فصل: فصل في أمثلة التطبيق توضيحا للواهم وتمرينا للفاهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم **


 فصل في الجرح والترجيح

نكتة‏:‏

محاول التطبيق لا يستغني عنهما، لما سبق‏:‏ أن القاطعين لا يتعارضان، فمعارض القاطع مظنونا كان أو مجزوما به مجروح، وشبهته حجاب على الحق، وبكشفها يرتفع، والمظنونات والمجزومات دونه تتعارض؛ فيجب تمييز قرينة تطابق الواقع أو تقاربه، عما يلتبس بها من أمارات قاصرة، ونكات شعرية، وتمويهات سفسطية، تصير غينا على عين العقل‏.‏

فهذا المحاول والمجادل يشتركان في الجرح، اشتراك المعالج للصلح للبنية، والمعاند المفسد لها فيه، والفارق أن نظر الأول بالإنصاف، وهمه في انتخاب السالم من المقدوح، ومأخذه كلام صاحب المذهب من الإشارات والتفريعات، ونظر الثاني بالاعتساف، وهمه في إلزام الشناعة لتحرك الحمية للمخالفة، ومأخذه ما فرط من قلم، أو لسان بصرفه إلى مستبعد، ومخالفة عامة ما يوجب التبكيت والتحميق‏.‏

نكتة‏:‏

الجرح‏:‏ إما في أطراف الحكم من حمل على غير المحمل، أو في نفسه نفيا وإثباتا، أو في سوره من عموم وخصوص، أو في جهته كدوام ولا دوام؛ وإما في قوته من وهمية أو ظنية، ضعيفة أو ‏(‏1/ 420‏)‏ قوية أو متوسطة، أو جزمية مطابقة أو لا، فهي بالحقيقة ترجع إلى الأربعة الأول؛ وقد فصلته أكثر من هذا في المناظرة‏.‏نكتة‏:‏

وجوه الترجيح كنت أشرت إلى كثير منها في تفاوت مراتب أصحاب الطرق الثلاثة‏:‏ العقل، والنقل، والكشف، فإذا تعارضت وجوه الترجيح، فالقرائن القوية القليلة تقدم على الكثيرة الضعيفة، وهي إذا كانت للوقوع ترجح على مجرد صحة الاحتمال، وحكم الشيء بخصوصه على حكمه في ضمن العموم، والمعلوم وقته على مجهوله، ومؤخر الوقت على مقدمه‏.‏

والجملة‏:‏ أن الأحسن أن يحكّم في ذلك القلب السليم، والوجدان المستقيم، فما اطمأن إليه القلب يقدم على غيره، وتعيّنُ وجه واحد للترجيح، كثيرا ما يختلف وينتهض تارة، وينتقض أخرى، ولا ضرورة في التزام موارد النقوض والتكلف لدفعها؛ والعقل إذا صح مقدم على النقل، إذ النقل يثبت بالعقل، ففي تركه إبطال الأصل بالفرع؛ وأيضا يسلم النقل بالتأويل ولا مساغ له في العقل، وهما يتقدمان على الكشف لمزيد الاشتباهات ومداخلة التعبيرات والتأويلات فيه‏.‏

وقولهم‏:‏ هذا طور وراء طور العقل، يريدون به‏:‏ القواعد التي أسسها الفلاسفة وسموها‏:‏ المعقول، وما هي إلا ثمرات العقل القاصر، إذ هو وراء طور العقل في ابتداء الحصول، وإن كان يتلقاها من جهة الإصلاح والقبول‏.‏

وبالجملة‏:‏ لا ريب في أن العقل العامي كثيرا ما يقصر عن حقيقة المكشوف والمنقول، فعليهم يتوجه الرد والإنكار، وأما العقل ‏(‏1/ 421‏)‏ المقدس المنور فليس شيء من الحق يخالفه، ولذلك اتفقوا أن لا يعتقدوا ظواهر النصوص إلا بعد إثبات الإمكان، وهذا هو العذر لعامة المذاهب كما قال العارف‏:‏

جنك بفتان ودو ملت بمه راعزرينهم *

جول نديد ند حصيفت ره إفسانه زوند

نكتة‏:‏

في نفس التطبيق مدارج، أرجحها أن يثبت بالبرهان ما يتشبث حكايات أهل المذاهب بحواشيه، ودونه أن يثبت الحق في واحد، ويبين أعذار القاصرين والمنحرفين عنه بقرائنها، ثم أن يبدأ احتمال صحيح يتطابق به المذاهب، ويكون رجحانه بنفس هذا الانطباق، لا ببرهان آخر، ثم أن نبدأ احتمالات للتطبيق، فيقع الجزم بالقدر المشترك بينها أن‏:‏ النزاع ليس حتما، ثم أن يطبق عمدة الباب، ويلغي التفريعات الغريبة عن الاعتبار‏.‏

نكتة‏:‏

بالغ في ‏(‏مختصر الأصول‏)‏ صاحبه في ضوابط الجرح والترجيح، ووضع كل الأول وجل الثاني في القياس الفقهي، ولا يهمنا الإطالة فيه؛ ونظر في ترجيح عامة النقليات وهو يقارب مقصدنا، فالتقطت ما استحسنت منها بشريطة الإيجاز لمزيد النفع، وأحلت الباقي على المراجعة إليه، وأستطرد ترجيح الحدود بالوضوح والتعارف والذاتية على غيرها، وبقرب الاصطلاح من اللغة، أو ‏(‏1/ 422‏)‏ الشرع، وبرجحان طريق كسبه، ونحو ذلك، واختلفوا في العموم والخصوص، لكثرة النفع، وحصول الاتفاق؛ وتعرض لتركب الترجيحات مثنى وثلاث وما زاد، وترك تعارضها وهو أهم لكثرة الوقوع والحاجة، وتعرض لبعضها صاحب ‏(‏التنقيح‏)‏‏.‏

نكتة‏:‏

يرجح المقنولان بالسند، والمتن، والخارج‏.‏

فمن الأول‏:‏ فرط الوثاقة، وهو في الحفظ فمن وافق المكتوب بلا اعتماد عليه فهو أحسن؛ وفي الفهم ومنه المهارة في اللغة وغوص الفكر وتنبه القرائن وعدم التلقن؛ وفي الورع والصدق؛ وفي التلقي عن السماع والقرب وتوجه القلب والمباشرة؛ ومنه الاتصال فالمسند على المرسل والمرسل من لا يروي إلا عن عدل على غيره، وقلة الوسائط، وصراحة الرفع، والسماع على مجرد اللقاء؛ ومنه العدد فالمتواتر على المشهور، وهو على الآحاد، وكثرة الرواة على قلتها‏.‏

ومن الثاني‏:‏ الترتيب بين المحكم والمفسر إلى الآخر، والعبارة على الإشارة إلى الآخر، والمحرم على المبيح، والإثبات على النفي، والمجاز على الاشتراك، والتأسيس على التأكيد، والمفيد على الحشو، والإطلاق على التقييد، والعموم على التخصيص، والإبقاء على النسخ، والمفصل على المجمل، ومعلوم التاريخ على غيره، والإجماع الصريح على السكوتي ونحوها‏.‏ ‏(‏1/ 423‏)‏

ومن الثالث‏:‏ التوابع والشواهد، ومعاضدة دليل آخر، وتفسير راوٍ فاهم للقرائن عارف للمقاصد، وموافقة عمل الراوي، وكثرة المزكين وجودتهم وصيغها ونحو ذلك‏.‏

نكتة‏:‏

يقدم القياس على مثله بالأصل لكونه قطعيا، أو أقوى ظنا ثابت الحكم متفقا عليه، وبالعلة لذلك، ولكونه ثبوتية حقيقية ظاهرة المناسبة والتأثير منضبطة مطردة منعكسة ضرورية، لا تحسينية أو تكميلية فقط، وعامة للمكلفين، وبالفرع للمشاركة في عين الحكم والعلة مع الأصل، وبقطعية وجود العلة فيه وشمولها له ولزومها له، وعلى المنقول إن كان أضعف منه لضعف السند أو بعد المعنى ونحوه؛ وبعض هذه الوجوه مختلف فيها - والله أعلم بالصواب -‏.‏ ‏(‏1/ 424‏)‏

 فصل في أمثلة التطبيق توضيحا للواهم وتمرينا للفاهم

نكتة‏:‏ في إثبات الجزء ونفيه

عرفوه‏:‏ بأنه جوهر ذو وضع لا يقبل القسمة خطأ ولا وهما ولا عقلا، واتفقوا على انتهاء الأوليين عند غاية الصغر، واختلفوا في الثالثة، فالحكماء حيث جعلوا العقل ظرفا واقعيا، كان وجوب مطابقة تجزئة الصغير والكبير في المحاذيات والسريع والبطيء في الحركات قسمة واقعية لا تقف عند حد، والمتكلمون لما أنكروه كان معنى القسمة العقلية عندهم‏:‏ أن يحكم العقل بوقوعها في الخارج، حيث ذكروا في الاستدلال عليه أن الله - تعالى - قادر على جميع الممكنات والتقسيمات، حيث لم يشترط منها لاحق بسابق ممكنة معا، فإذا أوجد الله - تعالى - كل قسمة ممكنة، فأما تلك القسمة إن انقسمت لزم الخلف، وإلا لزم الجزء، والحكماء لم يدعوا مكان وقوع جميعها في الخارج بلا نهاية، وإنما أثبتوا حكما إجماليا بتمايز الطراف، فالمتكلمون اعترفوا بقيام ست مماسات به، فما منعوا تمايز الأطراف، والفرق بينه وبين الأجسام الديمقراطيسية أن المانع في الجزء الصغر فقط، وفيها ذلك مع الصلاة فلا نزاع في محل واحد، والمتكلمون بعد إمكان الجزء لم يثبتوا ابتداء تركب الأجسام منها، والقول بإمكانه لا يستلزمه، كما ذهب إليه‏:‏ محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ‏(‏1/ 425‏)‏، ولكن قالوا به قصرا للمسافة، فإن نظرهم لتصحيح أصول الشرائع فقط‏.‏

والحكماء‏:‏ حيث أرادوا تحقيق الحقائق، مهدوا الكلام على إمعانات، فخاصم المشائية الديمقراطيس في إبطال مذهبه، ثم أفلاطون في إثبات الهيولى، ثم فرعوا عليها تفريعات مقدوحة عند المتكلمين، مخالفة على حسب تقريرهم لأصول الشرائع، فطرح المتكلمون مؤنتها، فهذا منهم كقول بطليموس‏:‏ لا نثبت في الفلكيات فصلا، ولم يثبت بالبرهان أن الصانع - جل مجده - هل صنع فيها ما يزيد على ضرورة ضبط الحركات أم لا ببرهان‏؟‏ فافهم‏.‏

نكتة‏:‏

اختلفوا في المكان، سطح أو بعد، واتفقوا على أنه الأمر الذي يشار بحسبه من هذه وهناك، فإذا أشير إلى مكان ثم إلى آخر كان بينهما بعد قطعا، فتنبهت له الإشراقية ونبهوا على وجوده أن في القلة فضاء يتوارده الأجسام مطابقة له بأحجامها‏.‏

قالت المشائية‏:‏ هو أمر موهوم، وما ذلك البعد إلا للأجسام، فيتوهم المتواردة المتساوية متحدا باقيا، فاعترفوا أن من هذه بعدا موهوما يتوارده المتحيزات، وتنفذ فيه أبعادها وهميا، وهو مذهب المتكلمين، وهذا الوهم سواء أسند إلى الظرف أو المظروف، فإن مداره هو الظرف، إذ به تعرف مساواة المظروفات المتعاقبة‏.‏

والمتكلمون‏:‏ لا ينكرون هواء سطح جسم بجسم، ففي غير ما فرض محددا يتلازمان، فلم يبق نزاع، إلا أن الأحق بالتسمية هذا ‏(‏1/ 426‏)‏ أو ذاك، والظرفية العرفية شاملة لهما، وقبل حصول الجسم فيه كلاهما متوهم، وبعده البعد موهوم، والسطح موجود فرجحوه به، وقولهم‏:‏ الحيز ما به تتمايز الأجسام في الإشارة وضعا كان أو مكانا، ففيه أنه لا يقال‏:‏ الجسم في الوضع، كما يقال‏:‏ هو في الحيز والإشارة بهنا وهناك إلى المكان دون الوضع، فإن الوضع وإن اتبعه فلا بد فيه من ملاحظة الأمر المباين، ولا يحتاج إلى مباين في هنا وهناك‏.‏

وفهم الإشراقية‏:‏ أنه كما أن مدار التقدم والتأخر بالذات هو الزمان، ومدار الصغر والكبر المقدار، ومدار القلة والكثرة العدد، كذلك يجب أن يكون مدار ما يشار إليه بهنا وهناك بالذات ما يمتنع الحركة عليه وعلى أجزائه المفروضة لذاته، فإن المكان يتحدد قبل النقلة، فيمتنع عليه التخلخل والتكاثف والفصل ووقوع الحدود بالفعل، وكل أمر زائد على نفس البعد والمقدارية ولو كان سطحا كان قابلا لها التبعية محله، وإن لم يكن ذلك لما يشار إليه في ثخن الجسم نقلة من هنا إلى هناك سواء كان وجوده بالفعل أو بالقوة القريبة منه، ولزم أن يكون تصور انتقاله محوجا إلى تصور أمور خارجة عنه؛ فلو فرض تحرك العالم كله بحركة واحدة وضعا لم يثبت للأجزاء حركة انتقالية أصلا، لانحفاظ الأوضاع‏.‏

والإشراقية‏:‏ لما اعتادوا مطالعة لطائف الأنوار والأمور المثالية، هان عليهم تصوره‏.‏ ‏(‏1/ 427‏)‏

وخفي على المشائية‏:‏ فتوجهوا إلى إبطاله تارة بأن الأبعاد متماثلة يصح على كل منها ما يصح على الآخر، فإذا احتاج البعد لذاته في الأجسام إلى مادة احتاج إليها جميع الأبعاد فصارت أجساما، وقد عرفت انتفاء المماثلة من بيان أحكامه، وتارة بأن استحالة التداخل للبعدية، فلو كان بعدا مجردا امتنع انتقال الجسم فيه من حيز إلى حيز آخر‏.‏

ومن البين أن التداخل في الجواهر الفردة عندهم ممتنع، فالتحيز على الاستقلال علة قطعا، فإن فرض في المقادير ما يؤدي إليه كان ممتنعا بتلك العلة فلا حاجة إلى علة أخرى، ولا نجد تداخلا ممتنعا لا يؤدي إليه حتى يثبت علة ثانية؛ مع أن المذكور في تعريف التداخل بالاتفاق هو دخول متحيزين حيزا واحدا، ولم يقل أحد بأن دخول متحيز في حيز ثان منه‏.‏

والصوفية‏:‏ شاهدوا في كل موطن من الغيب والشهادة زمانا ومكانا غير ما في موطن آخر فضّله عين القضاة في ‏(‏رسالته الزمانية والمكانية‏)‏ وسكتُّ عنه، إذ الغرض مجرد التمثيل، لا القصد إلى تحقق أمره‏.‏

فالمتكلمون‏:‏ يلازمون المشائية في أول الأمر، ويرجعون إلى الإشراقية في آخر الأمر، ويسمونه موهوما لضابطة تستفاد من كلامهم، وهي أنهم عرفوه بفراغ موهوم يشغله شاغل، ففسره أتباعهم بأنه لا شيء محض، وينافيه قولهم‏:‏ لو كان الواجب متحيزا لزم إما قدم الحيز أو كونه تعالى محلا للحوادث؛ وقولهم بوجود الوضع وهو الكون في الحيز الذي قسموه إلى اتصال وانفصال وحركة وسكون، إذ لا معنى لوجود الكون في ‏(‏1/428‏)‏ اللاشيء المحض، فلا يكون تسمية المكان المشار إليه، والزمان المؤرخ المقسوم، والمقدار الممسوح، والعدد المضروب والمقسوم موهوما كتسمية غلاف حلس على قرص الشمس، وقيل في الكوز موهوما بل يفهم من موارد استعمالاتهم، وإن لم يتفوهوا به أن الأعيان والمعاني المحسوسة للعامة أو الخاصة وما يتوقف هي عليه موجودة عندهم، وغيرها مما يلحقها كهذه الأمور والحقوق والعقود والأحكام الخمسة عندهم موهومة، ولها في الخارج آثار، وليست من قبيل الموجودات الذهنية التي أنكروا وجودها لمشاركة الممتنعات فيه، فمذهبهم إذا يقرب من الإشراقية؛ وليحفظ هذا المعنى، فإنه نافع في هذا الباب جدا‏.‏

نكتة‏:‏ في الزمان

اتفقوا على أن الزمان هو الأمر المقسوم إلى الأيام والشهور والأعوام، وهو غير ظلمة الليل وضوء النهار اللذين هما مدركان بالبصر، وغير الشمس والقمر الدائر عليهما أمر الأيام والشهور والسنين، وهو أمر غير قارٍّ‏.‏

فقالت الحكماء أولا‏:‏ إنه الأمر الذي به التقدم والتأخر اللذان لا يجامع فيهما القَبْلُ والبعد بالذات؛ ثم ازدادوا فكرا فقالوا‏:‏ هو كمٌّ متصل غير قارٍّ؛ ثم أمعنوا فقالوا‏:‏ هو مقدار الحركة، ثم أمعنوا فقالوا‏:‏ هو مقدار حركة وضعية سرمدية للفلك المحيط بالكل أسرع من جميع الحركات‏.‏ ‏(‏1/ 429‏)‏

والمتكلمون قالوا‏:‏ هو تقدير متجدد موهوم بمتجدد معلوم، ولم يريدوا بالتقدير فعلنا فإن الزمان ليس من فعلنا، ولا نفس الأمور المتجددة، فإنها تكون جواهر، أو أعراضا قارَّة، وليس شيء منها زمانا، بل أرادوا أمرا موهوما، بحسبه يتقدر متجدد بمتجدد، وهو عند الحكماء كذلك، فإن أهل العقول المتوسطة من الحكماء والمتكلمين توافقوا على‏:‏ أن الحركة القطعية التي ينطبق عليها الزمان أمر مرتسم في الخيال من الحركة التوسطية، وأن اتصال المعدوم بالمعدوم محال، وأيضا اتفقوا على أن الحركة‏:‏ هي المتجددة المنصرمة لذاتها، فكأنهم قالوا‏:‏ هو أمر بحسبه وبالنظر إليه يتقدر توالي أكوان الحركة سابقية ولاحقية، والمتكلمون‏:‏ لم يوافقوهم في إمعاناتهم لمعان وتفريعات غير مسلمة عندهم؛ والاكتفاء بعنوان واحد من بين وجوه متعددة، لا ينبغي أن يعد نزاعا حقيقيا‏.‏

والإشراقية‏:‏ وافقت محققي المشائية في وجوده الدهري، وأنه متصل الذات مقدار الحركة، ولكنهم - كما زعموا - البعد القار الجسماني مقدارا جوهريا، زعموا البعد غير القار أيضا مقدارا جوهريا، حيث لم يجدوه طبيعة ناعتية الذات، ولا وجدوا فيه معنى الحلول، فلا يقال‏:‏ الزمان في الحركة، كما يقال السرعة في الحركة، واللون والبعد والحركة في الجسم، ولا وجدوا لخصوص الحركة الوضعية في تقويمه مدخلا، لافتقار الحركة النفسانية الكيفية المتقدمة بالذات على الوضعية إليه، ولا وجدوه يتعدد بتعدد الحركات مع تقدرهما جميعا به، وامتناع تقدر الشيء بالذات بما يقوم بغيره، ووجوده أبعد في قبول العدم من محله، وحامل محله، ومقوم حالمه، لاستلزامه الوجود على تقدير العدم بنفسه دونها، مع أن وجود العرض في نفسه هو وجوده لمحله، فينعدم بعدمه، حتى إن الوجود إذا قام بشيء انعدم بعدمه، وهو أشد معاندة للعدم منه‏.‏ ‏(‏1/ 430‏)‏

والمشائية‏:‏ لما سلكت في إثباته تقدر الحركات به، وما كان المقدار عندهم إلا كما جزموا بعرضيته، حملوا قرائن الجوهرية على استبعادات عرفية ووهمية، ثم بالغوا في أن أية حركة مقومة له‏.‏

والمتأخرون من محققي الكلام‏:‏ لما أذعنوا لحدوث العالم بأسره، جعلوا الزمان قسمين‏:‏ موجودا‏:‏ هو معيار التجددات والحركات، وموهوما‏:‏ لاعتياد المدارك به، جعلوه مناط القِدَم الزماني للواجب، وظرفا لعدم الزمان، إذ ليس العدم شيئا محققا متجددا حتى يحتاج إلى زمان موجود، قاسوه على البعد القار المتحقق من المركز إلى المحدد، والمتوهم منه إلى مالا يتناهى وهما؛ فهؤلاء قد سلكوا شيئا من مسالك التطبيق، فافهم هذا، واعلم أن التطبيق بين كلامي هؤلاء الماهرين في التحريرات والتمييزات عسير بالنسبة إلى غيرهم - والله أعلم -‏.‏

نكتة‏:‏

اختلفوا في سِنِّيَّة رفع اليدين في الصلاة بعد التحريمة، مع اتفاقهم على أنه لم يصح فيه أمر باستحباب، ولا بيان فضيلة، ولا نهى الصحابة عنه قط، وعلى أنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فعله مدة، إلا أنه زاد ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال‏:‏ ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏؟‏ فلم يرفع يديه إلا في أول مرة، وظاهر أنه لم يرد تركه أبدا، وإنما أراد تركه أخرا، كما يشعر به بعض ما ينقل عنه‏:‏ أن آخر الأمرين ترك الرفع، ولا يدري مدة الترك، فيحتمل أنه تركه في أيام المرض للضعف، فظن قوم‏:‏ أن سنيته كانت بمجرد الفعل، فبطلت بالترك؛ وقوم‏:‏ أن الترك بعذر وبغير نهي لا ينفي السنية، كترك القيام الفرض بالعذر، فهي إذاً باقية فلا مناقشة للمجتهدين في أصل سنِّيته في الجملة، ولا في بقاء جوازه، وإن منعه بعض المتعصبة إذ ليس مما يخالف ‏(‏1/ 431‏)‏ أفعال الصلاة، لبقائه في التحريمة، والقنوت، والعيدين، فلا نكير على فاعله لأحد، بل في بقاء سنيته بناء على الظن، فلا نزاع إلا في المواظبة والرجحان، وحيث واظب عليه جمع بلغوا حد الاستفاضة فوق الشهرة‏.‏

ولم يتعرض - صلى الله عليه وسلم - لفعلهم كما تعرض لرفع اليد في السلام، حيث قال‏:‏ ‏(‏ما بال أيديكم كأنها أذناب خيل شمس‏)‏‏.‏ وهو - صلى الله عليه وسلم - كان يرى خلفه كما يرى أمامه، فثبت بقاء سنيته، وتركه - صلى الله عليه وسلم - أحيانا، كما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه -، والبراء بن عازب - رضي الله عنه -؛ وعدم التعرض لتاركه يقضي بسقوط تأكيده، ولم يبلغ أبا حنيفة - رحمه الله - خبر هذا الجمع، إنما روى له الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فرجح عليه أبو حنيفة حمادا، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، بكثرة الفقه، لا بكثرة الحفظ، فكأنه ظن أنه تفطن ابن مسعود للنسخ دون ابن عمر، حيث لم يرفع إلا في التحريمة، بناء على أن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وما يذكر عن الشافعي - رحمه الله - من عدم الرفع عند قبره مشعر بعدم التأكيد‏.‏

نكتة‏:‏

اختلفوا في نُسْكِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مفردا للحج، أو قارنا، أو متمتعا، سائق الهدي، ووجه التطبيق‏:‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين جمع الناس، وخرج من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة، كان لا ينوي إلا الحج، فلما بات بذي الحليفة في العقيق، أُمر بالقران فقال‏:‏ ‏(‏لبيك بحجة وعمرة‏)‏، فلما دخل مكة، وتذكر جهالة العرب أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وعرف أنه في آخر عمرة، ولا يعيش ‏(‏1/ 432‏)‏ إلى قابل، أراد رد هذا الوهم بأبلغ وجه، فأمر الناس بفسخ إحرام الحج، وجعله عمرة، وقال‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، وأحللت مع الناس كما حلُّوا‏)‏، فكان مُفرِدا بحسب ابتداء النية والشهرة، وقارنا بحسب تلبيته من العقيق، حيث أمر - صلى الله عليه وسلم - في هذا الوادي المبارك‏:‏ ‏(‏وقل عمرة في حجة‏)‏، وكان متمتعا، سائق الهدي بحسب الهم والرغبة، ولم ينقل تجديد الإحرام للحج يوم التروية، نعم عرف تجديد التلبية عند إنشاء السفر إلى عرفة من منى، فكان قارنا حقيقة، مفردا في أول العمر، متمتعا في آخره‏.‏

نكتة‏:‏

ورد في الحديث‏:‏ ‏(‏لا عدوى‏)‏‏.‏

وورد في آخر‏:‏ ‏(‏فر من المجذوم، كما تفر من الأسد‏)‏‏.‏

واختلفوا في وجه التطبيق، فقيل‏:‏ ‏(‏لا عدوى‏)‏ سببا مستقلا، و ‏(‏فر من المجذوم‏)‏ لأنه من الأسباب العادية، لإيجاد الله - تعالى - المرض عقيب مخالطته كسائر إضاعة الاحتماءات وارتكاب خلاف المزاج، وإنما نفى عنها دون سائرها، لأنه لم يتبين وجه تأثيره ظُنّ روحانيا قاهرا بل مستقلا؛ وقيل‏:‏ ‏(‏لا عدوى‏)‏ في نفس الأمر، و ‏(‏فر من المجذوم‏)‏ تحرزا عن مواضع التهم والتوهم؛ وقيل‏:‏ ‏(‏لا عدوى‏)‏ في حكم الشرع، فلا يلزم على المعدي ضمان جنايته، ولا الانتقام منه، و ‏(‏فر من المجذوم‏)‏ صونا لجسدك من العلة الخبيثة، العسيرة البرء‏.‏

نكتة‏:‏

طائفة من الصوفية قالوا‏:‏ بوحدة الوجود، بمعنى‏:‏ أن ليس في الخارج إلا ذات الحق وحده، وكل ما يسمى ‏(‏غير‏)‏ أو ‏(‏سوى‏)‏ فهو من تطورات ظهوره، وتقييدات شؤونه‏.‏

وطائفة قالوا‏:‏ لا نسبة بين الحق والخلق إلا نسبة الإيجاد، فلا عينية ولا وحدة أصلا بينهما، ممن الموحِّدة من قال‏:‏ إن ذلك في ‏(‏1/433‏)‏ المعاينة والوجدان دون الواقع، فلا مخاصمة معه لإمكان اجتماع هذه العينية الوجدانية مع الغيرية المحضة الواقعية، كاختفاء الكواكب عن البصر عند طلوع الشمس، واشتداد النهار، أو كرؤية الحمرة على العالم عند وضع زجاجة حمراء على العين؛ ومن اعتقد أنه في الواقع كذلك، فالتطبيق على معتقده أن في العالم نظرين‏:‏

نظرا‏:‏ إلى جهة امتياز الحقائق وما هي إلا جهة عدمية، وأنّى للعدم أن يتحد بلاوجود فبالغ في امتياز الحقائق وسقوطها في ظل الأوهام، ونزاهة وجه الحق عن غبار الأكوان والأفهام، وقال‏:‏ هو وراء الوراء، ثم وثم، فحكم بانقطاع النسبة سوى ظلية الصفات، وإيجاد مرايا الذوات، فيطابق حينئذ مسلك الشهودية، ولا يدعي أحد اتحاد الممكنات بمرتبة الأحدية المجردة، وصرافة الذات‏.‏

والنظر الثاني‏:‏ في العالم، من حيث اكتنافه بقيومية الحق ووجوده، بسريان فيضه من حيث إنه أقرب إليهم من حبل الوريد، وهي بالنسبة إلى الحق كالصور المترائية في مرآته، أو أمواج وأشكال متوهمة في شموله واتساعه، فلم يثبت للعالم عينا غير عين الحق، وقال‏:‏ هو عين كل شيء في الظهور ما هو عين الأشياء في ذواتها، بل ‏(‏هو هو‏)‏ و ‏(‏الأشياء أشياء‏)‏، فالشهودي لا ينكر أن وجود العالم بقيومية الحق قيومية موجودة لموهوم لا يقاس بها قيومية النفس للبدن والجوهر للعرض، بل أشد من ذلك وأقوى من غير مداخلة وممازجة وانحصار، فيعبر عن ذلك بالإيجاد والخلق، لا كخلق الباني للبناء، أو اقتضاء الصور النوعية للأعراض، وأما التعبير بـ‏:‏ ‏(‏هو هو‏)‏ أو ‏(‏هو ليس هو‏)‏، فهو لا يغير ربطا واقعيا، إنما هو طرق التعبير للمعنى الدقيق، أليس بين الثلاثة والفرد ربط واحد مصحح أن يقال تارة‏:‏ الثلاثة فرد، وتارة‏:‏ الثلاثة مفهوم، والفردية عارضة لها‏.‏ ‏(‏1/ 434‏)‏

وقد بينا في ‏(‏دفع الباطل‏)‏ هذا المعنى بما لا مزيد عليه، فمن اشتاق فليرجع إليه‏.‏

وأما بعض الشهودية، الذين قالوا‏:‏ إن العالم وجود خارجي حقيق مستقل غير الواجب من آثار صنعه، وبعض الوجودية الذين قالوا‏:‏ ليس الواجب غير هذا الهيكل المخصوص المسمى‏:‏ بالعالم، فهو من كثرة أجزائه عالم، ومن حيث وحدة اجتماعه حق، فهما على طرفي مضادة، يجمعهما هذا السر المذكور من قبل، ويفرق بينهما قصور نظر كل من الفريقين‏.‏

نكتة‏:‏

أساس النزاع بين الفريقين على ما حصله إمام الشهودية هو‏:‏ عينية الظل أو غيريته للأصل بالحقيقة، والانطباق أن يتأمل أن ظل العلم علم لا غيره، وكذا سائر الصفات، وهو بنفسه مصرح أيضا بأن قاعدة العقلاء أن ماهية الشيء ما به الشيء ‏(‏هو هو‏)‏ غير مسلم في الماهية الظلية بل الظل هو بأصله لا بنفسه، فأصله أقرب إليه من نفسه، فحينئذ لم يبق بينه وبين قول الوجودية‏:‏ ‏(‏الظل‏:‏ ظهور الشيء في المرتبة الثانية وما بعدها‏)‏، فرق يعتد به إلا بالتعبير، فإن كلا منهما عند الشهودية أخذ بشرط المرتبة مع الحقيقة فتباينا، وعند الوجودية لا بشرطها فاتحدا، ومنشأ ذلك‏:‏ مزيد اعتناء واحد بجهة الامتياز، وآخر بجهة الاشتراك والغفلة عن الأخرى، فثبتت العينية من وجه، والغيرية وجه‏.‏

نكتة‏:‏

اتفق العلماء والصوفية الشهودية على‏:‏ أن النبوة أفضل الولاية، ولذا كان النبي معصوما عن المعاصي، مأمون الخاتمة، علمه قطعي، وقبوله واجب، وإنكاره كفر دون الولي، وقال - سبحانه وتعالى - ‏(‏1/ 435‏)‏‏:‏ ‏{‏ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين‏}‏‏.‏ ولم يذكر معهم الأولياء‏.‏

وقالت الوجودية‏:‏ الولاية أفضل من النبوة، ولما كان التفوُّه به ثقيلا منكرا، فسر بأن المراد‏:‏ جهتا شخص واحد من الأنبياء، والولاية توجهه إلى الحق بالتمام، والنبوة توجهه إلى الخلق بالأمر بلا واسطة، وجهة الحق أشرف من جهة الخلق، فاختلس منه أن النبوة أفضل، والولاية أشرف‏.‏

وخاصمهم الشهودية‏:‏ بأن النبوة ليست نفس التبليغ والتربية، بل هي قبول الوحي منه - سبحانه - لأمر التبليغ، فهي جهة الحق دون الخلق، وبأن النبوة غاية الولاية، وانتهاء كمالها، فهي أفضل منها، وبأن التوجه إلى الخلق بنيابة الحق وجارحيته، بجعل نفسه في ضمن الحق وجهته، بخلاف التوجه إلى الحق، فإنه بجعله خارج الحق في مسامتته‏.‏

وتفطن الشيخ، المجدد - رحمه الله -‏:‏ أن غرضهم‏:‏ أنه بمعرفة التوحيد الوجودي يحصل من زوال الإثنينية، وتمام الفناء، وكمال الوصل، كما هو عند الأولياء، مالا يحصل في أحكام جهة العابدية والمعبودية، بحفظ الأدب، وكمال الإطاعة، كما هو دعوة الأنبياء - عليهم السلام -، وطريقتهم المتوارثة عند العلماء، فأزاحه بأن طريقة الولاية وكمالاتها ظلية، وهما للنبوة أصلية، وشرحه على ما فهمت أن طريقة النبوة في البداية والنهاية، تفضل طريقة الولاية فيهما، وتوجه الأنبياء إلى الهوية الخارجية بلا توسطة برزخ، ومرآة من الأنفس والآفاق، وانتهاؤهم إلى التجليات الوجودية إلى حصول ربط القبول، والنيابة والحماية على يد من بأيديه نظام القضاء والقدر، فيرتب عليهم آثاره في الخارج‏.‏

وتوجه الأولياء إليه - سبحانه - ‏(‏1/ 436‏)‏ بتوسط البرازخ ومرايا الأنفس والآفاق، فمن جاوز هذا منهم فقد دخل في وارثة النبوة بالعرض، وانتهاؤهم بالبقاء الوجداني بالحق، ولا يترتب عليهم آثار الأولهية، والوجوب مطلقا، إلا في إدراكهم ووجدانهم، وإلى القيام بمال المتابعة للأنبياء، بحسب مراتبها السبع، وإن اشتركوا في نيل تجلياته - تعالى - في المرايا الإدراكية، والتلقي منه - سبحانه - بلا واسطة، فالحق‏:‏ أن فضل الولاية‏:‏ بطول البقاء، وسعة الدائرة، ودخل السعي، والاكتساب فيها؛ وفضل النبوة‏:‏ بحصول نوع من الاستقلال، ومزيد الاختصاص والجاه، واستحكام الرابطة معه، وأن الولي إذا خاض في أنانيته، دخل في مراتب الإطلاق، وداخل في حقائق الأشياء، وانكشف عليه شأن من الذات، ربما يخفى على النبي؛ والنبي يجب تعرّفه لواسطة الإلقاء، والجمع بين رؤيته وكلامه، وليس ذلك للولي، ولكن الحق الصريح‏:‏ أن التابع دون المتبوع‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏ وللناس فيما يعشقون مذاهب*

ومما يوجب الاشتباه‏:‏ أن الآخر حصولا يغير عند صاحبه، ثم إن هذا في محض النبوة والولاية الخاصة، فمن فاز مع ذلك بنوع آخر من الكمال، أو بالجمع بين صنوف من الكمال، ينبغي أن ينظر في فضله، وفضل اجتماعها فيه، ولا يقتصر على ما ذكر‏.‏

نكتة‏:‏

ادعى الحكماء امتناع الخرق، والالتئام على الأفلاك، وخالفهم أرباب الشرائع في ذلك، والحق‏:‏ أن الحكماء لم يأتوا فيه ببرهان، فالأدلة المذكورة فيه على تقدير تمامها، إنما تدل على امتناعهما في تحدد الأمكنة والأزمنة، ولا دخل لباقي الأفلاك في ذلك، وإنما حكموا بذلك لدخولها في اسم الفلك، ولموافقتها له في الحركة الدورية، مظنونا فيها الدوام، ‏(‏1/ 437‏)‏ ولم يعلموا أن دوام ميل نفساني مستدير للكل لا ينافي ميلا مستقيما لأجزائه، سيما للمنفصلة منها‏.‏

وقد صرح الصدر الشيرازي‏:‏ بأن هذا الحكم منهم بنوع من الحدس، وما هذا الحدس إلا من قبيل تبادر الذهن، لا من مقدمات البرهان، وأهل الشرع جزموا بحدوث الأفلاك من مواد تشارك العناصر في أصلها‏.‏

نكتة‏:‏

ذكر الحكماء لكائنات الجو أسبابا من تغيرات الهواء والماء، بالاستحالات والانقلابات والاختلاطات، وأرجعه أصحاب الشرائع إلى ملائكة يتصرفون بأمر الله، فتبين المنافاة بينهما، ولا تنافي، فإن للأشياء أسباب أربعة، والحكماء اعتنوا بالمادية، وأصحاب الشرائع بالفاعلية، كيف‏؟‏ والحكماء لا يستغنون عن أسباب سماوية غيبية، يسميها عامتهم‏:‏ بالأوضاع المخصوصة، وخواصهم‏:‏ بالقوى الروحانية، وإنما يتصرف الفاعل بجمع المواد وإصلاحها، كما نرى في أفاعيلنا، فلا ينبغي الإنكار؛ كيف‏؟‏ ويعرف من التوراة‏:‏ أن البخار يرتفع من وجه الأرض فيسقي نواحيها؛ ولما ثبت نزول هذه القوى من السماء، صح أن الماء ينزل من السماء، وجاز أن يراد من السماء طبقة الزمهرير، والبرد العاقد فيها هو جبال البرد، يصيب به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء‏.‏

نكتة‏:‏

أهل الشرائع‏:‏ يفهمون من مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الأرضَ فراشا‏}‏ و ‏(‏دحاها‏)‏ و ‏(‏سطحت‏)‏ أنها سطح مستو؛ والحكماء‏:‏ ‏(‏1/ 438‏)‏ يثبتون كرويتها بالأدلة الصحيحة، فيتوهم الخلاف، ويدفع بأن القدر المحسوس منها في كل بقعة سطح مستو، فإن الدائرة كلما عظمت قل انحداب أجزائها، فاستواؤها‏:‏ باعتبار محسوسية أجزائها، وكرويتها‏:‏ باعتبار معقولية جملتها‏.‏

نكتة‏:‏

ورد في الحديث‏:‏ ‏(‏أن الشمس إذا غربت تذهب حتى تسجد تحت العرش‏)‏‏.‏ وأثبت الحكماء‏:‏ أنها لا تنفك عن موضعها من الفلك إذا هي تحت الأرض، فإن فهم العرش محيطا، فهي دائما تحت العرش، وإن فهم إلى الفوق فقط، فهي لم تذهب إليه، وحل الخلاف أن الحكماء أثبتوا اختلاف أحوالها بالنسبة إلى السفليات في الأوتاد الأربعة، فأصحاب النفوس المطهرة، والقلوب المنورة، ينطبع في بواطنهم حال القاعد عند الطلوع، وحال القائم عند الاستواء، وحال الراكع عند الغروب، وحال الساجد عند غاية الانحطاط، وهي في جميع ذلك تحت العرش، لأنه فوقها دائما، ومحيط بها‏.‏

نكتة‏:‏

ورد في المصحف المجيد‏:‏ ‏{‏وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم‏}‏، ‏{‏والجبال أوتادا‏}‏‏.‏

وفي الحديث الشريف‏:‏ ‏(‏كانت الأرض خلقت تميد على الماء، فأمسكتها الملائكة، فما سكنت، فخلق الله - سبحانه - الجبال فسكنت بها‏)‏‏.‏

وأثبت الحكماء‏:‏ أن انجذاب الأثقال إلى مركز العالم الذي هو مركز الأرض والماء، فالماء فوق الأرض معتمد من كل جهة عليها على سمت مركزها، فكيف تميد عليها‏؟‏ والجبال في الأرض فإن مالت مالت معها، وكيف تمنعها عن الحركة‏؟‏ والمطابقة أن من المحسوس المتيقن عند أهل الهند أن البئر إذا حفرت تصل إلى الثرى، فيرشح فيها الماء من الجوانب، كالعرق من ‏(‏1/ 439‏)‏ المسام بطيئا أو سريعا؛ فإذا أمعن فيه انتهى إلى طبقة صلبة لا يداخلها الماء أصلا، ثم إذا بولغ فيه بكسرها نبع الماء العذب القُراح بقوة وشدة كأنه كان منضغطا فارتفع، فإن أخرج منه آلاف ذَنوب لا ينتقص؛ ولم يجدوا لهذا الماء إلى أربعمائة أو خمسمائة ذراع نهاية‏.‏

والله يعلم كم يوجد الماء وراءها‏؟‏ ولا شك أن تحتها طبقة أرضية أخرى، فكأنّ تميُّد الأرض بهذا الماء، لا بالماء المنبسط فوقها، ونصب أصول الجبال في الطبقة الثانية من الأرض، لا في هذه الأرض فقط، فافهم‏.‏

نكتة‏:‏

وقع في الكلام المجيد‏:‏ ‏{‏الله الذي خلق سبع سموات، ومن الأرض مثلهن‏}‏ أي‏:‏ مثل السموات السبع‏.‏

وجاء في الحديث‏:‏ ‏(‏أنها طبقات متفاصلة‏)‏‏.‏

ودلائل الهيئة دلت على أن الأرض قطرها‏:‏ ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعون فرسخا، وهذا لا يسع سبع أرضين في جوفه قريب من هذه الأرض، فما ظنك إذا كانت السافلة أعظم من العالية - كما يروى -‏؟‏ ولا يوجد أرض أخرى بين السماء والأرض، وهذا وإن لم يخالف الآية قطعا، لإفراد الأرض، وإدخال ‏(‏مِنْ‏)‏ التبعيضية، فيفهم أن تلك السبع قطع أرض واحدة، وهي كذلك، فإن المعمور منها سبع بلاد مختلفة بالأديان، والرسوم، والطبائع، والنباتات، وبعض الحيوانات، أحدها‏:‏ للسودان من‏:‏ البربر، والزنج، والحبشة، وأخرى‏:‏ للبيض من‏:‏ الإفرنج، والطنجة، والسقالبة، ثم للعرب، ثم للفارس، ثم للهند، ثم للترك، ثم للصين؛ أو يتصرف في الأرض أن المراد علام العناصر، وهو سبع طبقات، وأما الحمل على الأقاليم فبعيد، ولكنه يخالف الحديث الصريح، ويدفع هذا الخلاف بأن ‏(‏1/ 440‏)‏ ستة أرضين في طبقات عالم المثال، كأنها ستة تماثيل لهذه الأرض‏.‏

والعامة وأصحاب الشرائع‏:‏ لا يفرقون بين أجسام الشهادية والمثالية، إلا بالصفات‏:‏ كالطاقة، والكثافة، والنورانية، والظلمانية‏.‏

ويؤيده ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -‏:‏ ‏(‏أن فيها ابن عباس كابن عباسكم‏)‏‏.‏

وقد يظن‏:‏ أن تلك الأرضين هي المنتقثة المنطبعة منها في النفوس الفلكية، وفيه‏:‏ إنها إذ اتسع فالأرضون عشر، إلا أن يتكلف أنه كما ليس للأرض قدر محسوس بالنسبة إلى الأفلاك العلى، ليس لها صورة فيما فوق الفلك المشتري، ولا يخفى بعده‏.‏ هذا آخر ما نقلته من كتاب ‏(‏التكميل‏)‏‏.‏

وأما أثر ابن عباس الذي أشار إليه، فهو من رواية الحاكم في المستدرك، عن طريق شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأرض مثلهن‏}‏، قال‏:‏ سبع أرضين، في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى؛ وهذه الألفاظ‏:‏ فيها تقديم وتأخير في بعض الطرق‏.‏

قال الحاكم‏:‏ هذا حديث صحيح الإسناد‏.‏

قال البدر الشبلي في ‏(‏آكام المرجان، في أحكام الجان‏)‏‏:‏ قال شيخنا الذهبي‏:‏ إسناده حسن؛ ورواه الحاكم أيضا، عن طريق عمرو بن مرة، عن أبي الضحى، بلفظ‏:‏ ‏(‏في كل أرض نحو إبراهيم‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ هذا حديث على شرط البخاري ومسلم؛ ووافقه الذهبي في كونه على شرطهما، وزاد رجاله‏:‏ ‏(‏أئمة‏)‏؛ حكاه تلميذ بدر ‏(‏1/ 441‏)‏ الدين الحنفي في ‏(‏الآكام‏)‏؛ ورواه أيضا البيهقي في ‏(‏شعب الإيمان‏)‏ و ‏(‏كتاب الأسماء والصفات‏)‏ له، وقال‏:‏ إسناده صحيح، ولكن شاذ بمرة، ولا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا‏.‏

قال السيوطي في ‏(‏الحاوي‏)‏‏:‏ وهذا الكلام من البيهقي في غاية الحسن، فإنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، كما تقرر في علوم الحديث، لاحتمال أن يصح الإسناد، ويكون في المتن شذوذ وعلة تمنع صحته، وإذا تبين ضعف الحديث، أغنى ذلك عن التأويل، لأن مثل هذا المقام لا تقبل فيه الأحاديث الضعيفة، ويمكن أن يؤول على أن المراد بهم‏:‏ النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر، ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي بلغ عنه - والله سبحانه وتعالى أعلم -‏.‏ انتهى‏.‏

ورواه ابن جرير في ‏(‏تفسيره‏)‏ من طريق عمرو بن مرة، عن أبي الضحى، بلفظ‏:‏ ‏(‏في كل أرض مثل إبراهيم، ونحو ما على الأرض‏)‏‏.‏

قال العسقلاني، والقسطلاني‏:‏ هكذا أخرجه مختصرا، وإسناده صحيح‏.‏ انتهى‏.‏

وذكره السيوطي في ‏(‏الدر المنثور‏)‏، وعزاه لابن أبي حاتم، وقال في ‏(‏التدريب‏)‏ في الكلام على الطريق الأولى‏:‏ ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم‏!‏ حتى رأيت البيهقي، قال‏:‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

قال القسطلاني‏:‏ ففيه‏:‏ أنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، كما هو معروف عند أهل هذا الشأن، فقد يصح الإسناد، ويكون في المتن شذوذ أو علة تقدح في صحته، ومثل هذا لا يثبت بالحديث ‏(‏1/ 442‏)‏ الضعيف؛ ونحوه في ‏(‏روح البيان‏)‏ ومثله في ‏(‏سيرة الحلبي‏)‏‏.‏

قال في ‏(‏البداية‏)‏‏:‏ وهذا محمول إن صح نقله على أن ابن عباس أخذه من الإسرائيليات‏.‏

قال السخاوي في ‏(‏المقاصد الحسنة‏)‏‏:‏ أي أقاويل بني إسرائيل مما ذكر في التوراة، أو أخذ من علمائهم ومشائخهم، كما في ‏(‏شرح النخبة‏)‏، وذلك إذا لم يخبر به معصوم، ويصح سنده إليه، فهو مردود على قائله‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل في ‏(‏الكمالين، حاشية الجلالين‏)‏ عن ابن كثير، تلميذ شيخ الإسلام‏:‏ ابن تيمية - رحمه الله - مثل ما تقدم من ‏(‏البداية‏)‏، ولفظ علي القارئ في موضوعه المختصر المسمى‏:‏ ‏(‏بالمصنوع‏)‏ نقلا عن الحافظ ابن كثير‏:‏ ذلك وأمثاله إذا لم يصح سنده إلى معصوم، فهو مردود على قائله‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الحلبي في ‏(‏إنسان العيون‏)‏ بعدما نقل قول البيهقي‏:‏ ولا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، فقد يكون فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته، فهو ضعيف‏.‏ انتهى‏.‏

ومثله في تفسير القاضي‏:‏ ثناء الله، المسمى ‏(‏بالمظهري‏)‏ كما قيل؛ وضعفه الزرقاني أيضا‏.‏

وفي تفسير ‏(‏البحر المحيط‏)‏‏:‏ ولا شك في وضعه‏.‏

وذكره الشوكاني في تفسيره‏:‏ ‏(‏فتح القدير‏)‏ ولم يزد على قول البيهقي‏:‏ ‏(‏1/ 443‏)‏ وفي إسناده عطاء بن السائب، وهو من المختلطين، كما صرح به النووي في مقدمة شرحه لمسلم‏.‏

وقال الحافظ في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ صدوق‏.‏

وفي ‏(‏هدى الساري، مقدمة فتح الباري‏)‏‏:‏ اختلط، فضعفوه بسبب ذلك‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ لا يحتج بحديثه، وما روى عنه البخاري إلا متابعا في مقام واحد مع أبي بشر، ولم يخرج عنه مسلم

وقال الحاكم في‏:‏ باب الكسوف من ‏(‏المستدرك‏)‏‏:‏ لم يخرجاه، بسبب عطاء بن السائب‏.‏ انتهى‏.‏

والعجب من الحاكم‏!‏ كيف حكم بصحته‏؟‏ مع علمه بأن الشيخين لم يخرجا حديث عطاء وهذا الأثر من روايته، فما أحقه بالتضعيف‏.‏

وقال المنذري في كتاب ‏(‏الترغيب‏)‏‏:‏ عطاء بن السائب الثقفي، قال أحمد‏:‏ ثقة ورجل صالح، من سمع منه قديما كان صحيحا، ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء، ورواية شعبة والثوري وحماد بن زيد عنه جيدة؛ زاد في ‏(‏التهذيب‏)‏‏:‏ ممن سمع منه قديما قبل أن يتغير‏:‏ شعبة، وشريك، وحماد؛ لكن قال يحيى بن معين‏:‏ جميع من روى عن عطاء روى عنه في الاختلاط، إلا شعبة وسفيان، فثبت أن شريكا سمع منه في حالة الاختلاط والتغير دون ‏(‏قبل ذلك‏)‏؛ وهذا الأثر الضعيف من رواية شريك، عن عطاء‏.‏

قال القسطلاني‏:‏ وعلى تقدير ثبوته، يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ثم ‏(‏1/ 444‏)‏ من يقتدي به، ويسمى بهذه الأسماء، وهم رسل الرسل الذين يبلغون الجن عن أنبياء الله، ويسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه‏.‏ انتهى‏.‏

زاد السيوطي - رحمه الله -‏:‏ وحينئذ كان لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من الجن اسمه كاسمه، ولعل المراد اسمه المشهور، وهو‏:‏ محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فليتأمل‏.‏

ومثله في تفسير ‏(‏روح البيان‏)‏، ونحوه في ‏(‏إنسان العيون‏)‏ نقلا عن السيوطي‏.‏

وحمله ابن عربي في ‏(‏الفتوحات‏)‏ على عالم المثال، حيث قال‏:‏ وخلق الله من جملة عوالمها على صورنا إذا أبصر العارف يشاهد نفسه فيها، وقد أشار إلى مثل ذلك ابن عباس فيما روي عنه في حديث هذه الكعبة، وأنها بيت واحد من أربعة عشر بيتا، وإن في كل أرض من السبع الأرضين خلقا مثلنا، حتى إن فيهم ابن عباس مثلي، وصدقت هذه الرواية عند أهل الكشف‏.‏ انتهى‏.‏

وعليه حمله صاحب ‏(‏التكميل‏)‏ - كما تقدم -، وعلى ذلك ليس فيه ما يفيد المستدلين به، وليس الأثر الموقوف بحديث عند أهل النقد والمعرفة بعلم الحديث، حتى يحتج به في الأحكام والتفاسير عند الجماهير‏.‏

وقال الشوكاني في ‏(‏السيل الجرار‏)‏‏:‏ تفسير الصحابة للآية لا تقوم به الحجة، لا سيما مع اختلافه‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا الأثر‏:‏ قد ورد في بدء الخلق دون العقائد، حتى تبنى عليه عقيدة، ويحتاج إلى تطبيقه، وتأويله، وتصحيح معناه، وإثبات مبناه، والمعتبر ‏(‏1/ 445‏)‏ في العقائد‏:‏ هو الأدلة اليقينية لا الظنية، كما صرح بذلك أهل العلم بالكلام‏.‏

قال الرازي في ‏(‏الكبير‏)‏‏:‏ إن الاعتقاد ينبغي أن يكون مبناه على اليقين، وكيف يجوز إتباع الظن في الأمر العظيم، وكلما كان الأمر أشرف وأخطر، كان الاحتياط فيه أوجب وأجدر‏.‏ انتهى‏.‏

وعلى هذا فلا يستأنس في تأييد هذا الأثر الضعيف أو الموضوع إلى ما ذكره في ‏(‏العرائس‏)‏ و ‏(‏بدائع الزهور‏)‏ من وجود الخلق في بقية طبقات الأرض، لكونه مختلفا مفتعلا مرويا من الإسرائيليات‏.‏

قال النيسابوري في ‏(‏تفسيره‏)‏‏:‏ ذكر الثعلبي في تفسيره فصلا في خلائق السموات والأرضين، وأشكالهم، وأسمائهم، أضربنا عن إيرادها، لعدم الوثوق بتلك الروايات‏.‏ انتهى‏.‏

قال الخفاجي في ‏(‏حاشية البيضاوي‏)‏‏:‏ وليست هذه المسألة من ضروريات الدين، حتى يكفر من أنكرها، أو تردد فيها، والذي نعتقده‏:‏ أنها طبقات سبع، ولها سكان من خلقه يعلمهم الله‏.‏ انتهى‏.‏

وقد وقعت الزلازل والقلاقل لأجل ذلك الأثر لهذا العهد بين أبناء الزمان، بما لا يأتي بفائدة، ولا يعود بعائدة، ولهذا ذكرنا في بعض الفتاوى‏:‏ أنه ليس إثبات تلك الأوادم والخواتم من أحكام الشرع في ورد ولا صدر، وليس على القول بموجبه أثارة من علم، وكل حزب بما لديهم فرحون، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏

ثم من استدل بهذا الأثر على إمكان وجود مثله - صلى الله عليه وسلم -، وكونه داخلا تحت القدرة الإلهية، فقد أطال المسافة، وأبعد النجعة، وأتى ‏(‏1/ 446‏)‏ بما هو أجنبي عن المقام، وخارج من محل النزاع، فإن بين المسألتين بونا بعيدا، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد‏.‏ ‏(‏1/ 447‏)‏

قف‏:‏

هذا المرقوم‏:‏ قد تم بعون رب البرية، في شهر ربيع الأول، من سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف الهجرية، والراقم له بيمناه‏:‏ الفقير إلى عفو مولاه، ابن عبده وأمته، الخامل، المتواري، أبو الطيب‏:‏ صديق بن حسن بن علي الحسيني، القنوجي، البخاري؛ ستر الله عيوب نفسه، وجعل غده خيرا من أمسه‏.‏

وهذا العبد - عفا الله عنه ما جناه، واستعمله فيما يحبه ويرضاه -‏:‏ له يد جارحة، ويمنى عاملة في العلوم الشرعية، سيما التفسير، والحديث، والفقه، وأصولها، والتاريخ، والأدب، كما يلوح من مؤلفاته، وقد خصه الله - تعالى - بكرمه الوافر، لهذا العهد الآخر، بتدوين أحكام الإسلام، على الوجه المأثور عن سيد الأنام، والسلف الكرام، على نوع لم يسبق إليه أحد من علماء الديار الهندكية، والله يختص برحمته من يشاء‏.‏

ولو أن لي في كل منبت شعرة ** لسانا لما استوفيت واجب حمده

وقد أعانه - سبحانه وتعالى - على تحصيل تلك العلوم، وكتبها النفيسة العزيزة الوجود، بأنواع المعلوم والموجود، وأمال إليه قلوب أوليائه، وأضاف إليه من نعمه مالا يحاط به، ووفقه بإيثار الحق على الخلق، رضا الخالق على المخلوق، وتقديم العلوم الحقة الإسلامية على الفنون العقلية الفلسفية، حتى ذهب غالب أوقاته، وأكثر عمره، في دراسة ‏(‏1/ 448‏)‏ الكتاب والسنة، وما يليهما، ومجانبة أهل البدع والهواء، واستفاد من كلام السلف استفادة تامة، واستفاض من كتب محققي الخلف استفاضة عامة، إلى أن حصل منها على فوائد، لا يستطيع أن يبوح بها، وعوائد لا يقدر أن يلوح إليها، وحقائق لا يمكن العبارة عنها، إلا بالفوائد والعوائد، ومسائل لها منها عليها شواهد، كيف‏؟‏ وهي فوق وصف الواصفين، ووراء طور البيان، ولا يهتدي إلى مثل ذوقها ولذتها إلا أفراد من نوع الإنسان، الذين زاحمونا في درك المباني، وأخذ المعاني، على وجه يكمل به الإتقان والإذعان، ولله الحمد على كل حال، وهو المفيض للكمال، على مثال وغير مثال‏.‏

وما أحسن ما قال ابن خلدون‏:‏ التحقيق‏:‏ قليل، وطرف التنقيح‏:‏ في الغالب كليل، والغلط والوهم‏:‏ نسيب للناس وخليل، والتقليد‏:‏ عريف في الآدميين وسليل، والتطفل‏:‏ على الفنون عريض وطويل، ومرعى الجهل‏:‏ بين الأنام وخيم وبيل، والحق‏:‏ لا يقاوم سلطانه، والباطل‏:‏ يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل‏:‏ إنما هو يملي وينقل، والبصيرة‏:‏ تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم‏:‏ يجلو لها صفحات الصواب ويصقل‏.‏ انتهى‏.‏

وبالجملة‏:‏ فالمحققون بين أهل الملل والنحل قليلون، لا يكادون يجاوزن عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون، واتباعهم فيما يقولون، بيد أنه لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد، وبليد الطبع والعقل، أو متبلد ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، فيجلب صورا قد تجردت عن موادها، وصفاحا انتُضيت من أعمادها، ومعارف يستنكر للجهل ‏(‏1/ 449‏)‏ طارفها وتلادها، وإنما هي آراء لم تعلم أصولها، ومقالات لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها، يكررون في دراستهم المجتهدات المتداولة منذ زمان بأعيانها تقليدا لمن عني من الأحبار والرهبان بشأنها، ويغفلون أمر الكتاب والسنة الناشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم صحفهم في بيانها، وألسنتهم عن تبيانها، ثم إذا تعرضوا يوما لذكر السنن، نسقوا اخبرها نسقا، غير محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لايتعرضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها، فيبقى المتبع للحديث متطلعا بعدُ إلى أحوال صحتها وضعفها ومراتبها، مفتشا عن أسباب تمسكها واعتزالها، أو تزاحمها وتعاقبها، باحثا عن المقنع في تبيانها أو تناسبها، ولذلك تراني لما طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس ونجد اليوم، نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم، وسمت التأليف غالبا في الكتاب والسنة وما يليهما من نفسي، وأنا المفلس أحسن السوم، فأنشأت في تدوين ذلك كتبا ورسائل، وجمعت لتيسير هذه الصعاب، والاطلاع على تلك الهضاب، أسفارا ومسائل، فهذبت مناحيها تهذيبا، وقربتها للأفهام تقريبا، وأتيت بما يمتعك بحقائق دين الإسلام وأسبابه، ويعرفك كيف دخل أهل العلم من أبوابه، حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال قبلك من سلف الأمة وأئمتها ومن بعدك‏.‏

فعليك بمؤلفاتنا ومؤلفات مشائخنا في كل باب، تجدها إن - شاء الله تعالى - مملوءة دينا بحتا، وشرعا صرفا، عند كل إياب وذهاب، ولعلك لا تحتاج بعد إحرازها في درك الحق الحقيق بالصواب، من الأحكام والمسائل إلى سفر وكتاب، إن كنت ممن ينصف ولا يتعسف، ‏(‏1/ 450‏)‏ ويؤثر الحق على الخلق ولا يتوقف، ولا يخاف في الله لومة لائم، وهو عن رد المعاصرين صائم،

واعلم أن إلى الله مصيرك، فمن نصيرك‏؟‏ وفي الجدث مقيلك، فيما قيلك‏؟‏

وهذا آخر القسم الأول‏:‏ من هذا الكتاب، وبالله التوفيق، وإليه المتاب، ويتلوه القسم الآخر، إن شاء الله تعالى‏.‏

قد تم القسم الأول‏:‏ من كتاب‏:‏ ‏(‏أبجد العلوم‏)‏، المسمى‏:‏ ‏(‏بالوشي المرقوم‏)‏‏.‏