فصل: باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه:

وقوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} الآية [النحل: 91].
قوله: (ذمة الله وذمة نبيه).
الذمة: العهد: وسمي بذلك، لأنه يلتزم به كما يلتزم صاحب الدين بدينه في ذمته.
والله له عهد على عبادة: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.
وللعباد عهد على الله، وهو لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، قال الله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا}، فهذا عهد الله عليهم، ثم قال: {لأكفرن عنكم سيئاتكم ولاخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [البقرة: 40]، وللنبي عهد على الأمة، وهو أن يتبعوه في شريعته ولا يبتدعوا فيها، وللأمة عليه عهد وهو أن يبلغهم ولا يكتمهم شيئًا.
وقد أخبر النبي أنه ما من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على ما هو خير.
والمراد بالعهد هنا: ما يكون بين المتعاقدين في العهود كما كان بين النبي وأهل مكة في صلح الحديبية.
قوله تعالى: {وأوفوا}. أمر الرباعي من أوفي يوفي، والإيفاء إعطاء الشيء تامًا، ومنه إيفاء المكيال والميران.
قوله: {بعهد الله}. يصلح أن يكون من باب إضافة المصدر إلى فاعله أو إلى مفعوله، أي: بعهدكم الله، أو بعهد الله إياكم، لأن الفاعل إذا كان على وزن فاعل اقتضي المشاركة من الجانبين غالبًا، مثل: قاتل ودافع.
قوله: قوله: {إذا عاهدتم}. فائدتها التوكيد والتنبيه على وجوب الوفاء، أي: إذا صد منكم العهد، فإنه لا يليق منكم أن تدعوا الوفاء، ثم أكد ذلك بقوله: {ولا تنقضوا الأيمان}. نقض الشيء هو حل إحكامه، وشبه العهد بالعقدة، لأنه عقد بين المتعاهدين.
قوله: {بعد توكيدها}. توكيد الشيء بمعنى تثبيته، والتوكيد مصدر وكد، يقال: وكد الأمر وأكده تأكيدًا وتوكيدًا، والواو أفصح من الهمزة.
قوله: {وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا}.الجملة حالية فائدتها قوة التوبيخ أنه جعل الله عليه كفيلًا.
قوله: {إن الله يعلم ما تفعلون}. ختم الله الآية بالعلم تهديدًا عن نقض العهد، لأن الإنسان إذا علم بأن الله يعلم كل ما يفعل، فإنه لا ينقض العهد.
ومناسبة الآية للترجمة واضحة جدًّا، لأن الله قال: {أوفو بعهد الله}، وقال: {وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا}. والعهد: الذمة.
* ومناسبة الباب للتوحيد:
أن عدم الوفاء بعهد الله تنقص له، وهذا مخل بالتوحيد.
وعن بريدة، قال: كان رسول الله إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا، فقال:
قوله: (إذا أمر). أي: جعله أميرًا، والأمير في صدر الإسلام يتولي التنفيذ والحكم والفتوي والإمامة.
قوله: (أو سرية). هذه ليست للشك، بل للتنويع، فإن الجيش ما زاد على أربع مئة رجل والسرية ما دون ذلك.
والسرايا ثلاثة أقسام:
أ- قسم ينفذ من البلد، وهذا ظاهر، وقسم ما غنمه كقسمة ما غنم الجيش.
ب- قسم ينفذ في ابتداء سفر الجهاد، وذلك بأن يخرج الجيش بكامله ثم يبعث سرية تكون أمامهم.
ت- قسم ينفذ في الرجعة، وذلك بعد رجوع الجيش.
وقد فرق العلماء بينهما من حيث الغنيمة، فلسرية الابتداء الربع بعد الخمس، لأن الجيش وراءها، فهو ردء لها وسيلحق بها، ولسرية الرجعة الثلث بعد الخمس، لأن الجيش قد ذهب عنها، فالخطر عليها أشد.
وهذا الذي تعطاه السريتان راجع إلى اجتهاد الإمام: إن شاء أعطي وإن شاء منع حسبما تقتضيه المصلحة.
قوله: (أوصاه). الوصية: العهد بالشيء إلى غيره على وجه الاهتمام به.
قوله: (بتقوى الله). التقوى: هي امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة، وهي مأخوذة من الوقاية، وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله، وذلك لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
وقال بعضهم: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهي عنه الله على نور من الله تخشي عقاب الله.
وقال بعضهم:
خل الذنوب صغيرها ** وكبيرها ذاك التقى

واعمل كماش فوق أر ** ض الشواك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة ** إن الجبال من الحصى

وهذه الوصية بالتقوى لأمير الجيش، لأن الغالب أن الأمير يكون معه ترفع يخشي منه أن يجانب الصواب من أجله، ولأن تقواه سبب لتقوى من تحت ولايته.
قوله: (وبمن معه من المسلمين خيرًا). أي: أوصاه أن يعمل بمن معه من المسلمين خيرًا في أمور والآخرة، فيسلك بهم الأسهل، ويطلب لهم الأخصب إذا كانوا على إبل أو خيل، ويمنع عنهم الظلم، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وغير ذلك مما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
«اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا».
- ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجب على من تولي أمرًا من أمور المسلمين أن يسلك بهم الآخير، بخلاف عمل الإنسان بنفسه، فإنه لا يلزم إلا بالواجب.
- قوله: «اغزوا باسم الله». يحتمل أنه أراد أن يعلمهم أن يكونوا دائمًا مستعينين بالله، ويحتمل أنه أراد أن يفتتح الغزو باسم الله.
والأول أظهر، والثاني وأيضًا محتمل، لأن بعث الجيوش من الأمور ذات البال، وكل أمر لا يبدأ فيه باسم الله، فهو أبتر.
قوله: «في سبيل الله». متعلق بـ: «اغزوا»، وهو تنبيه من الرسول على حسن النية والقصد، لأن الغزاة لهم أغراض، ولكن الغزو النافع الذي تحصل به إحدي الحسنيين ما كان خالصًا لله، وذلك بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لحمية أو شجاعة أو ليري مكانه أو لطلب دنيا.
فإن قاتل لأجل الوطن فمن قاتل لأنه وطن إسلامي تجب حمايته وحماية المسلمين فيه، فهذه نية إسلامية صحيحة، وإن كان القومية أو الوطنية فقط، فهو حمية وليس في سبيل الله.
وقوله: «في سبيل الله». تشمل النية والعمل، فالنية سبقت، والعمل: أن يكون الغزو في إطار دينه وشريعته، فيكون حسبما رسمه الشارع.
قوله: «قاتلوا من كفر بالله». تشمل النية والعمل، فالنية سبقت، والعمل: أن يكون الغزو في إطار دينه وشريعته، فيكون حسبما رسمه الشارع.
قوله: «قاتلوا من كفر بالله». «قاتلوا»: فعل أمر وهو للوجوب، أي يجب علينا أن نقاتل من كفر بالله، قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [التحريم: 9]. وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} [التوبة: 123]، فإذا قاتلنا الذين يلوننا، فأسلموا، نقاتل من وراءهم، وهكذا إلى أن نخلص إلى مشارق الأرض ومغاربها.
و: (من): اسم موصول، وصلته (كفر)، واسم الموصول وصلته يفيد العلية، أي: لكفر، فنحن لا نقاتل الناس عصبية أو قومية أو وطنية، نقاتلهم لكفرهم لمصلحتهم وهي إنقاذهم من النار.
والكفر مداره على أمرين: الجحود، والاستكبار.
أي: الاستكبار عن طاعته، أو الجحود لما يجب قبوله وتصديقة.
قوله: (اغز). تأكيد، وأتي بها ثانية كأنه يقول: لا تحقروا الغزو وإغزوا بجد.
قوله: (ولا تغلو). الغلول أن يكتم شيئًا من الغنيمة فيختص به، وهو من كبائر الذنوب، قال تعالى: {ومن يغلل يأت بماغل يوم القيامة} [آل عمران: 161]، أي معذبًا به، فهو يعذب بما غل يوم القيامة ويعزر في الدنيا، قال أهل العلم: يعزر الغال بإحراق رحله كله، إلا المصحف لحرمته، والسلاح لفائدته، وما فيه روح، لأنه يجوز تعذيبه بالنار.
قوله: «ولا تغدروا». الغدر: الخيانة، وهذا هو الشاهد من الحديث، وهذا إذا عاهدنا، فإنه يحرم الغدر، أما الغدر بلا عهد، فلنا ذلك لأن الحرب خدعة، وقد ذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج إليه رجل من المشركين ليبارزه، فلما أقبل الرجل على علي صاح به علي: ما خرجت لأبارز رجلين، فالتفت المشرك يظن أنه جاء أحد من أصحابه ليساعده، فقتله على رضي الله عنه.
وليعلم أن لنا مع المشركين ثلاث حالات.
الحال الأول: أن لا يكون بيننا وبينهم عهد، فيجب قتالهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وإبائهم عنه وعن بذل الجزية، بشرط قدرتنا على ذلك.
الحال الثانية: أن يكون بيننا وبينهم عهد محفوظ يستقيمون فيه، فهنا يجب الوفاء لهم بعدهم، لقوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} [التوبة: 7]، وقوله: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} [الأنفال: 58].
الحالة الثالثة: أن يكون بيننا وبينهم عهد نخاف خيانتهم فيه، فهنا يجب أن ننبذ إليهم العهد ونخبرهم أنه لا عهد بيننا، لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58].
قوله: (ولا تمثلوا). التمثيل: التشويه بقطع بعض الأعضاء، كالأنف واللسان وغيرها، وذلك عند أسرهم، لأنه لا حاجة إليه، لأنه انتقام في غير محله، واختلف العلماء فيما لوا كانوا يفعلون بنا ذلك:
فقيل: لا يمثل بهم للعموم، والنبي لم يستثن شيئًا، ولأننا إذا مثلنا بواحد منهم، فقد يكون لا يرضي بما فعل قومه، فكيف نمثل به؟!
وقيل: نمثل بهم كما مثلوا بنا، لأن هذا العموم مقابل بعموم آخر، وهو قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194].
وإذا لم نمثل بهم مع أنهم يمثلون بنا، فقد يفسر هذا بأنه ضعف، وإذا مثلنا بهم في هذه الحال، عرفوا أن عندنا قوة ولم يعودوا للتمثيل بنا ثانية.
والظاهر القول الثاني.
فإن قيل: قد نمثل بواحد لم يمثل بنا ولا يرضي بالتمثيل؟
فيقال: إن الأمة الواحدة فعل الواحد منها كفعل الجميع، ولهذا كان الله عز وجل يخاطب اليهود في عهد الرسول بأمور جرت في عهد موسى، قال تعالى: {وإذ قتلتم نفسًا فادارأتم فيها} [البقرة: 72]، وقال تعالى: {وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور} [البقرة: 93]، وما أشبه ذلك.
قوله: «ولا تقتلوا وليدًا». أي: لا تقتلوا صغيرًا، لأنه لا يقاتل، ولأنه ربما يسلم.
وورد في أحاديث أخرى: أنه لا يقتل راهب ولا شيخ فان ولا امرأة، إلا أن يقاتلوا، أو يحرضوا على القتال، أو يكون لهم رأي في الحرب، كما قتل دريد بن الصمة في غزوة ثقيف مع كبره وعماه.
واستدل بهذا الحديث أن القتال ليس لأجل أن يسلموا، ولكنه لحماية الإسلام، بدليل أننا لا نقتل هؤلاء، ولو كان من أجل ذلك لقتلناهم إذا لم يسلموا، ورجح شيخ الإسلام هذا القول، وله رسالة في ذلك اسمها (قتال الكفار).
«وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال (أو: خلال)، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين».
قوله: (وإذا لقيت عدوك). أي قابلته أو وجدته، وبدأ بذكر العداوة تهييجًا لقتالهم، لأنك إذا علمت أنهم أعداء لك، فإن ذلك يدعوك إلى قتالهم، ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1]، وهذا أبلغ وأعم من قوله في آية أخرى: {لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء} [المائدة: 51]، لكن خص في هذه الآية باليهود والنصاري لأن المقام يقتضيه.
والعدو ضد الولي، والولي من يتولي أمورك ويعتني بك بالنصر والدفاع وغير ذلك، والعدو يخذلك ويبتعد عنك ويعتدي عليك ما أمكنه.
قوله: (من المشركين). يدخل فيه كل الكفار، حتى اليهود والنصاري.
قوله: (خصال أو خلال). بمعنى واحد، وعليه، فـ: (أو) للشك في اللفظ، والمعنى لا يتغير.
قوله: (فأيتهن ما أجابوك). (أيتهن): أسم شرط مبتدأ، (ما): زائدة، وهي تزاد بالشرط تأكيدًا للعموم، كقوله تعالى: {أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسني} [الإسراء: 10]، والكاف مفعول به، والعائد إلى اسم الشرط محذوف، والتقدير: فأيتهن ما أجابوك إليه، فاقبل منهم وكف عنهم، فلا تقاتلهم.
قوله: (ثم ادعهم). (ثم) زائدة، كما في رواية أبي داود، ولأنه ليس لها معنى، ويمكن أن يقال: إنها ليست من كلام الرسول، بل من كلام الراوي على تقدير: ثم قال ادعهم.
وقوله: (إلى الإسلام). أي: المتضمن للإيمان، لأنه إذا أفرد شمل الإيمان، وإذا اجتمعا، افترقا، كما فرق النبي بينهما في حديث جبريل.
والإيمان عند أهل السنة تدخل فيه الأعمال، قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، فإن أجابوا للإسلام، فهذا ما يريده المسلمون، فلا يحل لنا أن نقاتلهم، ولهذا قال النبي: «فاقبل منهم».
قوله: «ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين». هذه الجملة تشير إلى أن الذين قوتلوا أهل بادية، فإذا أسلموا، طلب منهم أن يتحولوا إلى ديار المهاجرين ليتعلموا دين الله، لأن الإنسان في باديته بعيد عن العلم، كما قال تعالى: {الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله علي رسوله} [التوبة: 97] وهذا أصل في توطين البوادي.
وقوله: (إلى دار المهاجرين). يحتمل أن المراد بها العين، أي: المدينة النبوية، ويحتمل أن المراد بها الجنس، أي: الدار التي تصلح أن يهاجر إليها لكونها بلد إسلام، سواء كانت المدينة أو غيرها.
ويقوي الاحتمال الثاني وهو أن المراد بها الجنس: أنه لو كان المراد المدينة، لكان الرسول يعبر باسمها ولا يأتي بالوصف العام، ويقوي الاحتمال الأول: أن دار المهاجرين الأولى هي المدينة، والظاهر الاحتمال الثاني.
قوله: «فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين». وهذا تمام العدل، ولا يقال: إن الحق لصاحب البلد الأصلي، فلهم ما للمهاجرين من الغنيمة والفيء، وعليهم ما عليهم من الجهاد والنصرة.
قوله: «ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين». يعني: إذا لم يتحولوا إلى دار المهاجرين، فليس لهم في الغنيمة والفيء شيء.
والغنيمة: ما أخذ من أموال الكفار بقتال أو ما ألحق به.
والفيء: ما يصرف لبيت المال، كخمس الغنيمة، والجزية، والخراج، وغيرها.
وقوله: «إلا أن يجاهدوا مع المسلمين». يفيد أنهم إن جاهدوا مع المسلمين استحقوا من الغنيمة ما يستحقه غيرهم.
وأما الفيء، فاختلف أهل العلم في ذلك:
فعند الإمام أحمد: لهم حق في الفيء مطلقًا، ولهم حق في الغنيمة إن جاهدوا.
وقيل: لا حق لهم في الفيء، إنما الفيء يكون لأهل البلدان بدليل الاستثناء، فهو عائد على الغنيمة، إذ ليس من في البلد مستعدًا للجهاد ويتعلم الدين وينشره كأعرابي عند إبله.
فإذا أسلموا فلهم ثلاث مراتب:
1. التحويل إلى دار المهاجرين، وحينئذ يكون لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين.
2. البقاء في أماكنهم مع الجهاد، فلهم ما للمجاهدين من الغنيمة وفي الفيء الخلاف.
3. البقاء في أماكنهم مع ترك الجهاد، فليس لهم من الغنيمة والفيء شيء.
«فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله، وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة نبيه، فلا يجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه.
وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا»
رواه مسلم.
وقوله: (فإن أبواه). (هم) عند البصرين: توكيد للفاعل المحذوف مع فعل الشرط، التقدير: فإن أبوا هم، وعند الكوفيين: مبتدأ خبره الجملة بعده.
والقاعدة عندنا إذا اختلف النحويون في مسألة: أن نتبع الأسهل، والأسهل هن إعراب الكوفيين.
قوله: (فاسألهم الجزية). سؤال استفهام، والفرق بين سؤال الاستفهام وسؤال العطاء: أن سؤال الاستفهام يتعدى إلى المفعول الثاني بـ: (عن)، قال الله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} [النازعات: 42].
وقد يكون المفعول الثاني جملة استفهامية، كقوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم} [المائدة: 4].
وأما سؤال الإعطاء، فيتعدي إليه بنفسه، كقولك، سألت زيدًا كتابًا.
والجزية: فعلة من جزى يجزئ، وظاهر فيها أنها مكافأة على شيء وهي عبارة عن مال مدفوع من غير المسلم عوضًا عن حمايته وإقامته بدرانا.
والذمي معصوم ماله وذريته مقابل الجزية، قال تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون} [التوبة: 29]، أي: يسلموها بأيديهم، لا يقبل أن يرسل بها خادمه أو ابنه، بل لابد أن يأتي بها هو.
وقيل: {عن يد}: عن قوة منكم، والصحيح أنها شاملة للمعنيين.
وقيل: {عن يد}: أن يعطيك فتأخذها بقوة بأن تجر يده حتى يتبين له قوتك، وهذا لا حاجة إليه.
وقوله: {وهم صاغرون}. أي: يجب أن يتصفوا بالذل والهوان عند إعطائها، فلا يعطوها بأبهة وترفع مع خدم، وموكب ونحو ذلك، وجعل بعض العلماء من صغارهم أن يطال وقوفهم عن تسلمها منهم.
قوله: (فاستعن بالله وقاتلهم). بدأ النبي بطلب العون من الله، لأنه إذا لم يعنك في جهاد أعدائه، فإنك مخذول، والجملة جواب الشرط.
قوله: (وإذا حاصرت أهل حصن). الحصر: التضييق، أي: طوقتهم وضيقت عليهم بحيث لا يخرجون من حصنهم ولا يدخل عليهم أحد.
والحصن: كل ما يتحصن به من قصور أو أحواش وغيرها.
قوله: (فلا فأرادوك). أي طلبوك، وضمن الإرادة معنى الطلب، وإلا، فإن الأصل أن تتعدى بـ: (من)، فيقال أرادوا منك.
قوله: (فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه). الذمة: العهد، فإذا قال أهل الحصن المحاصرون: نريد أن ننزل على عهد الله ورسوله، فإنه لايجوز أن ينزلهم على عهد الله ورسوله، وعلل النبي ذلك بقوله: «فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون..».
قوله: (أن تخفروا). بضم التاء وكسر الفاء: من أخفر الرباعي، أي: غدر، وأما خفر يخفر الثلاثي فهي بمعنى أجار، والمتعين الأول.
وقوله: (أن تخفروا). (أن) بفتح الهمزة مصدرية بدليل رفع (أهون) على أنها خبر، وأن وما دخلت عليه محلها من الإعراب النصب على أنها بدل اشتمال من اسم (أن)، والتقدير: فإن أخفارهم ذممكم، والبدل يصح أن يحل محل المبدل منه، ولهذا قدرتها بما سبق.
قوله: «أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه». لأن الغدر بذمة الله وذمة نبيه أعظم:، وقوله: (أهون) من باب اسم التفضيل الذي ليس في المفضل ولا في المفضل عليه شيء من هذا المعنى، لأن قوله: (أهون) يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه شيء من هذا المعنى، لأن قوله: (أهون) يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه بالهوان، والأمر ليس كذلك، لأن إخفار الذمم سواء كان لذمة الله وذمة رسوله أو ذمة المجاهدين، كله ليس بهين، بل هو صعب، لكن الهون هنا نسبي وليس على حقيقته.
فهنا أرادوا أن ينزلوا على العهد بدون أن يحكم عليهم بشيء، بل بعاهدون على حماية أموالهم وأنفسهم ونسائهم وذريتهم فنعطيهم ذلك.
قوله: (وإذا حاصرت). أي: ضربت حصارًا يمنعهم من الخروج من مكانهم. (أهل حصن): أهل بلد أو مكان يتحصنون به.
(فأرادوك): طلبوا منك.
(حكم الله)، أي: شرع الله.
قوله: (ولكن أنزلهم على حكمك). فإذا أرادوا أن ينزلوا على حكم الله، فإنهم لا يجابون، فإنا لا ندري أنصيب فيهم حكم الله أم لا؟
ولهذا قال: (أنزلهم على حكمك)، ولم يقل: وحكم أصحابك كما قال في الذمة، لأن الحكم في الجيش أو السرية للأمير، وأما الذمة والعهد، فهي من الجميع، فلا يحل لواحد من الجيش أن ينقض العهد.
وقوله: (لا تدري). أي: لا تعلم (أتصيب فيهم حكم الله أم لا)، وذلك لأن الإنسان قد يخطئ حكم الله تعالى.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فقيل: إن أهل الحصن لا ينزلون على حكم الله، لأن قائد الجيش وإن اجتهد، فإنه لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا؟ فليس كل مجتهد مصيبًا.
وقيل: بل ينزلون أيصيب فيهم حكم الله أم لا؟ فليس كل مجتهد مصيبًا.
وقيل: بل ينزلون على حكم الله، والنهي عن ذلك خاص في عهد النبي فقط، لأنه العهد الذي يمكن أن يتغير فيه الحكم، إذا من الجائز بعد مضي هذا الجيش أن يغير الله هذا الحكم، وإذا كان كذلك، فلا تنزلهم على حكم الله، لأنك لا تدري أتصيب الحكم الجديد أو لا تصيبه؟
أما بعد انقطاع الوحي، فينزلون على حكم الله، واجتهادنا في إصابة حكم الله يعتبر صوابًا إذا لم يتبين خطؤه، لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، وهذا أصح، لأنه بحكم للمجتهد بإصابته الحكم ظاهرًا شرعًا وإن كان قد يخطئ، وإن حصل الاحتراز بأن يقول: ننزلك على ما نفهم من حكم الله ورسوله، فهو أولي، لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحًا أن هذا حكم الله بحسب فهمنا، لا بحسب الواقع فيما لو اتضح خلافه.
واخترنا هذه العبارة، لأنه قد يتغير الاجتهاد، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم، لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحًا أن هذا حكم الله بحسب فهمنا، لا بحسب الواقع فيها لو اتضح خلافه.
واخترنا هذه العبارة لأنه قد يتغير الاجتهاد، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم، فيقول الكفار: إن أحكام المسلمين متناقضة.
ويستفاد من هذا الحديث ما يلي:
1. تحريم التمثيل، والغلول، والغدر، وقتل الوليد، وقد سبق الكلام عليه.
2. يشرع للإمام بعث الجيوش والسرايا.
3. لا يجوز القتال قبل الدعوة، لأنه جعل القتال آخر مرحلة.
وأما ما ورد في (الصحيح) أن النبي أغار على بني المصطلح وهم غارون، فقد أجيب: أن هؤلاء قد بلغتهم الدعوة، ودعوة من بلغتهم الدعوة سنة لا واجبة، ويرجع فيها المصحلة.
4. جواز أخذ الجزية من غير اليهود والنصار والمجوس لأن أهل الكتاب نص القرآن على أخذها منهم، والمجوس وردت به السنة، وأما ما عدا هؤلاء، فاختلف أهل العلم:
فقيل: لا تأخذ من غير هؤلاء، وقيل: لا تؤخذ من مشركي العرب، لأن فيها إذلالًا.
والصحيح أنها تؤخذ من جميع الكفار، لعموم قوله: (من كفر بالله) ولم يقل: اليهود والنصاري.
5. الإشارة إلى أن القتال ليس لإكراه الناس على أن يدخلوا في الإسلام، ولو كان ذلك ما شرعت الجزية، لأنه على هذا التقدير يجب أن يدخلوا في الدين أو يقاتلوا، وهذا هو الراجح الذي يؤيده القرآن والسنة، وأما قوله: «أمرت أن أقاتل الناس..» الحديث، فهو عام مخصوص بأدلة الجزية.
6. عظم العهود، ولا سيما إذا كانت عهدًا لله ورسوله.
7. جواز نزول أهل الحصن على حكم أمير الجيش.
8. أنه لايجوز أن ينزلهم على حكم الله، إما في عهد الرسول، أو مطلقًا حسب الخلاف السابق.
9. أن المجتهد قد يصيب وقد يخطئ، لقوله: «فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟» وقال النبي: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب، فله أجران، وأن أخطأ، فله أجر واحد»، وعليه، فهل نقول: إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟
الجواب: قيل: كل مجتهد مصيب.
وقيل: ليس كل مجتهد مصيبًا.
وقيل: كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، حذرًا من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول.
والصحيح أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث موافقته للحق، فإنه يخطئ ويصيب، ويدل له قول: (فاجتهد فأصاب واجتهد فأخطأ)، فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطىء ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان من المجتهدين، لأنه لا يمكن أن يكون مصيبًا والسلف غير مصيبين، سواء في علم الأصول والفروع.
على أن شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم أنكرًا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقالا: إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئًا من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون أنها من الفروع، لأنها ليست من العقيدة، ولكن فروع من فروعها، ونحن نقول إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة، فكل الدين أصول، لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروعة، فهذه عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها.
والصحيح أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف، فليس بمقبول مطلقًا.
10. أن باب الاجتهاد باق، لقوله: (لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟) وبهذا يتبين ضعف قول من قال: إن باب الاجتهاد قد انسد، والواجب التقليد للأئمة، وهذا يترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى الإراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذه منهما، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثًا في هذا الحكم حتى يتثبت، لأن هذا الحكم قد يكون منسوخًا أو مقيدًا أو عامًا وأنت تظنه بخلاف ذلك.
وأما أن نقول: لا تنظر في القرآن والسنة لأنك لست أهلًا للاجتهاد، فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا: إن باب الاجتهاد مفتوح، لا يجوز أبدًا أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم، لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين، فكونك تقدح فيهم أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس لسخروا بهم، فهذا أيضًا لا يجوز، إذا كانت غيبة الإنسان العادى محرمة، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال ويقولون: كذا وكذا، مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل الناردة قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدهم وأصولها؟!.
11. فيه إثبات الحكم لله عز وجل، وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
أ- حكم كوني، وهو ما يتعلق بالكون، ولا يمكن لأحد أن يخالفه، ومنه قوله تعالى: {فلن أربح الأرض حتى بأذن لي أبي أو يحكم الله لي} [يوسف: 80].
ب- حكم شرعي، وهو ما يتعلق بالشرع والعبادة، وهذا من الناس من يأخذ به ومنهم من لا يأخذ به، ومنه قوله تعالى: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم} [الممتحنه: 10].
* فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين. الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرًا. الثالثة: قوله: «اغزوا بسم الله في سبيل الله». الرابعة: قوله: «قاتلوا من كفر بالله». الخامسة: قوله: «استعن بالله وقاتلهم». السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء. السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟
فيه مسائل:
* الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين. لو قال: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وبين ذمة المسلمين، لكان أوضح، لأنك عندما تقرأ كلامه تظن أن الفروق بين الثلاثة كلها، فإن ذمة الله وذمة نبيه واحدة، وإنما الفرق بينهما وبين ذمة المسلمين.
والفرق أن جعل ذمة الله وذمة نبيه للمحاصرين، محرمة، وجعل ذمة المحاصرين بكسر الصاد ذمة جائزة.
* الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرًا. لقوله: «ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك..» إلخ، وهذه قاعدة مهمة، وتقال على وجه آخر وهو: ارتكاب أدني المفسدتين لدفع أعلاهما إذا كان لابد من أرتكاب إحداهما، وقد دل عليها الشرع، قال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم} [الأنعام: 108]، فسب آلهة المشركين مطلوب، لكن إذا تضمن سب الله عز وجل صار منهيًّا عنه، لأن مفسدة سب الله أعظم من مفسدة السكوت عن سب آلهتهم، وإن كان في هذا السكوت شيء من المفسدة، ولكن نسكت لئلا نقع في مفسدة أعظم، وأيضًا العقل دل عليها.
وفيه قاعدة مقابلة، وهي: ترك أدني المصلحتين لنيل أعلاهما، إذا كان لابد من ترك إحدهما، فإذا اجتمعت مصلحتان لا يمكن الأخذ بهما جميعًا.
فخذ بأعلاهما، وإذا اجتمعت مفسدتان لا يمكن تركهما، فخذ بأدناهما.
* الثالثة: قوله: «اغزوا بسم الله في سبيل الله». يستفاد منها وجوب الغزو مع الاستعانة بالله والإخلاص والتمشي على شرعه.
* الرابعة: قوله: «قاتلوا من كفر بالله». يستفاد منها وجوب قتال الكفار، وأن علة قتالهم الكفر، وليس المعنى أنه لا يقاتل إلا من كفر، بل الكفر سبب للقتال، فمن منع الزكاة يقاتل، وإذا أهل بلد صلاة العيد قوتلوا، وكذا الأذان والإقامة، مع أنهم لا يكفرون بذلك.
وإذا اقتتلت طائفتان وأبت إحداهما أن تفيء إلى أمر الله، قوتلت، فالقتال له أسباب متعددة غير الكفر.
* الخامسة: قوله: «استعين بالله وقاتلهم». يفيد وجوب الاستعانة بالله، وأن لا يعتمد الإنسان على حوله وقوته.
* السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء. وفيه فرقان:
1. أن حكم الله يصيب بلا شك، وحكم العلماء قد يصيب وقد لا يصيب.
2. تنزل أهل الحصن على حكم الله ممنوع، إما في عهد الرسول فقط أو مطلقًا، وأما على حكم العلماء ونحوه، فهو جائز.
* فائدة:
لا ينبغي أن يقال لمفت: ما حكم الإسلام في كذا، أو ما رأي الإسلام في كذا، أو ما رأي الإسلام في كذا، فإنه قد يخطئ فلا يصيب حكم الإسلام، ولا يقول مفت: حكم الإسلام كذا، لأنه قد يخطئ، ولكن يقيد، فيقول: حكم الإسلام فيما أري كذا وكذا إلا فيما هو نص واضح صريح، فلا بأس، مثل أن يقال: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فيقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنه حرام.
* السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟ وهذا ليس خاصًا بالصحابة، بل حتى من بعدهم، فإن له أن يحكم بما يرى أنه حكم الله عند الحاجة.