فصل: كِتَابُ الْحُدُودِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ، أَمَّا فِي الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ بِالْمُهَايَئَاتِ سَوَاءٌ شَرَطَ الِاسْتِغْلَالَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ تَهَايَئَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ دَارَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَخَذَهُ، فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُهَايَئَاتِ فِي هَذَا النَّوْعِ لَيْسَتْ بِإِعَارَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تُؤَاجَرُ.
(وَأَمَّا) الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسْكِنَ أَوْ يَسْتَخْدِمَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ لابد مِنْ ذِكْرِ الْوَقْتِ مِنْ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُهَايَأَةِ بِالْمَكَانِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةَ السُّكْنَى وَالِاسْتِغْلَالِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْوَقْتِ لِتَصِيرَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً، وَالْمُهَايَئَاتُ بِالْمَكَانِ قِسْمَةُ مَنَافِعَ مَقْدِرَةٍ مَجْمُوعَةٍ بِالْمَكَانِ، وَمَكَانُ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومٌ، فَصَارَتْ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً بِالْعِلْمِ بِمَكَانِهَا، فَجَازَتْ الْمُهَايَأَةُ.
وَأَمَّا الْمُهَايَأَةُ بِالزَّمَانِ فَقِسْمَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِالزَّمَانِ، فَلَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِذِكْرِ زَمَانٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَهَلْ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِغْلَالَ فِي نَوْبَتِهِ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطَا- لَمْ يَمْلِكْ، فَأَمَّا إذَا شَرَطَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمُهَايَأَةِ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ، وَالْعَارِيَّةُ لَا تُؤْجَرُ وَذَكَرَ الْأَصْلُ: أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ عَلَى السُّكْنَى وَالْغَلَّةِ جَائِزَةٌ.
(مِنْهُمْ) مَنْ قَالَ: الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ بِمُهَايَئَاتٍ حَقِيقَةً؛ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ أَضَافَ التَّهَايُؤَ إلَى الْغَلَّةِ دُونَ الِاسْتِغْلَالِ، وَالْغَلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّهَايُؤَ حَقِيقَةً إذْ هِيَ عَيْنٌ، وَالتَّهَايُؤُ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ.
وَالثَّانِي- أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ غَلَّةَ الدَّارِ إذَا وَصَلَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا شَارَكَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمُ جَوَازِ الْمُهَايَئَاتِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُهَايَأَةَ بِالْمَكَانِ فِي الدَّارَيْنِ إذَا تَهَايَئَا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَخْذُهُ، يَسْتَغِلُّهَا فَاسْتَغَلَّهَا فَفَضَلَ مِنْ الْغَلَّةِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، أَنَّ الْفَاضِلَ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولًا عَلَى مَا إذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ هَذَا غَلَّةَ شَهْرٍ وَذَلِكَ غَلَّةَ شَهْرٍ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ مُهَايَأَةً مَجَازًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُهَايَأَةً حَقِيقَةً فِي هَذِهِ الصُّورَةِ- يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ دَلِيلًا عَلَى شَرْطِ جَوَازِ الِاسْتِغْلَالِ، إذْ الْغَلَّةُ يَجُوزُ أَنْ تُذْكَرَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْلَالِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ إرَادَةِ الِاسْتِغْلَالِ هَاهُنَا- وَهُوَ قَرِينَةُ التَّهَايُؤِ- إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ دُونَ الْغَلَّةِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ مَالِهِ، وَكَذَا التَّهَايُؤُ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ مَقْدُورُ التَّهَايُؤِ وَهُوَ فِعْلُ الِاسْتِغْلَالِ دُونَ عَيْنِ الْغَلَّةِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ بِهَا السُّكْنَى الَّذِي هُوَ فِعْلُ السَّاكِنِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَا فَضَلَ مِنْ الْغَلَّةِ فِي يَدِهِ يُشَارِكُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ، مَحْمُولًا عَلَى مَا إذَا تَهَايَئَا بِشَرْطِ الِاسْتِغْلَالِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَلَّةَ شَهْرٍ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الدَّارَيْنِ.
فَعَلَى هَذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْحَاكِمِ وَأَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ- عَلَيْهِمْ الرَّحْمَةُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الْحُدُودِ:

جَمَعَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بَيْنَ مَسَائِلِ الْحُدُودِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ التَّعْزِيرِ، وَبَدَأَ بِمَسَائِلِ الْحُدُودِ، فَبَدَأَ بِمَا بَدَأَ بِهِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّوْفِيقُ: الْكَلَامُ فِي الْحُدُودِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْحَدِّ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ أَسْبَابِ وُجُوبِ الْحُدُودِ وَشَرَائِطِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ وُجُوبُهَا عِنْدَ الْقَاضِي، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِهَا، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَتِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ إقَامَتِهَا وَمَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا اجْتَمَعَتْ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمَحْدُودِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا؛ لِمَنْعِهِ النَّاسَ عَنْ الدُّخُولِ، وَفِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ عُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَاجِبَةٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى- عَزَّ شَأْنُهُ- بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، قَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِمَا، وَبِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُقُوبَةً مُقَدَّرَةً لَكِنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ، سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا وَغَيْرَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيَمْنَعُ مَنْ يُشَاهِدُ ذَلِكَ وَيُعَايِنُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا؛ لِأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ حُلُولَ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ بِنَفْسِهِ؛ لَوْ بَاشَرَ تِلْكَ الْجِنَايَةَ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ أَسْبَابِ وُجُوبِهَا:

وَأَمَّا بَيَانُ أَسْبَابِ وُجُوبِهَا فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ، فَنَقُولُ: الْحُدُودُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: حَدُّ السَّرِقَةِ، وَحَدُّ الزِّنَا، وَحَدُّ الشُّرْبِ، وَحَدُّ السُّكْرِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ.

.حَدُّ السَّرِقَةِ:

(أَمَّا) حَدُّ السَّرِقَةِ: فَسَبَبُ وُجُوبِهِ السَّرِقَةُ، وَسَنَذْكُرُ رُكْنَ السَّرِقَةِ وَشَرَائِطَ الرُّكْنِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ.

.حَدُّ الزِّنَا:

(وَأَمَّا) حَدُّ الزِّنَا فَنَوْعَانِ: جَلْدٌ، وَرَجْمٌ، وَسَبَبُ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الشَّرْطِ، وَهُوَ الْإِحْصَانُ، فَالْإِحْصَانُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْجَلْدِ، فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ الزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، أَمَّا الزِّنَا: فَهُوَ اسْمٌ لِلْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فِي دَارِ الْعَدْلِ، مِمَّنْ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الْعَارِي عَنْ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَعَنْ شُبْهَتِهِ، وَعَنْ حَقِّ الْمِلْكِ وَعَنْ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ وَشُبْهَتِهِ، وَعَنْ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فِي الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ جَمِيعًا.
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا الْبَابِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مُتَكَامِلَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَكَامِلَةً، وَالْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ لَا يَتَكَامَلُ جِنَايَةً؛ إلَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ كُلِّهَا إذَا عُرِفَ الزِّنَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَنُخَرِّجُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ: الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ إذَا وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ، فَلَا يَكُونُ الْوَطْءُ مِنْهُمَا زِنًا، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا طَاوَعَتْهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: عَلَيْهَا الْحَدُّ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، لَهُمَا أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُقُوعِ الْفِعْلِ زِنًا خَصَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ فَيَخْتَصُّ بِهِ الْمَنْعُ، كَالْعَاقِلِ الْبَالِغِ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا؛ لِمَا قُلْنَا.
كَذَا هَذَا.
(وَلَنَا) أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي بَابِ الزِّنَا لَيْسَ لِكَوْنِهَا زَانِيَةً؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهَا وَهُوَ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ، وَتَسْمِيَتُهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ زَانِيَةً مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا؛ لِكَوْنِهَا مَزْنِيًّا بِهَا، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَيْسَ بِزِنًا فَلَا تَكُونُ هِيَ مَزْنِيًّا بِهَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَفِعْلُ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فَكَانَتْ الصَّبِيَّةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ مَزْنِيًّا بِهَا، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا؛ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَيَجِبُ، وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فِي الْأُنْثَى أَوْ الذَّكَرِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا؛ لِعَدَمِ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا، وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْحَدَّ- وَهُوَ الرَّجْمُ- إنْ كَانَ مُحْصَنًا وَالْجَلْدُ إنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ لَا لِأَنَّهُ زِنًا؛ بَلْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا؛ لِمُشَارَكَةِ الزِّنَا فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَدْعِي لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَهُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ عَلَى وَجْهِ التَّمَحُّضِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا، فَوُرُودُ النَّصِّ بِإِيجَابِ الْحَدِّ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هاهنا دَلَالَةً.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللِّوَاطَةُ لَيْسَتْ بِزِنًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّنَا اسْمٌ لِلْوَطْءِ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: لَاطَ وَمَا زَنَى، وَزَنَى وَمَا لَاطَ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ لُوطِيٌّ وَفُلَانٌ زَانِي، فَكَذَا يَخْتَلِفَانِ اسْمًا، وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حَدِّ هَذَا الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا زِنًا- لَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمْ مَعْنًى؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الزِّنَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ بِالنَّصِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا وَلَا فِي مَعْنَى الزِّنَا أَيْضًا؛ لِمَا فِي الزِّنَا مِنْ اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ وَتَضْيِيعِ الْوَلَدِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْفِعْلِ، إنَّمَا فِيهِ تَضْيِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ الَّذِي يُبَاحُ مِثْلُهُ بِالْعَزْلِ، وَكَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْحَدُّ وَهُوَ الزَّجْرُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يَغْلِبُ وُجُودُ هَذَا الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ شَخْصَيْنِ، وَلَا اخْتِيَارَ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ، وَلَا دَاعِي فِي جَانِبِ الْمَحِلِّ أَصْلًا، وَفِي الزِّنَا وُجِدَ الدَّاعِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا- وَهُوَ الشَّهْوَةُ الْمُرَكَّبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا- فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الزِّنَا- فَوُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ لَيْسَ وُرُودًا هَاهُنَا، وَكَذَا اخْتِلَافُ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِهَذَا الْفِعْلِ هُوَ التَّعْزِيرُ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ التَّعْزِيرَ هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الِاخْتِلَافَ فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لَا الْحَدِّ.
وَالثَّانِي- أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِي الْحَدِّ بَلْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ، وَلِلِاجْتِهَادِ مَجَالٌ فِي التَّعْزِيرِ.
وَكَذَا وَطْءُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ؛ لِعَدَمِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ.
وَكَذَا وَطْءُ الْبَهِيمَةِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا؛ لِانْعِدَامِ الْوَطْءِ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْبَهِيمَةُ مِلْكَ الْوَاطِئِ قِيلَ: إنَّهَا تُذْبَحُ وَلَا تُؤْكَلُ، وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- لَكِنْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَحُدَّ وَاطِئَ الْبَهِيمَةِ، وَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ حَتَّى أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ.
وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ عَنْ إكْرَاهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَفِي دَارِ الْبَغْيِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، حَتَّى إنَّ مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ حِينَ وُجُودِهِ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُسْتَوْفَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ أَوْ، ذِمِّيٌّ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا حَدَّ عَلَى الْحَرْبِيِّ وَالْحَرْبِيَّةِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُدَّةَ إقَامَتِهِ فِيهَا فَصَارَ كَالذِّمِّيِّ؛ وَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِقَامَةِ وَالتَّوَطُّنِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ؛ لِيُعَامِلَنَا وَنُعَامِلَهُ، ثُمَّ يَعُودَ فَلَمْ يَكُنْ دُخُولُهُ دَارَ الْإِسْلَامِ دَلَالَةَ الْتِزَامِهِ حَقَّ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خَالِصًا، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْأَمَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ الْتَزَمَ أَمَانَهُمْ عَنْ الْإِيذَاءِ بِنَفْسِهِ وَظَهَرَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ، ثُمَّ يُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يُحَدُّ، وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِلَا خِلَافٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْأَصْلَ فِعْلُ الرَّجُلِ، وَفِعْلُهَا يَقَعُ تَبَعًا فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصْلِ لَا يَجِبْ عَلَى التَّبَعِ كَالْمُطَاوَعَةِ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ حَرَامٌ مَحْضٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ فَكَانَ زِنًا فَكَانَتْ هِيَ مَزْنِيًّا بِهَا، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَنَا، وَهَذَا أَمْرٌ يَخُصُّهُ، وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّهُ بِالذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا إلَّا فِي قَدْرِ مَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا.
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ وَالْمُحْرِمَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَاَلَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ آلَى مِنْهَا؛ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا.
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُحْرِمَةِ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ أَوْ جَمْعٍ؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا وَعُلِمَ بِالْحُرْمَةِ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ عُلِمَ بِالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ شُبْهَةَ الْمِلْكِ- وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ- أَوْ حَقُّ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» فَظَاهِرُ إضَافَةِ مَالِ الِابْنِ إلَى الْأَبِ بِحَرْفِ اللَّامِ يَقْتَضِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، فَلَئِنْ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَتَقَاعَدُ عَلَى إيرَاثِ الشُّبْهَةِ أَوْ حَقِّ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عِنْدَنَا عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَكَانَ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُقْتَضَاهُ حَقِيقَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْمَأْذُونِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ كَمَا فِي جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَبَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ أَقْرَبُ إلَى الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ هُنَاكَ فَهاَهُنَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ- وَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً- فَأَشْبَهَ وَطْئًا حَصَلَ فِي نِكَاحٍ وَهُوَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ، وَذَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَذَا هَذَا.
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَدِّ- أَبَ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا- عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ وَطْءِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَادًا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَبِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ الْغَانِمِينَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ قَبْلَهُ- لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ وَطْأَهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ لِثُبُوتِ الْحَقِّ لَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ؛ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الثُّبُوتِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً، وَلَوْ جَاءَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ فِي الْمَحِلِّ، أَمَّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، بَلْ الْمَوْجُودُ حَقٌّ عَامٌّ، وَأَنَّهُ يَكْفِي لِسُقُوطِ الْحَدِّ وَلَا يَكْفِي لِثُبُوتِ النَّسَبِ.
وَكَذَلِكَ وَطْءُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ عِنْدَ مَنْ لَا يُجِيزُهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ النِّكَاحُ بِدُونِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ، فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا، أَوْ الْعَبْدُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِوُجُودِ لَفْظِ النِّكَاحِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ شُبْهَةً.
وَكَذَلِكَ إذَا نَكَحَ مَحَارِمَهُ أَوْ الْخَامِسَةَ أَوْ أُخْتَ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا- لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا وُجِدَ مِنْ الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ- يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّحْرِيمُ مُخْتَلَفًا فِيهِ أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ ظَنَّ الْحِلَّ فَادَّعَى الِاشْتِبَاهَ أَوْ عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ كَانَ تَحْرِيمُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ كَانَ تَحْرِيمُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا نِكَاحٌ أُضِيفَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُو، وَدَلِيلُ عَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّ مَحِلَّ النِّكَاحِ هِيَ الْمَرْأَةُ الْمُحَلَّلَةُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَالْمَحَارِمُ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الْآيَةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ، وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ.
لِي سَقَطَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ صِيغَةَ لَفْظِ النِّكَاحِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ دَلِيلُ الْحِلِّ فَاعْتُبِرَ هَذَا الظَّنُّ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا حَقِيقَةً إسْقَاطًا لِمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ خَلَا الْوَطْءَ عَنْ الشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْحَدُّ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُودِ لَفْظِ النِّكَاحِ وَالْأَهْلِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمَحَلِّيَّةِ- أَنَّ مَحِلَّ النِّكَاحِ هُوَ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا النُّصُوصُ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا}، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النِّسَاءَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ مَحِلَّ النِّكَاحِ وَالزَّوْجِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ؛ فَلِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَحِلٌّ صَالِحٌ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ السُّكْنَى وَالْوَلَدِ وَالتَّحْصِينِ وَغَيْرِهَا، فَكَانَتْ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَسِيلَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّصَرُّفِ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ مَحِلَّ الْمَقْصُودِ مَحِلَّ الْوَسِيلَةِ لَمْ يَثْبُتْ مَعْنَى التَّوَسُّلِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ شَرْعًا مَعَ قِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ حَقِيقَةً، فَقِيَامُ صُورَةِ الْعَقْدِ وَالْمَحَلِّيَّةِ يُورِثُ شُبْهَةً، إذْ الشُّبْهَةُ اسْمٌ لِمَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، أَوْ نَقُولُ: وُجِدَ رُكْنُ النِّكَاحِ وَالْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، إلَّا أَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَكَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا، وَالْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَكُونُ زِنًا بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّلَ فَيُقَالُ: هَذَا الْوَطْءُ لَيْسَ بِزِنًا.
فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ.
وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ فَإِنْ ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ بِأَنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ تَحِلُّ لِي.
لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ- يَجِبُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَأَنَّهَا تُعْتَبَرُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ: فِي جَارِيَةِ الْأَبِ وَجَارِيَةِ الْأُمِّ وَجَارِيَةِ الْمَنْكُوحَةِ وَجَارِيَةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا- مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ- وَأُمِّ الْوَلَدِ- مَا دَامَتْ تَعْتَدُّ مِنْهُ- وَالْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ وَالْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ، فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ، أَمَّا إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ؛ فَلِأَنَّ الرَّجُلَ يَنْبَسِطُ فِي مَالِ أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ عَادَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَخْدِمُ جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ وَمَنْكُوحَتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ مُطْلَقٌ لَهُ شَرْعًا أَيْضًا، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ دَلِيلًا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ؛ لِإِسْقَاطِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ فَقَدْ عَرَّى الْوَطْءَ عَنْ الشُّبْهَةِ فَتَمَحَّضَ حَرَامًا- فَيَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ سَوَاءٌ ادَّعَى بِالِاشْتِبَاهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ مَعْنًى فِي الْمَحِلِّ وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الظَّنَّ وَلَمْ يَدَّعِ الْآخَرُ- لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يُقِرَّا جَمِيعًا أَنَّهُمَا قَدْ عَلِمَا بِالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا فَإِذَا تَمَكَّنَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ؛ فَقَدْ تَمَكَّنَتْ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ضَرُورَةً.
وَأَمَّا مَنْ سِوَى الْأَبِ وَالْأُمِّ مِنْ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَنَحْوِهِمَا إذَا وَطِئَ جَارِيَتَهُ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الِاشْتِبَاهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَسِطُ بِالِانْتِفَاعِ بِمَالِ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا ظَنًّا مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ.
، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ امْرَأَتِهِ؛ لِمَا قُلْنَا، أَمَّا إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ؛ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْحِلِّ أَصْلًا؛ لِوُجُودِ الْمُبْطِلِ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ وَالْحُرْمَةِ عَلَى الْأَزْوَاجِ فَقَطْ فَتَمَحَّضَ الْوَطْءُ حَرَامًا فَكَانَ زِنًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ؛ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وَظَنَّ الْحِلَّ؛ لِأَنَّهُ بَنَى ظَنَّهُ عَلَى نَوْعِ دَلِيلٍ وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ وَحُرْمَةِ الْأَزْوَاجِ فَظَنَّ أَنَّهُ بَقِيَ فِي حَقِّ الْحِلِّ أَيْضًا، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ دَلِيلًا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ دَرْأٌ لِمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً- لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتَ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْإِبَانَةِ وَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ؛ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ مِثْلَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي الْكِنَايَاتِ: إنَّهَا رَوَاجِعُ، وَطَلَاقُ الرَّجْعِيِّ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً.
وَلَوْ خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الشُّبْهَةُ فَيَجِبُ الْحَدُّ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ تَعْتَدُّ مِنْهُ بِأَنْ أَعْتَقَهَا؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْإِعْتَاقِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنْبَسِطُ فِي مَالِ مَوْلَاهُ عَادَةً بِالِانْتِفَاعِ فَكَانَ وَطْؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ فَاعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ؛ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ يُحَدُّ؛ لِعَرَاءِ الْوَطْءِ عَنْ الشُّبْهَةِ.
وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ، (فَوَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ؛ فَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا الدَّيْنَ مِنْ الْجَارِيَةِ يَدًا، فَقَدْ وَطِئَ جَارِيَةً هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ يَدًا؛ فَلَا يَجِبُ، الْحَدُّ، كَالْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ إذَا وَطِئَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ ظَنُّهُ إلَى نَوْعِ دَلِيلٍ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ دَرْأٌ لِلْحَدِّ، وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ فَلَا شُبْهَةَ- فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ فِي بَابِ الرَّهْنِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا مِنْ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْجِنْسِ وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ التَّوْثِيقِ وَبَيْنَ عَيْنِ الْجَارِيَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ عَيْنِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ.
وَلَوْ وَطِئَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ- لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الَّتِي تَزَوَّجَ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَإِنْ زَالَ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَمِلْكُ الْيَدِ قَائِمٌ فَيُورِثُ شُبْهَةً.
وَلَوْ وَطِئَ الْمُسْتَأْجِرُ جَارِيَةَ الْإِجَارَةِ، وَالْمُسْتَعِيرُ جَارِيَةَ الْإِعَارَةِ، وَالْمُسْتَوْدِعُ جَارِيَةَ الْوَدِيعَةِ يُحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ عُرِّيَ عَنْ دَلِيلٍ فَكَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ.
وَلَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ، وَقُلْنَ النِّسَاءُ: إنَّ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَوَطِئَهَا- لَا حَدَّ عَلَيْهِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ؛ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٌ، فَإِنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَوْ كَانَ امْتِنَاعُ الْوُجُوبِ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ فِي شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ كَمَا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ، وَهَاهُنَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، دَلَّ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لَيْسَ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ.
وَهُوَ إنْ وَطِئَهَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ- يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ، بَلْ لَا دَلِيلَ هاهنا سِوَاهُ فَلَئِنْ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَقِيَامُ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ يُورِثُ شُبْهَةً، وَلَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا امْرَأَتِي أَوْ جَارِيَتِي أَوْ شَبَّهْتُهَا بِامْرَأَتِي أَوْ جَارِيَتِي- يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إلَى دَلِيلٍ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ، مَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ بِدَلِيلٍ، إمَّا بِكَلَامِهَا أَوْ بِإِخْبَارِ مُخْبِرٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، مَعَ مَا أَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الظَّنَّ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ لَمْ يَقُمْ حَدُّ الزِّنَا فِي مَوْضِعٍ مَا، إذْ الزَّانِي لَا يَعْجِزُ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ فَيُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ قَالَ: لَوْ قِيلَ هَذَا لَمَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّجُلُ أَعْمَى فَوَجَدَ امْرَأَةً فِي بَيْتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَقَالَ: ظَنَنْتهَا امْرَأَتِي عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى دَلِيلٍ، إذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ مَنْ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ؛ فَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ فَلَمْ تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَعْمَى دَعَا امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ، فَأَجَابَتْ غَيْرُهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا؛ أَنَّهُ يُحَدُّ، وَلَوْ أَجَابَتْهُ غَيْرُهَا وَقَالَتْ: أَنَا فُلَانَةُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا- لَمْ يُحَدَّ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَهِيَ كَالْمَرْأَةِ الْمَزْفُوفَةِ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِنَفْسِ الْإِجَابَةِ مَا لَمْ تَقُلْ أَنَا فُلَانَةُ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ الَّتِي نَادَاهَا، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ عَلَى نَفْسِ الْإِجَابَةِ، فَإِذَا فَعَلَ لَمْ يُعَذَّرْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ: أَنَا فُلَانَةُ فَوَطِئَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْأَعْمَى إلَى أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَكَانَ مَعْذُورًا فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ الْمَزْفُوفَةَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّجُلُ بَصِيرًا لَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ بِالرُّؤْيَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ فِي رَجُلٍ أَعْمَى وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ مَجْلِسِهِ امْرَأَةً نَائِمَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا امْرَأَتِي؛ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُدْرَأُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ظَنَّ فِي مَوْضِعِ الظَّنِّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ، فَكَانَ ظَنُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ؛ فَيُوجِبُ دَرْأَ الْحَدِّ، كَمَا لَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّوْمَ عَلَى الْفِرَاشِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْلَالُ الْوَطْءِ بِهَذَا الْقَدْرِ، فَإِذَا اسْتَحَلَّ وَظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ- لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ): الْإِحْصَانُ:

وَأَمَّا الْإِحْصَانُ، فَالْإِحْصَانُ نَوْعَانِ: إحْصَانُ الرَّجْمِ، وَإِحْصَانُ الْقَذْفِ أَمَّا إحْصَانُ الرَّجْمِ فَهُوَ عِبَارَةٌ- فِي الشَّرْعِ- عَنْ اجْتِمَاعِ صِفَاتٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَكَوْنُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَوُجُودُ هَذِهِ الصِّفَاتِ جَمِيعًا فِيهِمَا شَرْطٌ؛ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْصَنًا، وَالدُّخُولُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ بَعْدَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا، فَإِنْ تَقَدَّمَهَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَا لَمْ يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَهَا، فَلَا إحْصَانَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ، وَلَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلَا بِنَفْسِ النِّكَاحِ مَا لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ.
وَمَا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجَانِ جَمِيعًا وَقْتَ الدُّخُولِ عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ، حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ إذَا دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ، وَهِيَ صَبِيَّةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ أَوْ أَمَةٌ أَوْ كِتَابِيَّةٌ، ثُمَّ أَدْرَكَتْ الصَّبِيَّةُ وَأَفَاقَتْ الْمَجْنُونَةُ وَأُعْتِقَتْ الْأَمَةُ وَأَسْلَمَتْ الْكَافِرَةُ؛ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا مَا لَمْ يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، حَتَّى لَوْ زَنَى قَبْلَ دُخُولٍ آخَرَ- لَا يُرْجَمُ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ صَارَ الشَّخْصُ مُحْصَنًا؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْحِصْنِ، يُقَالُ: أَحْصَنَ، أَيْ دَخَلَ الْحِصْنَ، كَمَا يُقَالُ: أَعْرَقَ أَيْ دَخَلَ الْعِرَاقَ، وَأَشْأَمَ أَيْ دَخَلَ الشَّامَ، وَأَحْصَنَ أَيْ دَخَلَ فِي الْحِصْنِ، وَمَعْنَاهُ دَخَلَ حِصْنًا عَنْ الزِّنَا إذَا دَخَلَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ دَاخِلًا فِي الْحِصْنِ عَنْ الزِّنَا عِنْدَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَانِعٌ عَنْ الزِّنَا، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهَا تَتَوَفَّرُ الْمَوَانِعُ.
أَمَّا الْعَقْلُ؛ فَلِأَنَّ لِلزِّنَا عَاقِبَةً ذَمِيمَةً، وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ عَنْ ارْتِكَابِ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ ذَمِيمَةٌ.
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَإِنَّ الصَّبِيَّ؛ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَلِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَقِفُ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَلَا يَعْرِفُ الْحَمِيدَةَ مِنْهَا وَالذَّمِيمَةَ.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ؛ فَلِأَنَّ الْحُرَّ يَسْتَنْكِفُ عَنْ الزِّنَا وَكَذَا الْحُرَّةُ؛ وَلِهَذَا «لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ الْمُبَايَعَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَبَلَغَ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزْنِينَ} قَالَتْ هِنْدُ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟» وَأَمَّا الْإِسْلَامُ؛ فَلِأَنَّهُ نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ مُوجِبَةٌ لِلشُّكْرِ فَيَمْنَعُ مِنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ وَضْعُ الْكُفْرِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا؛ فَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهَا فِيهِمَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ حَالِهِمَا، وَذَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ بِالصَّبِيَّةِ وَالْمَجْنُونَةِ قَاصِرٌ، وَكَذَا بِالرَّقِيقِ؛ لِكَوْنِ الرِّقِّ مِنْ نَتَائِجِ الْكُفْرِ فَيَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ، وَكَذَا بِالْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْكَافِرَةِ.
وَلِهَذَا «قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ» وَأَمَّا الدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ فَلِأَنَّهُ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بِطَرِيقٍ حَلَالٍ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْحَرَامِ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ فَلَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ.
وَأَمَّا كَوْنُ الدُّخُولِ آخِرَ الشَّرَائِطِ؛ فَلِأَنَّ الدُّخُولَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ لَا يَقَعُ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، فَلَا تَقَعُ الْغُنْيَةُ بِهِ عَنْ الْحَرَامِ عَلَى التَّمَامِ، وَبَعْدَ اسْتِيفَائِهَا تَقَعُ بِهِ الْغُنْيَةُ عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَوَانِعُ عَنْ الزِّنَا فَيَحْصُلُ بِهَا مَعْنَى الْإِحْصَانِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْحِصْنِ عَنْ الزِّنَا، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ حَتَّى لَا يَصِيرَ الْمُسْلِمُ مُحْصَنًا بِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالدُّخُولِ بِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْحُرُّ الثَّيِّبُ إذَا زَنَى لَا يُرْجَمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ يُجْلَدُ، وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ الْمُسْلِمُ مُحْصَنًا بِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَيُرْجَمُ الذِّمِّيُّ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ» وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا لَمَا رَجَمَ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ لِلزَّجْرِ عَنْ الزِّنَا، وَالدِّينُ الْمُطْلَقُ يَصْلُحُ لِلزَّجْرِ عَنْ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا.
(وَلَنَا) فِي زِنَا الذِّمِّيِّ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجَلْدَ عَلَى كُلِّ زَانٍ وَزَانِيَةٍ، أَوْ عَلَى مُطْلَقِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَمَتَى وَجَبَ الْجَلْدُ انْتَفَى وُجُوبُ الرَّجْمِ ضَرُورَةً؛ وَلِأَنَّ زِنَا الْكَافِرِ لَا يُسَاوِي زِنَا الْمُسْلِمِ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً، فَلَا يُسَاوِيهِ فِي اسْتِدْعَاءِ الْعُقُوبَةِ كَزِنَا الْبِكْرِ مَعَ زِنَا الثَّيِّبِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ زِنَا الْمُسْلِمِ اُخْتُصَّ بِمَزِيدِ قُبْحٍ انْتَفَى، ذَلِكَ فِي زِنَا الْكَافِرِ وَهُوَ كَوْنُ زِنَاهُ وَضْعَ الْكُفْرَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ؛ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ نِعْمَةٌ وَدِينَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ، وَفِي زِنَا الْمُسْلِمِ بِالْكِتَابِيَّةِ «قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَالذِّمِّيُّ مُشْرِكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بِالْكَافِرَةِ قُصُورًا، فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى النِّعْمَةِ فَلَا يَتَكَامَلُ الزَّاجِرُ، وَقَوْلُهُ الزَّجْرُ يَحْصُلُ بِأَصْلِ الدِّينِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّهُ لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ فَيَكُونُ الزِّنَا- مِنْ الْمُسْلِمِ- وَضْعَ الْكُفْرَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ، وَدِينُ الْكُفْرِ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ؛ فَلَا يَكُونُ فِي كَوْنِهِ زَاجِرًا مِثْلُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجَلْدِ؛ فَانْتَسَخَ بِهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِهَا، وَنَسْخُ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَهْوَنُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَإِحْصَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّانِيَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى أَحَدِهِمَا، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُحْصَنٍ، فَالْمُحْصَنُ مِنْهُمَا يُرْجَمُ، وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ يُجْلَدُ، ثُمَّ إذَا ظَهَرَ إحْصَانُ الزَّانِي بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ يُرْجَمُ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ، وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ».
وَرُوِيَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وَكَانَ مُحْصَنًا».
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمُحْصَنَ إذَا تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَانِعُ مِنْ الزِّنَا، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مَعَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ- صَارَ زِنَاهُ غَايَةً فِي الْقُبْحِ، فَيُجَازَى بِمَا هُوَ غَايَةٌ فِي الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهُوَ الرَّجْمُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَوَعَّدَ نِسَاءَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ إذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ؛ لِعِظَمِ جِنَايَتِهِنَّ؛ لِحُصُولِهَا مَعَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ فِيهِنَّ؛ لِعِظَمِ نِعَمِ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَيْهِنَّ؛ لِنَيْلِهِنَّ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُضَاجَعَتَهُ، فَكَانَتْ جِنَايَتُهُنَّ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ غَايَةً فِي الْقُبْحِ، فَأُوعِدْنَ بِالْغَايَةِ مِنْ الْجَزَاءِ.
كَذَا هَاهُنَا، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ».
(وَلَنَا) «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ»، وَلَوْ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَجَمَعَ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يُوجِبُ إلَّا عُقُوبَةً وَاحِدَةً، وَالْجَلْدُ وَالرَّجْمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ عَلَى حِدَةٍ، فَلَا يَجِبَانِ لِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، لَكِنْ فِي حَالَيْنِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ، وَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ لَا يُرْجَمُ بَلْ يُجْلَدُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الزِّنَا هُوَ الْجَلْدُ بِآيَةِ الْجَلْدِ؛ وَلِأَنَّ زِنَا غَيْرَ الْمُحْصَنِ لَا يَبْلُغُ غَايَةً فِي الْقُبْحِ فَلَا تَبْلُغُ عُقُوبَتُهُ النِّهَايَةَ، فَيُكْتَفَى بِالْجَلْدِ وَهَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُجْمَعُ إلَّا إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ فَيَجْمَعُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ وَغَرَّبَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِجَلْدِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّغْرِيبَ، فَمَنْ أَوْجَبَهُ فَقَدْ زَادَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ نَسْخٌ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالثَّانِي- أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْجَلْدَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِزَاءِ- وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ- فَلَوْ أَوْجَبْنَا التَّغْرِيبَ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِالْجَلْدِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ لِأَنَّ التَّغْرِيبَ تَعْرِيضٌ لِلْمُغَرَّبِ عَلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي بَلَدِهِ يَمْتَنِعُ عَنْ الْعَشَائِرِ وَالْمَعَارِفِ حَيَاءً مِنْهُمْ، وَبِالتَّغْرِيبِ يَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى فَيُعَرَّى الدَّاعِي عَنْ الْمَوَانِعِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَالزِّنَا قَبِيحٌ فَمَا أَفْضَى إلَيْهِ مِثْلُهُ، وَفِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مَصْلَحَةً عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَفَى رَجُلًا فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَقَالَ: لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَبَدًا.
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً فَدَلَّ أَنَّ فِعْلَهُمْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفِيَ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي التَّغْرِيبِ، وَيَكُونُ النَّفْيُ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَأَمَّا إحْصَانُ الْقَذْفِ فَنَذْكُرُهُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.