فصل: باب قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياء فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 175).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياء فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 175].

* مناسبة الباب لما قبله.
أن المؤلف رحمه الله أعقب باب المحبة بباب الخوف، لأن العبادة ترتكز على شيئين: المحبة، والخوف.
فبالمحبة يكون امتثال الأمر، وبالخوف يكون اجتناب النهي، وإن كان تارك المعصية يطلب الوصول إلى الله، ولكن هذا من لازم ترك المعصية، وليس هو الأساس.
فلو سألت من لا يزني لماذا، لقال: خوفًا من الله.
ولو سألت الذي يصلى؛ لقال: طمعًا في ثواب الله ومحبة له.
وكل منهما ملازم للآخرة؛ فالخائف والمطيع يريدان النجاة من عذاب الله والوصول إلى رحمته.
وهل الأفضل للإنسان أن يغلب جانب الخوف أو يغلب جانب الرجاء؟
أختلف في ذلك:
فقيل: ينبغي أن يغلب جانب الخوف، ليحمله ذلك على اجتناب المعصية ثم فعل الطاعة.
وقيل يغلب جانب الرجاء، ليكون متفائلا، والرسول كان يعجبه الفأل.
وقيل في فعل الطاعة: يغلب جانب الرجاء، فالذي من عليه بفعل هذه الطاعة سيمن عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء، فانتظر الإجابة، لأن الله يقول: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]، وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف، لأجل أن يمنعه منها ثم إذا خاف من العقوبة تاب.
وهذا أقرب شيء، ولكن ليس بذاك القرب الكامل؛ لأن الله يقول: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجله أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 60]، أي: يخافون أن لا يقبل منهم، لكن قد يقال هذه الآية يعارضها أحاديث أخرى، كقوله في الحديث القدسي عن ربه: «أنه عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني».
وقيل: في حال المرض يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف، فهذه أربعه أقوال.
وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا؛ فأيهما غلب هلك صاحبه، أي: يجعلهما كجناحي الطائر، والجناحان للطائر إذا لم يكونا متساوين سقط.
وخوف الله تعالى درجات؛ فمن الناس من يغلو في خوفه، ومنهم من يفرط، ومنهم من يعتدل في خوفه.
والخوف العدل هو الذي يرد عن محارم الله فقط، وإن زدت على هذا؛ فإنه يوصلك إلى اليأس من روح الله.
ومن الناس من يفرط في خوفه بحيث لا يردعه عما نهى الله عنه.
والخوف أقسام:
الأول: خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع، وهو ما يسمى بخوف السر.
وهذا لا يصلح إلا لله- سبحانه-، فمن أشرك فيه مع الله غيره؛ فهو مشرك شركًا أكبر، وذلك مثل: مَن يخاف من الأصنام أو الأموات، أو من يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم؛ كما يفعله بعض عباد القبور: يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله.
الثاني: الخوف الطبيعي والجبلي؛ فهذا في الأصل مباح، لقوله تعالى عن موسى: {فخرج منها خائفًا يترقب}، وقوله عنه أيضًا: {رب إني قتلت منهم نفسًا فأخاف أن يقتلون}، لكن إن حمل على ترك واجب أو فعل محرم؛ فهو محرم، وإن استلزم شيئاَ مباحًا كان مباحًا، فمثلًا من خاف من شيء لا يؤثر عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها؛ فهذا الخوف محرم، والواجب عليه أن لا يتأثر به.
وإن هدده إنسان على فعل محرم، فخافه وهو لا يستطيع أن ينفذ ما هدده به، فهذا خوف محرم لأنه يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر، وإن رأى نارًا ثم هرب منها ونجا بنفسه؛ فهذا خوف مباح، وقد يكون واجبًا إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه.
وهناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف، مثل أن يرى ظل شجرة تهتز فيظن أن هذا عدو يتهدده، فهذا لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك، بل يطارد هذه الأوهام لأنه حقيقة لها، وإذا لم تطاردها؛ فإنها تهلكك.
مناسبة الخوف للتوحيد: إن من أقسام الخوف ما يكون شركًا منافيًا للتوحيد.
وقد ذكر المؤلف فيه ثلاث آيات:
* أولها ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه}.
{إنما ذلكم}: صيغة حصر والمشار إليه التخويف من المشركين.
{ذلكم}: ذا: مبتدأ، {الشيطان}: يحتمل أن يكون خبر المبتدأ، وجملة: {يخوف} حال من الشيطان.
ويحتمل أن يكون: {الشيطان} صفة لـ: {ذلكم}، أو عطف بيان، و: {يخوف}: خبر المبتدأ، والمعنى: ما هذا التخويف الذي حصل إلا من شيطان يخوف أولياءه.
و: {يخوف} تنصب مفعولين، الأول محذوف تقديره: يخوفكم، والمفعول الثاني: {أولياءه}.
ومعنى يخوفكم، أي: يوقع الخوف فى قلوبكم منهم، {أولياءه}؛ أي: أنصاره الذين ينصرون الفحشاء والمنكر؛ لأن الشيطان يأمر بذلك؛ فكل من نصر الفحشاء والمنكر؛ فهو من أولياء الشيطان؛ ثم قد يكون النصر في الشرك وما ينافي التوحيد، فيكون عظيمًا وقد يكون دون ذلك.
وقوله: {يخوف أولياءه} من ذلك ما وقع في الآية التي قبلها، حيث قالوا: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} [آل عمران: 173]، وذلك ليصدهم عن واجب من واجبات الدين، وهو الجهاد، فيخوفونهم بذلك، وكذلك ما يحصل في نفس من أراد أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، فيخوفه الشيطان ليصده عن هذا العمل، وكذلك ما يقع في قلب الداعية.
والحاصل: أن الشيطان يخوف كل من أراد أن يقوم بواجب، فإذا ألقى الشيطان في نفسك الخوف؛ فالواجب عليك أن تعلم أن الإقدام على كلمة الحق ليس هو الذي يدنى الإجل، وليس السكوت والجبن هو الذي يبعد الأجل؛ فكم من داعية صدع بالحق وما على فراشه؟! وكم من جبان قتل في بيته؟!
وانظر إلى خالد بن الوليد، كان شجاعًا مقدامًا ومات على فراشه، وما دام الإنسان قائمًا بأمر الله؛ فليثق بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وحزب الله هم الغالبون.
قوله: {فلا تخافوهم}. لا ناهية، والهاء ضمير يعود على أولياء الشيطان، وهذا النهي للتحريم بلا شك؛ أي: بل أمضوا فيما أمرتكم به وفيما أوجبته عليكم من الجهاد، ولا تخافوا هؤلاء، وإذا كان الله مع الإنسان، فإنه لا يغلبه أحد، لكن نحتاج في الحقيقة إلى صدق النية والإخلاص والتوكل التام، ولهذا قال تعالى: {إن كنتم مؤمنين}، وعلم من هذه الآية أن للشيطان وساوس يلقيها في قلب ابن أدم منها التخويف من أعدائه، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس، وهو الخوف من أعداء الله فكانوا فريسة لهم، وإلا لو اتكلوا على الله وخافوه قبل كل شيء لخافهم الناس، ولهذا قيل في المثل: مَن خاف الله خافه كل شيء، ومن اتقى الله أتقاه كل شيء، ومن خاف من غير الله خاف من كل شيء.
ويفهم من الآية أن الخوف من الشيطان وأوليائة مناف للإيمان، فإن كان الخوف يؤدي إلى الشرك، فهو مناف لأصله، وإلا، فهو مناف لكماله.
وقوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة: 18].
* الآية الثانية قوله تعالى: {إنما يعمر}.
{إنما}: أداة حصر، والمراد بالعمارة العمارة المعنوية، وهي عمارتها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن ونحوها، وكذلك الحسية بالبناء الحسي؛ فإن عمارتها به حقيقة لا تكون إلا ممن ذكرهم الله؛ لأن من يعمرها وهو لم يؤمن بالله واليوم الآخر لم يعمرها حقيقة؛ لعدم انتفاعه بهذه العمارة؛ فالعمارة النافعة الحسية والمعنوية من الذين آمنوا بالله واليوم الأخر، ولهذا لما أفتخر المشركون بعمارة المسجد الحرام، قال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الأخر}، وأضاف سبحانه المساجد إلى نفسه تشريفًا؛ لآنها موضوع عبادته.
قوله: {من آمن بالله}. (من): فاعل يعمر، والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور، وهى:
الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.
واليوم الآخر: هو يوم القيامة، وسمي بذلك، لأنه لا يوم بعده.
قال شيخ الإسلام: ويدخل في الإيمان بالله واليوم الآخر كل ما أخبر به مما يكون بعد الموت مثل فتنة القبر وعذابه ونعيمه.
لأن حقيقة الأمر أن الإنسان إذا مات قامت قيامته وارتحل إلى دار الجزاء.
ويقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر كثيرًا؛ لأن الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان إلى الامتثال، فإنه إذا آمن أن هناك بعثًا وجزاءً؛ حمله ذلك على العمل لذلك اليوم، ولكن من لا يؤمن باليوم الإخر لا يعمل؛ إذ كيف يعمل لشيء وهو لا يؤمن به؟!
قوله: {وأقام الصلاة}. أي: أتى بها على وجه قويم لا نقص فيه، والإقامة نوعان:
إقامة واجبة، وهي التي يقتصر فيها على فعل الواجب من الشروط والأركان والواجبات.
وإقامة مستحبة: وهي التي يزيد فيها على فعل ما يجب فيأتيى بالواجب والمستحب.
قوله: {وآتى الزكاة}. {آتى} تنصب مفعولين: الأول هنا الزكاة، والثاني: محذوف: تقديره مستحقيها.
والزكاة: هي المال الذي أوجبه الشارع في الأموال الزكوية وتختلف مقاديرها حسب ما تقتضيه حكمة الله- عز وجل-.
قوله: {ولم يخش إلا الله}. في هذه الآية حصر طريقة الإثبات والنفي. {لم يخش} نفي: {إلا الله} إثبات، والمعنى: أن خشيته انحصرت في الله- عز وجل-؛ فلا يخشى غيره.
والخشية نوع من الخوف، لكنها أخص منه، والفرق بينهما:
1- أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي وحاله، لقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، والخوف قد يكون من الجاهل.
2- أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشي، بخلاف الخوف، فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف.
قوله: {فعسى أولئك أن يكون من المهتدين}. قال ابن عباس: (عسى من الله واجبة)، وجاءت بصيغة الترجي، لئلا يأخذ الإنسان الغرور بأنه حصل على هذا الوصف، وهذا كقوله تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوًا غفورًا} [النساء: 98-99]، فالله لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ فالذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا جديرون بالعفو.
الشاهد من الآية: قوله: {ولم يخش إلا الله}، ولهذا قال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} [المائدة: 44]، ومن علامات صدق الإيمان أن لا يخشى إلا الله في كل ما يقول ويفعل.
ومن أراد أن يصحح هذا المسير، فليتأمل قول الرسول: «واعلم أن الأمة لو أجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك».
وقوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} [العنكبوت: 10] الآية.
* الآية الثالثة قوله تعالى: {ومن الناس}. جار ومجرور خبر مقدم، و: (من) تبعيضية.
وقوله: {من يقول}. (من): مبتدأ مؤخر، والمراد بهؤلاء: من لا يصل الإيمان إلى قرارة قلبه؛ فيقول: آمنا بالله، لكنه إيمان متطرف؛ كقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} [الحج: 11]، {على حرف}؛ أي: على طرف.
فإذا امتحنه الله بما يُقَدِر عليه من إيذاء الأعداء في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله، قوله: {فإذا أوذي في الله}. {في}: للسببية، أي: بسبب الإيمان بالله وإقامة دينه.
ويجوز أن تكون: {في} للظرفية على تقدير: (فإذا أوذي في شرع الله)؛ أي: إيذاء في هذا الشرع الذي تمسك به.
قوله: {جعل فتنة الناس}. {جعل}: صير، والمراد بالفتنة هنا الإيذاء، وسمي فتنه؛ لأن الإنسان يتفتن به، فَيُصد عن سبيل الله؛ كما قال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا} [البروج: 10] وأضاف الفتنة إلى الناس من باب إضافة المصدر إلى فاعله.
قوله: {كعذاب الله}. ومعلوم أن الإنسان يفر من عذاب الله، فيوافق أمره؛ فهذا يجعل فتنة الناس كعذاب الله؛ فيفر من إيذائهم بموافقة أهوائهم وأمرهم جعلًا لهذه الفتنة كالعذاب؛ فحينئذ يكون قد خاف من هؤلاء كخوفة من الله؛ لأنه جعل إيذاءهم كعذاب الله، ففر منه بموافقة أمرهم، فالآية موافقة للترجمة.
وفي هذه الآية من الحكمة العظيمة، وهي ابتلاء الله العبد لآجل أن يمحص إيمانة، وذلك على قسمين:
الأول: ما يقدره الله نفسه على العبد؛ كقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11] وقوله تعالى: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 155، 156].
الثاني: ما يقدره الله على أيدي الخلق من الإيذاء امتحانًا واختبارًا، وذلك كالآية التي ذكر المؤلف.
وبعض الناس إذا أصابته مصائب لا يصبر، فيكفر ويرتد أحيانًا- والعياذ بالله-، وأحيانًا يكفر بما خالف فيه أمر الله- عز وجل- في موقفه في تلك المصيبة، وكثير من الناس ينقص إيمانه بسبب المصائب نقصًا عظيمًا؛ فليكن المسلم على حذر، فالله حكيم يمتحن عباده بما يتبين به تحقق الإيمان، قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} [محمد: 31].
قوله: (الآية). أي: إلى آخر الآية، وهي قوله تعالى: {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين}.
كانوا يدعون أن ما يحصل لهم من الإيذاء بسبب الإيمان، فإذا انتصر المسلمون قالوا: نحن معكم نريد أن يصيبنا مثل ما أصابكم من غنيمة وغيرها.
وقوله: {أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين}. قيل في مثل هذا السياق: إن الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق.
وقيل: إنها عاطفة على ما سبقها على تقدير أن الهمزة بعدها، أي: وأليس الله.
قوله: (أعلم) مجرور بالفتحة؛ لأنه ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل.
فالله أعلم بما في صدور العالمين، أي بما في صدور الجميع، فالله أعلم بما في نفسك منك، وأعلم بما في نفس غيرك؛ لأن علم الله عام.
وكلمة (أعلم): اسمم تفضيل، وقال بعض المفسرين ولا سيما المتأخرون منهم: (أعلم) بمعنى عالم، وذلك فرارًا من أن يقع التفضيل بين الخالق والمخلوق، وهذا التفسير الذي ذهبوا إليه ذهبوا إليه كما أنه خلاف اللفظ، ففيه فساد المعنى؛ لأنك إذا قلت: أعلم بمعنى عالم، فإن كلمة عالم تكون لإنسان وتكون لله، ولا تدل على التفاضل؛ فالله عالم والإنسان عالم.
وأما تحريف اللفظ، فهو ظاهر، حيث حرفوا اسم التفضيل الدال على ثبوت المعنى وزيادة إلى أسم فاعل لا يدل على ذلك.
والصواب أن (أعلم) على بابها، وأنها اسم تفضيل، وإذا كانت اسم تفضيل، فهي دالة دلالة واضحة على عدم تماثل علم الخالق وعلم المخلوق، وأن علم الخالق أكمل.
وقوله: {بما في صدور العالمين}. المراد بالعالمين: كل من سوى الله، لأنهم عَلَمٌ على خالقهم، فجميع المخلوقات دالة على كمال الله وقدرته وربوبيته والله أعلم بنفسك منك ومن غيرك، لعموم الآية.
وفي الآية تحذير من أن يقوم الإنسان خلاف ما في قلبه، ولهذا لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك قال للرسول حين رجع: «إنى قد أوتيت جدلا، ولو جلست إلى غيرك من ملوك الدنيا؛ لخرجت منهم بعذر، لكن لا أقول شيئًا تعذرني فيه فيفضحني الله فيه».
الشاهد من الآية: قوله: {فإذا أوذي في الله فتنة الناس كعذاب الله}؛ فخاف الناس مثل خوف الله تعالى.
عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمَدهم على رزق الله، وأن تذمهم على مالم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره».
قوله في حديث أبي سعيد: «إن من ضعف اليقين». (من). للتبعيض، والضعف ضد القوة، ويقال: ضعف بفتح الضاد، أو ضعف بضم الضاد، وكلاهما بمعنى واحد، أي: من علامة ضعف اليقين.
قوله: «أن ترضي الناس». (أن ترضي): اسم إن مؤخرًا، و: «من ضعف اليقين» خبرها مقدمًا، والتقدير: إن إرضاء الناس بسخط الله من ضعف اليقين.
قوله: «بسخط الله». الباء للعوض، يعني: أي تجعل عوض إرضاء الناس سخط الله، فتستبدل هذا، بهذا؛ من ضعف اليقين.
واليقين أعلى درجات الإيمان، وقد يراد به العلم، كما تقول: تيقنت هذا الشيء، أي: علمته يقينًا لا يعتريه الشك، فمن ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله؛ إذ إنك خفت الناس أكثر مما تخاف الله، وهذا مما أبتليت به الأمة الإسلامية اليوم؛ فتجد الإنسان يجيء إلى شخص فيمدحه، وقد يكون خاليًا من هذا المدح، ولا يبين ما فيه من عيوب، وهذا من النفاق وليس من النصح والمحبة، بل النصح أن تبين له عيوبه ليتلافاها ويحترز منها، ولا بأس أن تذكر له محامده تشجيعًا إذا أمن في ذلك من الغرور.
قوله: «وأن تحمدهم على رزق الله». الحمد: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
ولكنه هنا ليس بشرط المحبة والتعظيم، لأنه يشمل المدح.
و: (رزق الله): عطاء الله، أي: إذا أعطوك شيئًا حمدتهم ونسيت المسبِّب وهو الله، والمعنى: أن تجعل الحمد كله لهم متناسيًا بذلك المسبب، وهو الله، فالذي أعطاك سبب فقط، والمعطي هو الله، ولهذا قال النبي: «إنما أنا قاسم والله يعطي».
أما إن كان في قلبك أن الله هو الذي منَّ عليك بسياق هذا الرزق، ثم شكرت الذي أعطاك؛ فليس هذا داخلًا في الحديث، بل هو من الشرع، لقوله: «من صنع إليكم معروفًا، فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه».
إذن الحديث ليس على ظاهره من كل وجه، فالمراد بالحمد: أن تحمدهم الحمد المطلق نًاسيًا المسبب وهو الله- عز وجل-، وهذا ضعف اليقين، كأنك نسيت المنعم الأصلي، وهو الله- عز وجل-، الذي له النعمة الأولى، وهو سفه أيضًا، لأن حقيقة الأمر أن الذي أعطاك هو الله، فالبشر الذي أعطاك هذا الرزق لم يخلق ما أعطاك، فالله هو الذي خلق ما بيده، وهو الذي عطف قلبه حتى أعطاك، أرأيت لو أن إنسانًا له طفل، فأعطى طفله ألف درهم وقال له: أعطها فلانًا، فالذي أخذ الدراهم يحمد الأب؛ لأنه لو حمد الطفل فقط لعدَّ هذا سفهًا، لأن الطفل ليس إلا مرسلًا فقط، وعلى هذا؛ فنقول: إنك إذا حمدتهم ناسيًا بذلك ما يجب لله من الحمد والثناء؛ فهذا هو الذي من ضعف اليقين، أما إذا حمدتهم على أنهم سبب من الإسباب، وأن الحمد كله لله- عز وجل-، فهذا حق، وليس من ضعف اليقين.
قوله: (وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله). هذه عكس الأولى، فمثلًا: لو أن إنسانًا جاء إلى شخص يوزع دراهم، فلم يعطه، فسبه وشتمه، فهذا من الخطأ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
لكن من قَصَّر بواجب عليه، فَيُذَم لأجل أنه قصر بالواجب لا أجل أنه لم يعط، فلا يذم من حيث القدر، لأن الله لو قَدَّر ذلك لوجدت الأسباب التي يصل بها إليك هذا العطاء.
وقوله: (ما لم يؤتك). علامة جزمه حذف الياء، والمفعول الثاني محذوف؛ لأنه فضلة، والتقدير: مالم يؤتكه.
قوله: (إن رزق الله لا يجره حرص ولا يرده كراهية كاره).
هذا تعليل؛ لقوله: (أن تحمدهم وأن تذمهم).
و: (رزق الله): عطاؤه لكن حرص الحريص من سببه بلا شك، فإذا بحث عن الرزق وفعل الأسباب، فإنه يكون فعل الأسباب الموجبة للرزق، لكن ليس المعنى أن هذا السبب موجب مستقل، وإنما الذي يرزق هو الله تعالى، وكم من إنسان يفعل أسبابًا كثيرة للرزق ولا يرزق، وكم من إنسان يفعل أسبابًا قليلة فيرزق، وكم من إنسان يأتيه الرزق بدون سعي، كما لو وجد ركازًا في الإرض أو مات له قريب غني يرثه، أو ما أشبه ذلك.
وقوله: (ولا يرده كراهية كاره). أي رزق الله إذا قدر للعبد، فلن يمنعه عنه كراهية كاره، فكم من إنسان حسده الناس، وحاولوا منع رزق الله، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط عليه وأسخط عليه الناس» رواه ابن حبان في (صحيحه).
قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: «من التمس رضا الله بسخط الناس».
«التمس»: طلب، ومنه قوله في ليلة القدر: «التمسوها في العشر».
وقوله: «رضا الله». أي: أسباب رضاه، وقوله: «بسخط الناس»: الباء للعوَض؛ أي طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا الرضا وجواب الشرط: «رضي الله عنه وأرضى عنه الناس».
وقوله: «رضي الله عنه وأرضى عنه الناس». هذا ظاهر، فإذا التمس العبد رضا ربه بنية صادقة رضي الله عنه؛ لأنه أكرم من عبده، وأرضى عنه الناس، وذلك بما يلقي في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
قوله: «ومن التمس رضا الناس بسخط الله». (التمس): طلب، أي: طلب ما يرضى الناس، ولو كان يسخط الله، فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده، لهذا قال: «سخط الله عليه وأسخط عليه الناس»، فألقى في قلوبهم سخطه وكراهيته.
* مناسبة الحديث للترجمة:
قوله: «ومن التمس رضا الناس بسخط الله»؛ أي خوفًا منهم حتى يرضوا عنه، فقدم خوفهم على مخافة الله تعالى.
فيستفاد من الحديث ما يلي:
1- وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس؛ لأن الله هو الذي ينفع ويضر.
2- أنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائنًا من كان.
3- إثبات الرضا والسخط لله على وجه الحقيقة، لكن بلا مماثلة للمخلوقين؛ لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء}، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وأما أهل التعطيل؛ فأنكروا حقيقة ذلك، قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الإنتقام، وهذا لا يليق بالله، وهذا خطأ؛ لأنهم قاسوا سخط الله أو غضبه بغضب المخلوق، فنرد عليهم بأمرين: بالمنع، ثم النقض:
فالمنع: أن نمنع أن يكون معنى الغضب المضاف إلى الله- عز وجل- كغضب المخلوقين.
والنقص: فنقول للأشاعرة: أنتم أثبتم لله- عز وجل- الإرادة، وهى ميل النفس إلى جلب منفعه أو دفع مضرة، والرب عز وجل لا يليق به ذلك، فإذا قالوا: هذه إرادة المخلوق. نقول: والغضب الذي ذكرتم هو غضب المخلوق.
وكل إنسان أبطل ظواهر النصوص بأقيسة عقلية، فهذه الأقيسة باطلة لوجوه:
الأولى: أنها تبطل دلالة النصوص، وهذا يقتضي أن تكون هي الحق، ومدلول النصوص باطل، وهذا ممتنع.
الثاني: أنه تقول على الله بغير علم؛ لأن الذي يبطل ظاهر النص يُؤوِّله إلى معنى آخر؛ فيقال له: ما الذي أدراك أن الله أراد هذا المعنى دون ظاهر النص؟ ففيه تقول على الله في النفي والإثبات في نفي الظاهر، وفي إثبات ما لم يدل عليه دليل.
الثالث: أن فيه جناية على النصوص، حيث أعتقد أنها دالة على التشبيه، لأنه لم يعطل إلا لهذا السبب، فيكون ما فهم من كتاب الله وسنة رسوله كفرًا أو ضلالًا.
الرابع: أن فيها طعنًا في الرسول وخلفائه الراشدين، لأننا نقول: هذه المعاني التي صرفتم النصوص إليها هل الرسول وخلفاؤه يعلمون بها أم لا؟
فإن قالوا: لا يعلمون، فقد اتهموهم بالقصور، وإن قالوا: يعلمون ولم يبينوها، فقد اتهموهم بالتقصير.
فلا تستوحش من نص دل على صفة أن تثبتها، لكن يجب عليك أن تجتنب أمرين هما:
التمثيل والتكيف، لقوله تعالى: {فلا تضربوا لله الإمثال} [النحل: 74]، وقوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]، فإذا أثبت الله لنفسه وجهًا أو يدين؛ فلا تستوحش من إثبات ذلك،لأن الذي أخبر به عن نفسه أعلم بنفسه من غيره وأصدق قيلًا وأحسن حديثًا، وهو يريد لخلقه الهداية، وإذا أثبت رسوله ذلك له؛ فلا تستوحش من إثباته؛ لأنه: أصدق الخلق، وأعلمهم بما يقول عن الله، وأبلغهم نطقًا وفصاحة، وأنصح الخلق للخلق.
فمن أنكر صفة أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسول، وقال: هذا تقشعر منه الجلود وتنكره القلوب، فيقال: هذا لا ينكره إلا إنسان في قلبه مرض، أما الذين آمنوا؛ فلا تنكره قلوبهم، بل تؤمن به وتطمئن إليه، ونحن لم نكلف إلا بما بلغنا، والله يريد لعباده البيان والهدى، قال تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} [النساء:26]؛ فهو لا يريد أن يعمي عليهم الأمر؛ فيقول: إنه يغضب وهو لا يغضب، وقوله: إنه يهرول وهو لا يهرول، هذا خلاف البيان.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة. تفسير آية العنكبوت. الرابعة: أن اليقين يَضّعف ويقوى. الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث.السادسة: إن إخلاص الخوف لله من الفرائض. السابعة: ذكر ثواب من فعله. الثامنة: ذكر عقاب من تركه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران. وهي قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}، وسبق.
الثانية: تفسير أية براءة. وهي قوله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الإخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}، وسبق.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت. وهي قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله}، وقد تكلمنا على تفسيرها فيما سبق الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى: تؤخذ من الحديث: «إن من ضعف اليقين...» الحديث.
الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه ثلاث. وهي: أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على مالم يؤتك الله.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض. وتؤخذ من قوله في الحديث: «من التمس....» الحديث، ووجهه ترتيب العقوبة على من قدم رضا الناس على رضا الله تعالى.
السابعة: ذكر ثواب من فعله. وهو رضا الله عنه، وأنه يرضي عنه الناس، وهو العاقبة الحميدة.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه. وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس، ولا ينال مقصوده.
وخلاصة الباب:
أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف، وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه؛ فالعاقبة له، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله؛ أنقلبت عليه الأحوال، ولم ينل مقصوده بل حصل له عكس مقصوده، وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس.