فصل: باب الشفاعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب الشفاعة:

ذكر المؤلف رحمه الله الشفاعة في كتاب التوحيد، لأن المشركين الذين يعبدون الأصنام يقولون: إنها شفعاء لهم عند الله، وهم يشركون بالله- سبحانه وتعالى- فيها بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك.
وهم بذلك يظنون أنهم معظمون لله، ولكنهم منتقصون له، لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق والقدرة التامة، فلا يحتاج إلى شفعاء.
ويقولون: إننا نعبدهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، فيقربونا إلى الله، وهم ضالون في ذلك، فهو سبحانه عليم وقدير وذو سلطان، ومن كان كذلك، فإنه لا يحتاج إلى شفعاء.
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء، إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم، فيساعدهم الشفعاء في ذلك، أو لقصور سلطانهم، فيتجرأ عليهم الشفعاء، فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله- عز وجل- كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده سبحانه إلا بإذنه لكمال سلطانه وعظمته.
ثم الشفاعة لا يراد بها معونة الله- سبحانه- في شيء مما شفع فيه، فهذا ممتنع كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن يقصد بها أمران، هما:
1- إكرام الشافع.
2- نفع المشفوع له.
والشفاعة لغة: اسم من شفع يشفع، إذا جعل الشيء اثنين، والشفع ضد الوتر، قال تعالى: {والشفع والوتر} [الفجر: 3].
واصطلاحًا: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
مثال جلب المنفعة: شفاعة النبي لأهل الجنة بدخولها.
مثال دفعة المضرة: شفاعة النبي لمن استحق النار أن لا يدخلها.
وقوله الله عز وجل: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} [الأنعام: 51].
وذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات:
* الآية الأولى قوله تعالى: {وأنذر به}، الإنذار: هو الإعلام المتضمن للتخويف، أما مجرد الخبر، فليس بإنذار، والخطاب للنبي.
والضمير في: {به} يعود للقرآن، كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك قرآنًا عربيًّا لتنذر أم القرى ومن حولها} [الشورى: 7]، وقال تعالى: {لتنذر به وذكرى للمؤمنين} [الأعراف: 2].
وقوله: {يخافون أن يحشروا}، أي: يخافون مما يقع لهم من سوء العذاب في ذلك الحشر.
والحشر: الجمع، وقد ضمن هنا معنى الضم والانتهاء، فمعنى يحشرون، أي: يجمعون حتى ينتهوا إلى الله.
قوله: {ليس لهم من دونه ولي لا شفيع}، {ولي}، أي: ناصر ينصرهم.
{ولا شفيع}، أي: شافع يتوسط لهم، وهذا محل الشاهد.
ففي هذه الآية نفي الشفاعة من دون الله، أي من دون إذنه، ومفهومها: أنها ثابتة بإذنه، وهذا هو المقصود، الشفاعة من دونه مستحيلة، وبإذنه جائزة وممكنة.
أما عند الملوك، فجائزة بإذنهم وبغير إذنهم، فيمكن لمن كان قريبًا من السلطان أن يشفع بدون أن يستأذن.
ويفيد قوله: {من دونه} أن لهم بإذنه وليًّا وشفيعًا، كما قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله} [المائدة: 55].
وقوله: {قل لله الشفاعة جميعًا} [الزمر: 44].
* الآية الثانية قوله تعالى: {لله الشفاعة}، مبتدأ وخبر، وقدم الخبر للحصر، والمعنى: لله وحده الشفاعة كلها، لا يوجد شيء منها خارج عن إذن الله وإرادته، فأفادت الآية في قوله: {جميعًا} أن هناك أنواعًا للشفاعة.
وقد قسم أهل العلم رحمه الله الشفاعة إلى قسمين رئيسيين، هما:
القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول، وهي أنواع:
النوع الأول: الشفاعة العظمى، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله، فإن الناس يلحقهم يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم من الغم والكرب ما لا يطيقونه، فيقول بعضهم لبعض: اطلبوا من يشفع لنا عند الله، فيذهبون إلى آدم أبي البشر، فيذكرون من أوصافه التي ميزه الله بها: أن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيقولون: اشفع لنا عند ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فيعتذر لأنه عصى الله بأكله من الشجرة، ومعلوم أن الشافع إذا كان عنده شيء يخدش كرامته عند المشفوع إليه، فإنه لا يشفع لخجله من ذلك، مع أن آدم عليه السلام قد تاب الله عليه واجتباه وهداه، قال تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [طه: 121-122]، لكن لقوة حيائه من الله اعتذر.
ثم يذهبون إلى نوح، ويذكرون من أوصافه التي امتاز بها بأنه أول رسول أرسله الله إلى الأرض، فيعتذر بأنه سأل الله ما ليس له به علم حين قال: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} [هود: 45].
ثم يذهبون إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع، فلا يعتذر بشيء، لكن يحيل إلى من هو أعلى مقامًا، فيقول: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيحيلهم إلى محمد دون أن يذكر عذرًا يحول بينه وبين الشفاعة، فيأتون محمدًا، فيشفع إلى الله ليريح أهل الموقف.
الثاني: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها، لأنهم إذا عبروا الصراط ووصلوا إليها وجدوها مغلقة، فيطلبون من يشفع له، فيشفع النبي إلى الله في فتح أبواب الجنة لأهلها، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} [الزمر: 73]، فقال: {وفتحت}، فهناك شيء محذوف، أي: وحصل ما حصل من الشفاعة، وفتحت الأبواب، أما النار، فقال فيها: {حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها} الآية.
الثالث: شفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب، وهذه مستثناة من قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48]، وقوله تعالى: {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولًا} [طه: 109]، وذلك لما كان لأبي طالب من نصرة للنبي ودفاع عنه، وهو لم يخرج من النار، لكن خفف عنه حتى صار- والعياذ بالله- في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، وهذه الشفاعة خاصة بالرسول لا أحد يشفع في كافر أبدًا إلا النبي، ومع ذلك لم تقبل الشفاعة كاملة، وإنما هي تخفيف فقط.
القسم الثاني: الشفاعة العامة له ولجميع المؤمنين.
وهي أنواع:
النوع الأول: الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وهذه قد يستدل لها بقول الرسول: «ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفعهم الله فيه»، فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك.
النوع الثاني: الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، وقد تواترت بها الأحاديث وأجمع عليها الصحابة، واتفق عليها أهل الملة ما عدا طائفتين، وهما: المعتزلة والخوارج، فإنهم ينكرون الشفاعة في أهل المعاصي مطلقًا لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، ومن استحق الخلود، فلا تنفع فيه الشفاعة، فهم ينكرون أن النبي أو غيره يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلوا النار، أو إذا دخولها أن يخرجوا منها، لكن قولهم هذا باطل بالنص والإجماع.
النوع الثالث: الشفاعة في رفع درجات المؤمنين، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال في أبي سلمة: «اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه»، والدعاء شفاعة، كما قال: «ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفعهم الله فيه».
* إشكال وجوابه:
فإن قيل: إن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه، فكيف يسمى دعاء الإنسان لأخيه شفاعة وهو لم يستأذن من ربه؟
والجواب: إن الله أمر بأن يدعو الإنسان لأخيه الميت، وأمره بالدعاء إذن وزيادة.
وأما الشفاعة الموهومة التي يظنها عباد الأصنام من معبوديهم، فهي شفاعة باطلة لأن الله لا يأذن لأحد بالشفاعة إلا من ارتضاه من الشفعاء والمشفوع لهم.
إذا قوله: {لله الشفاعة جميعًا} تفيد أن الشفاعة متعددة كما سبق.
وقوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255].
* الآية الثالثة قوله تعالى: {من ذا الذي}، {من}: اسم استفهام بمعنى النفي، أي: لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه.
{ذا}: هل تجعل ذا اسمًا موصولًا كما قال ابن مالك في (الألفية)، أو لا تصح أن تكون اسمًا موصولًا هنا لوجود الاسم الموصول: {الذي}؟
الثاني هو الأقرب، وإن كان بعض المعربين قال: يجوز أن تكون: {الذي} توكيدًا لها.
والصحيح أن: {ذا} هنا إما مركبة مع: {من}، أو زائدة للتوكيد، وأيًّا كان الإعراب، فالمعنى: إنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله.
وسبق أن النفي إذا جاء في سياق الاستفهام، فإنه يكون مضمنًا معنى التحدي، أي إذا كان أحد يشفع بغير إذن الله فأت به.
قوله: {عنده}، ظرف مكان، وهو سبحانه في العلو، فلا يشفع أحد عنده ولو كان مقربًا، كالملائكة المقربين، إلا بإذنه الكوني، والإذن لا يكون إلا بعد الرضا.
وأفادت الآية: أنه يشترط للشفاعة إذن الله فيها لكمال سلطانه جل وعلا، فإنه كلما كمل سلطان الملك، فإنه لا أحد يتكلم عنده ولو كان بخير إلا بعد إذنه، ولذلك يعتبر اللغط في مجلس الكبير إهانة له ودليلًا على أنه ليس كبيرًا في نفوس من عنده، كان الصحابة مع الرسول كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار وعدم الكلام إلا إذا فتح الكلام، فإنهم يتكلمون.
وقوله: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26].
* الآية الرابعة قوله تعالى: {وكم من ملك}.
{كم} خبرية للتكثير، والمعنى: ما أكثر الملائكة الذين في السماء، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا بعد إذن الله ورضاه.
قوله: {إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}، فللشفاعة شرطان، هما:
1- الإذن من الله، لقوله: {أن يأذن الله}.
2- رضاه عن الشافع والمشفوع له، لقوله: {ويرضى}، وكما قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28]، فلا بد من إذنه تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له، إلا في التخفيف عن أبي طالب، وقد سبق ذلك.
وهذه الآية في سياق بيان بطلان ألوهية اللات والعزى، قال تعالى بعد ذكر المعراج وما حصل للنبي فيه: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 18]، أي: العلامات الدالة عليه عز وجل، فكيف به سبحانه؟! فهو أكبر وأعظم.
ثم قال: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20]، وهذا استفهام للتحقير، فبعد أن ذكر الله هذه العظمة قال: أخبروني عن هذه اللات والعزى ما عظمتها؟ وهذا غاية في التحقير، ثم قال: {ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذًا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنه يتبعون إلى الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك} الآية [النجم: 21-26].
فإذا كانت الملائكة وهي في السماوات في العلو لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذنه تعالى ورضاه، فكيف باللات والعزى وهي في الأرض؟!
ولهذا قال: {وكم من ملك في السماوات}، مع أن الملائكة تكون في السماوات وفي الأرض، ولكن أراد الملائكة التي في السماوات العلى، وهي عند الله- سبحانه-، فحتى الملائكة المقربون حملة العرش لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
* الآية الخامسة قوله تعالى: {قل ادعوا}.
الأمر في قوله: {ادعوا} للتحدي والتعجيز، وقوله: {ادعوا} يحتمل معنيين، هما:
1- أحضروهم.
2- أدعوهم دعاء مسألة.
فلو دعوهم دعاء مسألة لا يستجيبون لهم، كما قال تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 14].
يكفرون: يتبرؤون، ومع هذه الآيات العظيمة يذهب بعض الناس يشرك بالله ويستنجد بغير الله، وكذلك لو دعوهم دعاء حضور لم يحضروا، ولو حضروا ما انتفعوا بحضورهم.
قوله: {لا يملكون مثقال ذرة}، واحدة الذر: وهي صغار النمل، ويضرب بما المثل في القلة.
قوله: {مثقال ذرة}، وكذلك ما دون الذرة لا يملكونه، والمقصود بذكر الذرة المبالغة، وإذا قصد المبالغة بالشيء قله أو كثرة، فلا مفهوم له، فالمراد الحكم العام، فمثلًا قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80]، أي: مهما بالغت في الاستغفار.
ولا يرد على هذا أن الله أثبت ملكًا للإنسان، لأن ملك الإنسان قاصر وغير شامل ومتجدد وزائل، وليس كملك الله.
قوله: {ما لهم فيهما من شرك}، أي: ما لهؤلاء الذين تدعون من دون الله.
{فيهما}، أي: في السماوات والأرض.
{من شرك}، أي: مشاركة، أي لا يملكونه انفرادًا ولا مشاركة. وقوله: {من شرك}: مبتدأ مؤخر دخلت عليه: {من} الزائدة لفظًا، لكنها للتوكيد معنى.
وكل زيادة لفظية في القرآن فهي زيادة في المعنى.
وأتت: {من} للمبالغة في النفي، وأنه ليس هناك شرك لا قليل ولا كثير.
قوله: {وما له منهم من ظهير}، الضمير في: {ما له} يعود إلى الله تعالى. وفي: {منهم} يعود إلى الأصنام، أي: ما لله تعالى من هذه الأصنام ظهير.
و: {من}: حرف جر زائد، و: {ظهير}: مبتدأ مؤخر بمعنى معين، كما قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} [الإسراء: 88]، أي: معينًا، وقال تعالى: {والملائكة بعد ذلك ظهير} [التحريم: 4]، أي: معين. أي: ليس لله معين في أفعاله، وبذلك ينتفي عن هذه الأصنام كل ما يتعلق به العابدون، فهي لا تملك شيئًا على سبيل الانفراد ولا المشاركة ولا الإعانة، لأن من يعينك وإن كان غير شريك لك يكون له منه عليك، فربما تحابيه في إعطائه ما يريد.
فإذا انتفت هذه الأمور الثلاثة، لم يبق إلا الشفاعة، وقد أبطلها الله بقوله: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 23]، فلا تنفع عند الله الشفاعة لهؤلاء، لأن هذه الأصنام لا يأذن الله لها، فانقطعت كل الوسائل والأسباب للمشركين، وهذا من أكبر الآيات الدالة على بطلان عبادة الأصنام، لأنها لا تنفع عابديها لا استقلالًا ولا مشاركة ولا مساعدة ولا شفاعة، فتكون عبادتها باطلة، قال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة} [الأحقاف: 5]، حتى ولو كان المدعو عاقلًا، لقوله: {من}، ولم يقل: (ما)، ثم قال تعالى: {وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف: 5-6]، وكل هذه الآيات تدل على أنه يجب على الإنسان قطع جميع تعلقاته إلا بالله عبادة وخوفًا ورجاء واستعانة ومحبة وتعظيمًا، حتى يكون عبدًا لله حقيقة، يكون هواه وإرادته وحبه وبغضه وولاؤه ومعاداته لله وفي الله، لأنه مخلوق للعبادة فقط، قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115]، أي: لا نأمركم ولا ننهاكم، إذ لو خلقناكم فقط للأكل والشرب والنكاح، لكان ذلك عين العبث، ولكن هناك شيء وراء ذلك، وهو عبادة الله سبحانه في هذه الدنيا.
وقوله: {إلينا ترجعون}، أي: وحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون، فنجازيكم إذا كان هذا هو حسبانكم، فهو حسبان باطل.
قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونًا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28].
قوله: (قال أبو عباس)، هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله يكنى بذلك، ولم يتزوج، لأنه كان مشغولًا بالعلم والجهاد، وليس زاهدًا في السنة، مات سنة 728هـ، وله 67 سنة و 10 أشهر.
قوله: (لغيره ملك)، أي: لغير الله في قوله: {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض}.
قوله: (أو قسط منه) في قوله: {وما لهم فيهما من شرك}.
قوله: (أو يكون عونًا لله) في قوله تعالى: {وما له منهم من ظهير} بدون استثناء.
قوله: (ولم يبق إلا الشفاعة)، فبين أنها لا تنفع إلا من أذن له الرب، كما قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}، وقال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255]، ومعلوم أنه لا يرضى هذه الأصنام لأنها باطلة، وحينئذ فتكون شفاعتها منتفية.
واعلم أن شرك المشركين في السابق كان في عبادة الأصنام، أما الآن، فهو في طاعة المخلوق في المعصية، فإن هؤلاء يقدسون زعماءهم أكثر من تقديس الله إن أقروا به، فيقال لهم: إنهم بشر مثلكم، خرجوا من مخرج البول والحيض، وليس لهم شرك في السماوات ولا في الأرض، ولا يملكون الشفاعة لكم عند الله، إذًا، فكيف تتعلقون بهم؟! حتى إن الواحد منهم يركع لرئيسه أو يسجد له كما يسجد لرب العالمين.
والواجب علينا نحو ولاة الأمور طاعتهم، وطاعتهم من طاعة الله، وليس استقلالًا، أما عبادتهم كعبادة الله، فهذه جاهلية وكفر.
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن وأخبر النبي: أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده- لا يبدأ بالشفاعة أولًا- ثم يقال له: «ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع».
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، فالله- سبحانه وتعالى- نفى أن تنفعهم أصنامهم، بل قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنت لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} [الأنبياء: 98- 99]، حتى الأصنام لا تنفع نفسها ولا يشفع لها، فكيف تكون شافعة؟! بل هي في النار وعابدوها.
قوله: (وأخبر النبي أنه يأتي فيسجد لربه)، أي: وكما أخبر، فالواو عاطفة، ويجوز أن تكون استئنافية، فإذا كان الرسول وهو أعظم الناس جاهًا عند الله لا يشفع إلا بعد أن يحمد الله ويثني عليه، فيحمد الله بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه لم يكن يعلمها من قبل، ويطول سجوده، فكيف بهذه الأصنام هل يمكن أن تشفع لأصحابها؟
قوله: (ارفع رأسك)، أي: من السجود.
قوله: (وقل يسمع)، السامع هو الله، و: (يسمع): جواب الأمر مجزوم.
قوله: (وسل تعط)، أي: سل ما بدا لك تعط إياه، وتعط: مجزوم بحذف حرف العلة جوابًا لسل.
قوله: (واشفع تشفع)، وحينئذ يشفع النبي في الخلائق أن يقضى بينهم.
قوله: وقال أبو هريرة له: (من أسعد الناس بشفاعتك؟) هذا السؤال من أبي هريرة للنبي، فقال له النبي: «لقد كنت أظن أن لا يسألني أحد غيرك عنه لما أرى من حرصك على العلم»، وفي هذا دليل على أن من وسائل تحصيل العلم السؤال.
قوله: «من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه»، وعليه، فالمشركون ليس لهم حظ من الشفاعة لأنهم لا يقولون: لا إله إلا الله، قال تعالى: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} [الصافات: 35-36]، وقال تعالى حكاية عنهم: {اجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5].
الحقيقة أن صنيعهم هو العجاب، قال تعالى: {بل عجبت ويسخرون} [الصافات: 12]، وقال تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابًا أئنا لفي خلق جديد} [الرعد: 5].
وقوله: «خالصًا من قلبه» خرج بذلك من قالها نفاقًا، فإنه لا حظ له في الشفاعة، فإن المنافق يقول: لا إله إلا الله، ويقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، لكن الله- عز وجل- قابل شهادتهم هذه بشهادته على كذبهم، قال تعالى: {والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1]، أي: في شهادتهم، في قولهم: إنك لرسول الله، فهم كاذبون في شهادتهم وفي قولهم: لا إله إلا الله، لأنهم لو شهدوا بذلك حقًا ما نافقوا ولا أبطنوا الكفر.
قوله: (خالصًا)، أي: سالمًا من كل شوب، فلا يشوبها رياء ولا سمعة، بل هي شهادة يقين.
قوله: (من قبله)، لأن المدار على القلب، وهو ليس معنى من المعاني، بل هو مضعة في صدور الناس، قال الله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46]، وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها}، وقال: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله».
وبهذا يبطل قول من قال: إن العقل في الدماغ، ولا ينكر أن للدماغ تأثيرًا في الفهم والعقل، لكن العقل في القلب، ولهذا قال الإمام أحمد: (العقل في القلب، وله اتصال في الدماغ).
ومن قال كلمة الإخلاص خالصًا من قلبه، فلا بد أن يطلب هذا المعبود بسلوك الطرق الموصلة إليه، فيقوم بأمر الله ويدع نهيه.
قوله: (فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص)، لأن من أشرك بالله قال الله فيه: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}.
قوله: (وحقيقته أن الله- سبحانه- هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع).
وحقيقته، أي: حقيقة أمر الشفاعة، أي الفائدة منها: أن الله- عز وجل- أراد أن يغفر للمشفوع له، ولكن بواسطة هذه الشفاعة.
والحكمة من هذه الواسطة بينها بقوله: (ليكرمه وينال المقام المحمود)، ولو شاء الله لغفر لهم بلا شفاعة، ولكنه أراد بيان فضل هذا الشافع وإكرامه أمام الناس، ومن المعلوم أن من قبل الله شفاعته، فهو عنده بمنزلة عالية، فيكون في هذا إكرام للشافع من وجهين:
الأول: إكرام الشافع بقبول شفاعته.
الثاني: ظهور جاهه وشرفه عند الله تعالى.
قوله: (المقام المحمود)، أي: المقام الذي يحمد عليه وأعظم الناس في ذلك رسول الله، فإن الله وعده أن يبعثه مقامًا محمودًا، ومن المقام المحمود: أن الله يقبل شفاعته بعد أن يتراجع الأنبياء أولو العزم عنها.
ومن يشفع من المؤمنين يوم القيامة، فله مقام يحمد عليه على قدر شفاعته..
قوله: (فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك)، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
(ما)، اسم موصول، أي: التي كان فيها شرك.
قوله: (وقد أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع)، ومن ذلك قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255]، وقوله: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 23]، وقوله: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26].
قوله: (وقد بين النبي أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد).
أما أهل الشرك، فإن الشفاعة لا تكون لهم، لأن شفعاءهم هي الأصنام، وهي باطلة.
وجه إدخال باب الشفاعة في كتاب التوحيد، أن الشفاعة الشركية تنافي التوحيد، والبراءة منها هو حقيقة التوحيد.
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات: الثانية: صفة الشفاعة المنفية. الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة. الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود. الخامسة: صفة ما يفعله أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له، شفع.
* فيه مسائل:
* الأولى: تفسير الآيات، وهي خمس، وسبق تفسيرها في محالها.
* الثانية: صفة الشفاعة المنفية، وهي ما كان فيها شرك، فكل شفاعة فيها شرك، فإنها منفية.
* الثالثة: صفة الشفاعة، المثبتة وهي شفاعة أهل التوحيد بشرط إذن الله تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له.
* الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود، وهي الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، وقول الشيخ: (وهي المقام المحمود)، أي: منه.
* الخامسة: صفة ما يفعله، وأنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له، شفع، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو ظاهر، وهذا يدل على عظمة الرب وكمال أدب النبي.
السادسة: من أسعد الناس بها؟ السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله. الثامنة: بيان حقيقتها.
* السادسة: من أسعد الناس بها؟ هم أهم التوحيد والإخلاص من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه.
ولا إله إلا الله معناها: لا معبود حق إلا الله، وليس المعنى: لا معبود إلا الله، لأنه لو كان كذلك، لكان الواقع يكذب هذا، إذ إن هناك معبودات من دون الله تعبد وتسمى آلهة، ولكنها باطلة، وحينئذ يتعين أن يكون المراد لا إله حق إلا الله.
ولا إله إلا الله تتضمن نفيًا وإثباتًا، هذا هو التوحيد، لأن الإثبات المجرد لا يمنع المشاركة، والنفي المجرد تعطيل محض، فلو قلت: لا إله معناه عطلت كل إله، ولو قلت: الله إله ما وحدت، لأن مثل هذه الصيغة لا تمنع المشاركة، ولهذا قال الله تعالى: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] لما جاء الإثبات فقط أكده بقوله: واحد.
* السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله، لقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48]، وغير ذلك مما نفى الله فيه الشفاعة للمشركين، ولقوله: «خالصًا من قلبه».
* الثامنة: بيان حقيقتها، وحقيقتها: أن الله تعالى يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.