهم ونريهم الجد من أنفسنا ونقاتل بحسب الطاقة ثم ننهزم إلى المدينة ونستوثق من أبوابها ونصعد على السور فربما قربوا منا فلا نقاتل فإذا فعلنا ذلك طمعت العرب فينا ودنوا منا واعلموا أن في عسكرهم جماعة من الروم ممن صبأ إلى دينهم فربما قربوا منا فإذا ارادوا ذلك كتبنا إليهم نطلب قلوبهم ونرسل رسولا في طلب الصلح ونقول ارسلوا الينا عشرة من عقلائكم حتى نرى ما تريدون منا ولعلنا نعقد معكم صلحا فإذا فعلوا ذلك وحصلوا عندنا قبضنا عليهم ونشهر سيوفنا عليهم ونقول لهم أما أن ترحلوا عنا والا ضربنا رقابهم فإن القوم إذا رأوا الجد منا طلبوا صلحنا بأصحابهم ورحلوا عنا والعرب إذا قالوا: قولا وفوا به فإن هزموا الملك شهرياض واحتووا على بلاده دخلنا بعدها تحت طاعتهم وارتحلنا عنهم إلى بلاد الروم قال: وإنما أراد يوقنا بهذا الكلام أمرين أحدهماأن يبرأ عندهم من التهمة حتى يطمئنوا إليه والثاني أن يحصل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة في المدينة فيحتال أن يكونوا تحت يده ليثور بهم فيملك بهم المدينة فقال له وزيره الارمني: وإن كان العرب يبعثون الينا صعاليكهم أو موإليهم فنقبض عليهم ونعدهم بالقتل فلا يلتفتون إلى ذلك ويقع الجد منهم في قتالنا ولا يرحلون عنا فكيف تصنع قال فأراهم يوقنا أنه غضب وحول وجهه وقال.
وحق المسيح لقد دخل رعب القوم في قلوبكم ولن تفلحوا بعدها أبدا وحق ما أعتقده لقد قاتلتهم في قلعتي بجلب قتالا سارت به الركبان إلى سائر البلدان مدة سنة كاملة ولولا أن عبدا أسود من عبيدهم أسمه دامس ابو الهول وعشرين معه نصبوا حيلة علي ملكوا قلعتي لما قدروا عليها أبدا وكانوا قد نزلوا علي بجميع عسكرهم وأبطالهم.
فكيف بكم وما نزل عليكم إلا شرذمة يسيرة وبلدكم حصين ليس عليه قتال إلا من موضعين من صوب الجبل ومن الغرب وما لكم عذر ومن أراد رضا المسيح والاجر قاتل عن دينه وصان أهله وحريمه من هؤلاء العرب وإن خفتم أن القوم يرسلون الينا موإليهم أو من لا له عندهم قدر ولا شأن فأنا أعرف الناس بهم وبفرسانهم وأبطالهم وموإليهم وخاصة اصحابهم فأنفذوا مع رسولكم كتابا بأسماء القوم الذين اريد منهم المقداد والنعمان وشرحبيل بن كعب ونوفل وعبد الرحمن بن مالك والاسود قيس وخالد بن جعفر وابن قيس وهمام الحرث ومالك بن نوبة وسلامة بن عامر قال فضحك الوزير الأرمني وقال: وحق ديني أن العرب لا يسمحون بهؤلاء قط إلا أن يطلبوا رهائن منكم فقال يوقنا ما أفشل رايكم وأضعف قلوبكم انفذوا إلى القوم فإن أجابوا كان ببركة السيد المسيح وإن طلبوا رهائن ارسلنا اضعفنا من أهل المدينة ومن أولادهم وألبسناهم افخر الثياب وقلنا هؤلاء أكابرنا من أهل المدينة قال شهرياض وحق القربان ما نفعل إلا ما أمرتنا.
ثم إنه أمر بطارقته وأرباب دولته أن يأمروا الناس بالتأهب للحرب ففعلوا ولبسوا سلاحهم واستعدوا للقتال وأمر سهل بن عدي أصحابه بالركوب فركبت العرب وخرجت من باب الخندق واستقبلوا العدو بهمم عالية وقالوا: اللهم انصرنا عليهم كنصر نبيك يوم الأحزاب وعبوا صفوفهم ثم وعظهم وقال في آخر وعظه ها أنا حامل نحو طاغية الروم وصليبه فاتبعوني فإن فتح الله بقتله أو أخذ صليبه فالقوم لا ثبات لهم فقالوا: أيها الأمير لقد دعوتنا إلى شيء هو أحب الينا فاحمل حتى نحمل قال محمد بن عبد الله فحمل هو ومن معه على عسكر قرقيسيا وكان أمير المسلمين عبد الله ابن غسان وسهل بن عدي فلقد قاتلوا قتالا شديدا وجاهدوا في الله حق جهاده وبذلوا رماحهم وسيوفهم في أعداء الله والتقى عبد الله بن مالك الاشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيه علم انه من ملوكهم فطعنه في صدره فاخرج السنان من ظهره والتقى النعمان بن المنذر بشهرياض وقد طحطح الجموع ولم يعلم النعمان بأنه صاحب البلد بل عرف أنه من الملوك فحمل عليه النعمان وهو يقول هذه الأبيات:
وانا لقوم في الحروب ليوثها ** وتنفر منا عند ذاك أسودها

نحامي عن الدين القويم نصونه ** ونرغم آناف العدا ونذودها

لنا الفخر في كل المواطن دائما ** بأحمدنا الهادي فذاك سعيدها

ملكنا بلاد الشام ثم ملوكها ** إلى أن تبدي بالنكال عديدها

وسوف نقود الخيل جردا سوابقا ** إلى شهرياض الكلب ذاك شديدها

ونملك دارا ثم جملين بعدها ** كذا رأس عين والجيوش نقودها

ونمضي إلى حران ثم سروجهم ** كذا الرها للمسلمين نعيدها

واني أنا النعمان ذاك ابن منذر ** ابيد ليوث الحرب ثم أسودها

ثم أطبق عليه وفاجأه بطعنه فالقاه صريعا فلما نظر جيش قرقيسيا إلى هلاك ملكهم انحرفوا إلى مدينتهم وتحصنوا في بلدتهم وخافت أرمانوسة ودخل الرعب في قلبها ثم إنها قالت للعبد الصالح يوقنا يا عبد المسيح ما بقى لي أحد سواك يسوس ملكنا ويدبر حالنا فقال: أيتها الملكة أنا لك وبين يديك ثم إنها خلعت عليه وعلى اصحابه وقالت اعلموا أن هذه المدينة والمملكة لكم فقال يوقنا يجب علينا أن نقوم بحقها ونقاتل بين يديها ثم إنه رتبهم على الأسوار فدنا المسلمون ورجالهم وهم يرمون بالمقايع فكانت حجارتهم لا تخطىء أبدا وكان المقدم على الرجال والموالي المنذر بن عاصم ولم يكن بالحجاز ولا باليمن قاطبة أرمى منه بالمقاليع وكان من قوة ساعده إذا خرج حجره يجاوز البرج الأعظم فلم يزل يرمي فيه كل يوم فيصيب الرجل والرجلين فسمته العرب برج المنذر وكانوا قد ضايقوا أهل قرقيسيا مضايقة شديدة فقالت ارمانوسة أين ما وعدت به الملك شهرياض من تدبيرك في هؤلاء العرب فقال أنا في هذا الأمر متفكر ثم إنه صعد على السور مما يلي المسلمين ونادى يا معاشر العرب قد طال الأمر بيننا وبينكم ولا نسلم لكم إلا أن تهزموا الملك وتملكوا رأس العين ونحن لكم بعد ذلك واطلبوا منا من المال ما تريدون فقد علمنا أنكم إذا قلتم فعلتم ووفيتم قال فلما رآه عبد الله بن غسان وسهل بن عدي والصحابة ونظروا إليه علموا انه يريد أن ينصب حيلة على أهل قرقيسيا فقال سهل بن عدي يا عدو نفسه مكرت بنا وتممت منصوبك علينا بدخولك في ديننا حتى اطمأننا اليك ثم غدرت ورجعت إلى دينك الأول فأين تهرب منا او تولي عنا ونحن لك في الطلب وسوف نملك هذه المدينة بالسيوف ونضرب عنقك وهذا أيضا من تمام الحيلة فقال: يا معاشر العرب لقد نصحتكم وخدمتكم وما رأيت منكم إلا خيرا ولكن طالبتني نفسي بديني فرجعت إليه والآن فقد مضى ماضي وهذه المدينة ما لكم اليها وصول ولا تقدرون عليها لأنها حصينة وفيها رجال الحرب والقوت عندنا كثير ولكن انفذوا الينا منكم عشرة من أعز أصحابكم ممن نثق بهم يحلفون لنا ونحلف لهم إذا فتحتم راس العين سلمنا هذه المدينة اليكم ويكون الصلح بيننا بقية هذه السنة فقد بقي منها أربعة اشهر أولها شهر رمضان.
فقال له عبد الله بن غسان: قد أجبناك إلى ذلك فمن هم العشرة الذين تريدهم حتى نرسلهم إليك فقال اريد المقداد بن الأسود والأسود مولى قيس وخالد بن جعفر ورواحة بن قيس وهمام بن الحرب وسلامة بن عامر وابن نعيم فهؤلاء نريدهم فإنه لا يقع الصلح إلا بهم قال فوجه عبد الله هؤلاء الذين ذكرهم له يوقنا قال: وفتح لهم.
الباب فقال له عبد الله: نحن ما نسمح بأصحابنا بلا رهائن فمضى يوقنا إلى الملكة أرمانوسة وأخبرها أن القوم يريدون رهائن فقالت أرسل لهم من أولاد السوقة قال يوقنا أيتها الملكة أن الحيل في الحرب من عند العرب خرجت والملوك من شأنها إذا قالت قولا وفت به واعلمي أنه قد قال حكيم الفرس إذا كان الغدر طباع قوم فالثقة بكل أحد عجز واعلمي أن أهل بلدك فيهم رؤساء وملوك وهم يعظمون شأنك بعد الملك ولكن ينظرون اليك بعين التأنيث وينظرون الي بعين الغربة ولا هيبة لي عندهم وربما سمعوا بصلحنا مع العرب فلا يملكونا من ذلك ولا يتم لناما نريده وربما يرسلون يستنجدون علينا بمثل ملك الموصل وصاحب الهنكارية ويعظم الأمر قالت فما الذي تراه من الرأي قال الرأي أن نبعث الرؤساء رهائن عند العرب وإنما فعل ذلك يوقنا حتى لا يتعرض له متعرض في المدينة وإذا سلمهم لا يكون فيها رئيس من رؤسائهم فاجابته إلى ذلك وأنفذت الرؤساء منهم رهائن إلى عبد الله بن غسان فلما وصلوا إليه دخل العشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حصلوا في المدينة أمر بهم إلى البرج الكبير وهو المعروف ببرج المنذر وإنما فعل ذلك حتى لا يعصي من في البرج لأن فيه مال أهل البلد فلما حصلوا هناك رجع إلى الملكة ارمانوسة وقال قد حصلتهم في البرج وغدا نوقفهم باعلى البرج ونقول لهم أما أن ترحلوا عنا أو نقتلهم قالت وكيف نصنع برهائننا وإن نحن فعلنا بأصحابهم ما ذكرت يفعلوا بأصحابنا كذلك قال لها يوقنا إذا كنت تفزعين على أهل البلد فصالحي القوم قالت دبرنا بحسن رايك فقال السمع والطاعة وأنا أمضي إلى هؤلاء العشرة مع ما وصاهم به أميرهم وننظر ما الذي يطلبونه منا ثم إنه مضى إلى الصحابة وحدثهم بما عزم عليه من تسليم البلد وقال لهم: إذا سمعتم الضجة فدونكم ومن في البرج ثم رجع إلى أصحابه ورتبهم على السور ولم يترك معهم أحدا من أهل البلدة فلما أظلم الليل سار عبد الله يوقنا مع اصحابه المائتين وأعلنوا بالتهليل والتكبير وبادروا إلى الباب ففتحوه وأرسل إلى عبد الله بأن يأتي إليهم بعسكره فأتوا ووضعوا السيف في أهل البلد فما أفاق أهل قرقيسيا إلا والمسلمون قد مكنوا منهم القواضب فقصدوا البرج الأعظم عليهم العشرة الصحابة فعلمت الملكة أرمانوسة أن الحيلة قد تمت عليها من قبل يوقنا وسمعت أهل البلد ينادون الغوث الغوث فأمنهم عبد الله بن غسان وسهل بن عدي واحتووا على ما في المدينة وأخذوا جميع ما كان فيها من الأموال وما في البرج الأعظم من الذخائر فأخرجوا منه الخمس وقسموا الباقي على المسلمين وعرضوا عليهم الإسلام فمن اسلم منهم وهبوا له أهله وماله ومن أبى ضربت عليه الجزية ثم اجتمع الذين أسلموا وأتوا إلى الأمراء وقالوا: نحن قد دخلنا في دينكم فسلموا لنا كرومنا وبساتيننا فقال لهم عبد الله بن غسان وسهل بن عدي: هي بحكم الامام يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الذي يسكن فيها من أراد.
ويأخذ خراجها من هي في يده فإن حكم الخراج والخمس والجزية بأمر الإمام يأخذ حاجة منه ويصرف الباقي في صالح المسلمين.
قال الواقدي: وأسلمت ارمانوسة ومن كان يلوذ بها فأقرهم عبد الله في أماكنهم وأحسن إليهم غاية الاحسان وجدد لهم الامان كل ذلك ليتصل الخبر بأهل البلاد فيدخلوا في الإسلام قال عطية بن الحرث وكان ممن أدرك ذلك كان فتح قرقيسيا أول ليلة من شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين من الهجرة وبنوا الكنيسة العظمى وهي بيعة جرجيس جامعا ولم يبرحوا حتى صلوا فيه وأطلقوا الرهائن وتسلم ولايتها شرحبيل بن كعب في مائة وخمسين رجلا وعولوا على المسير إلى ماكسين والتفت الأمير إلى عبد الله يوقنا وقال مر ابنتك أن ترجع إلى قلعتها فقد جاءت الوصية الينا من قبل الأمير عياض قال فرجعت والحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.