فصل: باب قول الله تعالى: {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي} (فصلت: 50).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب قول الله تعالى: {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي} [فصلت: 50].

مناسبة الباب لـ: (كتاب التوحيد): أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه، ففيه نوع من الإشراك بالربوبية، وإذا أضافها إلى الله لكنه زعم أنه مستحق لذلك وأن ما أعطاه الله ليس محض تفضل، لكن لأنه أهل، ففيه نوع من التعلي والترفع في جانب العبودية.
وقد ذكر الشيخ فيه آيتين:
قال مجاهد: (هذا بعملي، وأنا محقوق به)، وقال ابن عباس: يريد: من عندي.
* الآية الأولى ما ترجم به المؤلف، وهي قوله تعالى: {ولئن أذقناه}. الضمير يعود على الإنسان، والمراد به الجنس. وقيل: المراد به الكافر.
والظاهر أن المراد به الجنس، إلا أنه يمنع من هذه الحال الإيمان، فلا يقول ذلك المؤمن، قال تعالى: {إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط} [فصلت: 47-49]، هذه حال الإنسان من حيث هو إنسان، لكن الإيمان يمنع الخصال السيئة المذكورة.
قوله: {منا}. أضافه الله ليه، لوضوح كونها من الله، ولتمام منته بها، قوله: {من بعد ضراء مسته} أي: أنه لم يذق الرحمة من أول أمره بل أصيب بضراء، كالفقر وفقد الأولاد وغير ذلك، ثم أذاقة بعد ذلك الرحمة حتى يحس بها وتكون لذتها والسرور بها أعظم مثل الذائق للطعام بعد الجوع.
قوله: {مسته}. أي: أصابته وأثرت فيه.
قوله: {ليقولن هذا لي}. هذا كفر بنعمة الله وإعجاب بالنفس، واللام في قوله: {ليقولن} واقعة في جواب القسم المقدر قبل اللام في قوله: {ولئن أذقناه}.
قوله: {وما أظن الساعة قائمة}. بعد أن أنغمس في الدنيا نسي الآخرة، بخلاف المؤمن إذا أصابته الضراء لجأ إلى الله، ثم كشفها، ثم وجد بعد ذلك لذة وسرورًا يشكر الله على ذلك، أما هذا، فقد نسي الآخرة وكفر بها.
قوله: {ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسني}.
(إن): شرطية وتأتي فيما يمكن وقوعه وفيما لا يمكن وقوعه، كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65]، والمعنى: على فرض أن أرجع إلى الله لي عنده للحسنى.
والحسنى: اسم تفضيل، أي: الذي هو أحسن من هذا، واللام للتوكيد. قوله: {فلننبئن الذين كفروا بما عملوا}. أي: فلننبئن هذا الإنسان، وأظهر في مقام الإضمار من أجل الحكم على هذا القائل بالكفر ولأجل أن يشمله الوعيد وغيره.
قوله مجاهد: هذا بعملي، وأنا محقوق به. أي هذا بكسبي وأنا مستحق له.
قوله ابن عباس: يريد من عندي. أي من حذقي وتصرفي وليس من عن الله.
وقوله: {إنما أوتيته على علم عندي}.
قال قتادة: (على علم مني بوجوه المكاسب)، وقال آخرون: علي علم من الله أني له أهل، معنى قول مجاهد: (أوتيته على شرف).
* الآية الثانية قوله تعالى: {إنما أوتيته على علم}.
في القرآن آيتان: آية قال الله فيها: {إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون}، الثانية: {إنما أوتيته على علم عندي}، والظاهر من تفسير المؤلف أنه يريد الاية الثانية.
قوله: {على علم}. في معناه أقوال:
الأول: قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب، فيكون العلم عائدًا على الإنسان، أي: عالم بوجوه المكاسب ولا فضل لأحد علي فيما أوتيته، وإنما الفضل لي، وعليه يكون هذا كفرًا بنعمة الله وإعجابًا بالنفس.
الثاني: قال آخرون: على علم من الله أني له أهل، فيكون بذلك مدلًا على الله، وأنه أهل ومستحق لأن ينعم الله عليه، والعلم هنا عائد على الله، أي: أوتيت هذا الشيء على علم من الله أني مستحق له وأهل له.
الثالث: قول مجاهد: (أوتيته على شرف)، وهو من معنى القول الثاني، فصار معنى الآية يدور على وجهين:
الوجه الأول: أن هذا إنكار أن يكون ما أصابه من النعمة من فضل الله، بل زعم أنها من كسب يده وعلمه ومهارته.
الوجه الثاني: أنه أنكر أن يكون لله الفضل عليه، وكأنه هو الذي له الفضل على الله، لأن الله أعطاه ذلك لكونه أهلًا لهذه النعمة.
فيكون على كلا الأمرين غير شاكر الله عز وجل، والحقيقة أن كل ما نؤتاه من النعم فهو من الله، فهو الذي يسرها حتى حصلنا عليها، بل كل ما نحصل عليه من علم أو قدرة أو إرادة فمن الله، فالواجب علينا أن نضيف هذه النعم إلى الله سبحانه، قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53]، حتى ولو حصلت لك هذه النعمة بعلمك أو مهارتك، فالذي أعطاك هذا العلم أو المهارة هو الله، ثم أن المهارة أو العلم قد لا يكون سببًا لحصول الرزق، فكم من إنسان عالم أو ماهر حاذق ومع ذلك لا يوفق بل يكون عاطلًا؟!
وشكر النعمة له ثلاثة أركان:
1. الاعتراف بها في القلب.
2. الثناء على الله باللسان.
3. العمل بالجوارح بما يرضي المنعم.
فمن كان عنده شعور في داخل نفسه أنه هو السبب لمهارته وجودته وحذقه، فهذا لم يشكر النعمة، وكذلك لو أضاف النعمة بلسانه إلى غير الله أو عمل بمعصية الله في جوارحه، فليس بشاكر لله تعالى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع النبي يقول: «أن ثلاثة من بني إسرائيل، أبرص وأقرع وأعمي، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لو حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به. قال: فمسحه، فذهب عنه قذرة، فأعطي لونا حسنًا وجلدًا حسنًا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر (شك إسحاق). فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب أليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قدرني الناس به، فمسحه، فذهب عنه قذرة، وأعطي شعرًا حسنًا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأعطي بقرة حاملًا، قال، بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال أي شيء أحب إليك؟ قال يرد الله إلى بصري فأبصر به الناس. فمسحه، فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال الغنم. فأعطي شاه والدًا. فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، قال: رجل مسكين وابن سبيل قد أنقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسالك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرًا أتبلغ به في سفري: فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال أنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر. فقال إن كنت كاذبًا، فصيرك الله إلى ما كنت».
قوله: (وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع النبي يقول: «أن ثلاثة من بني إسرائيل»).
جميع القصص الواردة في القرآن وصحيح السنة ليس المقصود منها مجرد الخبر، بل يقصد منها العبرة والعظة مع ما تكسب النفس من الراحة والسرور، قال الله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف: 111].
قوله: (من بني إسرائيل) في محل نصب نعت لـ: (ثلاثة) وبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
قوله: (أبرص). أي: في جلده برص، والبرص داء معروف، وهو من الأمراض المستعصية التي لا يمكن علاجها بالكلية، وربما توصلوا أخيرًا إلى عدم أنتشارها وتوسعها في الجلد، لكن رفعها لا يمكن ولهذا جعلها الله آية لعيسى، قال تعالى: {تبرىء الأكمه والأبرص بإذني} [المائدة: 110].
قوله: (أقرع). من ليس علي رأسه شعر.
قوله: (أعمى) من فقد البصر.
قوله: (فأراد الله) وفي بعض النسخ: (أراد الله). فعلى إثبات الفاء يكون خبر (إن) محذوفًا دل عليه السياق تقديره: إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمي أنعم الله عليهم فأراد الله أن يبتليهم.
ولا يمكن أن يكون (أبرص وأقرع وأعمى) خبرًا، لأنها بدل، وعلي حذف الفاء يكون الخبر جملة: (أراد الله)، والإرادة هنا كونية.
قوله: (يبتليهم). أي: يختبرهم، كما قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] وقال تعالى: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل: 40].
قوله: (ملكًا). أحد الملائكة: هم عالم غيبي خلقهم الله من نور وجعلهم قائمين بطاعة الله، لا يأكلون، ولا يشربون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لهم أشكال وأعمال ووظائف مذكورة في الكتاب والسنة، ويجب الإيمان بهم، وهو أحد أركان الإيمان الستة.
قال أهل اللغة: وأصل الـ: (ملك) مأخوذ من الألوكة، وهي الرسالة، وعلي هذا يكون أصله مالك، فصار فيه إعلال قلبي، فصار ملأك، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام الساكنة وحذفت الهمزة تخفيفًا، فصار ملك، ولهذا في الجمع تأتي الهمزة: ملائكة.
قوله: (ويذهب). يجوز فيه الرفع والنصب، والرفع أولى.
قوله: (قذرني). أي استقدرني وكرهوا مخالطتي من أجله.
وقوله: (به) الباء للسببية، أي: بسببه.
قوله: (فمسحه) ليتبين أن كل شيء سببًا وبرئ بإذن الله عز وجل، (فذهب عنه قذرة): بدأ بذهاب القذر قبل اللون قبل اللون الحسن والجلد الحسن، لأنه يبدأ بزوال المكروه قبل حصول المطلوب، كما يقال: التخلية قبل التحلية.
قوله: (قال: الإبل أو البقر- شك إسحاق-). والظاهر: أنه الإبل كما يفيده السياق، وإسحاق أحد رواة الحديث.
قوله: (عشراء) قيل: هي الحامل مطلقًا، وقال في (القاموس): هي التي بلغ حملها عشرة أشهر أو ثمانية، سخرها الله عز وجل وذللها ولعلها كانت قريبة من الملك فأعطاه إياها.
قوله: (بارك الله لك فيها). يحتمل أن لفظه لفظ الخبر ومعناه الدعاء وهو الأقرب، لأنه أسلم من التقدير، ويحتمل أنه الخبر محض، كأنه قال: هذه ناقة عشراء مبارك لك فيها ويكون المعنى على تقدير (قد)، أي: قد بارك الله لك فيها.
قوله: (فأتى الأقرع). وهو الرجل الثاني في الحديث.
قوله: (فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن). ولم يكتف بمجرد الشعر، بل طلب شعرًا حسنًا.
قوله: (الذي قذرني الناس به). أي: القرع، لأنه إذا كان أقرع كرهه الناس واستقذروه، وهذا يدل على أنهم لا يغطون رؤوسهم بالعمائم ونحوها، وقد يقال يمكن أن يكون عليه عمامة يبدو بعض الرأس من جوانبها فيكرهه الناس مما بدا منها.
قوله: (فذهب عنه قذرة). يقال في تقديم ذهاب القذر ما سبق، وهذه نعمة من الله عز وجل أن يستجاب للإنسان.
قوله: (البقر أو الإبل). الشك في إسحاق، وسياق الحديث يدل على أنه أعطي البقر.
قوله: (فأتى الأعمى). هذا هو الرجل الثالث في هذه القصة.
قوله: (فأبصر به الناس). لم يطلب بصرًا حسنًا كما طلبه صاحباه، وإنما طلب بصرًا يبصر به الناس فقط مما يدل على قناعته بالكفاية.
قوله: (فرد الله إليه بصره). الظاهر أن بصره الذي كان معه من قبل هو ما يبصر به الناس فقط.
قوله: (قال: الغنم). هذا يدل على زهده كما يدل على أنه صاحب سكينة وتواضع، لأن السكنية في أصحاب الغنم.
قوله: (شاة والدًا). قيل: إن المعنى قريبة الولادة، ويؤيده أن صاحبيه أعطيا أنثى حاملًا، ولما يأتي من قوله: (فأنتج هذان وولد هذا)، والشيء قد يسمى بالاسم القريب، فقد يعبر عن الشيء حاصلًا وهو لم يحصل، لكنه قريب الحصول.
قوله: (فأنتج هذان). بالضم. وفيه رواية بالفتح: (فأنتج)، وفي رواية: (فنتج هذان).
والأصل في اللغة في مادة (نتج): أنها مبنية للمفعول والإشارة إلى صاحب الإبل والبقر، و: (أنتج) أي: حصل لهما نتاج الإبل والبقر.
قوله: (وولد هذا). أي: صار لشاته أولاد، قالوا: والمنتج من أنتج، والناتج من نتج، والمولد من ولد، ومن تولى النساء يقال له القابلة، ومن تولي توليد غير النساء يقال له: منتج أو نتاج أو مولد.
قوله: (فكان لهذا واد من الإبل). مقتضى السياق أن يقول: فكان لذلك، لأنه أبعد المذكورين، لكنه استعمل الإشارة للقريب في مكان البعيد، وهذا جائز، وكذا العكس.
قوله: (رجل مسكين). خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أنا رجل مسكين، والمسكين: الفقير، وسمي الفقير مسكينًا، لأن الفقر أسكنة وأذلة، والغني في الغالب يكون عنده قوة وحركة.
قوله: (وابن سبيل). أي: مسافر سمي بذلك لملازمته للطريق، ولهذا سمي طير الماء ابن الماء لملازمته له غالبًا، فكل شيء يلازم شيئًا، فإنه يصح أن يضاف إليه بلفظ البنوة.
قوله: (انقطعت بي الحبال في سفري) الحبال الأسباب، فالحبل يطلق على السبب وبالعكس، قال تعالى: {فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع} [الحج: 15]، ولأن الحبل سبب يتوصل به الإنسان إلى مقصوده كالرشاء يتوصل به الإنسان إلى الماء الذي في البئر.
قوله: (بلاغ لي اليوم إلا بالله لم ثم بك). (لا) نافية للجنس، والبلاغ بمعين الوصول، ومنه تبليغ الرسالة، أي: إيصالها إلى المرسل إليه، والمعنى: لا شيء يوصلني إلى بالله ثم بك، فالمسألة فيها ضرورة.
السؤال هنا ليس سؤال استخبار بل سؤال استجداء، لأن (سأل) تأتي بمعنى استجدى وبمعنى استخبر، تقول: سألته عن فلان، أي: استخبرته، وسألته مالًا، أي استجديته واستعطيته، وإنما قال: (أسألك بالذي أعطاك)، ولم يقل: أسألك بالله، لأجل أن يذكره بنعمة الله عليه، ففيه إغراء له على الإعانة لهذا المسكين، لأنه جمع بين أمرين: كونه مسكينًا، وكونه ابن سبيل، ففيه سببان يقتضيان الإعطاء.
وقوله: (بعيرًا). يدل على أن الأبرص أعطي الإبل، وتعبير إسحاق (الإبل أو البقر) من باب ورعه.
قوله: (أتبلغ به في سفري). أي ليس أطيب الإبل وإنما يوصلني إلى أهلي فقط.
قوله: (الحقوق كثيرة). أي: هذا المال الذي عندي متعلق به حقوق كثيرة، ليس حقك أنت فقط، وتناسى والعياذ بالله أن الله هو الذي مَنَّ عليه بالجلد الحسن واللون الحسن والمال.
قوله: (كأني أعرفك). كأن هناك للتحقيق لا للتشبيه، لأنها إذا دخلت على جامد فهي للتشبيه، وإذا دخلت على مشتق، فهي للتحقيق أو للظن والحسبان، والمعنى: أني أعرفك معرفة تامة.
قوله: (ألم تكن أبرص يقذرك الناس). ذكّره الملك بنعمة الله عليه وعرفه بما فيه من العيب السابق حتى يعرف قدر النعمة، والاستفهام للتقرير لدخوله على (لم)، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1].
قوله: (كابرًا عن كابر). أنكر أن المال من الله، لكنه لم يستطع أن ينكر البرص.
و: (كابرًا) منصوبة على نزع الخافض، أي: من كابر، أي: ممن يكبرني وهو الأب، عن كابر له وهو الجد، وقيل: المراد الكبر المعنوي، أي أننا شرفاء وسادة وفي نعمة من الأصل، وليس هذا المال مما تجدد، واللفظ يحتمل المعنيين جميعًا.
قوله: (إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت). (أن): شرطية ولها مقابل، يعني: وإن كنت صادقًا فأبقي الله عليك النعمة.
فإن قيل: كيف يأتي بـ: (أن) الشرطية الدالة على الاحتمال مع أنه يعرف أنه كاذب؟
أجيب: إن هذا من باب التنزل مع الخصم، والمعنى: إن كنت كما ذكرت عن نفسك، فأبقي الله عليك هذه النعمة، وإن كنت كاذبًا وأنك لم ترثه كابرًا عن كابر، فصيرك الله إلى ما كنت من البرص والفقر، ولم يقل: (إلى ما أقول)، لأنه كان على ذلك بلا شك.
والتنزل مع الخصم يرد كثيرًا في الأمور المتيقنة، كقوله تعالى: {آلله خير أما يشركون} [النمل: 59] ومعلوم أنه لا نسبة، وأن الله خير مما يشركون، ولكن هذا من باب محاجة الخصم لإدحاض حجته.
قوله: (وأتى الأقرع في صورته). الفاعل الملك، وهنا قال: (في صورته) فقط وفي الأول قال: (في صورته وهيئته)، فالظاهر أنه تصرف من الرواة، وإلا، فالغالب أن الصورة قريبة من الهيئة، وإن كانت الصورة تكون خلقة، والهيئة تكون تصنعًا في اللباس ونحوه، وقد جاء في رواية البخاري: (في صورته وهيئته).
قوله: (فقال له مثل ما قال لهذا). المشار إليه الإبرص.
قوله: (فرد عليه). أي: الأقرع.
قوله: (مثل ما رد عليه هذا). أي: الأبرص.
فكلا الرجلين- والعياذ بالله- غير شاكر لنعمة الله ولا معترف بها ولا راحم لهذا المسكين الذي انقطع به السفر.
قوله: (فصيرك الله إلى ما كنت عليه). أي: ردك الله إلى ما كنت عليه من القرع الذي يقذرك الناس به والفقر.
قوله: (فرد الله على بصري). أعترف بنعمة الله، وهذا أحد أركان الشكر، والركن الثاني: العمل بالجوارح في طاعة المنعم، والركن الثالث: الاعتراف بالنعمة في القلب، قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا

قوله: (فوالله، لا أجهدك بشيء أخذته لله). الجهد: المشقة، والمعنى: لا أشق عليكم بمنع ولا منة، وأعترافه بلسانه مطابق لما في قلبه، فيكون دالًا على الشكر بالقلب بالتضمن.
قوله: (خذ ما شئت ودع ما شئت). هذا من باب الشكر بالجوارح، فيكون هذا الأعمى قد أتم أركان الشكر.
قوله: (الله). اللام للاختصاص، والمعنى: لأجل الله، وهذا ظاهر في إخلاصه لله فكل ما تأخذه لله فأنا لا أمنعك منه ولا أردك.
قوله: (إنما ابتليتم). أختبرتم، والذي ابتلاهم هو الله تعالى، وظاهر الحديث أن قصتهم مشهورة معلومة بين الناس، لأن قوله: (إنما ابتليتم) يدل على أن عنده علمًا بما جرى لصاحبيه وغالبًا أن مثل هذه القصة تكون مشهورة بين الناس.
قوله: (فقد رضي الله عنك). يعني: لأنك شكرت نعمة الله بالقلب واللسان والجوارح.
قوله: (وسخط على صاحبيك). لأنهما كفرًا نعمة الله سبحانه وأنكرا أن يكون الله مَنّ عليهما بالشفاء والمال.
وفي هذا الحديث من العبر شيء كثير، منها:
1. أن الرسول يقص علينا أنباء بني إسرائيل لأجل الاعتبار والاتعاظ بما جرى، وهو أحد الأدلة لمن قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولا شك أن هذه قاعدة صحيحة.
2. بيان قدرة الله عز وجل بإبراء الأبراص والأقرع والأعمى من هذه العيوب التي فيهم بمجرد مسح الملك لهم.
3. أن الملائكة يتشكلون حتى يكونوا على صورة البشر، لقوله: (فأتى الإبرص في صورته)، وكذلك الأقرع والأعمى، لكن هذا- والله أعلم- ليس إليهم وإنما يتشكلون بأمر الله تعالى.
4. أن الملائكة أجسام وليسوا أرواحًا أو معاني أو قوي فقط.
5. حرص الرواة على نقل الحديث بلفظه.
6. أن الإنسان لا يلزمه الرضاء بقضاء الله أي بالمقضي، لأن هؤلاء الذين أصيبوا قالوا أحب إلينا كذا وكذا، وهذا يدل على عدم الرضا.
وللإنسان عند المصائب أربع مقامات:
- جزع، وهو محرم.
- صبر، وهو واجب.
- رضا، وهو مستحب.
- شكر، وهو أحسن وأطيب.
وهنا إشكال وهو: كيف يشكر الإنسان ربه على المصيبة وهي لا تلائمة؟
أجيب: أن الإنسان إذا آمن بما يترتب علي هذه المصيبة من الأجر العظيم عرف أنها تكون بذلك نعمة، والنعمة تشكر.
وأما قوله: (فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط، فعليه السخط)، فالمراد بالرضا هنا الصبر، أو الرضا بأصل القضاء الذي هو فعل الله، فهذا يجب الرضا به لأن الله عز وجل حكيم، ففرق بين فعل الله والمقضي.
والمقضي ينقسم إلى: مصائب لا يلزم الرضا بها، وإلى أحكام شرعية يجب الرضا بها.
7. جواز الدعاء المعلق، لقوله: (إن كنت كاذبًا، فصيرك الله إلى ما كنت)، وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: {والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} [النور: 7]، {الخامسة أن غضب الله عليها إن كانت من الصادقين} [النور: 9]، وفي دعاء الاستخارة: «اللهم! إن كنت تعلم.. الخ».
8. جواز التنزل مع الخصم فيما لا يقر به الخصم المتنزل لأجل إفحام الخصم، لأن الملك يعلم أنه كاذب، ولكن بناء على قوله: إن هذا ما حصل، وإن المال ورثه كابرًا عن كابر، وقد سبق بيان وروده في القرآن، ومنه أيضًا قوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24]، ومعلوم أن الرسول وأصحابه على هدى وأولئك على ضلال، ولكن هذا من باب التنزل معهم من باب العدل.
9. أن البركة لا نهاية لها، ولهذا كان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
10. هل يستفاد منه أن دعاء الملائكة مستجاب أو أن هذه قضية عين؟
الظاهر أنه قضية عين، وإلا، لكان الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، وقال الملك: آمين ولك بمثله، علمنا أن الدعاء قد أستُجيب.
11. بيان أن شكر كل نعمة بحسبها، فشكر نعمة المال أن يبذل في سبيل الله، وشكر نعمة العلم أن يبذل لمن سأله بلسان الحال أو المقال، والشكر الأعم أن يقوم بطاعة المنعم في كل شيء.
ونظير هذا ما مر أن التوبة من كل ذنب بحسبه، لكن لا يستحق الإنسان وصف التوبة المطلق إلا إذا تاب من جميع الذنوب.
12. جواز التمثيل، وهو أن يتمثل الإنسان بحال ليس هو عليها في الحقيقة، مثل أن يأتي بصورة مسكين وهو غني وما أشبه ذلك إذا كان فيه مصلحة وأراد أن يختبر إنسانًا بمثل هذا، فله ذلك.
13. أن الابتلاء قد يكون عامًا وظاهرًا يؤخذ من قوله: (فإنما ابتليتم)، وقصتهم مشهورة كما سبق.
14. فضيلة الورع والزهد، وأنه قد يجر صاحبه إلى ما تحمد عقباه، لأن الأعمى كان زاهدًا في الدنيا، فكان شاكرًا لنعمة الله.
15. ثبوت الإرث في الأمم السابقة، لقوله: (ورثته كابرًا عن كابر).
16. أمن من صفات الله عز وجل الرضا والسخط والإرادة، وأهل السنة والجماعة يثبتونها على المعنى اللائق بالله على أنها حقيقة.
وإرادة الله نوعان: كونية، وشرعية.
والفرق بينهما أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوبًا لله، فإذا أراد الله شيئًا قال له كن فيكون.
وأما الشرعية: فإنه لا يلزم فيها وقوع المراد ويلزم إن يكون محبوبًا لله، ولهذا نقول: الإرادة الشرعية بمعنى المحبة والكونية بمعنى المشيئة، فإن قيل: هل الله يريد الخير والشر كونًا أو شرعًا؟
أجيب: أن الخير إذا وقع، مراد لله كونًا وشرعًا، وإذا لم يقع، فهو مراد لله شرعًا فقط، وأما الشر فإذا وقع، فهو مراد لله كونًا لا شرعًا وإذا لم يقع، فهو غير مراد كونًا ولا شرعًا، وأعلم أن الشر لا ينسب إلى فعل الله سبحانه ولكن إلى مخلوقات الله، فكل فعل الله تعالى خير، لأنه صادر عن حكمة ورحمة، ولهذا قال النبي: «الخير كله في يديك، والشر ليس إليك»، وأما مخلوقات الله، ففيها خير وشر.
وإثبات صفة الرضا لله- سبحانه- لا يقتضي انتفاء صفة الحكمة بخلاف رضا المخلوق، فقد تنتفي معه الحكمة، فإن الإنسان إذا رضي عن شخص مثلًا فإن عاطفته قد تحمله علي أن يرضى عنه في كل شيء ولا يضبط نفسه في معاملته لشدة رضاه عنه، قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ** كما أن عين السخط تبدي المساويا

لكن رضا الله مقرون بالحكمة، كما أن غضب الخالق ليس كغضب المخلوق، فلا تنتفي الحكمة مع غضب الخالق، بخلاف غضب المخلوق، فقد يخرجه عن الحكمة فيتصرف بما لا يليق لشدة غضبه.
ومن فسر الرضا بالثواب أو إرادته، فتفسيره مردود عليه، فإنه إذا قيل: إن معنى (رضي)، أي: أراد أن يثيب، فمقتضاه أنه لا يرضى، ولو قالوا: لا يرضى لكفروا، لأنهم نفوها نفي جحود، لكن أولوها تأويلًا يستلزم جواز نفي الرضا، لأن المجاز معناه نفي الحقيقة، وهذا أمر خطير جدًّا.
ولهذا بين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أنه لا مجاز في القرآن ولا في اللغة، خلافًا لمن قال: كل شيء في اللغة مجاز.
17. أن الصحابة تطلق على المشاكلة في شيء من الأشياء ولا يلزم منها المقارنة، لقوله: (وسخط على صاحبيك)، فالصاحب هنا: من يشبه حاله في أن الله أنعم عليه بعد البؤس.
18. اختبار الله عز وجل بما أنعم عليهم به.
19. أن التذكير قد يكون بالأقوال أو الأفعال أو الهيئات.
20. أنه يجوز للإنسان أن ينسب لنفسه شيئًا لم يكن من أجل الاختبار، لقول الملك: إنه فقير وابن سبيل.
21. أن هذه القصة كانت معروفة مشهورة، لقوله: (فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك).
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية. الثانية: ما معنى: {ليقولن هذا لي}. الثالثة: ما معنى قوله. {إنما أوتيته على علم}. الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
فيه مسائل:
* الأولى: تفسير الآية: وهي قوله تعالى: {ولئن أقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي}، وقد سبق أن الضمير في قوله: {أذقناه} يعود علي الإنسان باعتبار الجنس.
* الثانية: ما معنى: {ليقولن هذا لي}. اللام للاستحقاق، والمعنى: إني حقيق به وجدير به.
* الثالثة: ما معنى قوله: {إنما أوتيته على علم}. وقد سبق بيان ذلك.
* الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة. وقد سبق ذكر عبر كثيرة منها، وهذا ليس استيعابًا، ومن ذلك الفرق بين الأبرص والأقرع والأعمى، فإن الأبرص والأقرع جحدا نعمة الله عز وجل والأعمى اعترف بنعمة الله، عندما طلب الملك من الأعمى المساعدة، قال: (خذ ما شئت)، فدل هذا على جوده وإخلاصه، لأنه قال: (فو الله، أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل). وبخلاف الأبرص والأقرع حيث كانوا أشحاء بخلاء منكرين نعمة الله عز وجل.