فصل: باب لا يرد من سأل الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب لا يرد من سأل الله:

قوله: (باب لا يرد). (لا) نافية بدليل رفع المضارع بعدها، والنفي يحتمل أن يكون للكراهية، وأن يكون للتحريم.
وقوله: (من سأل بالله). أي: من سأل غيره بالله، والسؤال بالله ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: السؤال بالله بالصيغة، مثل أن يقول: أسألك بالله كما تقدم في حديث الثلاثة حيث قال الملك: «أسالك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن بعيرًا».
الثاني: السؤال بشرع الله عز وجل، أي: يسأل سؤالًا يبيحه الشرع، كسؤال الفقير من الصدقة، والسؤال عن مسألة من العلم، وما شابه ذلك.
وحكم من رد من سأل بالله الكراهة أو التحريم حسب حال المسؤول والسائل، وهنا عدة مسائل:
المسألة الأولى: هل يجوز للإنسان أن يسأل بالله أم لا؟
وهذه المسألة لم يتطرق إليها المؤلف رحمه الله، فتقول أولًا: السؤال من حيث هو مكروه ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحدًا شيئًا إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولهذا كان مما بايع النبي أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئًا، حتى إن عصا أحدهم ليسقط منه وهو على راحلته، فلا يقول لأحد: ناولينه، بل ينزل ويأخذه.
والمعنى يقتضيه، لأنك إذا أعزرت نفسك ولم تذلها لسؤال الناس بقيت محترمًا عن الناس، وصار لك منعة من أن تذل وجهك لأحد، لأن من أذل وجهه لأحد، فإنه ربما يحتاجه ذلك الأحد لأمر يكره أن يعطيه إياه، ولكنه إذا سأله اضطر إلى أن يجيبه، ولهذا روي عن النبي أنه قال: «ازهد فيما عند الناس يحبك الناس»، فالسؤال أصلًا مكروه أو محرم إلا لحاجة أو ضرورة.
فسؤال المال محرم، فلا يجوز أن يسأل من أحد مالًا إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقال الفقهاء رحمهم الله في باب الزكاة: (إن من أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله)، ولكن فيما قالوه نظر، فإن الرسول حذر من السؤال، وقال: «إن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم»، وهذا يدل على التحريم إلا للضرورة.
وأما سؤال المعونة بالجاه أو المعونة بالبدن، فهذه مكروهة، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وأما إجابة السائل، فهو موضوع بابنا هذا، ولا يخلو السائل من أحد أمرين:
الأول: أن يسأل سؤالًا مجردًا، كأن يقول مثلًا: يا فلان! أعطني كذا وكذا، فإن كان مما أباحه الشارع له فإنك تعطيه، كالفقير يسأل شيئًا من الزكاة.
الثاني: أن يسأل بالله، فهذا تجيبه وإن لم يكن مستحقًا، لأنه سأل بعظيم فإجابته من تعظيم هذا العظيم، لكن لو سأل إثمًا أو كان في إجابته ضرر على المسؤول، فإنه لا يجاب.
مثال الأول: أن يسألك بالله نقودًا ليشتري بها محرمًا كالخمر.
ومثال الثاني: أن يسألك بالله أن تخبره عما في سرك وما تفعله مع أهلك، فهذا لا يجاب لأن في الأول إعانة على الإثم، وإجابته في الثاني ضرر على المسؤول.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله: «من سأل بالله، فأعطوه، ومن استعاذ بالله، فأعيذوه، ومن دعاكم، فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا، فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه». رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
قوله: «من سأل بالله». (من): شرطية للعموم.
قوله: «فأعطوه». الأمر هنا للوجوب ما لم يتضمن السؤال إثمًا أو ضررًا على المسؤول، لأن في إعطائه إجابة لحاجته وتعظيمًا لله عز وجل الذي سأل به.
ولا يشترط أن يكون سؤاله بلفظ الجلالة بل بكل اسم يختص بالله، كما قال الملك الذي جاء إلى الأبرص والأقرع والأعمى: (أسألك بالذي أعطاك كذا وكذا).
قوله: «من استعاذ بالله فأعيذوه». أي قال: أعوذ بالله منك، فإنه يجب عليك أن تعيذه، لأنه استعاذ بعظيم، ولهذا لما قالت ابنة الجون للرسول: أعوذ بالله منك، قال لها: «لقد عذت بعظيم أو معاذ، الحقي بأهلك».
لكن يستثني من ذلك لو استعاذ من أمر واجب عليه، فلا تعذه، مثل أن تلزمه بصلاة الجماعة، فقال أعوذ بالله منك.
وكذلك لو ألزمته بالإقلاع عن أمر محرم، فاستعاذ بالله منك، فلا تعذه لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، ولأن الله لا يعيذ عاصيًا، بل العاصي يستحق العقوبة لا الانتصار له وإعادته.
وكذلك من استعاذ بملجأ صحيح يقتضي الشرع أن يعيذه وإن لم يقل أستعيذ بالله، فإنه يجب عليك أن تعيذه كما قال أهل العلم: لو جنى أحد جناية ثم لجأ إلى الحرم، فإنه لا يقام عليه الحد ولا القصاص في الحرم، ولكنه يضيق عليه، فلا يبايع، ولا يشتري منه، ولا يؤجر حتى يخرج.
بخلاف من انتهك حرمة الحرم بأن فعل الجناية في نفس الحرم، فإن الحرم لا يعيذه لأنه انتهك حرمة الحرم.
قوله: «ومن دعاكم فأجيبوه». (من) شرطية للعموم، والظاهر أن المراد بالدعوة هنا الدعوة للإكرام، وليس المقصود بالدعوة هنا النداء.
وظاهر الحديث وجواب إجابة الدعوة في كل دعوة، وهو مذهب الظاهرية.
وجمهور أهل العلم: أنها مستحبة إلا دعوة العرس، فإنها واجبة لقوله فيها: «شر الطعام الوليمة، يدعي إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها ومن لم يجب، فقد عصي الله ورسوله».
وسواء قيل بالوجوب أو الاستحباب، فإنه يشترط لذلك شروط:
1. أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن.
2. إلا يكون هناك منكر في مكان الدعوة، فإن كان هناك منكر، فإن أمكنه إزالته، وجب عليه الحضور لسببين:
* إجابة الدعوة.
* وتغيير المنكر.
وإن كان لا يمكنه إزالته حرم عليه الحضور، لأن حضوره يستلزم إثمه، وما استلزم الإثم، فهو إثم.
3. أن يكون الداعي مسلمًا، وإلا لم تجب الإجابة، لقوله: «حق المسلم على المسلم خمس..»، وذكر منها: «إذا دعاك فأجبه». قالوا: وهذا مقيد للعموم الوارد.
4. أن لا يكون كسبه حرامًا، لأن إجابته تستلزم أن تأكل طعامًا حرامًا، وهذا لا يجوز، وبه قال بعض أهل العلم.
وقال آخرون: ما كان محرمًا لكسبه، فإنما إثمه على المكاسب لا على من أخذه بطرق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرمًا لعينه، كالخمر والمغصوب ونحوهما، وهذا القول وجيه قوي بديل أن الرسول اشتري من يهودي طعامًا لآهله، وأكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر، وأجاب دعوة اليهودي، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا ويأكلون السحت، وربما يقوي هذا القول قوله في اللحم الذي تصدق به على بريرة: «هو لها صدقة ولنا منها هدية».
وعلى القول الأول، فإن الكراهة تقوى وتضعف حسب كثرة المال الحرام وقلته، فكلما كان الحرام أكثر كانت الكراهة أشد، وكلما قال كانت الكراهة أقل.
5. أن لا تتضمن الإجابة إسقاط واجب أو ما هو أوجب منها، فإن تضمنت ذلك حرمت الإجابة.
6. أن لا تتضمن ضررًا على المجيب، مثل أن تحتاج إجابة الدعوة إلى سفر أو مفارقة أهله المحتاجين إلى وجوده بينهم.
مسألة: هل إجابة الدعوة حق الله أو للآدمي؟
الجواب: حق للآدمي، ولهذا لو طلبت من الداعي أن يقيلك فقبل، فلا إثم عليك، لكنها واجبة بأمر الله عز وجل، ولهذا ينبغي أن تلاحظ أن إجابتك طاعة لله وقيام بحق أخيك، لكن لصاحبها أن يسقطها كما أن لها أن لا يدعوك أيضًا ولكن إذا أقالك حياء منك وخجلًا من غير اقتناع، فإنه لا ينبغي أن تدع الإجابة.
مسألة: هل بطاقات الدعوة التي توزع كالدعوة بالمشافهة؟
الجواب: البطاقات ترسل إلى الناس ولا يدري لمن ذهب إليه، فيمكن أن نقول: إنها تشبه دعوة الجفلي لا تجب الإجابة، أما إذا علم أو غلب على الظن أن الذي أرسلت إليه مقصود بعينه، فإنه لها حكم الدعوة بالمشافهة.
قوله: «من صنع إليكم معروفًا، فكافئوه». المعروف: الإحسان فمن أحسن إليك بهدية أو غيرها، فكافئه، فإذا أحسن إليك بإنجاز معاملة وكان عمله زائدًا عن الواجب عليه، فكافئه، وهكذا، ولكن إذا كان كبير الشأن ولم تجر العادة بمكافأته، فلا يمكن أن تكافئه، كالملك والرئيس.. مثلًا إذا أعطاك هدية، فمثل هذا يدعي له، لأنك لو كافأته لرأي أن في غضًا من حقه فتكون مسيئًا له، والنبي أراد أن تكافئه لإحسانه.
وللمكافأة فائدتان:
1. تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف.
2. إن الإنسان يكسر بها الذل حصل له بصنع المعروف إليه، لأن من صنع إليك معروفًا فلابد أن يكون في نفسك رقة له، فإذا رددت إليه معروفه زال عنك ذلك، ولهذا قال النبي: «اليد العليا خير من اليد السفلي»، واليد العليا هي يد المعطي،وهذه فائدة عظيمة لمن صنع له معروف، لئلا يري لأحد عليه منة إلا الله عز وجل، لكن بعض الناس يكون كريمًا جدًّا، فإذا كافآته بدل هديته أكثر مما أعطيته، فهذا لا يريد مكافأة، ولكن يدعي له، لقوله: «فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له»، وكذلك الفقير إذا لم يجد مكافأة الغني، فإنه يدعو له.
ويكون الدعاء بعد الإهداء مباشرة، لأنه من باب المسارعة إلى أمر الرسول، ولأن به سرور صانع المعروف.
قوله: «حتى تروا أنكم قد كافأتموه». (تروا)، بفتح التاء بمعنى تعلموا، وتجوز بالضم بمعنى تظنوا، أي: حتى تعلموا أو يغلب على ظنكم أنكم قد كافأتموه، ثم أمسكوا.
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله. الثانية: إعطاء من سأل بالله. الثالثة: إجابة الدعوة. الرابعة: المكافأة على الصنيعة. الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لا يقدر إلا عليه. السادسة: قوله: «حتى تروا أنكم قد كافأتموه».
فيه مسائل:
* الأولى: إعاذة من استعاذ بالله. وسبق أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته، إلا يستعيذ عن شيء واجب فعلًا أو تركًا، فإنه لا يعاذ.
* الثانية: إعطاء من سأل بالله. وسبق التفصيل فيه.
* الثالثة: إجابة الدعوة. وسبق كذلك التفصيل فيها.
* الرابعة: المكافأة على الصنيعة. أي: على صنيعة من صنع إليك معروفًا، وسبق التفصيل في ذلك.
* الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لا يقدر إلا عليه. وسبق أنه مكافأة في ذلك، وفيما إذا كان الصانع لا يكافا مثله عادة.
* السادسة: قوله: «حتى تروا أنكم قد كافأتموه». أي: أنه لا يقصر في الدعاء، بل يدعو له حتى يعلم أو يغلب على أظنه أنه قد كافأه.
* وفيه مسائل أخرى، لكن ما ذكره المؤلف هو المقصود.