فصل: كِتَابُ الِاسْتِيلَادِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ التَّدْبِيرِ:

وَأَمَّا حُكْمُ التَّدْبِيرِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ فَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ إذَا كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا حُكْمَ لَهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ رَأْسًا، فَلَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَلَا حَقُّهَا، بَلْ حُكْمُهُ ثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ.
وَعَلَى هَذَا يُبْنَى بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ جَائِزٌ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِجْمَاعِ.
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: «دَبَّرَ رَجُلٌ عَبْدَهُ، فَاحْتَاجَ فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ» وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَازُ، وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ، وَكَلَامِ زَيْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كَمَا إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ بَاعَهُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ»، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ» وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلَ شُرَيْحُ وَمَسْرُوقٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَوْلَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّةِ؛ لَقُلْت بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ، وَلَنَا لِإِثْبَاتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ ضَرُورَةُ الْإِجْمَاعِ، وَدَلَالَةُ غَرَضِ الْمُدَبِّرِ، أَمَّا ضَرُورَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْحُرِّيَّةُ لابد لَهَا مِنْ سَبَبٍ وَلَا سَبَبَ هاهنا سِوَى الْكَلَامِ السَّابِقِ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِلْحَالِ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا بَعْدَ الشَّرْطِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِهِ.
فَكَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَسْنَا نَعْنِي ثُبُوتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبِّرِ إلَّا هَذَا، وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إبْطَالُ السَّبَبِيَّةِ إذْ لَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ بَعْدَ الْبَيْعِ.
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْغَرَضِ فَهُوَ أَنَّ غَرَضَ الْمُدَبِّرِ مِنْ التَّدْبِيرِ أَنْ يُسَلِّمَ الْحُرِّيَّةَ لَلْمُدَبَّرِ عِنْدَ الْمَوْتِ إمَّا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِإِعْتَاقِ رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَإِمَّا حَقًّا لِخِدْمَتِهِ الْقَدِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعِهِ عَلَى مِلْكِهِ فِي حَيَاتِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَلَا طَرِيقَ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضَيْنِ إلَّا بِجَعْلِ التَّدْبِيرِ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، إذْ لَوْ ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ فِي الْحَالِ لَفَاتَ غَرَضُهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ شَيْءٌ رَأْسًا لَفَاتَ غَرَضُهُ فِي الْعِتْقِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُ لِشِدَّةِ غَضَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَكَانَ انْعِقَادُهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ، وَتَأَخُّرُ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ طَرِيقُ إحْرَازِ الْغَرَضَيْنِ، فَثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، فَيَتَقَيَّدُ الْكَلَامُ بِهِ إذْ الْكَلَامُ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُنَاقِضٌ لِأَصْلِكُمْ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَمِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ التَّعْلِيقَاتِ لَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلْحَالِ وَإِنَّمَا تَصِيرُ أَسْبَابًا عِنْدَ وُجُودِ شُرُوطِهَا، وَعَلَى هَذَا بَنَيْتُمْ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ وَسَبَبِهِ، وَهَاهُنَا جَعَلْتُمْ التَّدْبِيرَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ، وَهَذَا مُنَاقَضَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَالتَّنَاقُضُ فِي الْأَصْلِ دَلِيلُ فَسَادِ الْفَرْعِ.
فَالْجَوَابُ: إنَّ هَذَا أَصْلُنَا فِيمَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَفِيمَا لَمْ يُرِدْ الْمُتَكَلِّمُ جَعْلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ، وَفِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ كَوْنَهُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ، وَهَاهُنَا أَرَادَ كَوْنَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِمَا قُلْنَا، فَتَعَيَّنَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فِي الثَّانِي.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَطَاءٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَدْبِيرًا مُقَيَّدًا، وَقَوْلُهُ بَاعَ حِكَايَةُ فِعْلٍ فَلَا عُمُومَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ بَاعَ أَيْ أَجَّرَ إذْ الْإِجَارَةُ تُسَمَّى بَيْعًا بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ خِدْمَةَ مُدَبَّرٍ وَلَمْ يَبِعْ رَقَبَتَهُ» وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا عَلَى مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ رَجُلًا بِدَيْنِهِ يُقَالُ لَهُ سُرَّقٌ» ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِنَسْخِ بَيْعِ الْحُرِّ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمُدَبَّرِ إلْحَاقًا لِلْحَقِّ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ.
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ الْمُقَيَّدُ فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ سَبَبًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَفِي ذَلِكَ السَّفَرِ أَوْ لَا يَمُوتَ.
فَكَانَ الشَّرْطُ مُحْتَمِلَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، فَلَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ سَبَبًا لِلْحَالِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَكَذَا لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ، وَلَا قَضَاءَ حَقِّ الْخِدْمَةِ الْقَدِيمَةِ، إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ غَرَضُهُ لَعَلَّقَهُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ فِي التَّدْبِيرِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ.
فَنَعَمْ، لَكِنْ هَذِهِ وَصِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِثُبُوتِهَا فِي ضِمْنِ أَمْرٍ لَازِمٍ وَهُوَ الْيَمِينُ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُشْكَلُ بِالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ.
فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ اللَّازِمَةِ وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قِيلَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لِلْحَالِ مُتَرَدِّدٌ لِتَرَدُّدِ مَوْتِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، فَلَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مُوصًى لَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ فِي الْحَالِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ فِيهِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ لَا يَجُوزُ، وَمَا لَا يُبْطِلُهُ يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا تَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ وَالْوِصَايَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ مِنْ بَابِ إيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَائِهِ عِنْدَنَا.
فَكَانَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ وَتَمَلُّكِهَا، وَيَجُوزُ إجَارَتُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ بِالتَّمْلِيكِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِ الْمُدَبِّرِ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ وَلَمْ يَبِعْ رَقَبَتَهُ، وَبَيْعُ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ بَيْعُ مَنْفَعَتِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَيَجُوزُ الِاسْتِخْدَامُ، وَكَذَا الْوَطْءُ وَالِاسْتِمْتَاعُ فِي الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ، وَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ مُدَبَّرَتَهُ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ آكَدُ مِنْ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالتَّدْبِيرُ مِنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ الِاسْتِيلَادُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ وَالتَّزْوِيجِ فِي الْأَمَةِ، فَالتَّدْبِيرُ أَوْلَى، وَالْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ وَالْعُقْرُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنَافِعِ، وَالْمَنَافِعُ مِلْكُهُ وَالْأَرْشُ لَهُ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ فَاتَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ لِمَا بَيَّنَّا، وَيَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَيَسْعَى فِي دُيُونِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَاتُ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ إيصَالُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ مُعَجَّلًا، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ وُصُولِهِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ.
فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ إيصَالِهِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُهُ أُمَّ الْوَلَدِ كَذَا الْمُدَبَّرُ، وَيَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الْحُرِّيَّةِ إلَيْهِ وَالْمَوْلَى يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا يَمْلِكُ مُكَاتَبَةَ أُمِّ الْوَلَدِ، وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بِمَنْزِلَتِهَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُوصِمَ إلَيْهِ فِي أَوْلَادِ مُدَبَّرَةٍ، فَقَضَى أَنَّ مَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ عَبْدٌ وَمَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ مُدَبَّرٌ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَمَسْرُوقٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا يُعْرَفُ فِي السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ؛ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَمَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مِنْ أَقْضِيَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْأُمِّ وَقْتَ الْوِلَادَةِ حَتَّى يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرَةُ فِي وَلَدِهَا فَقَالَ الْمَوْلَى: وَلَدْتِيهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ.
فَهُوَ رَقِيقٌ وَقَالَتْ هِيَ: وَلَدْتُهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَةَ تَدَّعِي سِرَايَةَ التَّدْبِيرِ إلَى الْوَلَدِ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ.
فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَيَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ فِعْلَهُ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا إثْبَاتُ التَّدْبِيرِ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ التَّدْبِيرِ عِتْقٌ فَقَالَ الْمَوْلَى لِلْمُعْتَقَةِ: وَلَدْتِيهِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَهُوَ رَقِيقٌ، وَقَالَتْ: بَلْ وَلَدْتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ حُرٌّ يَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِهَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهَا وَإِذَا كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ لِأَنَّهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى فَكَذَا وَلَدُهَا، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ، وَإِنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ اشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا فَالْأُمُّ مُدَبَّرَةٌ وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إنَّمَا صَارَتْ مُدَبَّرَةً بِالشَّرْطِ وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، وَإِنَّهُ مُنْفَصِلٌ فَلَا يَسْرِي إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْأُمِّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُدَبِّرِ فَمِنْهَا عِتْقُ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ كَانَ مُعَلَّقًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ؛ لِأَنَّ عِتْقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ.
إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْمُقَيَّدِ الْمَوْتُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَةٍ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتُ حَقِيقَةً أَمْ حُكْمًا بِالرِّدَّةِ، بِأَنْ ارْتَدَّ الْمَوْلَى عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَعَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ تَجْرِي مَجْرَى الْمَوْتِ فِي زَوَالِ الْأَمْلَاكِ.
وَكَذَا الْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا فِي دَار الْإِسْلَامِ فَدَبَّرَهُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَاسْتُرِقَّ الْحَرْبِيُّ عَتَقَ مُدَبَّرُهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ حُكْمًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَكَذَا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ تَبِعَهَا فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، فَكَذَا فِي حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَمِنْهَا أَنَّ عِتْقَهُ يُحْسَبُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عِتْقَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَحَمَّادٍ وَجَعَلُوهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي الْمَرَضِ، أَوْ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْمُقَيَّدَ فِي حَقِّ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِهِ فِي حَقِّ الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ يُوجَدُ فِي النَّوْعَيْنِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَيُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمَالِ يَوْمَ مَوْتِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الْوَصَايَا هَكَذَا يُعْتَبَرُ، وَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ عِتْقِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ.
هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ فِي قَضَاءِ دُيُونِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَ الْمُدَبَّرِ لِلْمُدَبِّرِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتِقُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَلَا يَنْتَقِلُ هَذَا الْوَلَاءُ عَنْ الْمُدَبَّرِ وَإِنْ عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ كَمُدَبَّرَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا.
ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَعَتَقَ عَلَيْهِ وَغَرِمَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْ الْوَلَدِ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ عِنْدَنَا، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ حَقُّ الْوَلَاءِ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَضَمِنَ عَتَقَ بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ الْوَلَاءُ عَنْ الشَّرِكَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهُ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ، فَالتَّدْبِيرُ يَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِعْتَاقُ الْبَاتُّ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ الْحَقُّ بِالْحَقِيقَةِ وَهُوَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُعْتَبَرُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْحَالِ، وَذَا يَظْهَرُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ فَكَذَا هَذَا، إذْ عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا ادَّعَى الْمَمْلُوكُ التَّدْبِيرَ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ.
قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ وَأَنْكَرَ التَّدْبِيرَ مَعَ الْمَوْلَى لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى التَّدْبِيرِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ وَالْحِجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ إلَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى تَدْبِيرِ الْأَمَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ، فَلَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فِي الصِّحَّة فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَجْهُولٌ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمَرَضِ يُقْبَلُ عِنْدَهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حُرٌّ وَهَذَا مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا.
لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعِي، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حُرٌّ بَعْد مَوْتِي لَا بَلْ هَذَا كَانَا جَمِيعًا مُدَبَّرَيْنِ وَيُعْتَقَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: هَذَا حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي.
فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا، فَلَمَّا قَالَ: لَا بَلْ هَذَا فَقَدْ رَجَعَ عَنْ الْأَوَّلِ وَتَدَارَكَ بِالثَّانِي، وَرُجُوعُهُ لَا يَصِحُّ وَتَدَارُكُهُ صَحِيحٌ، كَمَا إذَا قَالَ لِإِحْدَى امْرَأَتَيْهِ: هَذِهِ طَالِقٌ، لَا بَلْ هَذِهِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حُرٌّ أَلْبَتَّةَ لَا بَلْ هَذَا مُدَبَّرٌ.
جَازَتْ الشَّهَادَةُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ الْأَوَّلَ ثُمَّ رَجَعَ وَتَدَارَكَ بِالثَّانِي فَالرُّجُوعُ لَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ التَّدَارُكُ، فَصَارَ الْأَوَّلُ حُرًّا وَالثَّانِي مُدَبَّرًا، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَبَّرَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَلْبَتَّةَ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِغَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى أَمَّا اللَّفْظُ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْبَاتَّ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِالتَّدْبِيرِ وَاخْتَلَفَا فِي شَرْطِهِ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ.

.كِتَابُ الِاسْتِيلَادِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِيلَادِ لُغَةً وَعُرْفًا، وَفِي بَيَانِ شَرْطِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ.
أَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً فَالِاسْتِيلَادُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ طَلَبُ الْوَلَدِ، كَالِاسْتِيهَابِ وَالِاسْتِئْنَاسِ، أَنَّهُ طَلَبُ الْهِبَةِ وَالْأُنْسِ، وَفِي الْعُرْفِ هُوَ تَصْيِيرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ يُقَالُ: فُلَانٌ اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ إنْ صَيَّرَهَا أُمَّ وَلَدِهِ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَسْتَوِي فِي صَيْرُورَةِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ الْوَلَدُ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وَلَدٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرَ الْمَرْأَةُ بِهِ نُفَسَاءَ، وَكَذَا لَوْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ، وَأَقَرَّ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْحَيِّ الْكَامِلِ الْخَلْقِ فِي تَصْيِيرِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْوِلَادَةِ تَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ هَذَا السَّقْطِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَبَانَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَأَلْقَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ نُطْفَةً فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى، فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ خَلْقُهُ لَا يُسَمَّى وَلَدًا، وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ بِدُونِ الْوَلَدِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَمًا جَامِدًا أَوْ لَحْمًا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ مَعَ الشَّكِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، فِي قَوْلٍ قَالَ: يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ فَإِنْ ذَابَ فَهُوَ دَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَذُبْ فَهُوَ وَلَدٌ، وَفِي قَوْلٍ قَالَ: يُرْجَعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ النِّسَاءِ، وَالْقَوْلَانِ فَاسِدَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: حَمْلُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مِنِّي.
صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ إقْرَارٌ بِالْوَلَدِ، إذْ الْحَمْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَلَدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: حَمْلُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مِنِّي أَوْ قَالَ: هِيَ حُبْلَى مِنِّي أَوْ قَالَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ وَلَدٍ فَهُوَ مِنِّي ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَإِنَّمَا كَانَ رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ الْأَمَةُ، فَإِنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَمْلِهَا وَالْحَمْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَلَدِ وَذَلِكَ يُثْبِتُ لَهَا حُرِّيَّةَ الِاسْتِيلَادِ.
فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَصْدِيقِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْحُرِّيَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ، وَلَوْ قَالَ: مَا فِي بَطْنِهَا مِنِّي وَلَمْ يَقُلْ مِنْ حَمْلٍ أَوْ وَلَدٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: كَانَ رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا فِي بَطْنِهَا يَحْتَمِلُ الْوَلَدَ وَالرِّيحَ فَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ فَلَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ.
وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى: إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي فَأَسْقَطَتْ سِقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلِأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ مِنْهُ هَذَا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إنْ كَانَتْ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي أَيْ إنِّي وَطِئْتُهَا، فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ وَطْءٍ فَهُوَ مِنِّي.
فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ بِوَلَدٍ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَيَقَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا حِينَئِذٍ فَثَبَتَ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى الْوِلَادَةَ، فَشَهِدَتْ عَلَيْهَا امْرَأَةٌ، لَزِمَهُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ أَقَرَّ بِالْحَمْلِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتِهِ عَلَى الْوِلَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فَإِنْ جَاءَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ وُجُودَ هَذَا الْحَمْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِجَوَازِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ بِالشَّكِّ.