فصل: باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات:

الجحد: الإنكار، والإنكار نوعان:
الأول: إنكار تكذيب، وهذا كفر بلا شك، فلو أن أحدًا أنكر أسمًا من أسماء الله أوصفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول: ليس لله يد، أو أن الله لم يستو على عرشه، أو ليس له عين، فهو كافر بإجماع المسلمين، لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن المللة بالإجماع.
الثاني: إنكار تأويل، وهو أن لا ينكرها ولكن يتأولها إلى معنى يخالف ظاهرها، وهذا نوعان:
1- أن يكون للتأويل مُسَوِّغ في اللغة العربية، فهذا لا يُوجب الكفر.
2- أن يكون له مُسَوِّغ في اللغة العربية، فهذا حكمه الكفر لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار في الحقيقة تكذيبًا، مثل أن يقول: المراد بقوله تعالى: {تجري بأعيننا} [القمر: 14] تجري بأراضينا، فهذا كافر لأنه نفاها نفيًا مطلقًا، فهو مُكذَّب.
ولو قال في قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] المراد بيديه: السماوات والأرض، فهو كفر أيضًا لأنه لا مسوغ له في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية، فهو مُنكر ومكذب، لكن إن قال: المراد باليد النعمة أو القوة، فلا يكفر لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى، قال الشاعر:
وَكَم لِظلام الليل عندك من يَد ** تُحَدّثُ أنَّ المانَويَّةَ تَكذبُ

فقوله: من يد، أي: من نعمة، لأن المانوية يقولون: إن الظلمة لا تخلق الخير، وإنما تخلق الشر.
قوله: (من الأسماء). جمع اسم، واختلف في اشتقاقه، فقيل: من السمو، وهو الارتفاع، ووجه هذا أن المسمي يرتفع باسمه ويتبين ويظهر.
وقيل: من السّمة وهي العلامة، ووجهه: أنه علامة على مسماه، والراجح أنه مشتق من كليهما.
والمراد بالأسماء هنا أسماء الله عز وجل، وبالصفات صفات الله عز وجل، والفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما تسمي به الله والصفة ما اتصف بها.

.البحث في أسماء الله:

.المبحث الأول:

أن أسماء الله أعلام وأوصاف، وليست أعلامًا محضة؛ فهي من حيث دلالتها على ذات الله تعالى أعلام، ومن حيث دلالتها على الصفة التي يتضمنها هذا الاسم أوصاف، بخلاف أسمائنا، فالإنسان يسمي ابنه محمدًا وعليًّا دون أن يلحظ معنى الصفة، فقد يكون اسمه عليًّا وهو من أوضع الناس، أو عبد الله وهو من أكفر الناس، بخلاف أسماء الله، لأنها متضمنة للمعاني، فالله هو العلي لعلو ذاته وصفاته، والعزيز يدل على العزة، والحكيم يدل على الحكمة، وهكذا.
ودلالة الاسم على الصفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: دلالة مطابقة، وهي دلالته على جميع معناه المحيط به.
الثاني: دلالة تَضَمُّن، وهي دلالته على جزء معناه.
الثالث: دلالة التزام على أمر خارج لازم.
مثال ذلك: الخالق يدل على ذات الله وحدات، وعلى صفة الخلق وحدها دلالة تضمن، ويدل على ذات الله وعلى صفة الخلق فيه دلاله مطابقة، ويدل على العلم والقدرة دلالة التزام.
كما قال الله تعالى: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا} [الطلاق: 12]، فَعَلمْنَا القدرة من كونه خلق السماوات والأرض، وعَلّمنَا العلم من ذلك أيضًا، لأن الخلق لابد فيه من علم، فمن لا يعلم لا يخلق، وكيف يخلق شيئًا لا يعلمه؟!

.المبحث الثاني:

أن أسماء الله مترادفة متباينة، المترادف: ما أختلف لفظه واتفق معناه، والمتباين: ما اختلف لفظه ومعناه، فأسماء الله مترادفة باعتبار دلالتها على ذات الله عز وجل لأنها تدل على مسمى واحد، فالسميع، البصير، العزيز، الحكيم، كلها تدل على شيء واحد هو الله، ومتباينة باعتبار معانيها، لأن معنى الحكيم غير معنى السميع وغير معنى البصير، وهكذا.

.المبحث الثالث:

أسماء الله ليست محصورة بعدد معين، والدليل على ذلك قوله في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور: «اللهم! إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك..» إلى أن قال: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك»، وما استأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يُعلَم به، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور.
وأما قوله: (أن تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة)، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء، لكن معناه أن مَن أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فقوله: (من أحصاها) تكميل للجمله الأولى، وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول القائل: عندي مئة فرس أعدتها للجهاد في سبيل الله، فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة بل معناه أن هذه المئة مُعدَّة لهذا الشيء.

.المبحث الرابع:

الاسم من أسماء الله يدل على الذات وعلى المعنى كما سبق، فيجب علينا أن نؤمن به اسمًا من الأسماء، ونؤمن بما تَضَمَّنه من الصفة، ونؤمن بما تَدُلّ عليه هذه الصفة من الأثر والحكم إن كان الاسم معتديًا، فمثلًا: السميع نؤمن بأن من أسمائه تعالى السميع، وأنه دال على صفة السمع، وأن لهذا السمع حُكمًا وأثرًا وهو أنه يسمع به، كما قال تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} [المجادلة: 1]، أما إن كان الاسم غير متعد، كالعظيم، والحي، والجليل، فتثبت الاسم والصفة، ولا حكم له يتعدى إليه.

.المبحث الخامس:

هل أسماء الله تعالى غيره، أو أسماء الله هي الله؟
إن ًاريد بالاسم اللفظ الدال على المسمى، فهي غير الله عز وجل، وإن ًاريد بالاسم مدلول ذلك اللفظ، فهي المسمي.
فمثلًا: الذي خلق السماوات والأرض هو الله، فالاسم هنا هو المُسَمَّى، فليست (اللام، والهاء) هي التي خلقت السماوات والأرض، وإذا قيل: اكتب باسم الله. فكتبت بسم الله، فالمراد به الاسم دون المسمى، وإذا قيل: اضرب زيدًا. فضربت زيدًا المكتوب في الورقة لم تكن ممتثلًا، لأن المقصود المسمى، وإذا قيل: اكتب زيد قائم فالمراد الاسم الذي هو غير المسمى.

.البحث في صفات الله:

.المبحث الأول:

تنقسم صفات الله إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ذاتية ويقال معنوية.
الثاني: فعلية.
الثالث: خبرية.
فالصفات الذاتية: هي الملازمة لذات الله، والتي لم يزل ولا يزال متصفًا بها، مثل: السمع والبصر وهي معنوية، لأن هذه الصفات معانٍ.
والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها، مثل: النزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والكلام من حيث آحاده، والخلق من حيث آحاده، لا من حيث الأصل، فأصل الكلام صفة ذاتية، وكذلك الخلق.
والخبرية: هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا، أما بالنسبة لله، فلا يقال هكذا، بل يقال: صفات خبرية ثبت بها الخبر من الكتاب والسنة، وهي ليست معنىً ولا فعلًا، مثل: الوجه، والعين، والساق، واليد.

.المبحث الثاني:

الصفات أوسع من الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة تكون اسمًا، وهناك صفات كثيرة تطلق على الله وليست من أسمائه، فيوصف الله بكلام والإرادة، ولا يسمي بالمتكلم أو المريد.

.المبحث الثالث:

إن كل ما وصف الله به نفسه، فهو حق على حقيقته، لكن ينزه عن التمثيل والتكييف، أما التمثيل، فلقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]، وقوله: {فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النمل: 74]، والتعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه، لوجوه ثلاثة:
أحدهما: أن التمثيل هو الذي جاء به القرآن وهو منفي مطلقًا، بخلاف التشبيه، فلم يأت القرآن بنفيه.
الثاني: أن نفي التشبيه على الإطلاق لا يصح، لأن كل مَوجودَيْن فلا بد أن يكون بينهما قَدُر مشترك يشتبهان فيه ويتميز كل واحد بما يختص به، فـ: (الحياة) مثلًا وصف ثابت في الخالق والمخلوق، فبينهما قدر مشترك، ولكن حياة الخالق تليق به وحياة المخلوق تليق به.
الثالث: أن الناس اختلفوا في مسمى التشبيه، حتى جعل بعضهم إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه تشبيهًا، فإذا قيل من غير تشبيه، فَهمَ هذا البعض من هذا القول نفي الصفات التي أثبتها الله لنفسه.
وأما التكييف، فلا يجوز أن نُكيِّف صفات الله، فمن كيَّف صفة من الصفات، فهو كاذب عاص، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه، عاص لأنه واقع فيما نهي كاذب عاص، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه، عاص لأنه واقع فيما نهي الله عنه وحَرّمه في قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]، وقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} بعد قوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأعراف: 33] الآية، ولأنه لا يمكن إدراك الكيفية، لقوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علمًا} [طه: 110] وقوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103].
وسواء كان التكييف باللسان تعبيرًا أو بالجنان تقديرًا أو بالبيان تحريرًا، ولهذا قال مالك رحمه الله حين سئل عن كيفية الاستواء: (الكيف مجهول، والسؤال عنه بدعه)، وليس معنى هذا أن لا نعتقد أن لها كيفية، بل لها كيفية، ولكنها ليست معلومة لنا، لأن ما ليس له كيفية ليس بموجود، فالاستواء والنزول واليد والوجه والعين لها كيفية، لكننا لا نعلمها، ففرق بين أن نثبت كيفية معينه ولو تقديرًا وبين أن نؤمن بأن لها كيفية غير معلومة، وهذا هو الواجب، فنقول: لها كيفية، لكن غير معلومة.
فإن قيل: كيف يُتَصَوَّر أن نعتقد للشيء كيفية ونحن لا نعلمها؟
أجيب: إنه متصور، فالواحد منا يعتقد أن لهذا القصر كيفية من داخله، ولكن لا يعلم هذه الكيفية إلا إذا شاهدها، أو شاهد نظيرها، أو أخبره شخص صادق عنها.


وقوله الله تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن} [الرعد: 30] الآية.قوله تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن} الآية:
{وهم}. أي: كفار قريش.
{يكفرون بالرحمن}. المراد أنهم يكفرون بهذا الاسم لا بالمسمي، فهم يُقرِّون به، قال تعالى:{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25]، وفي حديث سهيل بن عمر: لما أراد النبي أن يكتب الصلح في غزوة الحديبية قال للكاتب: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»، قال سهيل: أما الرحمن، فو الله ما أدري ما هي ولكن اكتب باسمك اللهم، وهذا من الأمثلة التي يراد بها الاسم دون المسمى.
وقد قال الله تعالى: {قل أدعوا الله الرحمن أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسني} [الإسراء: 110]، أي: بأي اسم من أسمائه تدعونه، فإن له الأسماء الحسنى، فكل أسمائه حسنى، فادعوا بما شئتم من الأسماء، ويراد بهذا الآية الإنكار على قريش.
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسمًا من أسماء الله تعالى فإنه يكفر، لقوله تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن} [الرعد: 30]، ولأنه مكذب لله ولرسوله، وهذا كفر، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذه الآية.
قوله: {لا إله إلا هو}. خبر (لا) النافية للجنس محذوف، والتقدير: لا إله حق إلا هو، وأما الإله الباطل، فكثير، قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} [لقمان: 30].
قوله: {عليه توكلت}. أي عليه وحده، لأن تقديم المعمول يدل على الحصر، فإذا قلت مثلًا: (ضربت زيداَ) فإنه يدل على أنك ضربته، ولكن لا يدل على أنك لم تضرب غيره، وإذا قلت: (زيدًا ضربت) دلت على أنك ضربت زيدًا ولم تضرب غيره، وسبق معنى التوكل وأحكامه.
قوله: {وإليه متاب}. أي: إلى الله. و: (متاب) أصلها متابي، فحذفت الياء تخفيفًا، والمتاب بمعنى التوبة، فهو مصدر ميمي، أي: وإليه توبتي.
والتوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة، ولها شروط خمسة:
1- الإخلاص لله تعالى بأن لا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة أحد أو محاباته أو شيء من الدنيا.
2- أن تكون في وقت قبول التوبة، وذلك قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت.
3- الندم على ما مضى من فعله، وذلك بأن يشعر بالتحسر على ما سبق ويتمنى أنه لم يكن.
4- الإقلاع عن الذنب، وعلى هذا، فإذا كانت التوبة من مظالم الخلق، فلابد من رد المظالم إلى أهلها أو استحلالهم منها.
5- العزم على عدم العودة، والتوبة التي لا تكون إلا لله هي توبة العبادة، كما في الآية السابقة، وأما التوبة التي بمعنى الرجوع، فإنها تكون له ولغيره، ومنه قول عائشة حين جاء النبي فوجد نمرقة فيها صور، فوقف بالباب ولم يدخل، وقالت: «أتوب إلى الله ورسوله ولا لغيره من الخلق بل لله وحده»، ولكن هذه توبة رجوع، ومن ذلك أيضًا حين يضرب الإنسان ابنه لسوء أدبه، يقول الابن: أتوب.
وفي (صحيح البخاري): قال علي: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!).
قوله في أثر علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس). أي: كلموهم بالمواعظ وغير المواعظ.
قوله: (بما يعرفون). أي بما يمكن أن يعرفوه وتبلغه عقولهم حتى لا يفتنوا، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (إنك لن تحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)، ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه، بل تدعوهم رويدًا رويدًا حتى تستقر عقولهم، وليس معنى (بما يعرفون)، أي: بما يعرفونه من قبل، لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل.
قوله: (أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) الاستفهام للإنكار، أي: أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله، لأنك إذا قلت: قال الله وقال رسوله كذا وكذا، قالوا هذا كذب إذا كانت عقولهم لا تبلغه، وهم لا يكذبون الله ورسوله، ولكن يكذبونك بحديث تنسبه إلى الله ورسوله، فيكونون مكذبين لله ورسوله، لا مباشرة ولكن بواسطة الناقل.
فإن قيل: قل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس وإن كانوا محتاجين لذلك؟
أجيب: لا ندعه، ولكن نحدثهم بطريق تبلغه عقولهم، وذلك بأن ننقلهم رويدًا رويدًا حتى يتقبلوا هذا الحديث ويطمئنوا إليه، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم ونقول: هذا شيء مستنكر لا نتكلم به.
ومثل ذلك العمل بالسنة التي لا يعتادها الناس ويستنكرونها، فإننا نعمل بها ولكن بعد أن نخبرهم بها، حتى تقبلها نفوسهم ويطمئنوا إليها.
ويستفاد من هذا الأثر أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين وينزل كل إنسان منزلته.
* مناسبة هذا الأثر لباب الصفات:
مناسبته ظاهرة، لأن بعض الصفات لا تحتملها أفهام العامة فيمكن إذا حدثتهم بها كان لذلك أثر سيئ عليهم، كحديث النزول إلى السماء الدنيا مع ثبوت العلو، فلو حَدّثت العاميّ بأنه نفسه ينزل إلى السماء الدنيا مع علوه على عرشفه، فقد يفهم أنه إذا أنزل؛ صارت السماوات فوقه وصار العرش خاليًا منه، وحينئذ لا بد في هذا من حديث تبلغه عقولهم فَتُبين لهم أن الله عز وجل ينزل نزولًا لا يماثله نزول المخلوقين مع علوه على عرشه، وأنه لكمال فضله ورحمته يقول: «من يدعوني فأستجيب له..» الحديث. والعامي يكفيه أن يتصور مطلق المعنى، وأن المراد بذلك بيان فضل الله عز وجل في هذه الساعة من الليل. وَرَوَى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس: (أنه رأى رجلًا انتفض لما سمع حديثًا عن النبي في الصفات، استنكار لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟!) انتهي.
قوله في أثر ابن عباس: (انتفض). أي اهتز جسمه، والرجل مبهم، والصفة التي حُدث بها لم تبين، وبيان ذلك ليس مهمًا، وهذا الرجل انتفض استنكارًا لهذه الصفة لا تعظيمًا لله، وهذا أمر عظيم صعب، لأن الواجب على المرء إذا صح عنده شيء عن الله ورسوله أن يقر به ويصدق ليكون طريقه طريق الراسخين في العلم حتى وإن لم يسمعه من قبل أو يتصوره.
قوله: (ما فرق). فيها: ثلاث روايات:
1- (فرَقُ)، بفتح الراء، وضم القاف.
2- (فرَّق)، بفتح الراء مشددة وفتح القاف.
3- (فرَقَ)، بفتح الراء مخففة، وفتح القاف.
فعلى رواية (فرق) تكون (ما) استفهامية مبتدأ، و: (فرق): خبر المبتدأ أي: ما خوف هؤلاء من إثبات الصفة التي تليت عليهم وبلغتهم، لماذا لا يثبتونها لله عز وجل كما أثبتها الله لنفسه وأثبتا له رسوله؟ وهذا ينصب تمامًا على أهل التعطيل والتحريف الذين ينكرون الصفات، فما الذي يخوفهم من إثباتها والله تعالى قد أثبتها لنفسه؟
وعلي رواية (فرق) أو (فرق) تكون فعلًا ماضيًا بمعنى ما فرقهم، كقوله تعالى: {وقرآنًا فرقناه} [الإسراء: 106]، أي: فرقناه. و: (ما) يحتمل أن تكون نافية، والمعنى: ما فرق هؤلاء بين الحق والباطل، فجعلوا هذا من المتشابه وأنكروه ولم يحملوه على المحكم، ويحتمل أن تكون استفهامية والمعنى: أي شيء فرقهم فجعلهم يؤمنون بالمحكم ويهلكون عند المتشابه؟
قوله: (يجدون رقة عند محكمه). الرقة: اللين والقبول، و: (محكمه)، أي: محكم القرآن.
قوله: (ويهلكون عند متشابه). أي: متشابه القرآن.
والمحكم الذي اتضح معناه وتبين، والمتشابه هو الذي يخفي معناه، فلا يعلمه الناس، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه، وأما إذا ذكر المحكم مفردًا دون المتشابه، فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل: لا كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه، قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا} [الأنعام: 115]، وقد ذكر الله الإحكام في القرآن دون المتشابه، وذلك مثل قوله تعالى: {تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1]، وقال تعالى: {كتاب أحكمت آياته} [هود: 1].
وإذا ذكر المتشابه دون المحكم صار المعنى أنه يشبه بعضه بعضًا في جودته وكماله، ويصدق بعضه بعضًا ولا يتناقض، قال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني} [الزمر: 23]، والتشابه نوعان: تشابه نسبي، وتشابه مطلق.
والفرق بينهما: أن المطلق يخفى على كل أحد، والنسبي يخفي على أحد دون أحد، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} [آل عمران: 7] فعلى الوقوف على: {إلا الله} يكون المراد بالمتشابه المطلق، وعلى الوصل: {إلا الله والراسخون في العلم} يكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وللسلف في ذلك قولان:
القول الأول: الوقف على: {إلا الله}، وعليه أكثر السلف، وعلى هذا، فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار، قال الله تعالى في نعيم الجنة: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]، أي: لا تعلم حقائق ذلك، ولذلك قال ابن عباس: (ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء).
والقول الثاني: الوصل، فيقرأ: {إلا الله والراسخون في العلم}، وعلى هذا، فالمراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وهذا يعلمه الراسخون في العلم ويكون عند غيرهم متشابهًا، ولهذا يروي عن ابن عباس، أنه قال: (أنا من الراسخين في العلم الذي يعلمون تأويله). ولم يقل هذا مدحًا لنفسه أو ثناء عليها، ولكن ليعلم الناس أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعرف معناه، فالقرآن معانيه بينة، لكن بعض القرآن يشتبه على ناس دون آخرين حتى العلماء الراسخون في العلم يختلفون في معنى القرآن، وهذا يدل على أنه خفي على بعضهم، والصواب بلا شك مع أحدهم إذا كان اختلافهم اختلاف تضاد لا تنوع، أما إذا كانت الآية تحتمل المعنيين جميعًا بلا منافاة ولا مرجح لأحدهما، فإنها تحمل عليهما جميعًا.
وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه، فيكون من المتشابه المطلق، ويحملون آيات الصفات على ذلك، وهذا من الخطأ العظيم، إذ ليس من المعقول أن يقول الله تعالى: {كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته} [ص: 29]، ثم تستثني الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعًا وأكثر من آيات الأحكام، ولو قلنا بهذا القول، لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعًا يكون خفيًّا، ويكون معنى قوله تعالى: {ليدبروا آياته}، أي: آيات الأحكام فقط، وهذا غير معقول، بل جميع القرآن يفهم معناه، إذا لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله إلى آخرها لا تفهم معنى القرآن، وعلي رأيهم يكون الرسول وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرؤون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية (أ، ب، ت..) والصواب أنه ليس في القرآن شيء متشابه على جميع الناس من حيث المعنى، ولكن الخطأ في الفهم.
فقد يقصر الفهم عن إدراك المعنى أو يفهمه على معنى خطأ، وأما بالنسبة للحقائق، فما أخبر الله به من أمر الغيب، فمتشابه على جميع الناس.
ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وهم يكفرون بالرحمن} [الرعد: 30].
قوله: (ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن). أصل ذلك أن سهيل بن عمرو أحد الذين أرسلتهم قريش لمفاوضة النبي في صلح الحديبية وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال: أما الرحمن، فلا والله ما أدري ما هي: وقالوا: إننا لا نعرف رحمانًا إلا رحمن اليمامة. فأنكروا الاسم دون المسمى، فأنزل الله: {وهم يكفرون بالرحمن}، أي بهذا الاسم من أسماء الله.
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسمًا من أسماء الله الثابتة في الكتاب أو السنة، فهو كافر لقوله تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن}.
وقوله: (ولما سمعت قريش). الظاهر والله أعلم أنه من باب العام الذي أريد به الخاص، وليس كل قريش تنكر ذلك، بل طائفة منهم، ولكن إذا أقرت الأمة الطائفة على ذلك ولم تنكر، صح أن ينسب لهم جميعًا، بل أن الله نسب إلى اليهود في زمن النبي ما فعله أسلافهم في زمن موسى عليه السلام، قال تعالى: {وإذ آخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة} [البقرة: 63]، وهذا لم يكن في عهد المخاطبين.
* فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. الثانية: تفسير آية الرعد. الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. الرابعة: ذكر العلة: أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر. الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئًا من ذلك، وأنه أهلكه.
قوله فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. عدم بمعنى انتفاء أي: انتفاء الإيمان بسبب جحد شيء من الأسماء والصفات، وسبق التفصيل في ذلك.
الثانية: تفسير آية الرعد. وهي قوله تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن}. وسبق تفسيرها.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. وهذا ليس على إطلاقه، وقد سبق التفصيل فيه عند شرح الأثر.
الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر.
وهي أن الذي لا يبلغ عقله ما حدث به يفضي به التحديث إلى تكذيب الله ورسوله، فيكذب ويقول: هذا غير ممكن، وهذا يوجد من بعض الناس في أشياء كثيرة مما أخبر به النبي مما يكون يوم القيامة، كما أخبر النبي: «إن الأرض يوم القيامة تكون خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفا أحدكم خبزته»، وما أشبه ذلك، وكما أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة وغير هذه الأمور لو حدثنا بها إنسانًا عاميًّا لأوشك أن ينكر، لكن يجب أن تبين له بالتدريج حتى يتمكن من عقلها مثل ما نعلم الصبي شيئًا فشيئًا.
وقوله: (ولو لم يتعمد المنكر). أي: ولو لم يقصد المنكر تكذيب الله ورسوله، ولكن كذب نسبة هذا الشيء إلى الله ورسوله، وهذا يعود بالتالي إلى رد خبر الله ورسوله.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئًا من ذلك وأنه أهلكه. وذلك قوله: (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة أي لينًا عند محكمه فيقبلونه، ويهلكون عند متشابه فينكرونه؟).