فصل: باب لا يقول: عبدي وأمتي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب لا يقول: عبدي وأمتي:

في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: «لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضيء ربك، وليقل: سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي. وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي».
هذه الترجمة تحتمل كراهة هذا القول وتحريمه، وقد اختلف العلماء في ذلك، وسيأتي التفصيل فيه.
قوله: في (الصحيح). سبق التنبيه على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، وهذا الحديث في (الصحيحين)، فيكون المراد بقوله: (في الصحيح)، أي: في الحديث الصحيح، ولعله أراد (صحيح البخاري) لأن هذا لفظه، أما لفظ مسلم، فيختلف عنه.
قوله: «لا يقل». الجملة نهي.
«عبدي»، أي: للغلام.
و: «أمتي»، أي: للجارية.
والحكم في ذلك ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يضيفه إلى غيره، مثل أن يقول: عبد فلان أو أمة فلان، فهذا جائز قال تعالى: {وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمانكم} [النور: 32]، وقال النبي: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة».
الثاني: أن يضيفه إلى نفسه، وله صورتان:
الأولى: أن يكون بصيغة الخبر، مثل: أطعمت عبدي، كسوت عبدي، أعتقت عبدي، فإن قاله في غيبة العبد أو الأمة، فلا بأس به، وإن قاله في حضرة العبد أو الأمة، فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع، وإلا، فلا لأن قائل ذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك.
الثانية: أن يكون بصيغة النداء، فيقول السيد: يا عبدي! هات كذا، فهذا منهي عنه، وقد اختلف العلماء في النهي: هل هو للكراهة أو التحريم؟ والراجح التفصيل في ذلك، وأقل أحواله الكراهة.
قوله: «لا يقل أحدكم: أطعم ربك.. إلخ» أي: لا يقل أحدكم لعبد غيره، ويحتمل أن يشمل قول السيد لعبده حيث يضع الظاهر موضع المضمر تعاظمًا.
واعلم أن إضافة الرب إلى غير الله تعالى تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب، مثل: أطعم ربك، وضيء ربك، فيكره ذلك للنهي عنه، لأن فيه محذورين:
1. من جهة الصيغة، لأنه يوهم معنى فاسدًا بالنسبة لكلمة رب، لأن الرب من أسمائه سبحانه، وهو سبحانه يطعم ولا يطعم، وإن كان بلا شك إن الرب هنا غير رب العالمين الذي يطعم ولا يطعم، ولكن من باب الأدب في اللفظ.
2. من جهة المعنى أنه يشعر العبد أو الأمة بالذل، لأنه إذا كان السيد ربًا كان العبد أو الأمة مربوبًا.
القسم الثاني: أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب، فهذا لا بأس به، كقوله في حديث أشراط الساعة، «أن تلد الأمة ربها»، وأما لفظ (ربتها)، فلا إشكال فيه لوجود تاء التأنيث، فلا اشتراك مع الله في اللفظ، لأن الله لا يقال له إلا رب، وفي حديث الضالة وهو متفق عليه: «حتى يجدها ربها». وقال بعض أهل العلم أن حديث الضالة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل، فليست كالإنسان، والصحيح عدم الفارق، لأن البهيمة تعبد الله عبادة خاصة، قال تعالى: {ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب}، وقال في الناس: {وكثير من الناس} ليس جمعيهم: {وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18]، وعلى هذا، فيجوز أن تقول: أطعم الرقيق ربه، ونحوه..
القسم الثالث: أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم، بأن يقول العبد: هذا ربي، فهل يجوز هذا؟
قد يقول قائل: إن هذا جائز، لأن هذا من العبد لسيده، وقد قال تعالى عن صاحب يوسف: {إنه ربي أحسن مثواي} [يوسف: 23] أي: سيدي، ولأن المحذور من قول: {ربي} هو إذلال العبد، وهذا منتف، لأنه هو بنفسه يقول: هذا ربي.
القسم الرابع: أن يضاف إلى الاسم الظاهر، فيقال: هذا رب الغلام، فظاهر الحديث الجواز، وهو كذلك ما لم يوجد محذور فيمنع، كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق ونحو ذلك.
قوله: «وليقل: سيدي ومولاي». المتوقع أن يقول: وليقل سيدك ومولاك، لأن مقتضى الحال أن يرشد ما يكون بدلًا عن اللفظ المنهي عنه بما يطابقه، وهنا ورد النهي بلفظ الخطاب، والإرشاد بلفظ التكلم، «وليقل: سيدي ومولاي»، ففهم المؤلف رحمة الله كما سيأتي في المسائل أن فيه إشارة إلى أنه إذا كان الغير قد نهي أن يقول للعبد: أطعم ربك، فالعبد من باب أولي أن ينهي عن قول: أطعمت ربي، وضأت ربي، بل يقول: سيدي ومولاي.
وأما إذا قلنا بأن أطعم ربك خاص بمن يخاطب العبد لما فيه من إذلال العبد بخلاف ما إذا قال هو بنفسه: أطعمت ربي، فإنه ينتفي الإذلال، فإنه يقال: إن الرسول لما وجه الخطاب لمن يخاطب العبد وجه الخطاب إلى العبد نفسه، فقال: «وليقل: سيدي ومولاي»، أي عن قوله: أطعمت ربي، وضأت ربي.
وقوله: (سيدي). السيادة في الأصل علو المنزلة، لأنها من السؤدد والشرف والجاه وما أشبه ذلك.
والسيد يطلق على معان، منها: المالك، الزوج، والشريف المطاع.
وسيدي هنا مضافة إلى ياء المتكلم وليست على وجه الإطلاق فالسيد على وجه الإطلاق لا يقال إلا إله عز وجل قال: «السيد الله».
وأما السيد مضافة، فإنها تكون لغير الله، قال تعالى: {وألفيا سيدها لدي الباب} [يوسف: 25]، وقال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة»، والفقهاء يقولون: إذا قال السيد لعبده، أي: سيد العبد لعبده.
تنبيه:
اشتهر عند بعض الناس إطلاق السيدة على المرأة، فيقولون مثلًا: هذا خاص بالرجال، وهذا خاص بالسيدات، وهذا قلب للحقائق، لأن السادة هم الرجال، قال تعالى: {وألفيا سيدها لدي الباب}، وقال: {الرجال قوامون على النساء} [الأنعام: 62]، وقال: «إن النساء عوان عندكم»، أي: بمنزلة الإسير: وقال في الرجل: «راع في أهله ومسؤول عن رعيته»، فالصواب أن يقال للواحدة أمراة وللجماعة منهن نساء.
قوله: «ومولاي». أي: وليقل مولاي، والولاية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ولاية مطلقة، وهذه لله عز وجل لا تصلح لغيره، كالسيادة المطلقة.
وولاية الله نوعان:
النوع الأول: عامة، وهي الشاملة لكل أحد، قال الله تعالى: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} [الأنعام: 62]، فجعل له ولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة.
النوع الثاني: خاصة بالمؤمنين، قال تعالى: {ذلك بأن الله مولي الذين آمنوا وأن الكافرون لا مولي لهم} [محمد: 11]، وهذه ولاية خاصة، ومقتضي السياق أن يقال: وليس مولي الكافرين، لكن قال: {لا مولي لهم}، أي: لا هو مولي للكافرين ولا أولياؤهم الذين يتخذونهم آلهة من دون الله موالي لهم لأنهم يوم القيامة يتبرءون منهم.
القسم الثاني: ولاية مقيدة مضافة، فهذه تكون لغير الله، ولها في اللغة معان كثيرة، منها الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، والعتيق.
قال تعالى: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} [التحريم: 4] وقال فيما يروي عنه: «من كنت مولاه، فعلي مولاه»، وقال: «إنما الولاء لمن أعتق».
ويقال للسلطان ولي الأمر، وللعتيق مولي فلان لمن أعتقه، وعليه يعرف أنه لا وجه لاستنكار بعض الناس لمن خاطب ملكًا بقوله: مولاي، لأن المراد بمولاي أي متولي أمري، ولا شك أن رئيس الدولة يتولي أمورها، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59].
قوله: «ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي». هذا خطاب للسيد أن لا يقول: عبدي وأمتي لمملوكه ومملوكته، لأننا جميعًا عباد الله، ونساؤنا إماء لله، قال النبي: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله».
فالسيد منهي أن يقول ذلك، لأنه إذا قال: عبدي وأمتي، فقد تشبه بالله عز وجل ولو من حيث ظاهر اللفظ، لأن الله، عز وجل يخاطب عباده بقوله: عبدي، كما في الحديث: «عبدي استطعمتك فلم تطعمني..» وما أشبه ذلك.
وإن كان السيد يريد بقوله: «عبدي»، أي: مملوكي، فالنهي من باب التنزه عن اللفظ الذي يوهم الإشراك، وقد سبق بيان حكم ذلك.
وقوله: «وأمتي». الأمة: الأنثي من المملوكات، وتسمي الجارية.
والعلة من النهي: أن فيه إشعارًا بالعبودية، وكل هذا من باب حماية التوحيد والبعد عن التشريك حتى في اللفظ، ولهذا ذهب بعض أهل العلم ومنهم شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم، وأنه على سبيل الآدب والأفضل والأكمل، وقد سبق بيان حكم ذلك مفصلًا.
قوله: «وليقل: فتاي وفتاتي». مثله جاريتي وغلامي، فلا بأس به.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
1. حسن تعليم الرسول، حيث إنه إذا نهي عن شيء فتح للناس ما يباح لهم، فقال: «لا يقل: عبدي وأمتي:، وليقل: فتاي وفتاتي»، وهذه كما هي طريقة النبي، فهي طريقة القرآن أيضًا، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} [البقرة: 104] وهكذا ينبغي لأهل العلم وأهل الدعوة إذا سدوا على الناس بابًا محرمًا أن يفتحوا لهم الباب المباح حتى لا يضيقوا على الناس ويسدوا الطرق أمامهم، لأن في ذلك فائدتين عظيمتين:
الأولى: تسهيل ترك المحرم على هؤلاء، لأنهم إذا عرفوا أن هناك بدلًا عنه هان عليهم تركه.
الثانية: بيان أن الدين الإسلامي فيه سعة، وأن كل ما يحتاج إليه الناس، فإن الدين الإسلامي يسعه، فلا يحكم على الناس أن يتكلموا بشيء أو لا يفعلوا شيئًا إلا وفتح لهم ما يغني عنه، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية.
2. أن الأمر يأتي للإباحة، لقوله: «وليقل: سيدي ومولاي»، وقد قال العلماء: إن الأمر إذا أتى في مقابلة شيء ممنوع صار للإباحة، وهنا جاء الأمر في مقابلة شيء ممنوع، ومثله قوله تعالى: {وإذا حللتم وإذا فاصطادوا} [المائدة: 2].
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي. الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك. الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي. الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدى ومولاي. الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد، حتى في الألفاظ.
فيه مسائل:
* الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي. تؤخذ من قوله: «ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي». وقد سبق بيان ذلك.
* الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له أطعم ربك. تؤخذ من الحديث، وقد سبق بيان ذلك.
* الثالثة: تعليم الأول (وهو السيد) قول: فتاي وفتاتي وغلامي.
* الرابعة: تعليم الثاني (وهو العبد) قول: سيدي ومولاي.
* الخامسة التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ. وقد سبق ذلك.
وفي الباب مسائل أخرى لكن هذه المسائل هي المقصود.