فصل: فَصْلٌ: فِي الْإِحْرَامِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْحَجِّ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِهِ فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ كَمَا هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ، فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْحَجِّ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا، فَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، فَيَجُوزُ حَجُّ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَالْعَبْدِ الْكَبِيرِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَمِنْهَا الْإِحْرَامُ عِنْدَنَا.

.فَصْلٌ: فِي الْإِحْرَامِ:

وَالْكَلَامُ فِي الْإِحْرَامِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، وَفِي بَيَانِ زَمَانِ الْإِحْرَامِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُحْرِمُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ، وَمَا لَا يَحْظُرُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ مِنْهُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِحْرَامُ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رُكْنٌ، وَعَنَى بِهِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَحْرِيمِهِ الصَّلَاةَ، وَيَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيَانَ زَمَانِ الْإِحْرَامِ أَنَّهُ جَمِيعُ السَّنَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ حَتَّى يَجُوزَ الْإِحْرَامُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَنَا، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ رَأْسًا، وَيَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ لَا لِلْحَجَّةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا يَنْعَقِدُ لِلْحَجَّةِ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: أَنَّ الْإِحْرَامَ لَمَّا كَانَ شَرْطًا لِجَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَنَا جَازَ وُجُودُهُ قَبْلَ هُجُومِ وَقْتِ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ، كَمَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَ رُكْنًا عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ سَابِقًا عَلَى وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ أَفْعَالِ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَنَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً.
أَمَّا الْبِنَاءُ فَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يُؤْمَرُ بِإِتْمَامِهِ.
وَكَذَا الْمُحْرِمُ لِلصَّلَاةِ يُؤْمَرُ بِإِتْمَامِهَا لَا بِالِابْتِدَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِحْرَامُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ لَأَمَرَ بِالِابْتِدَاءِ لَا بِالْإِتْمَامِ فَدَلَّ أَنَّهُ رُكْنٌ فِي نَفْسِهِ، وَشَرْطٌ لِجَوَازِ أَدَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ مَا يَأْخُذُ الِاسْمَ مِنْهُ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالْإِمْسَاكِ فِي بَابِ الصَّوْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً، كَالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَشَرْطُهُ: مَا يَأْخُذُ الِاعْتِبَارَ مِنْهُ، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَجُّ يَأْخُذُ الِاسْمَ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا مِنْ الْإِحْرَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا}، وَحِجُّ الْبَيْتِ: هُوَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» أَيْ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَلَمْ يُطْلِقْ اسْمَ الْحَجِّ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا بِهِ اعْتِبَارُ الرُّكْنَيْنِ، فَكَانَ شَرْطًا لَا رُكْنًا، وَلِهَذَا جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ شَرْطًا لِأَدَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِتْمَامِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ مَمْنُوعٌ، بَلْ لَا يُؤْمَرُ بِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ.
وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ؛ إذْ الْحَجُّ نَفْسُهُ لَا يَكُونُ أَشْهُرًا؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ، وَالْأَشْهُرُ أَزْمِنَةٌ فَقَدْ عَيَّنَ اللَّهُ أَشْهُرًا مَعْلُومَةً وَقْتًا لِلْحَجِّ، وَالْحَجُّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِجُمْلَةٍ مِنْ الْأَفْعَالِ مَعَ شَرَائِطِهَا: مِنْهَا الْإِحْرَامُ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ظَاهِرُ الْآيَةِ: يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْأَشْهُرُ كُلُّهَا وَقْتًا لِلْحَجِّ فَيَقْتَضِي جَوَازَ الْإِحْرَامِ بِأَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا تَعْيِينَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ لِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَيُعْمَلُ بِالنَّصَّيْنِ، فَيُحْمَلُ مَا تَلَوْنَا عَلَى الْإِحْرَامِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ، وَيُحْمَلُ مَا تَلَوْتُمْ عَلَى نَفْسِ الْأَعْمَالِ عَمَلًا بِالنَّصِّ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، ثُمَّ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ مِنْ غَيْرِ مَكَانِ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ لَا يُحْرَمَ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَمُخَالِفَةُ السُّنَّةِ مَكْرُوهَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ أَمْ لِغَيْرِهِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، بَلْ لِمَخَافَةِ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَمِنَ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَرَاهَةَ لِنَفْسِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْأَشْهُرِ، وَيَجُوزُ إحْرَامُهُ وَهُوَ لَابِسٌ أَوْ جَالِسٌ فِي خَلُوقٍ أَوْ طِيبٍ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِنَفْسِ الْوَقْتِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا نَوَى، وَقَرَنَ النِّيَّةَ بِقَوْلٍ وَفِعْلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ أَوْ دَلَائِلِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِأَنْ لَبَّى نَاوِيًا بِهِ الْحَجَّ إنْ أَرَادَ بِهِ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، إنْ أَرَادَ الْإِفْرَادَ بِالْعُمْرَةِ، أَوْ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، إنْ أَرَادَ الْقِرَانَ؛ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، وَسَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَى بِقَلْبِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ لَا عَمَلُ اللِّسَانِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَى بِقَلْبِهِ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ كَذَا فَيَسِّرْهُ لِي، وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَذَكَرْنَا التَّلْبِيَةَ الْمَسْنُونَةَ، وَلَوْ ذَكَرَ مَكَانَ التَّلْبِيَةِ التَّهْلِيلَ أَوْ التَّسْبِيحَ أَوْ التَّحْمِيدَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا.
وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ ذِكْرٍ هُوَ ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ لَا غَيْرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَاهُنَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا بِلَفْظِ التَّلْبِيَةِ كَمَا لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ فَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ مَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الذِّكْرَ الْمَوْضُوعَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظٍ دُونَ لَفْظٍ فَفِي بَابِ الْحَجِّ أَوْلَى، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي يُوسُفَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ لَا يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ، وَبَعْضُ الْأَفْعَالِ يَقُومُ مَقَامَ الْبَعْضِ كَالْهَدْيِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ كَثِيرٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ فِي الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْحَجِّ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَهُمَا مَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا، وَمُحَمَّدٌ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى لَوْ تَوَجَّهَ يُرِيدُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَبَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ.
وَقَدْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى لَوْ عَجَزَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا فَأَهَلُّوا عَنْهُ جَازَ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْهَا بِنَفْسِهِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ، حَتَّى لَوْ طِيفَ بِهِ وَسُعِيَ وَوُقِفَ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى}، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّعْيُ فِي التَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ فِعْلَهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِعْلًا لَهُ تَقْدِيرًا بِأَمْرِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ هُنَاكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ الشَّرْطُ حُصُولُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ حَصَلَ، وَالشَّرْطُ هاهنا هُوَ التَّلْبِيَةُ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ لَا يَصِيرُ قَوْلًا لَهُ إلَّا بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَمْرَ هاهنا مَوْجُودٌ دَلَالَةً، وَهِيَ دَلَالَةُ عَقْدِ الْمُرَافَقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ رُفَقَائِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى الْكَعْبَةِ يَكُونُ آذِنًا لِلْآخَرِ بِإِعَانَتِهِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَكَانَ الْأَمْرُ مَوْجُودًا دَلَالَةً.
وَسَعْيُ الْإِنْسَانِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ سَعْيًا لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَقُلْنَا بِمُوجَبِ الْآيَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ قَلَّدَ بَدَنَةً يُرِيدُ بِهِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ أَوْ بِهِمَا، وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يَصِيرُ مُحْرِمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، وَالْحِلُّ يَكُونُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِحْرَامَ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا الْقَلَائِدَ} فَدَلَّ أَنَّ التَّقْلِيدَ مِنْهُمْ مَعَ التَّوَجُّهِ كَانَ إحْرَامًا إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا قَلَّدَ فَقَدْ أَحْرَمَ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَلَّدَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَلِأَنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ التَّوَجُّهِ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، فَالنِّيَّةُ اقْتَرَنَتْ بِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَأَشْبَهَ التَّلْبِيَةَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحْرِمُ إلَّا مَنْ أَهَلَّ، وَلَبَّى فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَلَّدَ وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ، وَيُقِيمُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ»، وَالتَّقْلِيدُ هُوَ تَعْلِيقُ الْقِلَادَةِ عَلَى عُنُقِ الْبَدَنَةِ مِنْ عُرْوَةٍ مُزَادَةٍ أَوْ شِرَاكِ نَعْلٍ مِنْ أُدْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجُلُودِ، وَإِنْ قَلَّدَ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ وَلَمْ يَبْعَثْ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا، وَإِنْ بَعَثَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوْجِيهِ مِنْ غَيْرِ تَوَجُّهٍ، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «إنِّي كُنْتُ لَأَفْتِلُ قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْعَثُهَا وَيَمْكُثُ عِنْدَنَا حَلَالًا بِالْمَدِينَةِ، لَا يَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ»، وَلِأَنَّ التَّوْجِيهَ مِنْ غَيْرِ تَوَجُّهٍ لَيْسَ إلَّا أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، كَمَا لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَلَوْ تَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا قَلَّدَ، وَبَعَثَ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يَلْحَقْهَا، وَيَتَوَجَّهُ مَعَهَا فَإِذَا لَحِقَهَا، وَتَوَجَّهَ مَعَهَا، عِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُحْرِمًا، ثُمَّ أَيْضًا مَا لَمْ يَلْحَقْ وَيَتَوَجَّهْ مَعَهُ؛ لِأَنَّ السَّيْرَ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْبَدَنَةِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، وَلَا دَلِيلَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِحْرَامَ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ، وَاسْتَحْسَنَّا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ لِمَا أَنَّ لِلْهَدْيِ فَضْلَ تَأْثِيرٍ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَسُقْ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ فَضْلُ تَأْثِيرٍ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الِابْتِدَاءِ.
وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ فِي أَثَرِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ الْهَدْيَ إذَا كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَ الْهَدْيَ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ التَّمَتُّعِ لَا تَثْبُتُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَا يَصِيرُ هَذَا الْهَدْيُ لِلْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَكَانَ هَدْيَ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ جَلَّلَ الْبَدَنَةَ وَنَوَى الْحَجَّ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَإِنْ تَوَجَّهَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ عَنْ الْبَدَنَةِ أَوْ لِلتَّزْيِينِ، وَلَوْ قَلَّدَ الشَّاةَ يَنْوِي بِهِ الْحَجَّ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَإِنْ نَوَى الْإِحْرَامَ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْغَنَمِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَنَا فَلَمْ يَكُنْ مِنْ دَلَائِلِ الْإِحْرَامِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} عَطَفَ الْقَلَائِدَ عَلَى الْهَدْيِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الْأَصْلِ.
وَاسْمُ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ جَمِيعًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ نَوْعَانِ: مَا يُقَلَّدُ، وَمَا لَا يُقَلَّدُ، ثُمَّ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ يُقَلَّدَانِ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ، لِيَكُونَ عَطْفُ الْقَلَائِدِ عَلَى الْهَدْيِ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَصِحُّ، وَلَوْ أَشْعَرَ بَدَنَتَهُ، وَتَوَجَّهَ مَعَهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَإِيلَامُ الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِكَوْنِ الْمُشْعِرِ هَدْيًا لِئَلَّا يُتَعَرَّضَ لَهُ لَوْ ضَلَّ، وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَشْعَرَ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا كَالتَّقْلِيدِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ كَالتَّقْلِيدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عِنْدَهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَهُمَا، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فَلَمْ يَكُنْ قُرْبَةً، فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْإِشْعَارَ عِنْدَهُمَا حَسَنٌ، وَلَمْ يُسَمِّهِ سُنَّةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إكْمَالٌ لِمَا شُرِعَ لَهُ التَّقْلِيدُ، وَهُوَ إعْلَامُ الْمُقَلِّدِ بِأَنَّهُ هَدْيٌ لِمَا أَنَّ تَمَامَ الْإِعْلَامِ تَحْصُلُ بِهِ سُنَّةٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُثْلَةٌ وَبِدْعَةٌ فَتَرَدَّدَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَسَمَّاهُ حَسَنًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْإِشْعَارُ سُنَّةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْعَرَ»، وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتْ الْمَثُلَةُ مَشْرُوعَةً، ثُمَّ لَمَّا نُهِيَ عَنْ الْمَثُلَةِ انْتَسَخَ بِنَسْخِ الْمَثُلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ قَطْعًا لِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْهَدَايَا لَوْ ضَلَّتْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَا يَتَعَرَّضُونَ لِلْهَدَايَا.
وَالتَّقْلِيدُ مَا كَانَ يَدُلُّ دَلَالَةً تَامَّةً أَنَّهَا هَدْيٌ، فَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْعَارِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا هَدْيٌ.
وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فِي زَمَانِنَا فَانْتَسَخَ بِانْتِسَاخِ الْمَثُلَةِ، ثُمَّ الْإِشْعَارُ هُوَ الطَّعْنُ فِي أَسْفَلِ السَّنَامِ، وَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ مِنْ قِبَلِ الرُّءُوسِ، وَكَانَ يَضْرِبُ أَوَّلًا الَّذِي عَنْ يَسَارِهِ مِنْ قِبَلِ يَسَارِ سَنَامِهِ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَى الْآخَرِ فَيَضْرِبُهُ مِنْ قِبَلِ يَمِينِهِ اتِّفَاقًا لِلْأَوَّلِ لَا قَصْدًا» فَصَارَ الطَّعْنُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أَصْلِيًّا، وَالْآخَرُ اتِّفَاقِيًّا، بَلْ الِاعْتِبَارُ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ أَوْ دَلَائِلِهِ، ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: إنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّةَ الْإِحْرَامِ إحْرَامًا، وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ بَلْ هِيَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهَا عَزْمٌ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلٍ لَيْسَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَهُوَ أَنْ تَعْقِدَ قَلْبَكَ عَلَيْهِ أَنَّكَ فَاعِلُهُ لَا مَحَالَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أَيْ: جَدَّ الْأَمْرُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْأُمُورِ عَوَازِمُهَا» أَيْ مَا وَكَّدْتَ رَأْيَكَ عَلَيْهِ، وَقَطَعْتَ التَّرَدُّدَ عَنْهُ، وَكَوْنُهُ رُكْنًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَكَانَ تَنَاقُضًا، ثُمَّ جَعْلُ الْإِحْرَامِ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ النِّيَّةِ مُخَالِفٌ لِلُّغَةِ، فَإِنَّ الْإِحْرَامَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِهْلَالُ، يُقَالُ: أَحْرَمَ أَيْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا، أَيْ الْإِهْلَالُ لابد مِنْهُ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِهْلَالَ شَرْطٌ مَا رُوِيَ: «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ رَآهَا حَزِينَةً مَا لَكِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا قَضَيْتُ عُمْرَتِي، وَأَلْقَانِي الْحَجُّ عَارِكًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنَاتِ آدَمَ حُجِّي وَقُولِي مِثْلَ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي حَجِّهِمْ» فَدَلَّ قَوْلُهُ قُولِي مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي حَجِّهِمْ عَلَى لُزُومِ التَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَهَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا حَيْثُ أَمَرَهَا بِاتِّبَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُولِي مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي حَجِّهِمْ، وَرَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحْرِمُ إلَّا مَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهَا خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَفْعَلُوا».
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ وُضِعَتْ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْفِعْلِ فِي الْعِبَادَةِ، وَتَعْيِينُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوَقْتَ يَقْبَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، فلابد مِنْ التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ هُنَاكَ لَا يَقْبَلُ صَوْمًا آخَرَ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ حَجَّةَ التَّطَوُّعِ، وَيُبْقِي نَفْسَهُ فِي عُهْدَةِ الْفَرْضِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ، فَكَانَ الْإِطْلَاقُ فِيهِ تَعْيِينًا كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ: يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَوْقَعْنَاهُ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَ إطْلَاقِ النِّيَّةِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ، وَالدَّلَالَةُ لَا تَعْمَلُ مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ، وَلَوْ لَبَّى يَنْوِي الْإِحْرَامَ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي حَجٍّ، وَلَا عُمْرَةٍ مَضَى فِي أَيِّهِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ شَوْطًا، فَإِنْ طَافَ شَوْطًا كَانَ إحْرَامُهُ عَنْ الْعُمْرَةِ، وَالْأَصْلُ فِي انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالْمَجْهُولِ: مَا رُوِيَ: «أَنَّ عَلِيًّا، وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاذَا أَهْلَلْتُمَا؟ فَقَالَا: بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالْمَجْهُولِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ بَلْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى الْأَدَاءِ، فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ مُجْمَلًا وَيَقِفَ عَلَى الْبَيَانِ، وَإِذَا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ، يَصْرِفُهُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ شَوْطًا وَاحِدًا، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ شَوْطًا وَاحِدًا، كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَطَوَافُ اللِّقَاءِ فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِرُكْنٍ، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ فَإِيقَاعُهُ عَنْ الرُّكْنِ أَوْلَى.
وَتَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِفِعْلِهِ كَمَا تَتَعَيَّنُ بِقَصْدِهِ قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْأَصْلِ: وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَطُفْ حَتَّى جَامَعَ أَوْ أَحْصَرَ كَانَتْ عُمْرَةً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ لَزِمَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ، إذْ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَهُوَ الْعُمْرَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَكَانِ الْإِحْرَامِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْإِحْرَامِ فَمَكَانُ الْإِحْرَامِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمِيقَاتِ فَنَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ.
وَالنَّاسُ فِي حَقِّ الْمَوَاقِيتِ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ صِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْآفَاقِ، وَهُمْ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ خَارِجَ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وَقَّتَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَمْسَةٌ، كَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عَرْقٍ، وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ».
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْحِلِّ، وَهُمْ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ كَأَهْلِ بُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْحَرَمِ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، أَمَّا الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فَمِيقَاتُهُمْ مَا وَقَّتَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُجَاوِزَ مِيقَاتَهُ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَّا مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُقِّتَ لَهُمْ ذَلِكَ فلابد وَأَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُقَيَّدًا، وَذَلِكَ إمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُرَادٍ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، وَقَالَ: إنِّي أَحْرَمْتُ بَعْدَ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ، وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَك فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا»، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ بِمُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ دُخُولَ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهَا إلَّا مُحْرِمًا، سَوَاءٌ أَرَادَ بِدُخُولِ مَكَّةَ النُّسُكَ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ التِّجَارَةِ أَوْ حَاجَةٍ أُخْرَى عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ دَخَلَهَا لِلنُّسُكِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ، وَإِنْ دَخَلَهَا لِحَاجَةٍ جَازَ دُخُولُهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ تَجُوزُ السُّكْنَى بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَالدُّخُولُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ دُونَ السُّكْنَى،.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ مُنْذُ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» الْحَدِيثَ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا بِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ، وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ: لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَالثَّالِثُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ»، وَلِأَنَّ هَذِهِ بُقْعَةٌ شَرِيفَةٌ لَهَا قَدْرٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالدُّخُولُ فِيهَا يَقْتَضِي الْتِزَامَ عِبَادَةٍ إظْهَارًا لِشَرَفِهَا عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ بِسُكْنَاهُمْ فِيهَا جُعِلُوا مُعَظِّمِينَ لَهَا بِقِيَامِهِمْ بِعِمَارَتِهَا وَسَدَانَتِهَا وَحِفْظِهَا وَحِمَايَتِهَا؛ لِذَلِكَ أُبِيحَ لَهُمْ السُّكْنَى، وَكُلَّمَا قُدِّمَ الْإِحْرَامُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ هُوَ أَفْضَلُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ فَيَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ لَمَا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى أَوْقَاتِهَا، وَتَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ دُونَ الْجَوَازِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ، وَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» هَذَا إذَا قَصَدَ مَكَّةَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، فَأَمَّا إذَا قَصَدَهَا مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ إذَا بَلَغَ مَوْضِعًا يُحَاذِي مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَاذَى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِيقَاتًا مِنْ الْمَوَاقِيتِ صَارَ فِي حُكْمِ الَّذِي يُحَاذِيهِ فِي الْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَحْرِ فَصَارَ فِي مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْبَحْرِ بَرٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهُ إلَّا بِإِحْرَامٍ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ.
كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَلَوْ حَصَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَأَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ دُخُولَ مَكَّةَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ، وَلِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ».
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَّتْنَا لَهُ وَقْتًا فَهُوَ لَهُ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ»، وَلِأَنَّهُ إذَا مَرَّ بِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ فَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْمُجَاوَزَةِ حُكْمَهُمْ، وَلَوْ جَاوَزَ مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ جَازَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمِيقَاتَ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ صَارَ مِيقَاتًا لَهُ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: إذَا مَرُّوا عَلَى الْمَدِينَةِ فَجَاوَزُوهَا إلَى الْجُحْفَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُحْرِمُوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا حَصَلُوا فِي الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُمْ مُحَافَظَةُ حُرْمَتِهِ فَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُهَا، وَلَوْ جَاوَزَ مِيقَاتًا مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَجَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَجَاوَزَهُ مُحْرِمًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَأَحْرَمَ الْتَحَقَتْ تِلْكَ الْمُجَاوَزَةُ بِالْعَدَمِ، وَصَارَ هَذَا ابْتِدَاءَ إحْرَامٍ مِنْهُ، وَلَوْ أَحْرَمَ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ، وَلَبَّى سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَا يَسْقُطُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ بِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، وَجِنَايَتُهُ لَا تَنْعَدِمُ بِعَوْدِهِ، فَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ الَّذِي وَجَبَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ فِي مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا، لَا فِي إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ، وَلَمْ يُلَبِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَدَلَّ أَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ فِي مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا، لَا فِي إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ، وَبَعْدَ مَا عَادَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَقَدْ جَاوَزَهُ مُحْرِمًا، فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ: ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ، وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ أَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ مِنْ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا، وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْمُجَاوَزَةِ هُوَ التَّلْبِيَةُ، فَلَا يَقَعُ تَدَارُكُ الْفَائِتِ إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، ثُمَّ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ صَارَ ذَلِكَ مِيقَاتًا لَهُ.
وَقَدْ لَبَّى مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَلْبِيَةٌ، وَإِذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَانَ مِيقَاتُهُ الْمَكَانَ الَّذِي تَجِبُ التَّلْبِيَةُ مِنْهُ، وَهُوَ الْمِيقَاتُ الْمَعْهُودُ، وَمَا قَالَهُ زُفَرُ إنَّ الدَّمَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَمَّا عَادَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فَمَا جَنَى عَلَيْهِ، بَلْ تَرَكَ حَقَّهُ فِي الْحَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ.
وَقَدْ تَدَارَكَهُ بِالْعَوْدِ إلَى التَّلْبِيَةِ، وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ حَتَّى طَافَ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ، أَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، أَوْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ الْإِحْرَامُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ تَأَكَّدَ عَلَيْهِ الدَّمُ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ، وَلَوْ عَادَ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي جَاوَزَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَعَوْدُهُ إلَى هَذَا الْمِيقَاتِ وَإِلَى مِيقَاتٍ آخَرَ سَوَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ:
إنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي عَادَ إلَيْهِ يُحَاذِي الْمِيقَاتَ الْأَوَّلَ أَوْ أَبْعَدَ مِنْ الْحَرَمِ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ مِيقَاتٌ لِأَهْلِهِ، وَلِغَيْرِ أَهْلِهِ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا عَنْ اعْتِبَارِ الْمُحَاذَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ لَكِنَّهُ أَفْسَدَ إحْرَامَهُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ إنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ أَوْ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، إنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَانْجَبَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْقَضَاءِ كَمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَضَاهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَكَذَلِكَ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ، وَسَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ، وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ يَلْزَمُهُ إمَّا حَجَّةٌ وَإِمَّا عُمْرَةٌ؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمِ بِدُونِ الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ حَرَامًا كَانَتْ الْمُجَاوَزَةُ الْتِزَامًا لِلْإِحْرَامِ دَلَالَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ إحْرَامٌ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، كَذَا إذَا فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ كَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ قَضَاءً لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْمِيقَاتِ لِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، وَلَمْ يَتَدَارَكْهُ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ جَبْرًا، فَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ أَحْرَمَ يُرِيدُ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ مِيقَاتُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ بِالْحَرَمِ، وَفِي الْعُمْرَةِ بِالْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُجْزِئُهُ إحْرَامُهُ مِنْ مِيقَاتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ عَادَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةِ نَذْرٍ أَوْ عُمْرَةِ نَذْرٍ، سَقَطَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ عَاد إلَى الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا لَزِمَهُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ بِسَبَبِ الْمُجَاوَزَةِ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَمَا لَوْ نَذَرَ بِحَجَّةٍ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ.
وَكَذَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لُزُومَ الْحَجَّةِ أَوْ الْعُمْرَةِ ثَبَتَ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَعْظِيمُهَا بِمُطْلَقِ الْإِحْرَامِ لَا بِإِحْرَامٍ عَلَى حِدَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا ابْتِدَاءً بِإِحْرَامِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ ابْتِدَاءً بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَعَنْ حُرْمَةِ الْمِيقَاتِ، وَصَارَ كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ، قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَكَذَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَ رَمَضَانَ مُعْتَكِفًا جَازَ، وَقَامَ صَوْمُ رَمَضَانَ مَقَامَ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْضِ حَقَّ الْبُقْعَةِ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ صَارَ مُفَوِّتًا حَقَّهَا فَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَصَارَ أَصْلًا، وَمَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، فَلَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَصُمْ، وَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى قَضَى شَهْرَ رَمَضَانَ مَعَ الِاعْتِكَافِ جَازَ، فَإِنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ حَتَّى دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ فِيهِ قَضَاءً عَمَّا عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ صَارَ أَصْلًا وَمَقْصُودًا بِنَفْسِهِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مَنْذُورَةٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِذَا صَارَ إلَى وَقْتٍ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَيْهِ صَارَ تَأْخِيرُهَا كَتَفْوِيتِهَا، فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ فَعَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّخُولَيْنِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّخُولَيْنِ سَبَبُ الْوُجُوبِ.
فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ جَازَ عَنْ الدُّخُولِ الثَّانِي إذَا كَانَ فِي سَنَتِهِ، وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الدُّخُولِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ الدُّخُولِ الثَّانِي صَارَ دَيْنًا، فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، هَذَا إذَا جَاوَزَ أَحَدَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ دُخُولَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ أَوْ غَيْرَهُ لِحَاجَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِالْمُجَاوَزَةِ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ لِحُرْمَةِ الْمِيقَاتِ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ وَتَمْيِيزًا لَهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبِقَاعِ فِي الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ، فَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُرِدْ الْبَيْتَ لَمْ يَصِرْ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِنْ حَصَلَ فِي الْبُسْتَانِ أَوْ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْحِلِّ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِوُصُولِهِ إلَى أَهْلِ الْبُسْتَانِ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبُسْتَانِ، وَلِأَهْلِ الْبُسْتَانِ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَاجَةٍ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَكَذَا لَهُ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا هُوَ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الْإِحْرَامِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْإِحْرَامُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ بِنِيَّةِ أَنْ يُقِيمَ بِالْبُسْتَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَلِبْسَتَانِ حُكْمُ الْوَطَنِ فِي حَقِّهِ إلَّا بِنِيَّةِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ دُوَيْرَةٍ أَهْلِهِمْ أَوْ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ دُوَيْرَةٍ أَهْلِهِمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا حِينَ سُئِلَا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُجَاوِزُوا مِيقَاتَهُمْ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ إلَّا مُحْرِمِينَ، وَالْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَيَجُوزُ إحْرَامُهُمْ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ الْحِلِّ كَمَا يَجُوزُ إحْرَامُ الْآفَاقِيِّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ مِيقَاتِهِ، فَلَوْ جَاوَزَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِيقَاتَهُ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَدَخَلَ الْحَرَمَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَوْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ أَوْ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ، فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآفَاقِيِّ إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ.
وَكَذَلِكَ الْآفَاقِيُّ إذَا حَصَلَ فِي الْبُسْتَانِ، أَوْ الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْبُسْتَانِ، وَكَذَلِكَ الْبُسْتَانِيُّ أَوْ الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَى الْآفَاقِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ الْآفَاقِ لَا تَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ مِيقَاتَ أَهْلِ الْآفَاقِ.
وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَّا مُحْرِمًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ، وَيَجُوزُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمِيقَاتِ وَمَا بَعْدَهُ دُخُولُ مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ الثَّالِثِ: إذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «رَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ»، وَعَادَةُ الْحَطَّابِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ الْمِيقَاتَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى قَدِيدٍ، فَبَلَغَهُ خَبَرُ فِتْنَةٍ بِالْمَدِينَةِ، فَرَجَعَ وَدَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَلِأَنَّ الْبُسْتَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْحَرَمِ فَيَلْحَقُ بِهِ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ أَهْلِ الْبُسْتَانِ تَتَعَلَّقُ بِمَكَّةَ فَيَحْتَاجُونَ إلَى الدُّخُولِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْ الدُّخُولِ إلَّا بِإِحْرَامٍ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا.
وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ: الْحَرَمُ، وَلِلْعُمْرَةِ: الْحِلُّ فَيُحْرِمُ الْمَكِّيُّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ لِلْحَجِّ أَوْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ، وَيُحْرِمُ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحِلِّ، وَهُوَ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ.
أَمَّا الْحَجُّ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ إلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ صَارَتْ مَخْصُوصَةً فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرَمِ فَبَقِيَ الْحَجُّ مُرَادًا فِي حَقِّهِمْ.
وَرُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ أَمَرَهُمْ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ»، وَإِنْ نُسِخَ فَالْإِحْرَامُ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يُنْسَخْ.
وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ مِنْ الْأَبْطَحِ أَوْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ لَكِنْ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ، وَإِتْيَانُ الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى كَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْإِفَاضَةَ مِنْ مَكَّةَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَتْ: أَكُلُّ نِسَائِكَ يَرْجِعْنَ بِنُسُكَيْنِ، وَأَنَا أَرْجِعُ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَعْتَمِرَ بِهَا مِنْ التَّنْعِيمِ»، وَلِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي أَفْعَالِهِ الْحِلُّ وَالْحُرُمُ، فَلَوْ أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَأَفْعَالُ الْعُمْرَةِ تُؤَدَّى بِمَكَّةَ لَمْ يَجْتَمِعْ فِي أَفْعَالِهَا الْحِلُّ وَالْحَرَمِ، بَلْ يَجْتَمِعُ كُلُّ أَفْعَالِهَا فِي الْحَرَمِ، وَهَذَا خِلَافُ عَمَلِ الْإِحْرَامِ فِي الشَّرْعِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ التَّنْعِيمِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنْهُ.
وَكَذَا أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُحْرِمُونَ لِعُمْرَتِهِمْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَصَلَ فِي الْحَرَمِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَأَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ لِلْحَجِّ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَوْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ يَخْرُجُ إلَى التَّنْعِيمِ، وَيُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحِلِّ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَكِّيُّ مِيقَاتَهُ فَأَحْرَمَ لِلْحَجِّ مِنْ الْحِلِّ وَلِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَمِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، إلَّا إذَا عَادَ، وَجَدَّدَ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَمْ يُجَدِّدْ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآفَاقِيِّ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ، لَهُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْحِلِّ لِلِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالْعَوْدِ إلَيْهَا، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُمْ الْإِحْرَامَ عِنْدَ كُلِّ خُرُوجٍ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ.