فصل: باب ما جاء في الكهان ونحوهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب ما جاء في الكهان ونحوهم:

الكهان: جمع كاهن، والكهنة أيضًا جمع كاهن، وهم قوم يكونون في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، وتتصل بهم الشياطين، وتخبرهم عما كان في السماء، تسترق السمع من السماء، وتخبر الكاهن به، ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة، ويخبر الناس، فإذا وقع مما أخبر به شيء، اعتقده الناس عالمًا بالغيب، فصاروا يتحاكمون إليهم، فهم مرجع للناس في الحكم، ولهذا يسمون الكهنة، إذ هم يخبرون عن الأمور في المستقبل، يقولون: سيقع كذا وسيقع كذا، وليس من الكهانة في شيء من يخبر عن أمور تدرك بالحساب، فإن الأمور التي تدرك بالحساب ليست من الكهانة في شيء، كما لو أخبر عن كسوف الشمس أو خسوف القمر، فهذا ليس من الكهانة، لأنه يدرك بالحساب، وكما لو أخبر أن الشمس تغرب في 20 من برج الميزان مثلًا في الساعة كذا وكذا، فهذا ليس من علم الغيب، وكما يقولون: إنه سيخرج في أول العام أو العام الذي بعده مذنب (هالي)، وهو نجم له ذنب طويل، فهذا ليس من الكهانة في شيء، لأنه من الأمور التي تدرك بالحساب، فكل شيء يدرك بالحساب، فإن الإخبار عنه ولو كان مستقبلًا لا يعتبر من علم الغيب، ولا من الكهانة.
وهل من الكهانة ما يخبر به الآن من أحوال الطقس في خلال أربع وعشرين ساعة أو ما أشبه ذلك؟
الجواب: لا، لأنه أيضًا يستند إلى أمور حسية، وهي تكيف الجو، لأن الجو يتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم، فيكون صالحًا لأن يمطر، أو لا يمطر، ونظير ذلك في العلم البدائي إذا رأينا تجمع الغيوم والرعد والبرق وثقل السحاب، نقول يوشك أن ينزل المطر.
فالمهم أن ما استند إلى شيء محسوس، فليس من علم الغيب، وإن كان بعض العامة يظنون أن هذه الأمور من علم الغيب، ويقولون: إن التصديق بها تصديق بالكهانة.
والشيء الذي يدرك بالحس إنكاره قبيح، كما قال السفاريني:
فكل معلوم بحس أو حجا ** فنكره جهل قبيح بالهجا

فالذي يعلم بالحس لا يمكن إنكاره ولو أن أحدًا أنكره مستندًا بذلك إلى الشرع، لكان ذلك طعنًا بالشرع.
روى مسلم في (صحيحه) عن بعض أزواج النبي، عن النبي، قال: «من أتى عرافًا، فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا».
قوله: (من): شرطية، فهي للعموم.
والعراف: صيغة مبالغة من العارف، أو نسبة، أي: من ينتسب إلى العرافة.
والعراف قيل: هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المسقيل.
وقيل: هو اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم، ويدل عليه الاشتقاق، إذ هو مشتق من المعرفة، فيشمل كل من تعاطى هذه الأمور وادعى بها المعرفة.
قوله: «فسأله، لم تقبل له صلاة أربعين يومًا». ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يومًا، ولكنه ليس على إطلاقه، فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يسأله سؤالًا مجردًا، فهذا حرام لقول النبي: «من أتى عرافًا...»، فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه، إذا لا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قوله: فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن، حيث قال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65].
القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب، لا لأجل أن يأخذ بقوله، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث.
وقد سأل النبي ابن صياد، فقال: «ماذا خبأت لك؟ قال: الدخ فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك»، فالنبي سأله عن شيء أضمره، لأجل أن يختبره، فأخبره به.
القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه، وهذا مطلوب، وقد يكون واجبًا.
وإبطال قول الكهنة لا شك أنه أمر مطلوب، وقد يكون واجبًا، فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى.
وقد ذكر شيخ الإسلام أن الجن يخدمون الإنس في أمور، والكهان يستخدمون الجن ليأتوهم بخبر السماء، فيضيفون إليه من الكذب ما يضيفون، وخدمة الجن للإنس ليست محرمة على كل حال، بل هي على حسب الحال.
فالجني يخدم الإنس في أمور لمصلحة الإنس، وقد يكون للجن فيها مصلحة، وقد لا يكون له فيها مصلحة، بل لأنه يحبه في الله ولله، ولا شك أن من الجن مؤمنين يحبون المؤمنين من الإنس، لأنه يجمعهم الإيمان بالله.
وقد يخدمونهم لطاعة الإنس لهم فيما لا يرضي الله- عز وجل-، إما في الذبح لهم، أو في عبادتهم، أو ما أشبه ذلك.
والأغرب من ذلك أنهم ربما يخدمون الإنس لأمر محرم من زنا أو لواط، لأن الجنية قد تستمتع بالإنسي بالعشق والتلذذ بالاتصال، أو بالعكس، وهذا أمر معلوم مشهود، حتى ربما كان الجني الذي في الإنسان ينطق بذلك، كما يعلم من الذين يقرؤون على المصابين بالجن.
والنبي حضر إليه الجن وخاطبهم وأرشدهم، ووعدهم بعطاء لا نظير له، فقال لهم: «كل عظم ذكر اسم لله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة، فهي علف لدوابكم»، وذكر أن في عهد عمر رضي الله عنه امرأة لها رئي من الجن، وكانت توصيه بأشياء، حتى إنه تأخر عمر ذات يوم، فأتوا إليها، فقالوا: ابحثي لنا عنه. فذهب هذا الجني الذي فيها، وبحث وأخبرهم أنه في مكان كذا، وأنه يسم إبل الصدقة.
قوله: «فصدقه». ليس في (صحيح مسلم)، بل الذي في (مسلم): «فسأله، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة»، وزيادتها في نقل المؤلف، إما لأن النسخة التي نقل منها بهذا اللفظ: «فصدقه»، أو أن المؤلف عزاه إلى (مسلم) باعتبار أصله، فأخذ من (مسلم): «فسأله»، وأخذ من أحمد: «فصدقه».
قوله: «لم تقبل له صلاة أربعين ليلة». نفي القبول هنا هل يلزم منه نفي الصحة أولا؟
نقول: نفي القبول إما أن يكون لفوات شرط، أو لوجود مانع، ففي هاتين الحالين يكون نفي القبول نفيًا للصحة، كما لو قلت: من صلى بغير وضوء لم يقبل الله صلاته، ومن صلى في مكان مغصوب لم يقبل الله صلاته عند من يرى ذلك.
وإن كان نفي القبول لا يتعلق بفوات شرط ولا وجود مانع، فلا يلزم من نفي القبول نفي الصحة، وإنما يكون المراد بالقبول المنفي: إما نفي القبول التام، أي: لم تقبل على وجه التمام الذي يحصل به تمام الرضا وتمام المثوبة.
وإما أن يراد به أن هذه السيئة التي فعلها تقابل تلك الحسنة في الميزان، فتسقطها، ويكون وزرها موازيًا لأجر تلك الحسنة، وإذا لم يكن له أجر صارت كأنها غير مقبولة، وإن كانت مجزئة ومبرئة للذمة، لكن الثواب الذي حصل بها قوبل بالسيئة فأسقطته.
ومثله قوله: «من شرب الخمر، لم تقبل له صلاة أربعين يومًا».
وقوله: «أربعين يومًا». تخصيص هذا العدد لا يمكننا أن نعلله، لأن الشيء المقدر بعدد لا يستطيع الإنسان غالبًا أن يعرف حكمته، فكون الصلاة خمس صلوات أو خمسين لا نعلم لماذا خصصت بذلك، فهذا من الأمور التي يقصد بها التعبد لله، والتعبد لله بما لا تعرف حكمته أبلغ من التعبد له بما تعرف حكمته، لأنه أبلغ في التذلل، صحيح أن الإنسان إذا عرف الحكمة اطمأنت نفسه أكثر، لكن كون الإنسان ينقاد لما لا يعرف حكمته دليل على كمال الانقياد والتعبد لله- عز وجل-، فهو من حيث العبودية أبلغ وأكمل، أما ذاك، فهو من حيث الطمأنينة إلى الحكم يكون أبلغ، لأن النفس إذا علمت بالحكمة في شيء اطمأنت إليه بلا شك، وازدادت أخذًا له وقبولًا، فهناك أشياء مما عينه الشرع بعدد أو كيفية لا نعلم ما الحكمة فيه، ولكن سبيلنا أن نكون كما قال الله تعالى عن المؤمنين: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36].
فعلينا التسليم والانقياد وتفويض الأمر إلى الله تعالى.
ويؤخذ من الحديث: تحريم إتيان العراف وسؤاله، إلا ما استثني، كالقسم الثالث والرابع، لما في إتيانهم وسؤالهم من المفاسد العظيمة، التي ترتب على تشجيعهم وإغراء الناس بهم، وهم في الغالب يأتون بأشياء كلها باطلة.
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي، قال: «من أتى كاهنًا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد»رواه أبو داوود.
قوله: «من أتى كاهنًا». تقدم معنى الكهان، وأنهم كانوا رجالًا في أحياء العرب تنزل عليهم الشياطين، وتخبرهم بما سمعت من أخبار السماء.
قوله: «فصدقه». أي: نسبه إلى الصدق، وقال: إنه صادق، وتصديق الخبر يعني: تثبيته وتحقيقه، فقال: هذا حق وصحيح وثابت.
قوله: «بما يقول». (ما) عامة في كل ما يقول: حتى ما يحتمل أنه صدق، فإنه لا يجوز أن يصدقه، لأن الأصل فيهم الكذب.
قوله: «فقد كفر بما أنزل على محمد»، أي: بالذي أنزل، والذي أنزل على محمد القرآن أنزل إليه بواسطة جبريل، قال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين} [الشعراء: 192، 193]، وقال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102]، وبهذا نعرف أن القول الراجح في الحديث القدسي أنه من كلام الله تعالى معنى، وأما لفظه، فمن الرسول، لكنه حكاه عن الله، لأننا لو لم نقل بذلك لكان الحديث القدسي أرفع سندًّا من القرآن، حيث إن الرسول يرويه عن ربه مباشرة والقرآن بواسطة جبريل.
ولأنه لو كان من كلام الله لفظًا، لوجب أن تثبت له أحكام القرآن، لأن الشرع لا يفرق بين المتماثلين، وقد علم أن أحكام القرآن لا تنطبق على الحديث القدسي ولا يتعبد بتلاوته ولا يقرأ في الصلاة، ولا يعجز لفظه، ولو كان من كلام الله، لكان معجزًا، لأن كلام الله لا يماثله كلام البشر، وأيضًا باتفاق أهل العلم فيما أعلم أنه لو جاء مشرك يستجير ليسمع كلام الله وأسمعناه الأحاديث القدسية، فلا يصح أن يقال: إنه سمع كلام الله. فدل هذا على أنه ليس من كلام الله، وهذا هو الصحيح، وللعلماء في ذلك قولان: هذا أحدهما، والثاني: أنه من قول الله لفظًا.
فإن قال قائل: كيف تصححون هذا والنبي صلى الله عليه وسلم ينسب القول إلى الله، ويقول: قال الله تعالى: ومقول القول هو هذا الحديث المسوق؟
قلنا: هذا كما قال الله تعالى عن موسى وفرعون وإبراهيم: قال موسى، قال فرعون، قال إبراهيم... مع أننا نعلم أن هذا اللفظ ليس من كلامهم ولا قولهم، لأن لغتهم ليست اللغة العربية، وإنما نقل نقلًا عنهم، ويدل هذا أن القصص في القرآن تختلف بالطول والقصر والألفاظ، مما يدل على أن الله سبحانه ينقلها بالمعنى، ومع ذلك ينسبها إليهم، كما قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني} [الزخرف: 26-27]، وقال عن موسى: {وقال موسى لقومه استعينوا بالله} [الأعراف: 128]، وقال عن فرعون: {قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم} [الشعراء: 34].
قوله: «بما أنزل على محمد». ذكر أهل السنة أن كل كلمة وصف فيها القرآن بأنه منزل أو أنزل من الله، فهي دالة على علو الله- سبحانه وتعالى- بذاته، وعلى أن القرآن كلام الله، لأن النزول يكون من أعلى، والكلام لا يكون إلا من متكلم به.
قوله: «كفر بما أنزل على محمد». وجه ذلك: أن ما أنزل على محمد قال الله تعالى فيه: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65]، وهذا من أقوى طرق الحصر، لأن فيه النفي والإثبات، فالذي يصدق الكاهن في علم الغيب وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله، فهو كافر كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، وإن كان جاهلًا ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب، فكفره كفر دون كفر.
وللأربعة، والحاكم- وقال: (صحيح على شرطهما)- عن أبي هريرة: «من أتى عرافًا أو كاهنًا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد».
قوله: (وللأربعة والحاكم). الأربعة هم: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم ليس من أهل (السنن)، لكن له كتاب سمي (صحيح الحاكم).
قوله: (صحيح على شرطهما)، أي: شرط البخاري ومسلم، لكن قول: (على شرطهما) هذا على ما يعتقد، وإلا، فقد يكون الأمر على خلاف ذلك.
ومعنى قوله: (على شرطهما)، أي: أن رجاله رجال (الصحيحين)، وأن ما اشترطه البخاري ومسلم موجود فيه.
ونحن لا ننكر أن هناك أحاديث صحيحة لم يذكرها البخاري ومسلم، لأنهما لم يستوعبا الصحيح كله، وهذا أمر واقع، ولكن ينظر في قول من قال: إن هذا الحديث على شرطهما، فقد تكون فيه علة خفية خفيت على هذا القائل، ويكون البخاري ومسلم علماها وتركا الحديث من أجلها.
قوله: (صحيح). يقولو: الحاكم ممن يتساهل بالتصحيح، ولهذا قالوا: لا عبرة بتصحيح الحاكم، ولا بتوثيق ابن بحان، ولا بوضع ابن الجوزي، ولا بإجماع ابن المنذر.
وهذا القول فيه مجازفة في الحقيقة، لأن كلمة (لا عبرة)، أي: لا يلتفت إليه، والصواب أنه لا يؤخذ مقبولًا في كل حال، مع أني تدبرت كلام ابن المنذر رحمه الله، ووجدت أنه دائمًا إذا نقل الإجماع يقول: إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، وهو بهذا قد احتفظ لنفسه، ولا يكلف الله نفسًا إلى وسعها.
ولكننا مع ذلك نقول: إذا كان الرجل ذا اطلاع واسع، فقد يكون هذا القول إجماعًا، أما إذا كان هذا الرجل لا يعرف إلى ما حوله، فإن قوله هذا لا يكون إجماعًا ولا يوثق به، ولا نحكم بأنه إجماع.
مثاله: فلو قال رجل: لم يدرس إلا المذهب الحنبلي في مسألة، وقال هذا إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، فإن قوله هذا لا يعتبر، لأنه لم يحفظ إلا قولًا قليلًا من أقوال أهل العلم.
قوله: «من أتى عرافًا أو كاهنًا». (أو) يحتمل أن تكون للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع، فالحديث الأول بلف عراف، والثاني بلفظ كاهن، والثالث جمع بينهما، فتكون (أو) للتنويع.
وجاء المؤلف بهذا الحديث مع أن الأول والثاني مغنيان عنه، لأن كثرة الأدلة مما يقوي المدلول، أرأيت لو أن رجلًا أخبرك بخبر فوثقت به، ثم جاء آخر وأخبرك به ازددت توثقًا وقوة، ولهذا فرق الشارع بين أن يأتي الإنسان بشاهد واحد أو شاهدين.
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفًا.
وعن عمران بن حصين مرفوعًا: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنًا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد». رواه البزار بإسناد جيد.
وظاهر صنيع المؤلف: أن حديث أبي هريرة: «من أتى عرافًا أو كاهنًا» أنه موقوف، لأنه قال عن أبي هريرة، لكنه لما قال في الذي بعده: (موقوفًا) ترجح عندنا أن الحديث الذي قبله مرفوع.
قوله: «ليس منا». تقدم الكلام على هذه الكلمة، وأنها لا تدل على خروج الفاعل من الإسلام، بل على حسب الحال.
قوله: (مرفوعًا)، أي: إلى النبي.
قوله: «تطير». التطير: هو التشاؤم بالمرئي أو المسموع أو المعلوم أو غير ذلك، وأصله من الطير، لأن العرب كانوا يتشاءمون أو يتفاءلون بها، وقد سبق ذلك.
ومنه ما يحصل لبعض الناس إذ شرع في عمل، ثم حصل له في أوله تعثر تركه وتشاءم، فهذا غير جائز، بل يعتمد على الله ويتوكل عليه، وما دمت أنك تعلم أن في هذا الأمر خيرًا، فغامر فيه، ولا تشاءم، لأنك لم توفق فيه لأول مرة، فكم من إنسان لم يوفق في العمل أول مرة، ثم وفق في ثاني مرة أو ثالث مرة؟!
ويقال: إن الكسائي- إمام النحو- طلب النحو عدة مرات، ولكنه لم يوفق، فرأى نملة تحمل نواة تمر، فتصعد بها إلى الجدار، فتسقط، حتى كررت ذلك عدة مرات، ثم صعدت بها إلى الجدار وتجاوزته، فقال: سبحان الله! هذه النملة تكابد هذه النواة حتى نجحت، إذن أنا سأكابد علم النحو حتى أنجح. فكابد، فصار إمام أهل الكوفة في النحو.
قوله: «أو تطير له». بالبناء للمفعول، أي: أمر من يتطير له، مثل أن يأتي شخص، ويقول: سأسافر إلى المكان الفلاني، وأنت صاحب طير، وأريد أن تزجر طيرك لأنظر: هل هذه الوجهة مباركة أم لا، فمن فعل ذلك، فقد تبرأ منه الرسول.
وقوله: «من تطير» يشمل من تطير لنفسه، أو تطير لغيره.
وقوله: «أو تكهن أو تكهن له». سبق أن الكهانة ادعاء علم الغيب في المستقبل، يقول سيكون كذا وكذا، وربما يقع، فهذا متكهن، ومن الغريب أنه شاع الآن في أسلوب الناس قولهم: تكهن بأن فلانًا سيأتي، ويطلقون هذا اللفظ الدال على عمل محرم على أمر مباح، وهذا لا ينبغي، لأن العامي الذي لا يفرق بين الأمور يظن أن الكهانة كلها مباحة، بدليل إطلاق هذا اللفظ على شيء مباح معلوم إباحته.
قوله: «أو تكهن له»، أي: طلب من الكاهن أن يتكهن له، كأن يقول للكاهن: ماذا يصيبني غدًا، أو في الشهر الفلاني، أو في السنة الفلانية، وهذا تبرأ منه الرسول.
قوله: «أو سحر أو سحر له». تقدم تعريف السحر، وتقدم بيان أقسامه.
قوله: «أو سحر له»، أي: طلب من الساحر أن يسحر له، ومنه النشرة عن طريق السحر، فهي داخلة فيه، وكانوا يستعملونها على وجوه متنوعة، منها أنهم يأتون بطست فيه ماء، ويصبون فيه رصاصًا، فيتكون هذا الرصاص بوجه الساحر، أي: تكون صورة الساحر في هذا الرصاص، ويسمونها العامة عندنا (صب الرصاص)، وهذا من أنواع السحر المحرم، وقد تبرأ رسول الله من فاعله.
الشاهد من هذا الحديث: قوله: «ومن أتى كاهنًا....» إلخ، وقوله: (ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس...) إلخ، فيكون هذا مقويًا للأول.
قال البغوي: (العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك).
وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
* قوله: (قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات...). العراف: صيغة مبالغة فإما أن يراد بها الصيغة، وإما أن يراد بها النسبة.
وهو الذي يدعي معرفة تتعلق بعلم الغيب، فيدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها.
وظاهر كلام البغوي رحمه الله: أنه شامل لمن ادعى معرفة المستقبل والماضي، لأن مكان المسروق يعلم بعد السرقة، وكذلك الضالة قد حصل الضياع، ولكن المسألة ليست اتفاقية بين أهل العلم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وقيل: هو)، أي: العراف الكاهن.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
قوله: (وقيل: هو الذي يخبر عما في الضمير)، أي: أن تضمر شيئًا فتقول: ما أضمرت؟ فيقول: أضمرت كذا وكذا.
أو المغيبات في المستقبل، تقول: ماذا سيحدث في الشهر الفلاني في اليوم الفلاني؟ ماذا ستلد امرأتي؟ متى يقدم ولدي؟ وهو لا يدري.
والخلاصة: أن العلماء اختلفوا في تعريف العراف، فقيل: هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها، فيكون شاملًا لمن يخبر عن أمور وقعت.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقال أبو العباس ابن تيمية: (العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق).
قوله: (وقال أبو العباس ابن تيمية). هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، يكنى بأبي العباس، ولم يتزوج، ولم يتركه من باب الرهبانية، ولكنه والله أعلم كان مشغولًا بالجهاد العلمي مع قلة الشهوة، وإلا لو كان قوي الشهوة لتزوج، وليس كما يدعي المزورون أن له ولدًا مدفونًا إلى جانبه في دمشق، فإنه غير صحيح قطعًا.
وظاهر كلام الشيخ: أن شيخ الإسلام جزم بهذا، ولكن شيخ الإسلام قال: وقيل العراف، وذكره بقيل، ومعلوم أن ما ذكر بقيل ليس مما يجزم بأن الناقل يقول به، صحيح أنه إذا نقله ولم ينقضه، فهذا دليل على أنه ارتضاه.
وعلى كل حال، فشيخ الإسلام ساق هذا القول وارتضاه، ثم قال: ولو قيل: إنه اسم خاص لبعض هؤلاء الرمال والمنجم ونحوهم، فإنهم يدخلون فيه بالعموم المعنوي، لأن عندنا عمومًا معنويًّا، وهو ما ثبت عن طريق القياس، وعمومًا لفظيًّا، وهو ما دل عليه اللفظ، بحيث يكون اللفظ شاملًا له.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات.
الحال الأولى: أن يستخدم في طاعة الله، كأن يكون له نائبًا في تبليغ الشرع، فمثلًا: إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم، ويتلقى منه، وهذا شيء ثبت أن الجن قد يتعلمون من الإنس، فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعًا، فهذا لا بأس به، بل إنه قد يكون أمرًا محمودًا أو مطلوبًا، وهو من الدعوة إلى الله- عز وجل-، والجن حضروا النبي وقرأ عليهم القرآن، وولوا إلى قومهم منذرين، والجن فيهم الصلحاء والعباد والزهاد والعلماء، لأن المنذر لابد أن يكون عالمًا بما ينذر، عابدًا مطيعًا لله- سبحانه- في الإنذار.
الحال الثانية: أن يستخدمهم في أمور مباحة، مثل أن يطلب منهم العون على أمر من الأمور المباحة، قال: فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة، صار حرامًا، كما لو كان الجني لا يساعده في أموره إلا إذا ذبح له أو سجد له أو ما أشبه ذلك.
ثم ذكر ما ورد أن عمر تأخر ذات مرة في سفره، فاشتغل فكر أبي موسى، فقالوا له: إن امرأة من أهل المدينة لها صاحب من الجن، فلو أمرتها أن ترسل صاحبها للبحث عن عمر، ففعل، فذهب الجني، ثم رجع، فقال: إن أمير المؤمنين ليس به بأس، وهو يسم إبل الصدقة في المكان الفلاني، فهذا استخدام في أمر مباح.
الحال الثلاثة: أن يستخدمهم في أمور محرمة، كنهب أموال الناس وترويعهم، وما أشبه ذلك، فهذا محرم، ثم إن كان الوسيلة شركًا صار شركًا، وإن كان وسيلته غير شرك صار معصية، كما لو كان هذا المجني الفاسق يألف هذا الإنسي الفاسق ويتعاون معه على الإثم والعدوان، فهذا يكون إثمًا وعدوانًا، ولا يصل إلى حد الشرك.
ثم قال: إن من يسأل الجن، أو يسأل من الجن، ويصدقهم في كل ما يقولون، فهذا معصية وكفر، والطريق للحفظ من الجن هو قراءة آية الكرسي، فمن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، كما ثبت ذلك عنه، وهي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} الآية.
وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أباجاد) وينظرون في النجوم: (ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق).
قوله: (يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم). والواو هنا ليست عطفًا، ولكنها للحال، يعني: والحال أنهم ينظرون، فيربطون ما يكتبون بسير النجوم وحركتها.
قوله: (ما أرى من فعل ذلك). ويجوز بفتح الهمزة بمعنى: أعلم، وبالضم بمعنى: ما أظن.
وقوله: (أباجاد). هي: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضطغ... وتعلم أباجاد ينقسم إلى قسمين:
الأول: تعلم مباح بأن نتعلمها لحساب الجمل، وما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به، وما زال أناس يستعملونها، حتى العلماء يؤرخون بها، قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تاريخ بناء المسجد الجامع القديم:
جد بالرضا واعط المنى ** من ساعدوا في ذا البنا

تاريخه حين انتهى ** قول المنيب اغفر لنا

والشهر في شوال يا ** رب تقبل سعينا

فقوله: (اغفر لنا) لو عددناها حسب الجمل صارت 1362هـ.
وقد اعتنى بها العلماء في العصور الوسطى، حتى في القصائد الفقهية والنحوية وغيرها.
ويؤرخون بها مواليد العلماء ووفياتهم، ولم يرد ابن عباس هذا القسم.
الثاني: محرم، وهو كتابة (أبا جاد) كتابة مربوطة بسير النجوم وحركتها وطلوعها وغروبها، وينظرون في النجوم ليستدلوا بالموافقة أو المخالفة على ما سيحدث في الأرض، إما على سبيل العموم، كالجذب والمرض والجرب وما أشبه ذلك، أو على سبيل الخصوص، كأن يقول لشخص: سيحدث لك مرض أو فقر أو سعادة أو نحس في هذا وما أشبه ذلك، فهم يربطون هذه بهذه، وليس هناك علاقة بين حركات النجوم واختلاف الوقائع في الأرض.
وقوله: (ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق).
قوله: (خلاق)، أي: نصيب.
ظاهر كلام ابن عباس أنه يرى كفرهم، لأن الذي ليس له نصيب عند الله هو الكافر، إذ لا ينفى النصيب مطلقًا عن أحد من المؤمنين، وإن كان له ذنوب عذب بقدر ذنوبه، أو تجاوز الله عنها، ثم صار آخر أمره إلى نصيبه الذي يجده عند الله.
ولم يبين المؤلف رحمه الله حكم الكاهن والمنجم والرمال من حيث العقوبة في الدنيا، وذلك أننا إن حكمنا بكفرهم، فحكمهم في الدنيا أنهم يستتابون، فإن تابوا، وإلا، قتلوا كفرًا.
وإن حكمنا بعدم كفرهم، إما لكون السحر لا يصل إلى الكفر، أو قلنا: إنهم لا يكفرون، لأن المسألة فيها خلاف، فإنه يجب قتلهم لدفع مفسدتهم ومضرتهم، حتى وإن قلنا بعدم كفرهم، لأن أسباب القتل ليست مختصة بالكفر فقط، بل للقتل أسباب متعددة ومتنوعة، قال تعال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33]، فكل من أفسد على الناس أمور دينهم أو دنياهم، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا، قتل، ولا سيما إذا كانت هذه الأمور تصل إلى الإخراج من الإسلام.
والنظر في النجوم ينقسم إلى أقسام:
الأول: أن يستدل بحركاتها وسيرها على الحوادث الأرضية، سواء كانت عامة أو خاصة، فهو شرك إن اعتقد أن هذه النجوم هي المدبرة للأمور، أو أن لها شركًا، فهو كفر مخرج عن الملة، وإن اعتقد أنها سبب فقط، فكفره غير مخرج من الملة، ولكن يسمى كفرًا، لقول النبي على إثر سماء كانت من الليل: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب».
وقد سبق لنا أن هذا الكفر ينقسم إلى قسمين بحسب اعتقاد قائله.
الثاني: أن يتعلم علم النجوم ليستدل بحركاتها وسيرها على الفصول وأوقات البذر والحصاد والغرس وما أشبهه، فهذا من الأمور المباحة، لأنه يستعان بذلك على أمور دنيوية.
القسم الثالث: أن يتعلمها لمعرفة أوقات الصلوات وجهات القبلة، وما أشبه ذلك من الأمور المشروعة، فالتعلم هنا مشروع، وقد يكون فرض كفاية أو فرض عين.
* فيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. الثانية: التصريح بأنه كفر. الثالثة: ذكر من تكهن له. الرابعة: ذكر من تطير له. الخامسة: ذكر من سحر له. السادسة: ذكر من تعلم أباجاد.
فيه مسائل:
* الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. يؤخذ من قوله: «من أتى كاهنًا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد»، ووجهه: أنه كذب بالقرآن وهذا من أعظم الكفر.
* الثانية: التصريح بأنه كفر. تؤخذ من قوله: «فقد كفر بما أنزل على محمد».
* الثالثة: ذكر من تكهن له. تؤخذ من حديث عمران بن حصين، حيث قال: «ليس منا»، أي: إنه كالكاهن في براءة النبي منه.
* الرابعة: ذكر من تطير له. تؤخذ من قوله: «أو تطير له».
* الخامسة: ذكر من سحر له. تؤخذ من قوله: «أو سحر له».
وأتى المؤلف بذكر من تكهن له، أو سحر له، أو تطير له، لأنه قد يعارض فيه معارض، فيقول هذا في الكهان، وهذا من المتطيرين، وهذا في السحرة، فقال: إن من طلب أن يفعل له ذلك، فهو مثلهم في العقوبة.
* السادسة: ذكر من تعلم أباجاد. وتعلم ذلك فيه تفصيل لا يحمد ولا يذم، إلا على حسب الحال التي تنزل عليها، وقد سبق ذلك.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
* السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف. وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أن العراف هو الكاهن، فمهما مترادفان، فلا فرق بينهما.
القول الثاني: أن العراف هو الذي يستدل على معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها، فهو أعم من الكاهن، لأنه يشمل الكاهن وغيره، فهما من باب العام والخاص.
القول الثالث: أن العراف يخبر عن أمور بمقدمات يستدل عليها، والكاهن هو الذي يخبر عما في الضمير، أو عن المغيبات في المستقبل.
فالعراف أعم، أو أن العراف يختص بالماضي، والكاهن بالمستقبل، فهما متباينان، والظاهر أنهما متباينان، فالكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل والعراف من يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.