فصل: باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح:

فكيف إذا عبده؟!
قوله: (التغليظ)، التشديد.
قوله: (من عبد الله عند قبر رجل صالح)، أي: عمل عملًا تعبد الله به من قراءة أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك.
قوله: (فكيف إذا عبده؟)، أي: يكون أشد وأعظم، وذلك لأن المقابر والقبور للصالحين أو من دونهم من المسلمين أهلها بحاجة إلى الدعاء، فهم يزارون لينفعوا لا لينتفع بهم إلا باتباع السنة في زيارة المقابر، والثواب الحاصل بذلك، لكن هذا ليس انتفاعًا بأشخاصهم، بل انتفاع بعمل الإنسان نفسه بما أتى به من السنة.
فالزيارة التي يقصد منها الانتفاع بالأموات زيارة بدعية.
والزيارة التي يقصد بها نفع الأموات والاعتبار بحالهم زيارة شرعية.
في الصحيح عن عائشة، أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال:
قوله: (في الصحيح)، أي: (الصحيحين)، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: (أم سلمة)، كانت ممن هاجر مع زوجها إلى أرض الحبشة، ولما توفي زوجها أبو سلمة تزوجها النبي، وأخبرته وهو في مرض موته بما رأتِ، كما في (الصحيح).
قولها: (من الصور) الظاهر أن هذه الصور مجسمة وتماثيل منصوبة.
«أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله».
قوله: (أولئك)، المشار إليهم نصارى الحبشة، ويحتمل أن يراد من فعلوا هذه الأفعال أيًّا كانوا.
وقوله: (أولئك) يجوز في الكاف إذا كان الخطاب لأم سلمة، والفتح إذا كان الخطاب باعتبار الجنس.
وقد ذكر العلماء أن في كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يكون مطابقًا للمخاطب المفرد للمفرد والمثنى للمثنى والجمع للجمع، مذكرًا كان أم مؤنثًا.
الوجه الثاني: الفتح مطلقًا.
الوجه الثالث: الكسر للمؤنث مطلقًا، والفتح للمذكر مطلقًا.
وأشهرها: أن يكون مطابقًا للمخاطب، ثم الفتح مطلقًا، ثم الفتح للمذكر، والكسر للمؤنث.
قوله: (الرجل الصالح أو العبد الصالح)، أو: شك من الراوي.
قوله: (بنوا على قبره)، أي: قبر ذلك الرجل الصالح.
قوله: (صوروا فيه تلك الصور)، أي: التي رأت، والأقرب أنها صورة ذلك الرجل الصالح، وربما أنهم يضيفون إلى صورته صورة بعض الصالحين، وربما تكون الصور على أحجام مختلفة، فتجتمع منها صور كثيرة.
قوله: (أولئك شرار الخلق عند الله)، لأن عملهم هذا وسيلة إلى الكفر والشرك، وهذا أعظم الظلم وأشده، فما كان وسيلة إليه، فإن صاحبه جدير بأن يكون من شرار الخلق عند الله- سبحانه وتعالى-.
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل)، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قوله: (فتنة القبور)، لأنهم بنوا المساجد عليها.
قوله: (فتنة التماثيل)، لأنهم صوروا فجمعوا بين فتنتين، وإنما سمي ذلك فتنة، لأنها سبب لصد الناس عن دينهم، وكل ما كان كذلك، فإنه من الفتنة، قال تعالى: {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 1-2]، وقال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10]، أي: صدوهم، أو فعلوا ما يصدونهم به عن دين الله.
ولهما عنها، قالت: لما نزل برسول الله، طفق يطرح خميصة له على وجه، فإذا اغتم بها، كشفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
قوله: (ولهما)، الضمير يعود على البخاري ومسلم، وإن لم يسبق لهما ذكر، لكنه لما كان ذلك مصطلحًا معروفًا، صح أن يعود الضمير عليهما، وهما لم يذكرا اعتمادًا على المعروف المعهود.
وقوله: (عنها)، أي: عن عائشة.
قالت: (لما نزل برسول الله)، أي: نزل به ملك الموت لقبض روحه.
قوله: (طفق)، من أفعال المشروع، واسمها مستتر، وجملة (يطرح) خبرها.
قوله: (خميصة)، هي كساء مربع له أعلام كان يطرحه النبي على وجهه.
قوله: (فإذا اغتم بها)، أي أصابه الغم بسببها، وقد احتضر.
قوله: (وهو كذلك)، أي: وهو في هذه الحال عند الاحتضار.
قوله: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يقول هذا في سياق الموت، و: (لعنة الله)، أي: طرده وإبعاده، وهذه الجملة يحتمل أنه يراد بها ظاهر اللفظ، أي: أن النبي يخبر بأن الله لعنهم.
ويحتمل أن يراد بها الدعاء، فتكون خبرية لفظًا إنشائية معنى، والمعنى على هذا الاحتمال أن النبي دعا عليهم وهو في سياق الموت بسبب هذا الفعل.
قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، الجملة هذه تعليل لقوله: «لعنة الله على اليهود والنصارى»، كأن قائلًا يقول: لماذا لعنهم النبي، فكان الجواب: أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، أي: أمكنة للسجود، سواء بنوا مساجد أم لا، يصلون ويعبدون الله تعالى فيها مع أنها مبينة على القبور.
يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك، أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا. أخرجاه.
قوله: (يحذر ما صنعوا)، أي: إنه قال ذلك في سياق الموت تحذيرًا لأمته مما صنع هؤلاء، لأنه علم أنه سيموت وأنه ربما يحصل هذا ولو في المستقبل البعيد.
قوله: (ولولا ذلك أبرز قبره)، أبرز، أي: أخرج من بيته، لأن البروز معناه الظهور، أي لولًا التحذير وخوف أن يتخذ قبره مسجدًا، لأخرج ودفن في البقيع مثلًا، لكنه في بيته أصون له، وأبعد عن اتخاذه مسجدًا، فلهذا لم يبرز قبره، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت أن لا يبرز مكان قبره.
ومن أسباب ذلك: إخباره أنه ما قبض نبيي إلا دفن حيث قبض، ولا مانع أن يكون للحكم الواحد سببان فأكثر، كما أن السبب الواحد قد يترتب عليه حكمان أو أكثر، كغروب الشمس يترتب عليه جواز إفطار الصائم، وصلاة المغرب.
قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا)، خشي فيها روايتان: خشي، وخشي.
فعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منهم الخشية الصحابة رضى الله عنهم.
وعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منه الخشية النبي.
والحقيقة أن الأمر كله حاصل، فالرسول أخبر بأنه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، ولعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد خوفًا من اتخاذ قبره مسجدًا، والصحابة رضي أي عنهم اتفقوا على أن يدفن في بيته بعد تشاورهم لأنهم خشوا ذلك.
ويجوز أن يكون بعضهم أشار بأن بدفن في بيته، وليس في ذهنه إلا هذه الخشية، وبعضهم أشار أن يدفن في بيته وعنده علم بأنه قال: «ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض»، وخوفًا من اتخاذه مسجدًا.
في هذا الحديث والحديث السابق: التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وهم أفضل الصالحين، لأن مرتبة النبيين هي المرتبة الأولى من المراتب الأربع التي قال الله تعالى عنها: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا} [النساء: 69].
* اعتراض وجوابه:
إذا قال قائل: نحن الآن واقعون في مشكلة بالنسبة لقبر الرسول الآن، فإنه في وسط المسجد، فما هو الجواب؟
قلنا: الجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المسجد لم يبن على القبر، بل بني المسجد في حياة النبي.
الوجه الثاني: أن النبي لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن في بيته.
الوجه الثالث: أن إدخال بيوت الرسول، ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك عام 94هـ تقريبًا، فليس مما أجازة الصحابة أو أجمعوا عليه، مع أن بعضهم خالف في ذلك، وممن خالف أيضًا سعيد بن المسيب من التابعين، فلم يرض بهذا العمل.
الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد، حتى بعد إدخاله، لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد، فليس المسجد مبنيًا عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظًا ومحوطًا بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة، أي مثلث، والركن في الزاوية الشمالية، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف.
فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور، ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم، والمسلمون قد أقروه ولم ينكروه، فنقول: إن الإنكار قد وجد حتى في زمن التابعين، وليس محل إجماع، وعلى فرض أنه إجماع، فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله، قال: سمعت النبي قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذي خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».
قوله: (بخمس)، أي: خمس ليال، لكن العرب تطلقها على الأيام والليالي.
قوله: (أبرأ)، البراءة: هي التخلي، أي: أتخلى أن يكون لي منكم خليل.
قوله: (خليل)، هو الذي يبلغ في الحب غايته، لأنه حبه يكون قد تخلل الجسم كله، قال الشاعر يخاطب محبوبته:
قد تخللت مسلك الروح مني ** وبهذا سمي الخليل خليلًا

والخلة أعظم أنواع المحبة وأعلاها، ولم يثبتها الله- عز وجل- فيما نعلم إلا لاثنين من خلقه، وهما: إبراهيم في قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا} [النساء: 125]، ومحمد لقوله: «إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا».
وبهذا تعرف الجهل العظيم الذي يقوله العامة: إن إبراهيم خليل الله، ومحمدًا حبيب الله، وهذا تنقص في حق الرسول، لأنهم بهذه المقالة جعلوا مرتبة النبي دون مرتبة إبراهيم، ولأنهم إذا جعلوه حبيب الله لم يفرقوا بينه وبين غيره من الناس، فإن الله يحب المحسنين والصابرين، وغيرهم ممن علق الله بفعلهم المحبة، فعلى رأيهم لا فرق بين الرسول وغيره، لكن الخلة ما ذكرها الله إلا لإبراهيم، والنبي أخبر أن الله اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا.
فالمهم: أن العامة مشكل أمرهم، دائمًا يصفون الرسول بأنه حبيب الله، فنقول: أخطأتم وتنقصتم نبيكم، فالرسول خليل الله، لأنكم إذا وصفتموه بالمحبة أنزلتموه عن بلوغ غايتها.
قوله: «فإن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا»، هذا تعليل لقوله: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل»، فالنبي ليس في قلبه خلة لأحد إلا الله- عز وجل-.
قوله: «ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا».
وهذا نص صريح على أن أبا بكر أفضل من علي، رضي الله عنهما، وفي هذا رد على الرافضة الذين يزعمون أن عليًّا أفضل من أبي بكر.
وقوله: (لو)، حرف امتناع لامتناع، فيمتنع الجواب لامتناع الشرط، وعلى هذا امتنع من اتخاذ أبي بكر خليلًا لأنه يمتنع أن يتخذ من أمته خليلًا.
قوله: (ألا وإن من كان قبلكم)، للتنبيه، وهذه الجملة في أثناء الحديث لكنه ابتدأها بالتنبيه لأهمية المقام.
قوله: (ألا فلا تتخذوا)، هذا تنبيه آخر للنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهذا عام يشمل قبره وقبر غيره.
قوله: (فإني أنهاكم عن ذلك)، هذا نهي باللفظ دون الأداة تأكيدًا لهذا النهي لأهمية المقام.
* من فوائد الحديث:
1- أن النبي تبرأ من أن يتخذ أحدًا خليلًا، لأن قلبه مملوء بمحبة الله تعالى.
2- أن الله تعالى اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ففيه فضيلة لرسول الله.
3- فضيلة إبراهيم باتخاذه خليلًا.
4- فضيلة أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة لأن الحديث يدل على أنه أحب الصحابة إلى الرسول.
5- التحذير من اتخاذ القبور مساجد في قوله: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد»، وقوله: «فإني أنهاكم عن ذلك».
6- أن من دفن شخصًا في مسجد وجب عليه نبشه إخراجه من المسجد.
7- حرص النبي على أمته في إبعادهم عن الشرك وأسبابه، لأن اتخاذ القبور مساجد من وسائل الشرك وذرائعه، ولهذا حرص النبي على تحذير أمته منه، وهذا من كما رأفته ورحمته بالأمة.
8- أن من بنى مسجدًا على قبر وجب عليه هدمه.
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن- وهو في السياق- من فعله.
والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد.
قوله: (فقد نهي عنه في آخر حياته...) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقوله: (فقد نهي عنه في آخر حياته) الضمير يعود إلى النبي، والمنهي عنه هو اتخاذ القبور مساجد.
قوله: (ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله)، فالنبي وهو عند فراق الدنيا لعن من اتخذ القبور مساجد.
قوله: (والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد).
(عندها)، أي: عند القبور، وقوله: (من ذلك)، أي: من اتخاذها مساجد، وعلى هذا، فلا تجوز الصلاة عند القبور، ولهذا نهي النبي، كما في (صحيح مسلم) من حديث أبي مرثد الغنوي أن يصلى إلى القبور، فقال: «لا تصلوا إلى القبور».
وهو معنى قولها: «خشي أن يتخذ مسجدًا»، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه، فقد اتخذ مسجدًا، بل كل مواضع يصلى فيه، يسمى مسجدًا، كما قال: «جعلت لي أرض مسجدًا وطهورًا».
قوله: (وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدًا) الضمير في (قولها) يرجع إلى عائشة رضي الله عنها.
قوله: (فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قد يقال: (خشي أن يتخذ مسجدًا)، أي: مكانًا يصلى فيه، وإن لم يبن المسجد.
ولا ريب أن أصل تحريم بناء المساجد على القبور أن المساجد مكان الصلاة، والناس يأتون إليها للصلاة فيها، فإذا صلى الناس في مسجد بني على قبر، فكأنهم صلوا عند القبر، والمحذور الذي يوجد في بناء المساجد على القبور يوجد فيما إذا اتخذ هذا المكان للصلاة، وإن لم يبن مسجد.
فتبين بهذا أن اتخاذ القبور مساجد له معنيان:
الأول: أن تبنى عليها مساجد.
الثاني: أن تتخذ مكانًا للصلاة عندها وإن لم يبن المسجد، فإذا كان هؤلاء القوم مثلًا يذهبون إلى هذا القبر ويصلون عنده ويتخذونه مصلى، فإن هذا بمعنى بناء المساجد عليها، وهو أيضًا من اتخاذها مساجد.
قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه، فقد اتخذ مسجدًا).
وهذا يشهد له العرف، فإن الناس الذين لهم مساجد في مكان أعمالهم، كالوزارات والإدارات لو سألت واحدًا منهم أين المسجد؟ لأشار إلى المكان الذي اتخذوه مصلى يصلون فيه، مع أنه لم يبن، لكن لما كانت الصلاة تقصد فيه، صار يسمى مسجدًا.
قوله: (بل كل موضع يصلى...)، فقوله: (مسجدًا)، أي: مكانًا للسجود، وهذا معنى ثالث زائد على المعنيين الأولين، وهو أن يقال: كل شيء تصلي فيه، فإنه مسجد ما دمت تصلي فيه، كما قال للسجادة التي تصلي عليها مسجد أو مصلى وإن كان الغالب عليها اسم مصلى.
* الخلاصة:
إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، لأنها وسيلة إلى الشرك، وهو عبادة صاحب القبر.
ولا يجوز أيضًا أن تقصد القبور للصلاة عندها، وهذا من اتخاذها مساجد، لأن العلة من اتخاذها مساجد موجودة في الصلاة عندها، فلو فرض أن رجلًا يذهب إلى المقبرة ويصلي عند قبر ولي من الأولياء على زعمه، قلنا: إنك اتخذت هذا القبر مسجدًا، وإنك مستحق لما استحقه اليهود والنصارى من اللعنة، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية دليل على صحة تسمية كل شيء يصلى فيه مسجدًا بالمعنى العام.
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود (رضي الله عنه) مرفوعًا: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد». ورواه أبو حاتم في (صحيحه).
قوله: (مرفوعًا)، المرفوع: ما أسند إلى النبي.
قوله: (إن من شرار الناس)، من: للتبعيض، وشرار: جمع شر، مثل صحاب جمع صحب، والمعنى: أصحاب الشر، وفي هذا دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر، وأن بعضهم أشد من بعض.
قوله: (من تدركهم الساعة)، من: اسم موصول اسم إن، والساعة، أي: يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها داهية، وكل شيء داهية عظيمة يسمى ساعة، كما يقال: هذه ساعتك في الأمور الداهية التي تصيب الإنسان.
قوله: (وهم أحياء)، الجملة حال من الهاء في (تدركهم).
وفي قوله: (تدركهم الساعة وهم أحياء) إشكال، وهو أنه ثبت عن النبي قوله: «لا تزل طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله»، وفي رواية: «حتى تقوم الساعة»، فكيف نوفق بين الحديثين لأن ظاهر الحديث الذي ساقه المؤلف إن كل من تدركهم الساعة وهم أحياء، فهم من شرار الخلق؟!
والجمع بينهما أن يقال: إن المراد بقوله: «حتى تقوم الساعة»، أي: إلى قرب قيام الساعة، وليس إلى قيامها بالفعل، لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق، فالله يرسل ريحًا تقبض نفس كل مؤمن ولا يبقى إلى شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.
قوله: (الذين يتخذون القبور مساجد)، فهم من شرار الخلق، وإن لم يشركوا، لأنهم فعلوا وسيلة من وسائل الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، وإن كانت دون مرتبتها، لكنها تعطى حكمها بالمعنى العام، فإن كانت وسيلة لواجب صارت واجبة، وإن كانت وسيلة لمحرم، فهي محرمة.
فشر الناس في هذا الحديث ينقسمون إلى صنفين:
الأول: الذين تدركهم الساعة وهم أحياء.
الثاني: الذين يتخذون القبور مساجد.
وفي قوله: (إن من شرار الناس) دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر، لأن بعضهم أشد من بعض فيه، كما أنهم يتفاوتون في الخير أيضًا، لقوله تعالى: {هم درجات عن الله والله بصير بما يعملون} [آل عمران: 163]، وذلك من حيث الكمية، فمن صلى ركعتين، فليس كمن صلى أربعًا.
ومن حيث الكيفية، فمن صلى وهو قانت خاشع حاضر القلب، ليس كمن صلى وهو غافل.
ومن حيث النوعية، فالفرض أفضل من النفل، وجنس الصلاة أفضل من جنس الصدقة، لأن الصلاة أفضل الأعمال البدنية.
وهذا الذي تدل عليه الأدلة مذهب أهل السنة والجماعة، وهو التفاضل في الأعمال، حتى في الإيمان الذي هو في القلب يتفاضل الناس فيه، بل إن الإنسان يحس في نفسه أنه في بعض الأحيان يجد في قلبه من الإيمان ما لا يجده في بعض الأحيان، فكيف بين شخص وشخص؟ فهو يتفاضل أكثر.
* وخلاصة الباب:
أنه يجب البعد عن الشرك ووسائله، ويغلظ على من عبد الله عند قبر رجل صالح.
وكلام المؤلف رحمه الله في قوله: (فيمن عبد الله) يشمل الصلاة وغيرها والأحاديث التي ساقها في الصلاة، لكنه رحمه الله كأنه قاس غيرها عليها، فمن زعم أن الصدقة عند هذا القبر أفضل من غيره، فهو شبيه بمن اتخذه مسجدًا لأنه يرى أن لهذه البقعة أو لمن فيها شأنًا يفضل به على غيره، فالشيخ عمم، والدليل خاص.
فإن قيل: لا يستدل بالدليل الخاص على العام؟
أجيب: إن الشيخ أراد بذلك أن العلة هي تعظيم هذا المكان، لكونه قبرًا، وهذا كما يوجد في الصلاة يوجد في غيرها من العبادات، فيكون التعميم من باب القياس لا من باب شمول النص له لفظًا.
* فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدًا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
فيه مسائل:
* الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدًا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل، تؤخذ من لعن النبي الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قوله: (ولو صحت نية)، لأن الحكم علق على مجرد صورته، فهذا العمل لا يحتاج إلى نية لأنه معلق مجرد الفعل.
فالنية تؤثر في الأعمال الصالحة وتصحيحها، وتؤثر في الأعمال التي لا يقدر عليها فيعطي أجرها، وما أشبه ذلك، بخلاف ما علق على فعل مجرد، فلا حاجة فيه إلى النية.
أي: ولو كان يعبد الله، ولو كان يريد التقرب إلى الله ببناء هذا المسجد اعتبارًا بما يؤول إليه الأمر، وبالنتيجة السيئة التي تترتب على ذلك، وهذه النقطة نتدرج منها إلى نقطة أخرى، وهي التحذير من مشابهة المشركين وإن لم يقصد الإنسان المشابهة، وهذه قد تخفى على بعض الناس، حيث يظن أن التشبه إنما يحرم إذا قصدت المشابه، والشرع إنما علق الحكم بالتشبه، أي: بأن يفعل ما يشبه فعلهم، سواء قصد أو لم يقصد، ولهذا قال العلماء في مسألة التشبه: وإن لم ينو ذلك، فإن التشبه يحصل بمطلق الصورة.
فإن قيل: قاعدة: «إنما الأعمال بالنيات» هل تعارض ما ذكرنا؟
الجواب: لا تعارضه، لأن ما علق بالعمل ثبت له حكمه وإن لم ينو الفعل، كالأشياء المحرمة، كالظهار، والزنا، وما أشبهها.
*
الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك، تؤخذ من قوله: (وصوروا فيه تلك الصور)، ولا سيما إذا كانت هذه الصور معظمة عادة، كالرؤساء، والزعماء، والأب، والأخ، والعم.
أو شرعًا، مثل: الأولياء، والصالحين، والأنبياء، وما أشبه ذلك.
* الثالثة: العبرة في مبالغته في ذلك، كيف بين لهم هذا أولًا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال؟! ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
وهذا مما يدل على حرص النبي على حماية جانب التوحيد، لأنه خلاصة دعوة الرسل، ولأن التوحيد أعظم الطاعات، فالمعاصي ولو كبرت أهون من الشرك، حتى قال بن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا)، لأن الحلف بغيره نوع من الشرك، والحلف بالله كاذبًا معصية، وهي أهون من الشرك.
فالشرك أمره عظيم جدًّا، ونحن نحذر إخواننا المسلمين مما هم عليه الآن من الانكباب العظيم على الدنيا حتى غفلوا عما خلقوا له، واشتغلوا بما خلق لهم، فعامة الناس الآن تجدهم مشتغلين بالدنيا، ليس في أفكارهم إلا الدنيا قائمين وقاعدين ونائمين ومستيقظين، وهذا في الحقيقة نوع من الشرك، لأنه يوجب الغفلة عن الله- عز وجل-، ولهذا سمى النبي من فعل ذلك عبدًا لما تعبد له، فقال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة»، ولو أقبل العبد على الله بقلبه وجوارحه لحصل ما قدر له من الدنيا، فالدنيا وسيلة وليست غاية، وتعس من جعلها غاية، كيف تجعلها غاية وأنت لا تدري مقامك فيها؟! وكيف تجعلها غاية وسرورها مصحوب بالأحزان، كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ** ويوم نساء ويوم نسر

فالحاصل: أن النبي بعث لتحقيق عبادة الله، ولهذا كان حريصًا على سد كل الأبواب التي تؤدي إلى الشرك، فالرسول حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات:
الأولى: في سائر حياته.
والثانية: قبل موته بخمس.
والثالثة: وهو في السياق.
* الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر، تؤخذ من قوله: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد»، فإن قبره داخل في ذلك بلا شك، بل أول ما يدخل فيه.
* الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، تؤخذ من قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وبئس رجلًا جعل إمامه اليهود والنصارى وتشبه بهم في قبيح أعمالهم.
* السادسة: لعنه إياهم على ذلك، تؤخذ من قوله: «لعنة الله على اليهود والنصارى».
* السابعة: أن مراده تحذيره إيانًا عن قبره، تؤخذ من قول عائشة: «يحذر ما صنعوا» أي: ما صنعه اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره. التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدًا. العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجدًا وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
* الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره، تؤخذ من قول عائشة: (ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا).
هناك علة أخرى، وهي: إخباره بأنه من نبي يموت إلا دفن حيث يموت، ولا يمتنع أن يكون للحكم علتان، كما لا يمتنع أن يكون للعلة حكمان.
* التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدًا، سبق أن ذكرنا أن لها معنيين:
1- بناء المساجد عليها.
2- اتخاذها مكانًا للصلاة تقصد فيصلى عندها، بل إن من صلى عندها ولم يتخذها للصلاة، فقد اتخذها مسجدًا بالمعنى العام.
* العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجدًا وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
ومعنى هذا أن الرسول ذكر التحذير من الشرك قبل أن يموت.
وقوله: (مع خاتمته)، وهي: أن من تقوم عليهم شرار الخلق والذين تقوم عليهم الساعة وهم أحياء، هؤلاء الكفار، والذين يتخذون القبور مساجد هؤلاء فعلوا أسباب الشرك والكفر.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفين اللتين هما أشر هما البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
* الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع.
قوله: (قبل أن يموت بخمس)، أي: خمس ليال، والعرب يعبرون عن الأيام بالليالي وبالعكس.
قوله: (أشر أهل البدع)، يقال: أشر، ويقال: شر، بحذف الهمزة، وهو الأكثر استعمالًا.
وإنما تكلم المؤلف رحمه الله عن حال الرافضة والجهمية وحكمهما قبل ذكر اسمهما من أجل تهييج النفس على معرفتهما والاطلاع عليهما، لأن الإنسان إذا ذكر له الحكم والوصف قبل ذكر الموصوف والمحكوم عليه، صارت نفسه تتطلع وتتشوق إلى هذا، فلو قال من أول الكلام: الرد على الرافضة والجهمية، فلا يكون للإنسان التشوق مثل ما لو تكلم عن حالهما وحكمهما أولًا.
وحالهما: أنها أشر أهل البدع.
وحكمهم: أن بعض أهل العلم أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة.
والرافضة: اسم فاعل من رفض الشيء إذا استبعده، وسموا بذلك لأنهم رفضوا زيد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما، وقال: هما وزيرًا جدي. فرفضوه وتركوه، وكانوا في السابق معه، لكن لما قال الحق المخالف لأهوائهم، نفروا منه والعياذ بالله، فسموا رافضة.
وأصل مذهبهم من عبد الله بن سبأ، وهو يهودي تلبس بالإسلام، فأظهر التشيع لآل البيت والغلو فيهم ليشغل الناس عن دين الإسلام ويفسده كما أفسد بولص دين النصارى عندما تلبس بالنصرانية.
وأول ما أظهر ابن سبأ بدعته في عهد علي بن أبي طالب، حتى إنه جاءه وقال: أنت الله حقًا- والعياذ بالله-. فأمر علي بالأخدود فحفرت، وأمر بالحطب فجمع، وبالنار فأوقدت، ثم أحرقهم بها، إلا أنه يقال: إن عبد الله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر ونشر بدعته، فالله أعلم.
فالمهم أن عليًّا رضي الله عنه رأى أمرًا لم يحتمله، حيث ادعوا فيه الألوهية فأحرقهم بالنار إحراقًا، ثم بدأت هذه الفرقة الخبيثة تتكاثر، لأن شعارها في الحقيقة النفاق الذي يسمونه التقية، ولهذا كانت هذه الفرقة أخطر ما يكون على الإسلام، لأنها تتظاهر بالإسلام والدعوة إليه، وتقيم شعائره الظاهرة، كتحريم الخمور وما أشبه ذلك، لكنها تناقضه في الباطن، فهم يرون أثمتهم آلهة تدير الكون، وأنهم أفضل من الأنبياء والملائكة والأولياء، وأنهم في مرتبة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهؤلاء كيف يصح أن تقبل منهم دعوى الإسلام، وذلك يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من كتبه قولًا إذا أطلع عليه الإنسان عرف حالهم: (إنهم أشد الناس ضررًا على الإسلام، وأنهم هجروا المساجد وعمروا المشاهد)، فهم يقولون: لا نصلي جماعة إلا خلف إمام معصوم ولا معصوم الآن، وهم أول من بنى المشاهد على القبور كما قال الشيخ هنا، ورموا أفضل أتباع الرسول على الإطلاق- وهما أبو بكر وعمر- بالنفاق، وإنهما ماتا على ذلك، كعبد الله بن أبي بن سلول وأشباهه والعياذ بالله، فانظر بماذا تحكم على هؤلاء بعد معرفة معتقدهم ومنهجهم؟
وأما الجهمية، فهم أتباع الجهم بن صفوان، وأول بدعته أنه أنكر صفات الله، وقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، فأنكر المحبة والكلام، ثم بدأت هذه البدعة تنتشر وتتسع، فاعتنقها طوائف غير الجهمية، كالمعتزلة ومتأخري الرافضة، لأن الرافضة كانوا بالأول مشبهة، ولهذا قال أهل العلم: أول من عرف بالتشبيه هشام بن الحكم الرافضي، ثم تحولوا من التشبيه إلى التعطيل، وصاروا ينكرون الصفات.
والجهم بن صفوان أخذ بدعته عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت الذي أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي، فتكون بدعة التعطيل أصلها من اليهود، ثم إن الجهم بن صفوان نشأ في بلاد خراسان، وفيها كثير من الصائبة وعباد الكواكب والفلاسفة، فأخذ منهم أيضًا ما أخذ، فصارت هذه البدعة مركبة من اليهودية والصائبة والمشركين.
وانتشرت هذه البدعة في الأمة الإسلامية، وهؤلاء الجهمية معطلة في الصفات ينكرون الصفات، ومنهم من أنكر الأسماء مع الصفات، وهذه الأسماء التي يضيفها الله- سبحانه- إلى نفسه جعلوها إضافات وليست حقيقة، أو أنها أسماء لبعض مخلوقاته، فالسميع عندهم بمعنى من خلق السمع في غيره والبصير كذلك، وهكذا.
ومنهم من أنكر أن يكون الله متصفًا بالإثبات أو العدم، فقالوا: لا يجوز أن نثبت لله صفة أو ننفي عنه صفة، حتى قالوا: لا يجوز أن نقول عنه: إنه موجود ولا إنه معدوم، لأننا إن قلنا موجود شبهناه بالموجودات، وإن قلنا بأنه معدوم شبهناه بالمعدومات، فنقول: لا موجود ولا معدوم، فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، وهذا لا يمكن، لأن تقابل الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما، بل لابد أن يوجد أحدهما، فوصف الله بذلك تشبيه له بالممتنعات على قاعدتهم.
ومذهبهم في القضاء والقدر: الجبر، فيقولون: إن الإنسان مجبر على عمله يعمل بدون اختياره إنه صلى، فهو مجبر، وإن قتل، فهو مجبر، وهكذا، فعطلوا بذلك حكمة الله لأنه إذا كان كل عامل مجبراَ على عمله لم يكن هناك حكمة في الثواب والعقاب بل بمجرد المشيئة يعاقب هذا ويثيب هذا، وبذلك عطلوا عن الفاعلين أوصاف المدح والذم، فلا يمكن أن تمدح إنسانًا أو تذمه، لأن العاصي مجبر والمطيع مجبر.
ويقال لهم: إنكم إذا قلتم ذلك أثبتم أن الله أظلم الظالمين، لأنه كيف يعاقب العاصي وهو مجبر على المعصية؟ ويثيب الطائع وهو مجبر على طاعته؟ فيكون أعطى من لا يستحق، وعاقب من لا يستحق، وهذا ظلم.
فقالوا: هذا ليس بظلم، لأن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، وهذا تصرف من المالك في ملكه يفعل به ما يشاء.
وأجيب: بأنه باطل، لأن المالك إذا كان متصفًا بصفات الكمال لن يخلف وعده، وقد قال الله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا} [طه: 112]، فلو أخلف هذا الوعد، لكان نقصًا في حقه وظلمًا لخلقه، حيث وعدهم فأخلفهم.
ومذهبهم في أسماء الإيمان والدين الإرجاء، فيقولون: إن الإيمان مجرد اعتراف الإنسان بالخالق على الوصف المعطل عن الصفات حسب طريقتهم، وأن الأقوال والأعمال لا مدخل لها في الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
ومن هذه الأمور الثلاثة قالوا: إن أفسق وأعدل عباد الله في الإيمان سواء، بل قالوا إن فرعون مؤمن كامل الإيمان، وجبريل مؤمن كامل الإيمان، لكن فرعون كفر، لأنه ادعى الربوبية لنفسه فقط، فصار ذلك كافرًا.
قال ابن القيم عنهم:
والناس في الإيمان شيء واحد ** كالمشط عند تماثل الأسنان

فمذهبهم من أخبث المذاهب إن لم نقل أخبثها، لكن أخبث منه مذهب الرافضة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن جميع البدع أصلها من الرافضة)، فهم أصل البلية في الإسلام، ولهذا قال المؤلف: (أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة)، ولعل الصواب من الثلاث والسبعين فرقة، أو أن الصواب أخرجهم إلى الثنتين والسبعين، أي: أخرجهم من الثالثة التي كان عليها الرسول وأصحابه، لأن المعروف أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلى واحده، وهي من كانت على ما كان عليه النبي وأصحابه.
وصدق رحمه الله في قوله عن هاتين الطائفتين الرافضة والجهمية: (شر أهل البدع).
وقد قتل الجهم بن صفوان سلمة بن أحوز صاحب شرطة نصر بن سيار لأن أظهر هذا المذهب ونشره.
وقول المؤلف: (وبسبب الرافضة حدث الشك، وعبادة القبور، وهم أول من بني عليها المساجد)، ولهذا يجب الحذر من بدعتهم وبدعة الجهمية وغيرها، ولا شك أن البدع دركات بعضها أسفل من بعض، فعلى المرء الحذر من البدع، وأن يكون متبعًا لمنهج السلف الصالح في هذا الباب وفي غيره.
الثانية عشرة: ما بلى به من شدة النزع. الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.
* الثانية عشرة: ما بلي به من شده النزع، تؤخذ من قولها: «طفق بطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها»، وفي هذا دليل على شدة نزعه، وهكذا كاد الرسول يمرض ويوعك كما يوعك الرجلان من الناس، وهذا من حكمة الله- عز وجل-، فهو شدد عليه البلاء في مقابلة دعوته وأوذي إيذاء عظيمًا، وكذلك أيضًا فيما يصيبه من الأمراض يضاعف عليه، والحكمة من ذلك لأجل أن ينال أعلى درجات الصبر، لأن الإنسان إذا ابتلي بالشر وصبر كان ذلك أرفع لدرجته.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود أسبابها، ومنها الابتلاء، فيصبر ويحتسب حتى ينال درجة الصابرين.
* الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة، ويدل عليها قوله: «إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا»، ولا شك أن هذه الكرامة عظيمة، لأننا لا نعلم أحدًا نال هذه المرتبة إلا رسول الله وإبراهيم.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة. الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
* الرابعة عشرة: التصريح بأنها على من المحبة، ودليل ذلك أنه كان يحب أبا بكر، وكان أحب الناس إليه، فأثبت له المحبة، ونفى عنه الخلة، فدل هذا على أنها أعلى من المحبة، والتصريح ليس من هذا الحديث فقط، بل بضمه إلى غيره، فقد ورد من حديث آخر أنه صرح: (بأن أبا بكر أحب الرجال إليه)، ثم قال هنا: «لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا» فدل على أن الخلة أعلى من المحبة.
* الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة، تؤخذ من قوله: «ولو كنت متخذًا من أمتى خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا»، فلو كان غيره أفضل منه عند النبي، لكان أحق بذلك.
ومن المسائل الهامة أيضًا:
أن الأفضلية في الإيمان والعمل الصالح فوق الأفضلية بالنسب، لأننا لو راعينا الأفضلية بالنسب، لكان حمزة بن عبد المطلب والعباس رضي الله عنهما أحق من أبي بكر في ذلك، ومن ثم قدم أبو بكر رضي الله عنه على علي بن أبي طالب وغيره من آل النبي.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.
* السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته، لم يقل التصريح، وإنما قال: الإشارة، لأن النبي لم يقل: إن أبا بكر هو الخليفة من بعده، لكن لما قال: «لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا» علم أنه رضي الله عنه أولى الناس برسول الله، فيكون أحق الناس بخلافته.