فصل: باب ما جاء في النشرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب ما جاء في النشرة:

* تعريف النشرة:
في اللغة، بضم النون: فعلة من النشر، وهو التفريق.
وفي الاصطلاح: حل السحر عن المسحور.
لأن هذا الذي يحل السحر عن المسحور: يرفعه، ويزيله، ويفرقه.
أما حكمها، فهو يتبين مما قاله المؤلف رحمه الله، وهو من أحسن البيانات.
ولا ريب أن حل السحر عن المسحور من باب الدواء والمعالجة وفيه فضل كبير لمن ابتغى به وجه الله لكن في القسم المباح منها. لأن السحر له تأثير على بدن المسحور وعقله ونفسه وضيق الصدر، حيث لا يأنس إلا بمن استعطف عليه.
وأحيانًا يكون أمراضًا نفسية بالعكس، تنفر هذا المسحور عمن تنفره عنه من الناس، وأحيانًا يكون أمراضًا عقلية، فالسحر له تأثير إما على البدن، أو العقل، أو النفس.
عن جابر، أن رسول الله سئل عن النشرة؟ فقال: «هي من عمل الشيطان». رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود. وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
قوله في: (عن النشرة). (أل) للعهد الذهني، أي: المعروفة في الجاهلية التي كانوا يستعملونها في الجاهلية، وذلك طريق من طرق حل السحر، وهي على نوعين:
الأول: أن تكون باستخدام الشياطين، فإن كان لا يصل إلى حاجته منهم إلا بالشرك، كانت شركًا، وإن كان يتوصل لذلك بمعصية دون الشرك، كان لها حكم تلك المعصية.
الثاني: أن تكون بالسحر، كالأدوية والرقى والعقد والنفث وما أشبه ذلك، فهذا له حكم السحر على ما سبق.
ومن ذلك ما يفعله بعض الناس، أنهم يضعون فوق رأس المسحور طستًا فيه ماء ويصبون عليه رصاصًا ويزعمون أن الساحر يظهر وجهه في هذا الرصاص، فيستدل بذلك على من سحره، وقد سئل الإمام أحمد عن النشرة، فقال: إن بعض الناس أجازها، فقيل له: إنهم يجعلون ماء في طست، وإنه يغوص فيه، وإنه يبدو وجهه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا؟ ما أدري ما هذا؟ فكأنه رحمه الله توقف في الأمر وكره الخوض فيه.
قوله: «من عمل الشيطان»، أي: من العمل الذي يأمر به الشيطان ويوحي به، لأن الشيطان يأمر بالفحشاء ويوحي إلى أوليائه بالمنكر، وهذا يغني عن قوله: إنها حرام، بل هو أشد، لأن نسبتها للشيطان أبلغ في تقبيحها والتنفير منها، ودلالة النصوص على التحريم لا تنحصر في لفظ التحريم أو نفي الجواز، بل إذا رتبت العقوبات على الفعل كان دليلًا على تحريمه.
قوله: (رواه أحمد بسند جيد وأبو داود) سند أبي داود إلى أحمد متصل، لأنه قد حدثه وأدركه.
قوله: (فقال: ابن مسعود يكره هذا كله). أجاب رحمه الله بقول الصحابي، وكأنه ليس عنده أثر صحيح عن النبي في ذلك، وإلا لاستدل به.
والمشار إليه في قوله: (يكره هذا كله) كل أنواع النشرة، وظاهره: ولو كانت على الوجه المباح على ما يأتي، لكنه غير مراد، لأن النشرة بالقرآن والتعوذات المشروعة لم يقل أحد بكراهته، وسبق أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره تعليق التمائم من القرآن وغير القرآن.
وعلى هذا، فالكلية في قول أحمد: (يكره هذا كله) يراد بها النشرة التي من عمل الشيطان، وهي النشرة بالسحر والنشرة التي من التمائم.
وقوله: (يكره). الكراهة عند المتقدمين يراد بها التحريم غالبًا، ولا تخرج عنه إلا بقرينة، وعند المتأخرين خلاف الأولى، فلا تظن أن لفظ المكروه في عرف المتقدمين أو كلامهم مثله في كلام المتأخرين، بل هو يختلف، انظر إلى قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا} [الإسراء: 23]، إلى أن قال بعد أن ذكر أشياء محرمة: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهًا} [الإسراء: 38]، ولا شك أن المراد بالكراهة هنا التحريم.
وفي (البخاري) عن قتادة: (قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم ينه عنه).
قوله: (رجل به طب). أي: سحر، ومن المعلوم أن الطب هو علاج المرض، لكن سمي السحر طبًا من باب التفاؤل، كما سمي اللديغ سليمًا والكسير جبيرًا.
قوله: (أو يؤخذ عن امرأته). أي: يحبس عن زوجته، فلا يتمكن من جماعها، وهو ليس به بأس، وهذا نوع من السحر.
والعجيب أنه مشتهر عند الناس أنه إذا كان عند العقد، وعقد أحد عقده عند العقد، فإنه يحصل حبسه عن امرأته، وبالغ بعضهم، فقال: إذا شبك أحدهم بين أصابعه عند العقد حبس الزوج عن أهله، وهذا لا أعرف له أصلًا.
ولكن كثيرًا ما يقع حبس الزوج عن زوجته ويطلبون العلاج.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن من العلاج أن يطلقها، ثم يراجعها، فينفك السحر.
لكن لا أدري هل هذا يصح أم لا؟ فإذا صح، فالطلاق هنا جائز، لأنه طلاق للاستبقاء، فيطلق كعلاج، ونحن لا نفتي بشيء من هذا، بل نقول: لا نعرف عنه شيئًا.
و: (أو) في قوله: (أو يؤخذ) يحتمل أنها للشك من الراوي: هل قال قتادة: (به طب) أو قال: (يؤخذ عن امرأته)؟
أي: أو قلت: يؤخذ، ويحتمل أن تكون للتنويع، أي أنه سأله عن أمرين: عن المسحور، وعند الذي يؤخذ عن امرأته.
قوله: (أيحل عنه أو ينشر). لا شك أن (أو) هنا للشك، لأن الحل هو النشرة.
قوله: (لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح). كأن ابن المسيب رحمه الله قسم السحر إلى قسمين: ضار، ونافع.
فالضار محرم، قال تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} [البقرة: 102]، والنافع لا بأس به، وهذا ظاهر ما روي عنه، وبهذا أخذ أصحابنا الفقهاء، فقالوا: يجوز حل السحر بالسحر للضرورة، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز حل السحر بالسحر، وحملوا ما روي عن ابن المسيب بأن المراد به ما لا يعلم عن حاله: هل هو سحر، أم غير سحر؟ أما إذا علم أنه سحر، فلا يحل، والله أعلم.
ولكن على كل حال حتى ولو كان ابن المسيب ومن فوق ابن المسيب ممن ليس قوله حجة يرى أنه جائز، فلا يلزم من ذلك أن يكون جائزًا في حكم الله حتى يعرض على الكتاب والسنة، وقد سئل الرسول عن النشرة؟ فقال: «هي من عمل الشيطان».
وروي عن الحسن، أنه قال: (لا يحل السحر إلا ساحر).
قال ابن القيم: (النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز).
قوله: (وروي عن الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر). هذا الأثر إن صح، فمراد الحسن الحل المعروف غالبًا، وأنه لا يقع إلا من السحرة.
قوله: (قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور...) إلخ.
هذا الكلام جيد ولا مزيد عليه.
* فيه مسائل:
الأولى: النهي عن النشرة. الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال.
فيه مسائل:
* الأولى: النهي عن النشرة. تؤخذ من قوله: (هي من عمل الشيطان)، وهنا ليس فيه صيغة نهي، لكن فيه ما يدل على النهي، لأن طرق إثبات النهي ليست الصيغة فقط، بل ذم فاعله ونحوه، وتقبيح الشيء وما أشبه ذلك يدل على النهي.
* الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه. تؤخذ من كلام ابن القيم رحمه الله وتفصيله.
* إشكال وجوابه:
ما الجمع بين قول الفقهاء رحمهم الله يجوز حل السحر بالسحر، وبين قولهم يجب قتل الساحر؟
الجمع أن مرادهم بقتل الساحر من يضر بسحره دون من ينفع، فلا يقتل، أو أن مرادهم بيان حكم حل السحر بالسحر للضرورة، وأما الإبقاء على الساحر، فله نظر آخر، والله أعلم.

.باب ما جاء في التطير:

* تعريف التطير:
واللغة: مصدر تطير، وأصله مأخوذ من الطير، لأ، العرب يتشاءمون أو يتفاءلون بالطيور على الطريقة المعروفة عندهم بزجر الطير، ثم ينظر: هل يذهب يمينًا أو شمالًا أو ما أشبه ذلك، فإن ذب إلى الجهة التي فيها التيامن، أقدم، أو فيها التشاؤم، أحجم.
أما في الاصطلاح، فهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وهذا من الأمور النادرة، لأن الغالب أن اللغة أوسع من الاصطلاح، لأن الاصطلاح يدخل على الألفاظ قيودًا تخصصها، مثل الصلاة لغة: الدعاء، وفي الاصطلاح أخص من الدعاء، وكذلك الزكاة وغيرها.
وإن شئت، فقل: التطير: هو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو معلوم.
بمرئي مثل: لو رأى طيرًا فتشاءم لكونه موحشًا.
أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحدًا يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب، فيتشاءم.
أو معلوم، كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض الشهور أو بعض السنوات، فهذه لا ترى ولا تسمع.
واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين:
الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله.
الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل هو وهم وتخييل، فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحصل له، وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد، لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 4]، وقال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123].
فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق، والمتطير لا يخلو من حالين:
الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل، وهذا من أعظم التطير والتشاؤم.
الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به، وهذا أهون.
وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله- عز وجل-، ولا تسيء الظن بالله- عز وجل-.
وقول الله تعالى: {ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} [الأعراف: 131].
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين:
* الآية الأولى قوله تعالى: {ألا إنما طائرهم عند الله}.
هذه الآية نزلت في قوم موسى كما حكى الله عنهم في قوله: {وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131]، قال الله تعالى: {ألا إنما طائرهم عند الله}، ومعنى: {يطيروا بموسى ومن معه}: أنه إذا جاءهم البلاء والجدب والقحط قالوا: هذا من موسى وأصحابه، فأبطل الله هذه العقيدة بقوله: {ألا إنما طائرهم عند الله}.
قوله: {ألا إنما طائرهم عند الله}. {ألا}: أداة استفتاح تفيد التنبيه والتوكيد، و: {إنما}: أداة حصر.
وقوله: {طائر} مبتدأ، و: {عند الله} خبر، والمعنى: أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى قومه، ولكنه من الله، فهو الذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء- والعياذ بالله- يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع.
قوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون}. فهم في جهل، فلا يعلمون أن هناك إلهًا مدبرًا، وأن ما أصابهم من الله وليس من موسى وقومه.
وقوله: {قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} [يس: 19].
* الآية الثانية قوله تعالى: {قالوا طائركم معكم}.
أي: قال الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعلى: {وأضرب لهم مثلًا أصحاب القرية} الآيات [يس: 13].
فقالوا ذلك ردًا على قول أهل القرية: {إنا تطيرنا بكم} [يس: 18]، أي: تشاءمنا بكم، وإننا لا نرى أنكم تدلوننا على الخير، بل على الشر وما فيه هلاكنا، فأجابهم الرسل بقولهم: {طائركم معكم}، أي: مصاحب لكم، فما يحصل لكم، فإنه منكم ومن أعمالكم، فأنتم السبب في ذلك.
ولا منافاة بين هذه الآية والتي ذكرها المؤلف قبلها، لأن الأولى تدل على أن المقدر لها الشيء هو الله، والثانية تبين سببه، وهو أنه منهم، فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم، لأن أعمالهم تستلزمه، كما قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} [الروم: 41]، وقال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96].
ويستفاد من الآيتين المذكروتين في الباب: أن التطير كان معروفًا من قبل العرب وفي غير العرب، لأن الأولى في فرعون وقومه، والثانية في أصحاب القرية.
وقوله: {أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون}. ينبغي أن تقف على قوله: {ذكرتم}، لأنها جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف تقديره: أإن ذكرتم تطيرتم، وعلى هذا، فلا تصلها بما بعدها.
وقوله: {بل أنتم قوم مسرفون}، {بل} هنا للإضراب الإبطالي، أي: ما أصابكم ليس منهم، بل هو من إسرافكم.
وقوله: {مسرفون}. أي: متجاوزون للحد الذي يجب أن تكونوا عليه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر». أخرجاه، وزاد مسلم: «ولا نوء، ولا غول».
قوله: «لا عدوى». (لا) نافية للجنس، ونفي الجنس أعم من نفي الواحد والاثنين والثلاثة، لأنه نفي للجنس كله، فنفى الرسول العدوى كلها.
والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون أيضًا في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر أن جليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة.
فقوله: «لا عدوى» يشمل الحسية والمعنوية، وإن كانت في الحسية أظهر.
قوله: «ولا طيرة». اسم مصدر تطير، لأن المصدر منه تطير، مثل الخيرة اسم مصدر اختار، قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36]، أي: الاختيار، أي يختاروا خلاف ما قضى الله ورسوله من الأمر.
واسم المصدر يوافق المصدر في المعنى، ولذلك تقول كلمته كلامًا بمعنى كلمته تكليمًا، وسلمت عليه سلامًا بمعنى سلمت عليه تسليمًا.
لكن لما كان يخالف المصدر في البناء سموه اسم مصدر، والطيرة تقدم أنها هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.
قوله: «ولا هامة». الهامة، بتخفيف الميم فسرت بتفسيرين:
الأول: أنها طير معروف يشبه البومة، أو هي البومة، تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل، صارت عظامه هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه.
التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت، قال: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله، وهذا كله- بلا شك- عقيدة باطلة.
قوله: «ولا صفر». قيل: إنه شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به ولا سيما في النكاح.
وقيل: إنه داء في البطن يصيب الإبل وينتقل من بعير إلى آخر، وعلى هذا، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
وقيل: إنه نهي عن النسيئة، وكانوا في الجاهلية ينسئون، فإذا أرادوا القتال في شهر المحرم استحلوه، وأخروا الحرمة إلى شهر صفر، وهذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله تعالى: {فيحلوا ما حرم الله} [التوبة: 37]، وهذا القول ضعيف، ويضعفه أن الحديث في سياق التطير، وليس في سياق التغيير، والأقرب أن صفر يعني الشهر، وأن المراد نفي كونه مشؤومًا، أي: لا شؤم فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر.
وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليسس نفيًا للوجود، لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير، فالمؤثر هو الله، فما كان منها سببًا معلومًا، فهو سبب صحيح، وما كان منها سببًا موهومًا، فهو سبب باطل، ويكون نفيًا لتأثيره بنفسه إن كان صحيحًا، ولكونه سببًا إن كان باطلًا.
فقوله: «لا عدوى»: العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله: «لا يورد ممرض على مصح»، أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة، لئلا تنتقل العدوى.
وقوله: «فر من المجذوم فرارك من الأسد».
والجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه، حتى قيل: إنه الطاعون، فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمرًا حتميًّا، بحيث تكون علة فاعلة، وأمر النبي بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب بنفسها، فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سببًا للبلاء، لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، ولا يمكن أن يقال: إن الرسول ينكر تأثير العدوى، لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
فإن قيل: إن الرسول لما قال: «لا عدوى. قال رجل: يا رسول الله الإبل تكون صحيحة مثل الظباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي: فمن أعدى الأول؟»، يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله- عز وجل-، فكذلك إذا انتقل بالعدوى فقد انتقل بأمر الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فجرب الأول ليس سببه معلومًا، إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب معلوم، لكن لو شاء الله تعالى لم يجرب، ولهذا أحيانًا تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون.
فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ويتوكل عليه، وقد روي أن النبي جاءه رجل مجذوم، فأخذ بيده وقال له: «كل» يعني من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول، لقوة توكله، فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي.
وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادعى بعضهم النسخ، فمنهم من قال: إن الناسخ قوله: «لا عدوى»، والمنسوخ قوله: «فر من المجذوم»، و: «ولا يورد ممرض على مصح»، وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ، لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه، لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما، لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضًا الواقع يشهد أنه لا نسخ.
وقوله: «ولا صفر». فيه ثلاثة أقوال سبقت، وبيان الراجح منها.
والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله- عز وجل-، فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرّخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل، فهو ليس شهر خير ولا شهر شر.
أما شهر رمضان، قولنا: إنه شهر خير، فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم، بناء على أنه من الأشهر الحرم.
ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيرًا إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول تبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أما هذه الأشياء، لأن الإنسان لا يخلو من حالين:
إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو ما أشبه ذلك، فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك.
وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول مطلقًا، وأن يكون معتمدًا على الله- عز وجل-.
وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب، فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقًا، فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سببًا بل نفاها، فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا.
قوله: «لا نوء». واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدور بمدار السنة.
وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف، فلا مطر.
فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء، ويتفاءلون بها، فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أمطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك أن هذا غاية الجهل.
ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟
ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيرًا ما يكون في زمنها الأمطار.
فالنوء لا تأثير له، فقولنا: طلع هذا النجم، كقولنا: طلعت الشمس، فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير، وهو يدل على دخول الفصول فقط.
وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سببًا حقيقيًّا، ولكن لا يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يقال: هذا من رحمة الله، هذا من فضله ونعمه، قال تعالى: {ألم تر أن الله يزجي سحابًا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركامًا فترى الودق يخرج من خلاله} [النور: 43]، وقال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجله كسفًا فترى الودق يخرج من خلاله} [الروم: 48].
فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان عن تعلقه بربه.
فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه- سبحانه وتعالى-.
نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سببًا لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها، فتنبه.
قوله: «ولا غول». جمع غَولة أو غُولة، ونحن نسميها باللغة العامية: (الهولة)، لأنها تهول الإنسان.
والعرب كانوا إذا سافروا أو ذهبوا يمينًا وشمالًا تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي أرادوا، وهذا لاشك أنه يضعف التوكل على الله، والشيطان حريص على إدخال القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئًا إلا بإذن الله} [المجادلة: 10].
وهذا الذي نفاه الرسول هو تأثيرها، وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقًا بها، أما إن كان معتمدا على الله غير مبال بها، فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصده.
ولهما عن أنسٍ، قال: قال رسول الله: «لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل». قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الطيبة».
قوله في حديث أنس: «لا عدوى، ولا طيرة». تقدم الكلام على ذلك.
قوله: «ويعجبني الفأل». أي: يسرني، والفأل بينه بقوله: «الكلمة الطيبة». فـ: «الكلمة الطيبة» تعجبه، لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط، والمضي قدمًا لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان، لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقدامًا وإقبالًا.
وظاهر الحديث: الكلمة الطيبة في كل شيء، لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سببًا لخيرات كثيرة، حتى إنها تدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة.
وهذا الحديث جمع النبي فيه بين محذورين ومرغوب، فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حسن تعليم النبي، فمن ذكر المرهوب ينبغي أن يذكر معه ما يكون مرغوبًا، ولهذا كان القرآن مثاني إذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكافرين، وإذا ذكر العقوبة ذكر المثوبة، وهكذا.
قوله: (عن عقبة بن عامر). صوابه عن عروة بن عامر، كما ذكره في (التيسير)، وقد اختلف في نسبه وصحبته.
قوله: (ذكرت الطيرة عند رسول الله). وهذا الذكر إما ذكر شأنها، أو ذكر أن الناس يفعلونها، والمراد: تحدث الناس بها عند رسول الله.
ولأبي داود- بسند صحيح- عن عقبة بن عامر، قل: ذكرت الطيَرَة عند رسول الله فقال: «أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».
قوله: «أحسنها الفأل». سبق أن الفأل ليس من الطيرة، لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام، فإنه يزيد الإنسان نشاطًا وإقدامًا فيما توجه إليه، فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا، فبينهما فرق لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطير به، وضعف توكله على الله، ورجوعه عما هم به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتًا ونشاطًا، فالشبه بينهما هو التأثير في كل منهما.
قوله: «ولا ترد مسلمًا». يفهم منه أن من ردته الطيرة عن حاجته فليس بمسلم.
قوله: «فإذا رأى أحدكم ما يكره». فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريد، ولا يقدم عليه، وقد ذكر النبي دواء لذلك وقال: «فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات....» إلخ.
قوله: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت». وهذا هو حقيقة التوكل، وقوله: «اللهم». يعني: يا الله، ولهذا بنيت على الضم، لأن المنادى علم، بل هو أعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق، والميم عوض عن يا المحذوفة، وصارت في آخر الكلمة تبركًا بالابتداء باسم الله- سبحانه وتعالى-، وصارت ميمًا، لأنها تدل على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله.
قوله: «لا يأتي بالحسنات إلا أنت». أي: لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب، لأن خالق هذه الأسباب هو الله، فإذا وجدت هذه الحسنات بأسباب خلقها الله، صار الموجد هو الله.
والمراد بالحسنات: ما يستحسن المرء وقوعه، ويحسن في عينه.
ويشمل ذلك الحسنات الشرعية، كالصلاة والزكاة وغيرها، لأنها تسر المؤمن، ويشمل الحسنات الدنيوية، كالمال والولد ونحوها، قال تعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولون قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} [التوبة: 50]، وقال تعالى في آية أخرى: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} [آل عمران: 120].
وقوله: «إلا أنت». فاعل يأتي، لأن الاستثناء هنا مفرغ.
قوله: «ولا يدفع السيئات إلا أنت». السيئات: ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالًا أو مآلًا، ولا يدفعها إلا الله، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى المشركون إذا ركبوا في الفلك، وشاهدوا الغرق، دعوا الله مخلصين له الدين.
ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب، فمثلًا لو رأى رجلًا غريقًا، فأنقذه فإنما أنقذه بمشيئة الله، ولو شاء الله لم ينقذه، فالسبب من الله.
فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وبمقتضى هذه العقيدة، فإنه يجب أن لا يسأل المسلم الحسنات ولا يسأل دفع السيئات إلا من الله، ولهذا كان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسألون الله الحسنات ويسألون دفع السيئات، قال تعالى عن زكريا: {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} [آل عمران: 38]، وقال تعالى عن أيوب: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، وهكذا يجب أن يكون المؤمن أيضًا.
قوله: «ولا حول ولا قوة إلا بك». في معناها وجهان:
الأول: أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا بالله، فالباء بمعنى في، يعني: إلا في الله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول والقوة المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق والقوة المطلقة، لأن غير الله فيه حول وقوة، لكنها نسبية ليست بكاملة، فالحول الكامل والقوة الكاملة في الله وحده.
الثاني: أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة إلا بالله، فالباء للاستعانة أو للسببية، وهذا المعنى أصح، وهو مقتضى ورودها في مواضعها، إذ إننا لا نتحول من حول إلى حول ولا نقوى على ذلك إلا بالله فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله، وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله من الحول والقوة.
فإن صح الحديث، فالرسول أرشدنا إذا رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».
وعن ابن مسعود مرفوعًا: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل» رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعودٍ.
قوله: (مرفوعًا). أي: إلى النبي.
قوله: «الطيرة شرك، الطيرة شرك». هاتان الجملتان يؤكد بعضهما بعضًا من باب التوكيد اللفظي.
وقوله: «شرك». أي: إنها من أنواع الشرك، وليس الشرك كله، وإلا، لقال: الطيرة الشرك.
وهل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر المخرج من الملة، أو أنها نوع من أنواع الشرك؟
نقول: هي نوع من أنواع الشرك، كقوله: «اثنتان في الناس هما بهم كفر»، أي: ليس الكفر المخرج عن الملة، وإلا، لقال: «هما بهم الكفر»، بل هما نوع من الكفر.
لكن في ترك الصلاة قال: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»، فقال: «الكفر»، فيجب أن نعرف الفرق بين (أل) المعرفة أو الدالة على الاستغراق، وبين خلو اللفظ منها، فإذا قيل: هذا كفر، فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة، وإذا قيل: هذا الكفر، فهو المخرج من الملة.
فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه، فإنه لا يعد مشركًا شركًا يخرجه من الملة، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سببًا، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك يعتبر شركًا من هذه الناحية، والقاعدة: (إن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سببًا، فإنه مشرك شركًا أصغر).
وهذا نوع من الإشراك مع الله، إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعيًّا، وإما في التقدير إن كان هذا السبب كونيًّا، لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله، فهو مشرك شركًا أكبر، لأنه جعل لله شريكًا في الخلق والإيجاد.
قوله: «وما منا». (منا): جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، إما قبل (إلا) إن قدرت ما بعد إلا فعلًا، أي: وما منا أحد إلا تطير، أو بعد (إلا)، أي: وما منا إلا متطير.
والمعنى: ما منا إنسان يسلم من التطير، فالإنسان يسمع شيئًا فيتشاءم، أو يبدأ في فعل، فيجد أوله ليس بالسهل فيتشاءم ويتركه.
والتوكل: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله، وفعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابًا.
فلا يكفي صدق الاعتماد فقط، بل لابد أن تثق به، لأنه سبحانه يقول: {من يتوكل على الله فهو حسبه}!
قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود). وهو قوله: (وما منا إلا...) إلخ.
وعلى هذا يكون موقوفًا، وهو مدرج في الحديث، والمدرج: أن يدخل أحد الرواة كلامًا في الحديث من عنده بدون بيان، ويكون في الإسناد والمتن، ولكن أكثره في المتن، وقد يكون في أول الحديث، وقد يكون في وسطه، وقد يكون في آخره، وهو الأكثر.
مثال ما كان في أول الحديث: قول أبي هريرة رضي الله عنه: (أسبغوا الوضوء، وبل للأعقاب من النار)، فقوله: (أسبغوا الوضوء) من كلام أبي هريرة، وقوله: «ويل للأعقاب من النار» من كلام الرسول.
ومثال ما كان في وسطه قول الزهري في حديث بدء الوحي: (كان رسول الله يتحنث في غار حراء، والتحنث: التعبد)، ومثال ما كان في آخره: هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، وكذا حديث أبي هريرة، وفيه: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل»، فهذا من كلام أبي هريرة.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك، قال: أن تقولوا اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك».
قوله: «من ردته الطيرةعن حاجته». (من). شرطية، وجواب الشرط: «فقد أشرك»، واقترن الجواب بالفاء، لأنه لا يصلح لمباشرة الأداة، وحينئذ يجب اقترانه بالفاء، وقد جمع ذلك في بيت شعر معروف، وهو قوله:
اسمية طلبية وبجامد ** وبما وقد وبلن وبالتنفيس

وقوله: «عن حاجته» الحاجة: كل ما يحتاجه الإنسان بما تتعلق به الكمالات، وقد تطلق عن الأمور الضرورية.
قوله: «فقد أشرك». أي: شركًا أكبر إن اعتقد أن هذا المتشاءم به يفعل ويحدث الشر بنفسه، وإن اعتقده سببًا فقط فهو أصغر، لأنه سبق أن ذكرنا قاعدة مفيدة في هذا الباب، وهي: (إن كل من اعتقد في شيء أنه سبب ولم يثبت أنه سبب لا كونًا ولا شرعًا، فشركه شرك أصغر، لأنه ليس لنا أن نثبت أن هذا سبب إلا إذا كان الله قد جعله سببًا كونيًّا أو شرعيًّا، فالشرعي: كالقراءة والدعاء، والكوني: كالأدوية التي جرب نفعها).
وقوله: (فما كفارة ذلك). أي: ما كفارة هذا الشرك، أو ما هو الدواء الذي يزيل هذا الشرك؟ لأنه الكفارة قد تطلق على كفارة الشيء بعد فعله، وقد تطلق على الكفارة قبل الفعل، وذلك لأن الاشتقاق مأخوذ من الكفر، وهو الستر، والستر واق، فكفارة ذلك إن وقع وكفارة ذلك إن لم يقع.
وقوله: «اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك». يعني: فأنت الذي بيدك الخير المباشر، كالمطر والنبات، وغير المباشر، كالذي يكون سببه من عند الله على يد مخلوق، مثل: أن يعطيك إنسان دراهم صدقة أو هدية، وما أشبه ذلك، فهذا الخير من الله، لكن بواسطة جعلها الله سببًا، وإلا، فكل الخير من الله- عز وجل-.
وقوله: «فلا خير إلا خيرك». هذا الحصر حقيقي، فالخير كله من الله، سواء كان بسبب معلوم أو بغيره.
وقوله: «لا طير إلا طيرك». أي: الطيور كلها ملكك، فهي لا تفعل شيئًا، وإنما هي مسخرة، قال تعالى: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير} [الملك: 19]، وقال تعالى: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} [النحل: 72]، فالمهم أن الطير مسخرة بإذن الله، فالله تعالى هو الذي يدبرها ويصرفها ويسخرها تذهب يمينًا وشمالًا، ولا علاقة لها بالحوادث.
ويحتمل أن المراد بالطير هنا ما يتشاءم به الإنسان، فكل ما يحدث للإنسان من التشاؤم والحوادث المكروهة، فإنه من الله كما أن الخير من الله، كما قال تعالى: {ألا إنما طائرهم عند الله} [الأعراف: 131].
لكن سبق لنا أن الشر في فعل الله ليس بواقع، بل الشر في المفعول لا في الفعل، بل فعله تعالى كله خير، إما خير لذاته، وإما لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي تجعله خيرًا.
فيكون قوله: «لا طير إلا طيرك» مقابلًا لقوله: «ولا خير إلا خيرك».
قوله: «ولا إله غيرك». (لا) نافية للجنس، و: (إله) بمعنى: مألوه، كغراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: هو المعبود محبة وتعظيمًا يتأله إليه الإنسان محبة له وتعظيمًا له.
فإن قيل: إن هناك آلهة دون الله، كما قال تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء} [هود: 101].
أجيب: أنها وإن عبدت من دون الله وسميت آلهة، فليست آلهة حقًا لأنها لا تستحق أن تعبد، فلهذا نقول: لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله.
* يستفاد من هذا الحديث:
1- أنه لا يجوز للإنسان أن ترده الطيرة عن حاجته، وإنما يتوكل على الله ولا يبالي بما رأى أو سمع أو حدث له عند مباشرته للفعل أول مرة، فإن بعض الناس إذا حصل له ما يكره في أول مباشرته الفعل تشاءم، وهذا خطأ، لأنه مادامت هناك مصلحة دنيوية أو دينية، فلا تهتهم بما حدث.
2- أن الطيرة نوع من الشرك، لقوله: «من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك».
3- أن من وقع في قلبه التطير ولم ترده الطيرة، فإن ذلك لا يضر كما سبق في حديث ابن مسعود: «وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل».
4- أن الأمور بيد الله خيرها وشرها.
5- انفراد الله بالألوهية، كما انفرد بالخلق والتدبير.
وله من حديث الفضل بن عباس: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك».
قوله في حديث الفضل: «إنما الطيرة». هذه الجملة عند البلاغيين تسمى حصرًا، أي: ما الطيرة إلا ما أمضاك أو ردك لا ما حدث في قلبك ولم تلتفت إليه، ولا ريب أن السلامة منها حتى في تفكير الإنسان خير بلا شك، لكن إذا وقعت في القلب ولم ترده ولم يلتفت لها، فإنها لا تضره، لكن عليه أن لا يستسلم، بل يدافع، إذ الأمر كله بيد الله.
قوله: «ما أمضاك أو ردك».
أما: «ما ردك»، فلا شك أنه من الطيرة، لأن التطير يوجب الترك والتراجع.
وأما: «ما أمضاك»، فلا يخلو من أمرين:
الأول: أن تكون من جنس التطير، وذلك بأن يستدل لنجاحه أو عدم نجاحه بالتطير، كما لو قال: سأزجر هذا الطير، فإذا ذهب إلى اليمين، فمعنى ذلك اليمن والبركة، فيقدم، فهذا لا شك أنه تطير، لأن التفاؤل بمثل انطلاق الطير عن اليمين غير صحيح، لأنه لا وجه له، إذا الطير إذا طار، فإنه يذهب إلى الذي يرى أن وجهته، فإذا اعتمد عليه، فقد اعتمد على سبب لم يجعله الله سببًا، وهو حركة الطير.
الثاني: أن يكون سبب المضي كلامًا سمعه أو شيئًا شاهده يدل على تيسير هذا الأمر له، فإن هذا فأل، وهو الذي يعجب النبي، لكن إن اعتمد عليه وكان سببًا لإقدامه، فهذا حكمه حكم الطيرة، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطًا في طلبه، فهذا من الفأل المحمود.
والحديث في سنده مقال، لكن على تقدير صحته هذا حكمه.
* فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: {ألا إنما طائرهم عند الله} [الأعراف: 131]، مع قوله: {طائركم معكم} [يس: 19]. الثانية: نفي العدوى. الثالثة: نفي الطيرة. الرابعة: نفي الهامة. الخامسة: نفي الصفر السادسة: أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب.
فيه مسائل:
* الأولى: التنبيه على قوله: {ألا إنما طائرهم عند الله}، مع قوله: {طائركم معكم}.
أي: لكي ينتبه الإنسان، فإن ظاهر الآيتين التعارض، وليس كذلك، فالقرآن والسنة لا تعارض بينهما ولا تعارض في ذاتهما، إنما يقع التعارض حسب فهم المخاطب، وقد سبق بيان الجمع أن قوله: {ألا إنما طائرهم عند الله} أن الله هو المقدر ذلك، وليس موسى ولا غيره من الرسل، وأن قوله: {طائركم معكم} من باب السبب، أي: أنتم سببه.
* الثانية: نفي العدوى. وقد سبق أن المراد بنفيها نفي تأثيرها بنفسها لا أنها سبب للتأثير، لأن الله قد جعل بعض الأمراض سببًا للعدوى وانتقالها.
* الثالثة: نفي الطيرة. أي: نفي التأثير لا نفي الوجود.
* الرابعة: نفي الهامة. والخامسة: نفي الصفر. وقد سبق تفسيرهما.
* السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب. تؤخذ من قول النبي: «يعجبني الفأل»، وكل ما أعجب النبي، فهو حسن، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله».
السابعة: تفسير الفأل. الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهية لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل. التاسعة: ذكر ما يقول من وجده.
* السابعة: تفسير الفأل. فسره النبي بأنه: الكلمة الطيبة، وسبق أن هذا التفسير على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، لأن الفأل كل ما ينشط الإنسان على شيء محمود، من قول، أو فعل مرئي أو مسموع.
* الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل. أي: إذا وقع في قلبك وأنت كاره له، فإنه لا يضرك ويذهبه الله بالتوكل، لقول ابن مسعود: (وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل).
* التاسعة: ذكر ما يقول من وجده. وسبق أنه شيئان:
أن يقول: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك». أو يقول: «اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك».
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
* العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. وسبق أن الطيرة شرك، لكن بتفصيل، فإن اعتقد تأثيرها بنفسها، فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنها سبب، فهو شرك أصغر.
* الحادية عشرة: تفسير الطيوة المذمومة. أي: ما أمضاك أو ردك.