فصل: باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحًا جعلًا له شركاء فيما آتاهما} (الأعراف: 190).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحًا جعلًا له شركاء فيما آتاهما} [الأعراف: 190].

قوله: {فلما آتاهما}. الضمير يعود على ما سبق من النفس وزوجها، ولهذا ينبغي أن يكون الشرح من قوله تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة}.
قوله: {خلقكم من نفس واحدة} فيها قولان:
الأول: أن المراد بالنفس الواحدة: العين الواحدة، أي: من شخص معين، وهو آدم عليه السلام، وقوله: {وجعل منها زوجها} أي حواء، لأن حواء خلقت من ضلع آدم.
الثاني: أن المراد بالنفس الجنس، وجعل من هذا الجنس زوجه، ولم يجعل من جنس آخر، والنفس قد يراد بها الجنس، كما في قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم} [آلا عمران: 164]، أي: من جنسهم.
قوله: {ليسكن إليها}. سكون الرجل إلى زوجته ظاهر من أمرين:
أولًا: لأن بينهما من المودة والرحمة ما يقضي الأنس والاطمئنان والاستقرار.
ثانيًا: سكون من حيث الشهوة، وهذا سكون خاص لا يوجد له نظير حتى بين الأم وابنها.
وقوله: {ليسكن إليها} تعليل لكونها من جنسه أو من النفس المعينة.
قوله: {فلما تغشاها}. أي: جامعها، وعبارة القرآن والسنة التكنية عن الجماع، قال تعالى: {أو لامستم النساء} [النساء: 43] وقال: {اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23]، وقال تعالى: {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء: 21]، كأن الاستحياء من ذكره بصريح اسمه أمر فطري، ولأن الطباع السليمة تكره أن تذكر هذا الشيء باسمه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فإنه قد يصرح به، كما في قوله لماعز وقد أقر عنده بالزني: «أنكتها» لا يكني، لأن الحاجة هنا داعية للتصريح حتى يتبين الأمر جليًّا، ولأن الحدود تدرًا بالشبهات.
وتشبيه علو الرجل المرأة بالغشيان أمر ظاهر، كما أن الليل يستر الأرض بظلامه، قال تعالى: {والليل إذا يغشي} [الليل: 1] وعبر بقوله: {تغشاها} ولم يقل: غشيها، لأن تغشى أبلغ، وفيه شيء من المعالجة، ولهذا جاء في الحديث: «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها»، الجلوس بين شعبها الأربع هذا غشيان، و: «جهدها» هذا تغشى.
قوله: {حملت حملًا خفيفًا}. الحمل في أوله خفيف: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
قوله: {فمدت به}. بالمرور بالشيء تجاوزه من غير تعب ولا إعياء والمعنى: تجاوزت هذا الحمل الخفيف من غير تعب ولا إعياء.
قوله: {فلما أثقلت}. الإثقال في آخر الحمل.
قوله: {دعوا الله} ولم يقل: دعيا، لأن الفعل واوي، فعاد إلى أصله.
قوله: {الله ربهما} أتى بالألوهية والربوبية، لأن الدعاء يتعلق به جانبان:
الأول: جانب الألوهية من جهة العبد أنه داع، والدعاء عبادة.
الثاني: جانب الربوبية، لأن في الدعاء تحصيلًا للمطلوب، وهذا يكون متعلقًا بالله من حيث الربوبية.
والظاهر أنهما قالا: اللهم ربنا، ويحتمل أن يكون بصيغة أخرى.
قوله: {لئن آتيتنا صالحًا}. أي: أعطيتنا.
وقوله: صالحًا، هل المراد صلاح البدن أو المراد صلاح الدين، أي: لئن آتيتنا بشرًا سويًّا ليس فيه عاهة ولا نقص، أو صالحًا بالدين، فيكون تقيًّا قائمًا بالواجبات؟
الجواب: يشمل الأمرين جميعًا، وكثير من المفسرين لم يذكر إلا الأمر الأول، وهو الصلاح البدني، لكن لا مانع من أن يكون شاملًا للأمرين جميعًا.
قوله: {لنكونن من الشاكرين}. أي: من القائمين بشكرك على هذا الولد الصالح.
والجملة هنا جواب قسم وشرط، قسم متقدم وشرط متأخر، والجواب فيه للقسم ولهذا جاء مقرونًا باللام: لنكونن.
قوله: {فلما آتاهما صالحًا}. هنا حصل المطلوب، لكن لم يحصل الشكر الذي وعدًا الله به، بل جعلا له شركاء فيما آتاهما.
وقوله: {جعلا له شركاء فيما آتاهما}، هذا هو جواب (لما).
والجواب متعقب للشرط وهذا يدل على أن الشرك منهما حصل حين إتيانه وهو صغير، ومثل هذا لا يعرف أيصلح في دينه في المستقبل أم لا يصلح؟ ولهذا كان أكثر المفسرين على أن المراد بالصلاح الصلاح البدني.
فمعاهدة الإنسان ربه أن يفعل العبادة مقابل تفضل الله عليه بالنعمة الغالب أنه لا يفي بها، ففي سورة التوبة قال تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} [التوبة: 75-76]، وفي هذه الآية قال تعالى: {لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء}، فكانا من المشركين لا من الشاكرين، وبهذا نعرف الحكمة من نهي النبي عن النذر، لأن النذر معاهدة مع الله عز وجل ولهذا نهى النبي عن المنذر وقال: «إنه لا يرد شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل»، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى تحريم النذر، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيميه أنه يميل إلى تحريم النذر، لأن رسول الله نهى عنه ونفي أنه يأتي بخير.
إذا ما الذي نستفيد من أمرٍ نهى عنه الرسول وقال إنه لا يأتي بخير؟
الجواب: لا نستفيد إلا المشقة على أنفسنا وإلزام أنفسنا بما نحن منه في عافية، ولهذا، فالقول بتحريم النذر قول قوي جدًّا، ولا يعرف مقدار وزن هذا القول إلا من عرف أسئلة الناس وكثرتها ورأى أنهم يذهبون إلى كل عالم لعلهم يجدون خلاصًا مما نذروا.
فإن قيل: هذا الولد الذي آتاهما الله عز وجل كان واحدًا، فكيف جعلًا في هذا الولد الواحد شركًا بل شركاء؟
فالجواب أن نقول هذا على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يعتقدا أن الذي أتى بهذه الولد هو الولي الفلاني والصالح ونحو ذلك، فهذا شرك أكبر لأنهما أضافا الخلق إلى غير الله.
ومن هذا أيضا ما يوجد عند بعض الأمم الإسلامية الآن، فتجد المرآة التي لا يأتيها الولد تأتي إلى قبر الولي الفلاني، كما يزعمون أنه ولي الله والله أعلم بولايته، فتقول: يا سيدي فلان! ارزقني ولدًا.
الوجه الثاني: أن يضيف سلامة المولود ووقايته إلى الأطباء وإرشاداتهم وإلى القوابل وما أشبه ذلك، فيقولون مثلًا سلم هذا الولد من الطلق، لأن القابلة امرأة متقنة جيدة، فهنا أضاف النعمة إلى غير الله، وهذا نوع من الشرك ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر، لأنه أضاف النعمة إلى السبب ونسي المسبب وهو الله عز وجل.
الوجه الثالث: أن لا يشرك من ناحية الربوبية، بل يؤمن أن هذا الولد خرج سالمًا بفضل الله ورحمته، ولكن يشرك من ناحية العبودية، فيقدم محبته على محبة الله ورسوله ويلهية عن طاعة الله ورسوله، قال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} [التغابن: 15]، فكيف تجعل هذا الولد ندًّا لله في المحبة وربما قدمت محبته على محبة الله، والله هو المتفضل عليك به؟!
وفي قوله: {فلما آتاهما} نقد لاذع أن يجعلا في هذا الولد شريكًا مع الله، مع إن الله هو المتفضل به، ثم قال: {فتعالى الله عما يشركون}، أي: ترفع وتقدس عما يشركون به من هذه الأصنام وغيرها.
ومن تأويل الآية وحدها دالة على أن قوله: {خلقكم من نفس واحدة}، أي: من جنس واحد، وليس فيها تعرض لآدم وحواء بوجه من الوجوه، ويكون السياق فيها جاريًا على الأسلوب العربي الفصيح الذي له نظير في القرآن، كقوله تعالى: {لقد من الله علي المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم} [آل عمران: 164]، أي: من جنسهم، وبهذا التفسير الواضح البين يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة.
أما على القول الثاني بأن المراد بقوله تعالى: {من نفس واحدة}، أي: آدم، {وجعل منها زوجها} [النساء: 1]: حواء، فيكون معنى الآية خلقكم من آدم وحواء.
فلما جامع آدم حواء حملت حملًا خفيفًا، فمرت به، فلما أثقلت دعوا أي آدم وحواء الله ربهما: {لئن أتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين فلما أتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما}، فأشرك آدم وحواء بالله، لكن قالوا إنه إشراك طاعة لا إشراك عبادة، {فتعالى الله عما يشركون}، وهذا التفسير منطبق على المروي عن ابن عباس رضي الله عنه، وسنبين إن شاء الله تعالى وجه ضعفه وبطلانه.
وهناك قول ثالث: أن المراد بقوله تعالى: {من نفس واحدة}، أي: آدم وحواء، {فلما تغشاها} انتقل من العين إلى النوع، أي: من آدم إلى النوع الذي هم بنوه، أي: فلما تغشي الإنسان الذي تسلل من آدم وحواء زوجته.. إلخ، ولهذا قال تعالى: {فتعالى الله عما يشركون} الجمع ولم يقل عما يشركان ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشياطين} [الملك: 5]، أي: جعلنا الشهب الخارجة منها رجومًا للشياطين وليست المصابيح نفسها، وقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة} [المؤمنون: 12-13]، أي: جعلناه بالنوع، وعلى هذا فأول الآية في آدم وحواء، ثم صار الكلام من العين إلى النوع.
وهذا التفسير له وجه، وفيه تنزيه آدم وحواء من الشرك، لكن فيه شيء من الركاكة لتشتت الضمائر.
وأما قوله تعالى: {فتعالى الله عما يشركون}، فجمع لأن المراد بالمثني اثنان من هذا الجنس، فصح أن يعود الضمير إليهما مجموعًا، كما في قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] ولم يقل: اقتتلتا، لأن الطائفتين جماعة.
قال ابن حزم: (اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب).
قوله: (اتفقوا). أي: أجمعوا، والإجماع أحد الأدلة الشرعية التي ثبتت بها الأحكام، والأدلة هي: الكتاب، والسنة والإجماع، والقياس.
قوله: (وما أشبه ذلك). مثل: عبد الحسين، وعبد الرسول، وعبد المسيح، وعبد علي.
وأما قوله: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم..» الحديث، فهذا وصف وليس علمًا، فشبه المنهمك بمحبة هذه الأشياء المقدم لها على ما يرضي الله بالعابد لها، كقولك: عابد الدينار، فهو وصف، فلا يعارض الإجماع.
قوله: (حاشا عبد المطلب). حاشا الاستثنائية إذا دخلت عليها (ما) وجب نصب ما بعدها، وإلا جاز فيه النصب والجر.
وبالنسبة لعبد المطلب مستثنى من الإجماع على تحريمه، فهو مختلف فيه، فقال بعض أهل العلم: لا يمكن أن نقول بالتحريم والرسول قال:
أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب

فالنبي لا يفعل حرامًا، فيجوز أن يعبد للمطلب إلا إذا وجد ناسخ، وهذا تقرير ابن حزم رحمة الله، ولكن الصواب تحريم التعبيد للمطلب، فلا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب، وأما قوله: (أنا ابن عبد المطلب)، فهو من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء، فالنبي أخبر أن له جدًّا اسمه عبد المطلب، ولم يرد عنه أنه سمى عبد المطلب، أو أنه أذن لأحد صحابته بذلك، ولا أنه أقر أحدًا على تسميته عبد المطلب، والكلام في الحكم لا في الإخبار، وفرق بين الإخبار وبين الإنشاء والإقرار، ولهذا قال النبي: «إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد»، وقال: «يا بني عبد مناف» ولا يجوز التسمي بعبد مناف.
وقد قال العلماء: إن حاكي الكفر ليس بكافر، فالرسول يتكلم عن شيء قد وقع وانتهى ومضى، فالصواب أنه لا يجوز أن يعبد لغير الله مطلقًا لا بعبد المطلب ولا غيره، وعليه، فيكون التعبد لغير الله من الشرك.
وعن ابن عباس في الآية، قال: (لما تغشاها آدم، حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعاني أو لآجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك، فيشقه، ولأفعلن، يخوفهما، سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا. ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث، فذلك قوله: {جعلا له شركاء فيما آتاهما}). رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة، قال: (شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته).
وله سند صحيح عن مجاهد، في قوله: {لئن آتيتنا صالحًا}، قال: (أشفقا أن لا يكون إنسانًا، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما).
قوله: (إبليس). على وزن إفعيل، فقيل: من أبلس إذا يئس، لأنه يئس من رحمة الله تعالى.
قوله: (لتطيعانني). جملة قسمية، أي: والله لتطيعاني.
قوله: (أيل). هو ذكر الأوعال.
قوله: (سمياه عبد الحارث). اختار هذا الاسم، لأنه اسمه، فأراد أن يعبداه لنفسه.
قوله: (فخرج ميتًا). لم يحصل التهديد الأول، ويجوز أن يكون من جملة: (ولأفعلن)، ولأنه قال: (ولأخرجنه ميتًا).
قوله: (شركاء في طاعته). أي: أطاعاه فيما أمرهما به، لا في العبادة لكن عبدًا الولد لغير الله، وفرق بين الطاعة والعبادة، فلو أن أحدًا أطاع شخصًا في معصية لله لم يجعله شريكًا مع الله في العبادة، لكن أطاعه في معصية الله.
قوله: (أشفقا أن لا يكون إنسانًا). أي خاف آدم وحواء أن يكون حيوانًا أو جنيًّا أو غير ذلك.
قوله: (وذكر معناه عن الحسن). لكن الصحيح أن الحسن رحمه الله قال: إن المراد بالآية غير آدم وحواء، وإن المراد بها المشركون من بني آدم كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في (تفسيره) وقال: (أما نحن، فعلي مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته) أ. هـ.
وهذه القصة باطلة من وجوه:
الوجه الأول: أنه ليس في ذلك خبر صحيح عن النبي، وهذا من الأخبار التي لا تتلقي إلا بالوحي، وقد قال ابن حزم عن هذه القصة: إنها رواية خرافة مكذوبه موضوعة.
الوجه الثاني: أنه لو كانت هذه القصة في أدم وحواء، لكان حالهما إما أن يتوبا من الشرك أو يموتا عليه، فإن قلنا: ماتا عليه، كان ذلك أعظم من قول بعض الزنادقة:
إذا ما ذكرنا آدما وفعاله ** وتزويجه بنتيه بابنيه بالخنا

علمنا بأن الخلق من نسل فاجر ** وأن جميع الناس من عنصر الزنا

فمن جوز موت أحد من الأنبياء على الشرك فقد أعظم الفرية، وإن كان تابا من الشرك، فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطاهما ولا يذكر توبتهما منه، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا، ولم يذكر توبتهما، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة وزوجه وتابا من ذلك.
الوجه الثالث: أن الأنبياء أن ثبت معصومون من الشرك باتفاق العلماء.
الوجه الرابع: أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة، فيعتذر بأكله من الشجرة. وهو معصية، ولو وقع منه الشرك، لكان اعتذاره به أقوى وأولى وأحرى.
الوجه الخامس: أن في هذه القصة أن الشيطان جاء إليهما وقال: (أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة)، وهذا لا يقوله من بريد الإغواء، وإنما يأتي بشيء يقرب قبول قوله، فإذا قال: (أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة)، فسيعلمان علم اليقين أنه عدو لهما، فلا يقبلان منه صرفًا ولا عدلا.
الوجه السادس: أن في قوله في هذه القصة: (لأجعلن له قرني أيل): إما أن يصدقا أن ذلك ممكن في حقه، فهذا شرك في الربوبية لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله، أولا يصدقا، فلا يمكن أن يقبلا قوله وهما يعلمان أن ذلك غير ممكن في حقه.
الوجه السابع: قوله تعالى: {فتعالى الله عما يشركون} بضمير الجمع، ولو كان آدم وحواء، لقال: عما يشركان.
فهذه الوجوه تدل على أن هذه القصة باطلة من أساسها، وأنه لا يجوز أن يعتقد في آدم وحواء أن يقع منهما شرك بأي حال من الأحوال، والأنبياء منزهون عن الشرك مبرؤون منه باتفاق أهل العلم، وعلى هذا، فيكون تفسير الآية كما أسلفنا أنها عائدة إلى بني أدم الذين أشركوا شركًا حقيقيًّا، فإن منهم مشركًا ومنهم موحدًا.
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل أسم معبد لغير الله. الثانية: تفسير الآية. الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تُقصد حقيقتها. الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم. الخامسة: ذكر السلف بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله. تؤخذ من الإجماع على ذلك، والإجماع الأصل الثالث من الأصول التي يعتمد عليها في الدين، والصحيح أنه ممكن وأنه حجة إذا حصل، لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 58] و: (إن) هذه شرطية لا تدل على وقوع التنازع، بل إن فرض ووقع، فالمرد إلى الله ورسوله، فعلم منه أننا إذا أجمعنا فهو حجة.
لكن ادعاء الإجماع يحتاج إلى بينة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه: الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة، ولما قيل للإمام أحمد: إن فلانًا يقول: أجمعوا على كذا، أنكر ذلك وقال: وما يدريه لعلهم اختلفوا، فمن ادعي الإجماع، فهو كاذب. ولعل الإمام أحمد قال ذلك، لأن المعتزلة وأهل التعطيل كانوا يتذرعون إلى إثبات تعطيلهم وشبههم بالإجماع، فيقولون: هذا إجماع المحققين، وما أشبه ذلك.
وقد سبق أن الصحيح أنه لا يجوز التعبيد للمطلب، وأن قول الرسول: «أنا ابن عبد المطلب» أنه من قبيل الإخبار وليس إقرار ولا إنشاء، والإنسان له أن ينتسب إلى أبيه وإن كان معبدًا لغير الله، وقد قال النبي: «يا بني عبد مناف»، وهذا تعبيد لغير الله لكنه من باب الإخبار.
* الثانية: تفسير الآية. يعني قوله تعالى: {فلما آتاهما صالحًا} الآية، وسبق تفسيرها.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها. وهذا بناء على ما ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية، والصواب: أن هذا الشرك حق حقيقة، وأنه شرك من إشراك بني آدم من آدم وحواء، ولهذا قال تعالى في الآية نفسها: {أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون}، فهذا الشرك الحقيقي الواقع من بني آدم.
الرابعة: أن هبة الله لرجل البنت السوية من النعم: هذا بناء على ثبوت القصة، وأن المراد بقوله: {صالحًا}، أي: بشرًا سويًّا، وأتي المؤلف بالبنت دون الولد، لأن بعض الناس يرون أن هبة البنت من النقم، قال تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب إلا ساء ما يحكمون} [النحل: 58-59]، وإلا، فهبة الولد الذكر السوي من باب النعم أيضًا، بل هو أكبر نعمة من هبة الأنثي، وإن كانت هبة البنت بها أجر عظيم فيمن كفلها ورباها وقام عليها.
* الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة وقبل ذلك نبين الفرق بين الطاعة وبين العبادة، فالطاعة إذا كانت منسوبة لله، فلا فرق بينهما وبين العبادة، فإن عبادة الله طاعته.
وأما الطاعة المنسوبة لغير الله، فإنها غير العبادة، فنحن نطيع الرسول لكن لا نعبده، والإنسان قد يطيع ملكًا من ملوك الدنيا وهو يكرهه.
فالشرك بالطاعة: أنني أطعته لا حبًّا وتعظيمًا وذلًا كما أحب الله وأتذلل له وأعظمة، ولكن طاعته اتباع لأمره فقط، هذا هو الفرق.
وبناء على القصة، فإن آدم وحواء أطاعا الشيطان ولم يعبداه عبادة، وهذا مبني على صحة القصة.