فصل: باب قول الله تعالى: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله} الآية (آل عمران: 154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب النهي عن سب الريح:

المؤلف رحمه الله أطلق النهي ولم يفصح: هل المراد به التحريم أو الكراهية، وسيتبين إن شاء الله من الحديث.
قوله: (الريح). الهواء الذي يصرفه الله عز وجل، وجمعه رياح.
وأصولها أربعة: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، وما بينهما يسمي النكباء، لأنها ناكبة عن الاستقامة في الشمال، أو الجنوب، أو الشرق، أو الغرب.
وتصريفها من آيات الله عز وجل، فأحيانًا تكون شديدة تقلع الأشجار وتهدم البيوت وتدفن الزروع ويحصل معها فيضانات عظيمة، وأحيانًا تكون هادئة، وأحيانًا تكون باردة، وأحيانًا حارة، وأحيانًا عالية، وأحيانًا نازلة، كل هذا بقضاء الله وقدره، ولو أن الخلق اجتمعوا كلهم على أن يصرفوا الريح عن جهتها التي جعلها الله عليه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولو اجتمعت جميع المكائن العالمية النفاثة لتوجد هذه الريح الشديدة ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، ولكن الله عز وجل بقدرته يصرفها كيف يشاء وعلي ما يريد، فهل يحق للمسلم أن يسب هذه الريح؟
الجواب: لا، لأن هذه الريح مسخرة مدبرة، وكما أن الشمس أحيانًا تضر بإحراقها بعض الأشجار، ومع ذلك لا يجوز لأحد أن يسبها، فكذلك الريح، ولهذا قال: «لا تسبوا الريح».
عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أن رسول الله قال: «لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به» صححه الترمذي.
قوله: «لا تسبوا الريح». (لا) ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، والريح مفعول به.
والسب: الشتم، والعيب، والقدح، واللعن، وما أشبه ذلك، وإنما نهي عن سبها لأن سب المخلوق سب لخالقه فلو وجدت قصرًا مبنيّا وفيه عيب فسببته، فهذا السب ينصب على من بناه، وكذلك سب الريح، لأنها مدبرة مسخرة على ما تقتضيه حكمة الله عز وجل.
ولكن إذا كانت الريح مزعجة، فقد أرشد النبي إلى ما يقال حينئذ في قوله: «ولكن قولوا: اللهم إنا نسألك.. إلخ».
قوله: «من خير هذه الريح». الريح نفسها فيها خير وشر، فقد تكون عاصفة تقلع الأشجار وتهدم الديار وتفيض البحار والأنهار، وقد تكون هادئة تبرد الجو وتكسب النشاط.
قوله: «وخير ما فيها». أي: ما تحمله، لأنها قد تحمل خيرًا، كتلقيح الثمار، وقد تحمل رائحة طيبة الشم، وقد تحمل شرًّا، كإزالة لقاح الثمار، وأمراض تضر الإنسان والبهائم.
قوله: «وخير ما أمرت به». مثل إثارة السحاب وسوقه إلى حيث شاء الله.
قوله: «ونعوذ بك». أي: نعتصم ونلجأ.
قوله: «من شر هذه الريح». أي: شرها بنفسها، كقلع الأشجار، ودفن الزروع، وهدم البيوت.
قوله: «وشر ما فيها». أي: ما تحمله من الأشياء الضارة، كالأنتان، والقاذورات، والأوبئة وغيرها.
قوله: «وشر ما أمرت به». كالإهلاك والتدمير، قال تعالى في ريح عاد: {تدمر كل شيء بأمر ربها} [الأحقاف: 25]، وتيبيس الأرض من الأمطار، ودفن الرز وع، وطمس الآثار والطرق، فقد تؤمر بشر لحكمة بالغة قد نعجز عن إدراكها.
وقوله: «ما أمرت به» هذا الأمر حقيقي، أي: يأمرها الله أن تهب ويأمرها أن تتوقف، وكل شيء من المخلوقات فيه إدراك بالنسبة إلى أمر الله، قال الله تعالى للأرض والسماء: {ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]، وقال للقلم: «اكتب. قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة».
* فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره. الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة. الرابعة: أنها قد تومر بخير وقد تؤمر بشر.
فيه مسائل:
* الأولى: النهي عن سب الريح. وهذا للتحريم، لأن سبها سب لمن خلقها وأرسلها.
* الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأي الإنسان ما يكره. أي: منها، وهو أن يقول: «اللهم إني أسألك من خيرها..» الحديث، مع فعل الأسباب الحسية أيضًا، كالاتقاء من شرها بالجدران أو الجبال ونحوها.
* الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة. لقوله: (ما أمرت به).
* الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر. لقوله: (خير ما أمرت به، وشر ما أمرت به).
والحاصل: أنه يجب على الإنسان أن لا يعترض على قضاء الله وقدره، وأن لا يسبه، وأن يكون مستسلمًا لأمره الكوني كما يجب أن يكون مستسلمًا لأمره الشرعي، لأن هذه المخلوقات لاتملك أن تفعل شيئًا إلا بأمر الله سبحانه وتعالى.

.باب قول الله تعالى: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله} الآية [آل عمران: 154]:

ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
الأولى قوله تعالى: {يظنون}. الضمير يعود على المنافقين، والأصل في الظن: أنه الاحتمال الراجح، وقد يطلق علي اليقين، كما في قوله تعالى: {الذين يطنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46]، أي: يتيقنون، وضد الراجح المرجوح، ويسمي وهما.
قوله: {ظن الجاهلية}. عطف بيان لقوله: {غير الحق}، و: {الجاهلية}: الحال الجاهلية: والمعنى: يظنون بالله ظن الملة الجاهلية التي لا يعرف الظان فيها قدر الله وعظمته، فهو ظن باطل مبني على الجهل.
والظن بالله عز وجل على نوعين:
الأول: أن يظن بالله خيرًا.
الثاني: أن يظن بالله شرًّا.
والأول له متعلقان:
1. متعلق بالنسبة لما يفعله في هذا الكون، فهذا يجب عليك أن تحسن الظن بالله عز وجل فيما يفعله سبحانه وتعالى في هذا الكون، وأن تعتقد أن ما فعله إنما هو لحكمة بالغة قد تصل العقول إليها وقد لا تصل وبهذا يتبين عظمة الله وحكمته في تقديره، فلا يظن أن الله إذا فعل شيئًا في الكون فعله لإرادة سيئة، حتى الحوادث والنكبات لم يحدثها الله لإرادة السوء المتعلق بفعله، أما التعلق بغيره بأن يحدث ما يريد به أن يسوء هذا الغير، فهذا واقع، كما قال تعالى: {قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمه} [الأحزاب: 17].
2. متعلق بالنسبة لما يفعله بك، فهذا يجب أن تظن بالله أحسن الظن، لكن بشرط أن يوجد لديك السبب الذي يوجب الظن الحسن، وهو أن تعبد الله على مقتضى شريعته مع الإخلاص، فإذا فعلت ذلك، فعليك أن تظن أن الله يقبل منك ولا تسيء الظن بالله بأن تعتقد أنه لن يقبل منك، وكذلك إذا تاب الإنسان من الذنب، فيحسن الظن بالله أنه يقبل منه، ولا يسيء الظن بالله بأن يعتقد أنه لا يقبل منه.
وأما إن كان الإنسان مفرطًا في الواجبات فاعلًا للمحرمات، وظن بالله ظنًّا حسنًا، فهذا هو ظن المتهاون المتهالك في الأماني الباطلة، بل هو من سوء الظن بالله، إذ إن حكمة الله تأبي مثل ذلك.
النوع الثاني: وهو أن يظن بالله سوءً، مثل أن يظن في فعله سفها أو ظلمًا أو نحو ذلك، فإنه من أعظم المحرمات وأقبح الذنوب، كما ظن هؤلاء المنافقون وغيرهم ممن يظن بالله غير الحق.
قوله: {يقولون هل لنا من الأمر من شيء}. مرادهم بذلك أمران:
الأول: رفع اللوم عن أنفسهم.
الثاني: الاعتراض على القدر.
وقوله: {لنا} خبر مقدم.
وقوله: {من شيء}: مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
قوله: {إن الأمر كله الله}. أي: فإذا كان كذلك، فلا وجه لاحتجاجكم على قضاء الله وقدره فالله- عز وجل يفعل ما يشاء من النصر والخذلان.
وقوله: {إن الأمر} واحد الأمور لا واحد الأوامر، أي: الشأن كل الشأن الذي يتعلق بأفعال الله وأفعال المخلوقين كله لله سبحانه، فهو الذي يقدر الذل والعز والخير والشر، لكن الشر في مفعولاته لا في فعله.
قوله: {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك}. أي: ما لا يظهرون لك، فمن شأن المنافقين عدم الصراحة والصدق، فيخفي في نفسه مالا يبديه لغيره، لأنه يري من جبنه وخوفه أنه لو أخبر بالحق لكان فيه هلاكه، فهو يخفي الكفر والفسوق والعصيان.
قوله: {ما قتلنا ها هنا}. أي: في أحد، والمراد بمن (قتل): من استشهد من المسلمين في أحد، لأن عبد الله بن أبي رجع بنحو ثلث الجيش في غزوة أحد، وقال: إن محمدًا يعصيني ويطيع الصغار والشبان.
قوله: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}. هذا رد لقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا.
وهذا الاحتجاج لا حقيقة له، لأنه إذا كتب القتل على أحد، لم ينفعه تحصنه في بيته، بل لابد أن يخرج إلى مكان موته، والكتابة قسمان:
1. كتابة شرعيه، وهذا لا يلزم منها وقوع المكتوب، مثل قوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} [النساء: 103]، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183].
2. كتابة كونية، وهذه يلزم منها وقوع المكتوب كما في هذه الآية، ومثل قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] وقوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21].
قوله: {وليبتلي الله ما في صدوركم}. أي: يختبر ما في صدوركم من الإيمان بقضاء الله وقدره والإيمان بحكمته. فيختبر ما في قلب العبد بما يقدره عليه من الأمور المكروهة، حتى يتبين من استسلم لقضاء الله وقدره وحكمته ممن لم يكن كذلك.
قوله: {وليمحص ما في قلوبكم}. أي إذا حصل الابتلاء فقوبل بالصبر، صار في ذلك تمحيص لما في القلب، أي: تطهير له وإزالة لما يكون قد علق به من بعض الأمور التي لا تنبغي.
وقد حصل الابتلاء والتمحيص في غزوة أحد بدليل أن الصحابة لما ندبهم الرسول حين قيل له: {أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} [آل عمران: 172] خرجوا إلى حمراء الأسد ولم يجدوا غزوا فرجعوا، {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} [آل عمران: 174].
قوله: {والله عليم بذات الصدور} جملة خبرية فيها إثبات أن الله عليم بذات الصدور، والمراد بها القلوب، كما قال تعالى: {فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 146]، فالله لا يخفى عليه شيء فيعلم ما في قلب العبد وما ليس في قلبه متي يكون وكيف يكون.
وقوله: {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء} الآية: [الفتح: 6].
* الآية الثانية قوله تعالى: {الظانين بالله ظن السوء}. المراد بهم: المنافقون والمشركون، قال تعالى: {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله طن السوء} [الفتح: 6]، أي: ظن العيب، وهو كقوله فيما سبق: {ظن الجاهلية} [آل عمران: 154].
ومنه ما نقله المؤلف عن ابن القيم رحمهما الله: أنهم يظنون أن أمر الرسول سيضمحل، وأنه لا يمكن أن يعود، وما أشبه ذلك.
قوله: {عليهم دائرة السوء}. أي: أن السوء محيط بهم جميعًا من كل جانب كما تحيط الدائرة بما في جوفها وكذلك تدور عليهم دوائر السوء، فهم وإن ظنوا أنه تعالى تخلي عن رسوله وأن أمره سيضمحل، فإن الواقع خلاف ظنهم، ودائرة السوء راجعة عليهم.
قوله: {وغضب الله عليهم}. الغضب من صفات الله الفعلية التي تتعلق بمشيئته ويترتب عليها الانتقام، وأهل التعطيل قالوا: إن الله لا يغضب حقيقة:
فمنهم من قال المراد بغضبه الانتقام.
ومنهم من قال: المراد إرادة الانتقام: قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطب الانتقام، ولهذا قال النبي: «إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم».
فيجاب عن ذلك: بأن هذا هو غضب الإنسان، ولا يلزم من التوافق في اللفظ التوافق في المثلية والكيفية، قال تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشوري: 11]، ويدل على أن الغضب ليس هو الانتقام قوله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55]. فـ: {آسفونا}: بمعنى أغضوبا: {انتقمنا منهم}، فجعل الانتقام مرتبًا على الغضب، فدل على أنه غيره.
وقوله: {ولعنهم}. اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
قوله: {وأعد لهم جهنم}. أي هيأها لهم وجعلها سكنًا لهم ومستقرًا.
قوله: {وساءت مصيرًا}. أي: مرجعًا يصار إليه.
و: {مصيرًا}: تمييز، والفاعل مستتر، أي: ساءت النار مصيرًا يصيرون إليه.
قال ابن القيم في الآية الأولى: (فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته).
ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يُتِمَّ أمرَ رسوله وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح وأنما كان هذا ظن السوء، لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء.
ولو فتشت من فتشت، لرأيت عنده تعنتًا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك، هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ** وإلا فإني لا إخالك ناجيًا

قوله: (قال ابن القيم). هو محمد ابن قيم الجوزية، أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه الكبار الملازمين له رحمهما الله، وقد ذكره في (زاد المعاد) عقيب غزوة أحد تحت بحث الحكم والغايات المحمودة التي كانت فيها.
قوله: (في الآية الأولى). يعني قوله: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية}، فسر بأن الله لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، أي: يزول، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، يؤخذ هذا التفسير من قولهم.
{لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا}، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره الله على الدين كله.
ففسر بما يكون طعنًا في الربوبية وطعنًا في الأسماء والصفات، فالطعن في القدر طعن في ربوبيتة الله عز وجل، لأن من تمام ربو بيته عز وجل أن نؤمن بأن كل ما جرى في الكون فإنه بقضاء الله وقدره، والطعن في الأسماء والصفات تضمنه الطعن في أفعاله وحكمته، حيث ظننا أن الله تعالى لا ينصر رسوله وسوف يضمحل أمره، لأنه إذا ظن الإنسان هذا الظن بالله، فمعنى ذلك أن إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام عبث وسفه، فما الفائدة من أن يُرسَل رسولًا ويؤمر بالقتال وإتلاف الأموال والأنفس، ثم تكون النتيجة أن يضمحل أمره وينسي؟ فهذا بعيد.
ولا سيما رسول الله الذي هو خاتم النبيين، فإن الله تعالى قد أذن بأن شريعته سوف تبقي إلى يوم القيامة.
قال ابن القيم رحمه الله: (وهذا هو ظن السوء الذي يظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح).
وخلاصة ما ذكر ابن القيم في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور:
الأول: أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح، قال تعالى: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدًا} [الفتح: 12].
الثاني: أن ينكر أن يكون ما جرى بقضاء الله وقدره، لأنه يتضمن أن يكون في ملكه سبحانه ما لا يريد، مع أن كل ما يكون في ملكه فهو بإرادته.
الثالث: أن ينكر أن يكون قدره لحكمه بالغة يستحق عليها الحمد، لأن هذا يتضمن أن تكون تقديراته لعبًا وسفهًا، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا يقدر شيئًا أو يشرعه إلا لحكمة، قد تكون معلومة لنا وقد تقصر عقولنا عن إدراكها، ولهذا يختلف الناس في علل الأحكام الشرعية اختلافًا كبيرًا بحسب ما عندهم من معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى.
ورأي الجهمية والجبرية أن الله يقدر الأشياء لمجرد المشيئة لا لحكمة، قالو: لأنه لا يسأل عما يفعل، وهذا من أعظم سوء الظن بالله، لأن المخلوق إذا تصرف لغير حكمة سمي سفيهًا، فما بالك بالخالق الحكيم؟!
قال تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلًا ذلك ظن الذين كفروا} [ص: 27]، فالظن بأنها خلقت باطلًا لا لحكمة عظيمة ظن الذين كفروا، وقال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 38-39] الذي هو الباطل، وهؤلاء قالوا: إن الله تعالى خلقهما باطلًا لغير حكمة، قال الله: {ذلك ظن الذين كفروا}، أي: الذين يظنون أن الله خلقهما باطلًا وعبثًا وسفهًا ولعبًا.
والمعتزلة على العكس من ذلك، يقولون: لا يقدر إلا لحكمة، ويفرضون على الله ما يشاؤون، وقد ذكر صاحب (مختصر التحرير) الفتوحي رحمه الله: أن في المسألة قولين في المذهب.
ولكن الصوب بلا ريب أنه لا يفعل شيئًا ولا يقدر على عبده ولا يشرع شيئًا إلا لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر.
قوله: {فويل للذين كفروا من النار} [ص: 27]. {ويل}: مبتدأ، وساغ الابتداء بالنكرة: للتعظيم، وخبر المبتدأ: {للذين كفروا}، والجار والمجرور: {من النار} بيان لويل، وفي هذا دليل على أن كلمه: {ويل} كلمة وعيد وليست كما قيل: واد في جهنم، ولهذا نقول: ويل لك من البرد، ويل لك من فلان، ويقول المتوجع: ويلاه، وإن كان قد يوجد واد في جهنم اسمه ويل، لكن ويل في مثل هذه الآية كلمة وعيد.
قوله: (وأكثر الناس). أي: من بني آدم لا من المؤمنين يظنون بالله ظن السوء، أي: العيب فيما يختص بهم، كما إذا دعوا الله على الوجه المشروع يظنون أن الله لا يجيبهم، أو إذا تعبدوا الله بمقتضى شريعته يظنون أن الله لا يقبل منهم، وهذا ظن السوء فيما يختص بهم.
قوله: (فيما يفعله بغيرهم). كما إذا رأوا أن الكفار انتصروا على المسلمين بمعركة من المعارك ظنوا أن الله يديل هؤلاء الكفار على المسلمين دائمًا، فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بالله مع وجود الأسباب التي تقضتي ذلك.
قوله: (ولا يسلم من ذلك). أي: من الظن السوء.
قوله: (إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده). صدق رحمه الله، لا يسلم من ظن السوء إلا من عرف الله عز وجل وما له من الحكم والأسرار فيما يقدره ويشرعه، وكذلك عرف أسماءه وصفاته معرفة حقة لا معرفه تحريف وتأويل.
ولهذا حجب المحرفون والمؤولون عن معرفة أسماء الله وصفاته، فتجد قلوبهم مظلمة غالبًا، تحاول أن تورد الإشكالات والتشكيك والجدل، أما من أبقي أسماء الله وصفاته على ما دلت عليه وسلك في ذلك مذهب السلف، فإن قلبه لا يَرِدُ عليه مثل هذه الاعتراضات التي ترد على قلوب أولئك المحرفين، لأن المحرفين إنما أتوا من جهة ظنهم بالله ظن السوء، حيث ظنوا أن الكتاب والسنة دلَّ ظاهرهما على التمثيل والتشبيه، فأخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه وينكرون ما أثبت الله لنفسه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل.
أما كون كل معطل ممثلًا، فلأنه إنما عطل لكونه ظن أن دلالة الكتاب والسنة تقتضي التمثيل، فلما ظن هذا الظن السيئ بنصوص الكتاب والسنة أخذ يحرفها ويصرفها عن ظاهرها، فمثل أولًا، وعطل ثانيًا، ثم أنه إذا عطل صفات الله تعالى خوفًا من تشبيهه بالموجود، فقد شبهه بالمعدوم، وأما كون كل ممثل معطلًا، فلأن الممثل عطل الله تعالى من كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص، وعطل كل نص يدل على نفي مماثلة الخالق للمخلوق.
وعلي هذا، فالذي عرف أسماء الله وصفاته معرفة على ما جرى عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، وعرف موجب حكمة الله، أي: مقتضى حكمة الله، لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء.
وقوله: (موجب). موجب، بالفتح: هو المسبب الناتج عن السبب بمعنى المقتضي، وبالكسر: السبب الذي يقتضي الشيء بمعنى المقتضي، والمراد هنا الأول.
فالذي يعرف موجب حكمة الله وما تقتضيه الحكمة، فإنه لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء أبدًا، ولاحظ الحكمة التي حصلت للمسلمين في هزيمتهم في حنين وفي هزيمتهم في أحد، فإن في ذلك حكمًا عظيمة ذكرها الله في سورة آل عمران والتوبة، فهذه الحكم إذا عرفها الإنسان لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء، وأنه أراد أن يخذل رسوله وحزبه، بل كل ما يجريه الله في الكون، كمنع الإنبات والفقر، فهو لحكمة بالغة قد لا نعلمها، ولا يمكن أن يظن أن الله بخل على عباده، لأنه عز وجل أكرم الأكرمين، وعلي هذا فقس.
قوله: (اللبيب). على وزن فعيل، ومعناه: ذو اللب، وهو العقل.
قوله: (بهذا). المشار إليه هو الظن بالله عز وجل، ليعتني بهذا حتى يظن بالله ظن الحق، لا ظن السوء وظن الجاهلية.
قوله: (وليتب إلى الله). أي يرجع إليه، لأن التوبة الرجوع من المعصية إلى الطاعة.
قوله: (وليستغفره). أي: يطلب منه المغفرة، واللام في قوله: (فليتب) وقوله: (وليستغفره) للأمر.
قوله: (تعنتًا على القدر وملامة له). أي: إذا قدر الله شيئًا لا يلائمة تجده يقول: ينبغي أن ننتصر، ينبغي أن يأتي المطر، ينبغي أن لا نصاب بالحوائج، وأن يوسع لنا في هذا الرزق وهكذا.
قوله: (فمستقل ومستكثر). (مستقل): مبتدأ، خبره محذوف. و: (مستكثر): مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فمن الناس مستقل ومنهم مستكثر: مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فمن الناس مستقل ومنهم مستكثر، ونظير ذلك قوله تعالى: {فمنهم شقي وسعيد} [هود، 105]، فـ: {سعيد} مبتدأ خبره محذوف تقديره: ومنهم سعيد، ولا يقال بأن: {سعيد} معطوف على شقي، لكونه يلزم أن يكون الوصفان لموصوف واحد.
قوله: (وفتش نفسك: هل أنت سالم). وهذا ينبغي أن يكون في جميع المسائل مما أوجبه الله، فتش عن نفسك: هل أنت سالم من التقصير فيه؟ ومما حرمه الله عليك: هل أنت سالم من الوقوع فيه؟
قوله: (فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة). (تنج) الأول فعل الشرط مجزوم بحذف الواو، (تنج) الثانية جوابه مجزوم بحذف الواو.
وقوله: (من ذي عظيمة). أي: من ذي بلية عظيمة.
قوله: (وإلا، فإني لا إخالك ناجيًا). التقدير، أي: وإلا تنج من هذه البلية، فإني لا إخالك ناجيًا.
ومعني إخالك: أظنك، وهي تنصب مفعولين: الأول هنا الكاف، والثاني ناجيًا.
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران: الثانية: تفسير آية الفتح. الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر. الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
فيه مسائل:
* الأولى: تفسير آية آل عمران. وهي قوله تعالى: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} وقد سبق، والضمير فيها للمنافقين.
* الثانية: تفسير آية الفتح. وهي قوله تعالى: {الظانين بالله ظن السوء}، وقد سبق، والضمير فيها للمنافقين.
* الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر. أي: ظن السوء والذي أخبر بذلك ابن القيم رحمة الله، وضابط هذه الأنواع أن يظن بالله ما لا يليق به.
* الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه. أي: لا يسلم من ظن السوء بالله إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده وعرف نفسه ففتش عنها، والحقيقة أن الإنسان هو محل النقص والسوء، وأما الرب، فهو محل الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.
ولا تظنن بربك ظن سَوء ** فإن الله أولي بالجميل

* مناسبة الباب للتوحيد:
إن ظن السوء ينافي كمال التوحيد، وينافي الإيمان بالأسماء والصفات، لأن الله قال في الأسماء: {ولله الأسماء الحسني فادعوه بها} [الأعراف: 180]، فإذا ظن بالله ظن السوء، لم تكن الأسماء حسني، وقال في الصفات: {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60]، وإذا ظن بالله ظن السوء، لم يكن له المثل الأعلى.