فصل: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب:

سبق أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد؛ أي: وجوب التوحيد، وأنه لا بد منه، وأن معنى قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]: أن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد.
وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره.
ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة». متفق عليه.
ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك؛ ففيه فضل.
قوله: (وما يكفر من الذنوب). معطوف على (فضل)؛ فيكون المعنى: باب فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا؛ فالعائد محذوف والتقدير ما يكفره من الذنوب، وعقد هذا الباب لأمرين:
الأول: بيان فضل التوحيد.
الثاني: بيان ما يكفره من الذنوب، لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب.
فمن فوائد التوحيد:
1- أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله- سبحانه وتعالى-؛ وعليه، فهو يعمل سرًا وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلًا، فإنه يتصدق ويصلى، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: (إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو).
2- أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82].
وقول الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} الآية [الأنعام: 82].
قوله: {لم يلبسوا}، أي: يخلطوا.
قوله: {بظلمٍ}، الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي: «ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح- يعني لقمان-: {إن الشرك لظلمٌ عظيم}».
* والظلم أنواع:
1- أظلم الظلم، وهو الشرك في حق الله.
2- ظلم الإنسان نفسه؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام.
3- ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل، أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك.
وإذا انتفى الظلم، حصل الأمن، لكن هل هو أمنٌ كامل؟
الجواب: أنه إن كان الإيمان كاملًا لم يخالطه معصيةٌ؛ فالأمن أمنٌ مطلق، أي كامل، وإذا كان الإيمان مطلق إيمانٍ- غير كامل-؛ فله مطلق الأمن؛ أي: أمن ناقص.
مثال ذلك: مرتكب الكبيرة، أمنٌ من الخلود في النار، وغير آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116].
وهذه الآية قالها الله تعالى حكمًا بين إبراهيم وقومه حين قال لهم: {وكيف أخاف ما أشركتم} إلى قوله: {إن كنتم تعلمون} [الأنعام: 81-82]؛ فقال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} الآية [الأنعام: 82]، على أنه قد يقول قائلٌ: إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه، ولهذا قال بعدها: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام 83].
قوله: {الأمن}، أل فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن حسب الظلم الذي تلبس به.
قوله: {وهم مهتدون}، أي: في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل؛ فالاهتداء بالعلم هداية الإرشاد كما قال الله تعالى في أصحاب الجحيم: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 42].
والاهتداء بالعمل: هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة.
فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم؛ فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا يهدون إلى صراط النعيم.
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {أولئك لهم الأمن}: إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامةٌ بالنسبة للأمن والهداية في الدنيا والآخرة.
مناسبة الآية للترجمة:
أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك، والذي لم يشرك يكون موحدا؛ فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» أخرجاه.
قوله: (من شهد أن لا اله إلا الله)، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق، قال تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف: 86]، وهذا العلم قد يكون مكتسبًا وقد يكون غريزيًّا.
فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزيٌ، قال: «كل مولودٍ يولد على الفطرة». وقد يكون مكتسبًا، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها.
ولابد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها.
قوله: (أنْ)، مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأٌ، لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخفّفة يمكن حذفه.
قوله: (لا إله)، أي: لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه: هو المعبود محبةً وتعظيمًا، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله الجليلة.
قوله: (إلا الله)، أي: لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيءٌ عجابٌ} [ص: 5].
أما قوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء} [هود: 101]، فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفيٌ شرعًا، وإذا انتفى شرعًا؛ فهو كالمنتفي وقوعًا؛ فلا قرار له، {ومثل كلمة خبيثة كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها قرار} [إبراهيم: 26].
وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم} [هود: 101]، وقوله تعالى حكايةً عن قريش: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا} [ص: 5]، وبين قوله تعالى: {وما من إله إلا الله} [آل عمران: 62]؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعًا، لا تستحق أن تسمى آلهة؛ لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [يوسف: 40].
* التوحيد عند المتكلمين:
يقولون: إن معنى إله: آله، والآله: القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله.
والتوحيد عندهم: أن توحد الله، فتقول: هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشًا تقول: لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيرًا من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: {ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59]؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله.
ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكارًا حقيقيًّا، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما عابدًا، وقال الله- عز وجل-: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الجاثية: 23].
فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك. وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع:
1- شرك أكبر.
2- شرك أصغر.
3- معصية كبيرة.
4- معصية صغيرة.
وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق.
وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف: (كل معصية، فهي نوع من الشرك).
وقال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص)، ولا يعرف هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل لابن عباس: (إنّ اليهود يقولون: نحن لا نوسوس في الصلاة. قال: فما يصنع الشيطان بقلبٍ خرب؟!)؛ فالشيطان لا يأتي ليخرّب المهدوم، ولكن يأتي ليخرّب المعمور.
ولهذا لما شُكي إلى النبي أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال: «وجدتم ذلك؟». قالوا: نعم. قال: «ذاك صريح الإيمان»؛ أي: أن ذاك هو العلامة البينة على أنّ إيمانكم صريح لأنّه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص.
قوله: «من شهد أن لا إله إلا الله»، من: شرطية، وجواب الشرط: «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».
والشهادة: هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول: {نشهد إنّك لرسول الله} [المنافقون: 1] وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله: {والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1]؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خالٍ من الاعتقاد بالقلب، وخالٍ من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل.
وقوله: (لا إله إلا الله)، أي: لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله، وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء.
قوله: (وحده لا شريك له)، وحده: توكيد للإثبات، لا شريك له: توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
ولهذا كان النبي وغيره من المؤمنين يلجؤون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد جاء أعرابي إلى النبي وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال: من يمنعك مني؟ قال: «يمنعني الله»، ولم يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية؛ لأن الله هو الذين يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
وقولنا فيما يختص به حتى نسلم من شبهات كثيرة، منها شبهات النّافين للصفات؛ لأن النّافين للصفات زعموا أن إثبات الصفات إشراك بالله- عز وجل-، حيث قالوا: يلزم من ذلك التمثيل، لكننا نقول: للخالق صفات تختص به، وللمخلوق صفات تختص به.
قوله: (وأنّ محمدًا)، محمد: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، القرشي، الهاشمي، خاتم النبيين.
وقوله: (عبده)؛ أي: ليس شريكًا مع الله.
وقوله: (ورسوله)؛ أي: المبعوث بما أوحى إليه، فليس كاذبًا على الله.
فالرسول عبدٌ مربوب، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيئًا واحدًا، وهو ما يعود إلى أسافل الأخلاق؛ فهو منزه معصوم منه، قال تعالى: {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله} [الإعراف: 188]، وقال تعالى: {قل إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا} [الجن: 21-22].
فهو بشر مثلنا؛ إلا أنه يوحى إليه، قال تعال: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد} [فصلت: 6].
ومن قال: إن الرسول ليس له ظل، أو أن نوره يطفئ ظله إذا مشى في الشمس؛ فكله كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «كنت أمد رجلي بين يديه، وتعتذر بأن البيوت ليس فيها مصابيح»، فلو كان النبي له نور؛ لم تعتذر رضي الله عنها، ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا، والعياذ بالله.
ومن الغلو قول البوصيري في (البردة) المشهورة:
يا أكرمَ الخلْقِ مالي مَن ألوذُ به ** سواك عند حدوثِ الحادثِ العَمم

إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي ** عفوًا وإلا فقل يا زلة القدم

فإن مِن جودك الدنيا وضَرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم

قال ابن رجب وغيره: إنه لم يترك لله شيئًا ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول.
ونشهد أن من يقول هذا؛ ما شهد أن محمدًا عبد الله، بل شهد أن محمدًا فوق الله! كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد؟!
وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة.
هم قالوا فوق ذلك، قالوا: إن الله يقول: «من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وأنا مع عبدي إذا ذكرني»، والرسول معنا إذا ذكرناه، ولهذا كان أولئك الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي (المخرّف) كلمة المصطفى قاموا جميعًا قيام رجل واحد، يقولون: لأن الرسول حضر مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالًا له، والصحابة رضي الله عنهم أشدّ إجلالًا منهم ومنا، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول وهو حيٌ يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا يشاهدون شيئًا، فانظر كيف بلغت بهم عقولهم إلى هذا الحد! فهؤلاء ما شهدوا أن محمدًا عبد الله ورسوله، وهؤلاء المخرفون مساكين، إن نظرنا غليهم بعين القدر؛ فنرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، وإن نظرنا إليهم بعين الشرع؛ فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم، والرسول أشد الناس عبودية لله، أخشاهم لله، وأتقاهم لله، قام يصلي حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك؛ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا تحقيق العبادة العظيمة.
أما الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله- عزوجل- بأعظم شريعة إلى جميع الخلق، فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاؤوا بسلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهيةً له ولما جاء به، ومع ذلك صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم امتحان من الله- عز وجل-؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول: «أي جوار هذا يا بني عبد مناف؟»، فصبر؛ حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها، ثم إنه حمل هذه الشريعة من بعده أشد الناس أمانةً وأقواهم على الاتباع؛ الصحابة رضي الله عنهم، وأدوها إلى الأمة نقيّة سليمة، ولله الحمد.
ونحب الرسول لله وفي الله؛ فحب الرسول من حبّ الله، ونقدمه على أنفسنا وأهلنا وأولادنا والناس أجمعين، وأحببناه من أجل أنه رسول الله.
ونحقق شهادة أن محمدًا رسول الله، وذلك بأن نعتقد ذلك بقلوبنا، ونعترف به بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته بجوار حنا، فنعمل بهديه، ولا نعمل له.
أما ما ينقض تحقيق هذه الشهادة، فهو:
1- فعل المعاصي؛ فالمعصية نقص في تحقيق هذه الشهادة؛ لأنك خرجت بمعصيتك من اتباع النبي.
2- الابتداع في الدين ما ليس منه؛ لأنك تقربت إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله، والابتداع في الدين في الحقيقة من الاستهزاء بالله، لأنك تقرّبت إليه بشيء لم يشرعه.
فإن قال قائل: أنا نويت التقرب إلى الله بهذا العمل الذي أبتدعه.
قيل له: أنت أخطأت الطريق؛ فتعذر على نيتك، ولا تعذر على مخالفة الطريق متى علمت الحق.
فالمبتدعون قد يقال: إنهم يثابون على حسن نيتهم إذا كانوا لا يعلمون الحق، ولكننا نخطّئهم فيما ذهبوا إليه، أما أئمتهم الذين علموا الحق، ولكن ردّوه ليبقوا جاههم؛ ففيهم شبه بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وغيرهم الذين قابلوا رسالة النبي بالرد إبقاءً على رئاستهم وجاههم.
أما بالنسبة لأتباع هؤلاء الأئمة؛ فينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: الذين جهلوا الحق، فلم يعلموا عنه شيئًا، ولم يحصل منهم تقصير في طلبه، حيث ظنّوا أن ما هم عليه هو الحق؛ فهؤلاء معذورون.
القسم الثاني: من علموا الحق، ولكنهم ردّوه تعصّبًا لأئمتهم؛ فهؤلاء لا يعذرون، وهم كمن قال الله فيهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22].
قوله: «وإن عيسى عبد الله ورسوله»، الكلام فيها كالكلام في شهادة أن محمدًا رسول الله، إلا أننا نؤمن برسالة عيسى، ولا يلزمنا اتباعه إذا خالفت شريعته شريعتنا.
فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات:
الأولى: أن تكون مخالفة لشريعتنا؛ فالعمل على شرعنا.
الثانية: أن تكون موافقة لشريعتنا؛ فنحن متبعون لشريعتنا.
الثالثة: أن يكون مسكوتًا عنها في شريعتنا، وفى هذه الحال اختلف علماء الأصول: هل نعمل بها، أو ندعها؟
والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك:
1- قوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90].
2- قوله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب} [يوسف: 111].
وقد تطرّف في عيسى طائفتان:
الأولى: اليهود كذبوه، فقالوا: بأنه ولد زنى، وأنّ أمه من البغايا، وأنه ليس بنبي، وقتلوه شرعًا؛ أي: محكوم عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي؛ لقوله تعالى عنهم: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم} [النساء: 157]، وأما بالنسبة لحكم الله القدري؛ فقد كذبوا، وما قتلوه يقينًا، بل رفعه الله إليه، ولكن شبه لهم، فقتلوا المشبّه لهم وصلبوه.
الثانية: النصارى قالوا: إنه ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وجعلوه إلهًا مع الله، وكذبوا فيما قالوا.
أما عقيدتنا نحن فيه: فنشهد أنه عبد الله ورسوله، وأن أمه صديقة؛ كما أخبر الله تعالى بذلك، وأنها أحصنت فرجها، وأنّها عذراء، ولكن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له: كن؛ فيكون.
وفي قوله: (عبد الله)، رد على النصارى.
وفي قوله: (ورسوله)، رد على اليهود.
قوله: (وكلمته ألقاها إلى مريم)، أطلق الله عليه كلمة؛ لأنه خلق بالكلمة عليه السلام؛ فالحديث ليس على ظاهره؛ إذ عيسى عليه السلام ليس كلمة؛ لأنه يأكل، ويشرب، ويبول، ويتغوط، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية، قال الله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
وعيسى عليه السلام ليس كلمة الله؛ إذ إن كلام الله وصف قائم به، لا بائن منه، أما عيسى؛ فهو ذات بائنة عن الله- سبحانه-، يذهب ويجيء، ويأكل الطعام ويشرب.
قوله: {ألقاها إلى مريم}، أي: وجّهها إليها بقوله: {كن فيكون}؛ كما قال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
ومريم ابنة عمران ليست أخت موسى وهارون عليهما السلام كما يظنه بعض الناس، ولكن كما قال الرسول كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، فهارون أخو مريم، ليس هارون أخا موسى، بل هو آخر يسمى باسمه، وكذلك عمران سمي باسم أبي موسى.
قوله: (وروح منه)، أي: صار جسده عليه السلام بالكلمة، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله؛ أي: خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف والتكريم.
وعيسى عليه السلام ليس روحًا، بل جسد ذو روح، قال الله تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} [المائدة: 75].
فبالنفخ صار جسدًا، وبالروح صار جسدًا وروحًا.
قوله: (منه)، هذه هي التي أضلّت النصارى، فظنوا أنه جزء من الله، فضلوا وأضلوا كثيرًا، ولكننا نقول: إن الله قد أعمى بصائركم؛ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؛ فمن المعلوم أن عيسى عليه السلام كان يأكل الطعام، وهذا شيء معروف، ومن المعلوم أيضًا أن اليهود يقولون: إنهم صلبوه، وهل يمكن لمن كان جزءًا من الرب أن ينفصل عن الرب ويأكل ويشرب ويدّعى أنه قتل وصلب؟
وعلى هذا تكون (من) للابتداء، وليس للتبعيض؛ فهي كقوله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه} [الجاثية: 13]؛ فلا يمكن أن نقول: إن الشمس والقمر والأنهار جزء من الله، وهذا لم يقل به أحد.
فقوله: (منه)؛ أي: روح صادرة من الله- عز وجل-، وليست جزءً من الله كما تزعم النصارى.
وأعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: العين القائمة بنفسها، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل عموم الخلق؛ كقوله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه} [الجاثية: 13]، وقوله تعالى: {إن أرضي واسعة} [العنكبوت: 56].
وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه، كقوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين} [الحج: 26]، وكقوله تعالى: {ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13]، وهذا القسم مخلوق.
الثاني: أن يكون شيئًا مضافًا إلى عين مخلوقة يقوم بها، مثاله قوله تعالى: {وروح منه} [النساء: 171]؛ فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفًا؛ فهي روح من الأرواح التي خلقها الله، وليست جزءً أو روحًا من الله؛ إذ أنّ هذه الروح حلت في عيسى عليه السلام، وهو عين منفصلة عن الله، وهذا القسم مخلوق أيضًا.
الثالث: أن يكون وصفًا غير مضاف إلى عين مخلوقة، مثال ذلك قوله تعالى: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144]، فالرسالة والكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فإذا أضاف الله لنفسه صفة؛ فهذه الصفة غير مخلوقة، وبهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة: قسمان منها مخلوقان، وقسم غير مخلوق.
فالأعيان القائمة بنفسها والمتصل بهذه الأعيان مخلوقة، والوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق؛ لأنه يكون من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة.
وقد اجتمع القسمان في قوله: (كلمته، وروح منه)؛ فكلمته هذه وصف مضاف إلى الله، وعلى هذا، فتكون كلمته صفة من صفات الله.
وروح منه: هذه أضيفت إلى عين، لأن الروح حلت في عيسى، فهي مخلوقة.
قوله: «أدخله الله الجنة» إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين:
الأول: إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتمّ العمل.
الثاني: إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل.
فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذّبه بقدر عمله، وإن شاء لم يعذّبه، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116].
ولهما في حديث عتبان: فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله.
قوله: (عتبان)، هو عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، كان يصلي بقومه، فضعف بصره، وشق عليه الذهاب إليهم، فطلب من النبي أن يخرج إليه وأن يصلي في مكان من بيته ليتخذه مصلى، فخرج إليه النبي ومعه طائفة من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما دخل البيت، قال: «أين تريد أن أصلي؟». قال: صل ها هنا. وأشار إلى ناحية من البيت، فصلى بهم النبي ركعتين، ثم جلس على طعام صنعوه له، فجعلوا يتذاكرون، فذكروا رجلًا يقال له: مالك بن الدُّخْشُم، فقال بعضهم: هو منافق. فقال رسول الله: «لا تقل هكذا؛ أليس قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟!». ثم قال: «فإن الله حرم على النار...» الحديث.
فنهاهم أن يقولوا هكذا، لأنهم لا يدرون عما في قلبه؛ لأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وهنا الرسول قال هكذا، ولم يبرئ الرجل، إنّما أتى بعبارة عامة بأن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، ونهى أن نطلق ألسنتنا في عباد الله الذي ظاهرهم الصلاح، ونقول: هذا مراء، هذا فاسق، وما أشبه ذلك؛ لأننا لو أخذنا بما نظن فسدت الدنيا والآخرة؛ فكثير من الناس نظن بهم سوءً، ولكن لا يجوز أن نقول ذلك وظاهرهم الصلاح، ولهذا قال العلماء: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة.
قوله: (فإن الله حرم على النار)، أي: منع من النار، أو منع النار أن تصيبه.
قوله: (من قال: لا إله إلا الله)، أي: بشرط الإخلاص، بدليل قوله: (يبتغي بذلك وجه الله)، أي: يطلب وجه الله، ومن طلب وجهًا؛ فلا بد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه؛ فلا نحتاج إلى قول الزهري رحمه الله بعد أن ساق الحديث؛ كما في (صحيح مسلم)، حيث قال: (ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحُرّمت أمور؛ فلا يغتر مغترٌ بهذا)؛ فالحديث واضح الدلالة على شرطية العمل لمن قال: لا إله إلا الله، حيث قال: «يبتغي بذلك وجه الله»، ولهذا قال بعض السلف عن قول النبي: «مفتاح الجنة: لا إله إلا الله»، لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له.
قال شيخ الإسلام: إنّ المبتغي لا بد أن يكمّل وسائل البغية، وإذا أكملها حرمت عليه النار تحريمًا مطلقًا، وإن أتى بالحسنات على الوجه الأكمل؛ فإنّ النار تحرم عليه تحريمًا مطلقًا، وإن أتى بشيء ناقص، فإن الابتغاء فيه نقص، فيكون تحريم النار عليه فيه نقص، لكن يمنعه ما معه من التوحيد من الخلود في النار، وكذا من زنى، أو شرب الخمر، أو سرق، فإذا فعل شيئًا من ذلك ثم قال حين فعله: أشهد أن لا إله إلا الله ابتغي بذلك وجه الله؛ فهو كاذب في زعمه؛ لأن النبي قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»، فضلًا عن أن يكون مبتغيًا وجه الله.
وفي الحديث ردٌّ على المرجئة الذين يقولون: يكفي قول: لا إله إلا الله، دون ابتغاء وجه الله.
وفيه ردٌّ على الخوارج والمعتزلة؛ لأن ظاهر الحديث أن من فعل هذه المحرمات لا يخلد في النار، لكنه مستحق للعقوبة، وهم يقولون: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار.
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله؛ قال: «قال موسى عليه السلام: يارب! علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يارب! كل عبادك يقولون هذا؟».
قوله: (أذكرك وأدعوك به)، صفة لشيء، وليست جواب الطلب؛ فموسى عليه السلام طلب شيئًا يحصل به أمران:
1- ذكر الله.
2- دعاؤه.
فأجابه الله بقوله: (قل لا إله إلا الله)، وهذه الجملة ذكر متضمن للدعاء؛ لأن الذاكر يريد رضا الله عنه، والوصول إلى دار كرامته إذًا؛ فهو متضمن للدعاء، قال الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حباؤك إن شيمتك الحباء.

يعني: عطاؤك.
واستشهد ابن عباس على أن الذكر بمعنى الدعاء بقول الشاعر:
إذا أثنى عليك العبد يومًا ** كفاه من تعرضه الثناء

قوله: (كل عبادك يقولون هذا)، ليس المعنى أنها كلمة هينة كلٌّ يقولها؛ لأنّ موسى عليه الصلاة والسلام يعلم عظَم هذه الكلمة، ولكنه أراد شيئًا يختص به؛ لأن تخصيص الإنسان بالأمر يدل على منقبة له ورفعة؛ فبين الله لموسى أنه مهما أعطي فلن يعطى أفضل من هذه الكلمة، وأنّ لا إله إلا الله أعظم من السماوات والأرض وما فيهن؛ لأنها تميل بهن وترجح، فدل ذلك على فضل لا إله إلا الله وعظَمها، لكن لابد من الإتيان بشروطها، أما مجرد أن يقولها القائل بلسانه؛ فكم من إنسان يقولها لكنها عنده كالريشة لا تساوي شيئًا؛ لأنّه لم يقلها على الوجه الذي تمت به الشروط وانتفت به الموانع.
قال: «يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة و: (لا إله إلا الله) في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله» رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
قوله: (والأرضين السبع)، في بعض النسخ بالرفع، وهذا لا يصلح؛ لأنه إذا عطف على اسم أنّ قبل استكمال الخبر وجب النصب.
قوله: (مالت)، أي: رجحت حتى يملن.
قوله: (عامرهن)، أي: ساكنهن، فالعامر للشيء هو الذي عمر به الشيء.
قوله: (غيري)، استثنى نفسه تبارك وتعالى؛ لأن قول لا إله إلا الله ثناء عليه، والمثنى عليه أعظم من الثناء، وهنا يجب أن تعرف أن كون الله تعالى في السماء ليس ككون الملائكة في السماء؛ فكون الملائكة في السماء كون حاجي، فهم ساكنون في السماء؛ لأنهم محتاجون إلى السماء، لكن الرب تبارك وتعالى ليس محتاجًا إليها، بل إن السماء وغير السماء محتاج إلى الله تعالى؛ فلا يظن ظانٌّ أن السماء تقل الله أو تظله أو تحيط به، وعليه؛ فالسماوات باعتبار الملائكة أمكنة مقلة للملائكة، وما فوقهم منها مظل لهم، أما بالنسبة لله؛ فهي جهة لأن الله تعالى مستوٍ على عرشه، لا يقله شيء من خلقه.
وللترمذي وحسنه عن أنسٍ: سمعت رسول الله؛ يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك به شيئًا؛ لأتيتك بقرابها مغفرة».
قوله: «قال الله تعالى: يا ابن آدم...» إلخ.
هذا من الأحاديث القدسية، والحديث القدسي: ما رواه النبي عن ربه، وقد أدخله المحدثون في الأحاديث النبوية؛ لأنه منسوب إلى النبي تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي أمته عن الله- عز وجل-.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله معناه واللفظ لفظ رسول الله؟
على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبي أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله، لاسيما والنبي أقوى الناس أمانةً وأوثقهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظًا ومعنى؛ لكان أعلى سندًا من القرآن، لأن النبي يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛ كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبي بواسطة جبريل؛ كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102]، وقال: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء: 193-195].
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة:
منها: أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، بمعنى أن الإنسان لا يتعبد لله تعالى بمجرد قراءته؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله تعالى تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله تعالى؛ كما قال سبحانه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]، والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن، بل أضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، وأما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها: أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفًا أجمع القراء عليه؛ لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئًا منها مدعيًا أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي قاله؛ لكان كافرًا لتكذيبه النبي.
وأجاب هؤلاء عن كون النبي أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنىً لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنىً لا لفظًا، كما في (قصص الأنبياء) وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا.
وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى، لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى، فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه وليس بحرف وصوت، وكلن الله تعالى يخلق صوتًا يعبر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة، لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.
ثم لو قيل في مسألتنا- الكلام في الحديث القدسي-: إن الأولى ترك الخوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي عن ربه وكفى؛ لكان ذلك كافيًا، ولعله أسلم والله أعلم.
* (فائدة):
إذا انتهى سند الحديث إلى الله تعالى سمي (قدسيًّا)؛ لقدسيته وفضله، وإذا انتهى إلى الرسول سمي مرفوعًا، وإذا انتهى إلى الصحابي سمي موقوفًا، وإذا انتهى إلى التابعي فمن بعده سمي مقطوعًا.
قوله: (بقراب الأرض)، أي: ما يقاربها؛ إما ملئًا، أو ثقلًا، أو حجمًا.
قوله: (خطايا)، جمع خطيئة، وهي الذنب، والخطايا الذنوب، ولو كانت صغيرة؛ لقوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} [البقرة: 81].
قوله: (لا تشرك بي شيئًا) جملة (لا تشرك) في موضع نصب على الحال في التاء، أي: لقيتني في حال لا تشرك بي شيئًا.
قوله: (شيئًا) نكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: لا شركًا أصغر ولا أكبر.
وهذا قيد عظيم قد يتهاون به الإنسان، ويقول: أنا غير مشرك وهو لا يدري؛ فحب المال مثلًا بحيث يلهي عن طاعة الله من الإشراك، قال النبي: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة....» الحديث. فسمى النبي من كان هذا همه سماه: عبدًا له.
قوله: (لأتيتك بقرابها مغفرة)، أي: أن حسنة التوحيد عظيمة تكفر الخطايا الكبيرة إذا لقي الله وهو لا يشرك به شيئًا، والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه.
* مناسبة الحديث للترجمة:
أن في هذا الحديث فضل التوحيد، وأنه سبب لتكفير الذنوب؛ فهو مطابق لقوله في الترجمة: (وما يكفر من الذنوب).
* فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله. الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله. الثالثة: تكفيره مع ذلك الذنوب. الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام.
قوله: (فيه مسائل):
* الأولى: (سعة فضل الله)، لقوله: «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».
* الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله، لقوله: «مالت بهن لا إله إلا الله».
* الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب، لقوله: «لأتيتك بقرابها مغفرة»؛ فالإنسان قد تغلبه نفسه أحيانًا؛ فيقع في الخطايا، لكنه مخلص لله في عبادته وطاعته؛ فحسنة التوحيد تكفر عنه الخطايا إذا لقي الله بها.
* الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالظلم}؛ فالظلم هنا الشّرك، لقوله: «ألم تسمعوا قول الرجل الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم}».
* الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة:
1، 2- الشهادتان.
3- أن عيسى عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه.
4- أن الجنة حق.
5- أن النار حق.
* السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان، وحديث أبي سعيد، وحديث أنس؛ تبين لك معنى قوله: لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين، لأنّه لا بد أن يبتغي بها وجه الله، وإذا كان كذلك؛ فلابد أن تحمل المرء على العمل الصالح.
* السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان، وهو أن يبتغي بقولها وجه الله، ولا يكفي مجرد القول؛ لأن المنافقين كانوا يقولونها ولم تنفعهم.
* الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله، فغيرهم من باب أولى.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرًا ممن يقولها بخف ميزانه. العاشرة: النص على أن الأرضين سبعٌ كالسماوات.
* التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه، فالبلاء من القائل لا من القول؛ لأنه قد يكون اختل شرطٌ من الشروط؛ أو وجد مانع من الموانع؛ فإنها تخف بحسب ما عنده، أما القول نفسه؛ فيرجح بجميع المخلوقات.
* العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات، لم يرد في القرآن تصريح بذلك، بل ورد صريحًا أن السماوات سبع بقوله تعالى: {قل من رب السماوات السبع} [المؤمنون: 86]، لكن بالنسبة للأرضين لم يرد إلا قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12]؛ فالمثلية بالكيفية غير مرادة لظهور الفرق بين السماء والأرض في الهيئة، والكيفية، والارتفاع، والحسن؛ فبقيت المثلية في العدد.
أما السنة؛ فهي صريحة جدًّا بأنها سبع؛ مثل قوله: «من اقتطع شبرًا من الأرض؛ طوقه يوم القيامة من سبع أرضين».
وقد اختلف في قوله: {من سبع أرضين}؛ كيف تكون سبعًا؟
فقيل: المراد: القارات السبع، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يمتنع بالنسبة لقوله: «طوقه من سبع أرضين»، وقيل: المراد المجموعة الشمسية، لكن ظاهر النصوص أنها طباق كالسماوات، وليس لنا أن نقول إلا ما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأرضين؛ لأننا لا نعرفها.
* الحادية عشرة: أن لهن عمارًا، أي: السماوات، وعمارهن الملائكة.
* الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافًا للأشعرية، وفي بعض النسخ خلافًا للمعطلة، وهذه أحسن؛ لأنها أعم، حيث تشمل الأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم؛ ففيه إثبات الوجه لله سبحانه بقوله: (يبتغي وجه الله)، وإثبات الكلام بقوله: (وكلمته ألقاها)، وإثبات القول في قوله: (قل لا إله إلا الله).
* الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان: «فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» أن ترك الشرك. وفي بعض النسخ: إذا ترك الشرك. أي: أن قوله: «حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك (يعني: ترك الشرك)»، وليس مجرد قولها باللسان؛ لأن من ابتغى وجه الله في هذا القول لا يمكن أن يشرك أبدًا.
* الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون كل من عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه. عبدي: منصوب على أنه خبر كون؛ لأن كون مصدر كان وتعمل عملها.
وعيسى ومحمد: اسم كون.
وتأمل الجميع من وجهين:
الأول: أنه جمع لكل منهما بين العبودية والرسالة.
الثاني: أنه جمع بين الرجلين؛ فتبين أن عيسى مثل محمد، وأنه عبد ورسول، وليس ربًا ولا ابنًا للرب- سبحانه-.
وقول المؤلف: (تأمل)؛ لأنّ هذا يحتاج إلى تأمل.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله. السادسة عشرة: معرفة كونه روحًا منه. السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار. الثامنة عشرة: معرفة قوله: (على ما كان من العمل).
* الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله، أي: أن عيسى انفرد عن محمد في أصل الخلقة؛ فقد كان بكلمة، أما محمد؛ فقد خلق من ماء أبيه.
* السادسة عشرة: معرفة كونه روحًا منه، أي: أن عيسى روح من الله، و: (من) هنا بيانية أو للابتداء، وليست للتبعيض؛ أي: روح جاءت من قبل الله وليست بعضًا من الله، بل هي من جملة الأرواح المخلوقة.
* السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار، لقوله في حديث عبادة: «وأن الجنة حق، والنار حق»، والفضل أنه من أسباب دخول الجنة.
* الثامنة عشرة: معرفة قوله: «على ما كان من العمل»، أي: على ما كان من العمل الصالح ولو قل، أو على ما كان من العمل السيئ ولو كثر، بشرط أن لا يأتي بما ينافي التوحيد ويوجب الخلود في النار، لكن لا بد من العمل.
ولا يلزم استكمال العمل الصالح كما قالت المعتزلة والخوارج، ولم تذكر أركان الإسلام هنا؛ لأن منها ما يكفر الإنسان بتركه، ومنها ما لا يكفر، فإن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الشهادتين والصلاة، وإن كان روي عن الإمام أحمد أن جميع أركان الإسلام يكفر بتركها، لكن الصحيح خلاف ذلك.
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذِكر الوجه.
* التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان، أخذها المؤلف من قوله: (لو أن السماوات.... إلخ، وضعت في كفّة ولا إله إلا الله في كفة)، والظاهر أن الذي في الحديث تمثيل، يعني أن قول: لا إله إلا الله أرجح من كل شيء، وليس في الحديث أن هذا الوزن في الآخرة، وكأن المؤلف رحمه الله حصل عنده انتقال ذهني؛ فانتقل ذهنه من هذا إلى ميزان الآخرة.
* العشرون: معرفة ذكر الوجه، يعني: وجه الله تعالى، وهو صفة من صفاته الخبرية الذاتية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء؛ لأن من صفات الله تعالى ما هو معنى محض، ومنه ما مسماه بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، ولا نقول بالنسبة لله تعالى أبعاض؛ لأننا نتحاشى كلمة التبعيض في جانب الله تعالى الله.