فصل: فَصْلٌ: حَدُّ الْقَذْفِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حَدُّ الشُّرْبِ:

وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشُّرْبُ؛ وَهُوَ شُرْبُ الْخَمْرِ خَاصَّةً، حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ بِشُرْبِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَلَا يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ عَلَى حُصُولِ السُّكْرِ مِنْهَا، وَحَدُّ السُّكْرِ سَبَبُ وُجُوبِهِ السُّكْرُ الْحَاصِلُ بِشُرْبِ مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُسْكِرَةِ كَالسُّكَّرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَالْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْمُثَلَّثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ): شَرَائِطُ وُجُوبِهَا:

وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَمِنْهَا الْعَقْلُ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلَا بِالسُّكْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَمِنْهَا عَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ خَمْرٍ وَلَا عَلَى مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ، وَكَذَا الشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ، وَالْإِكْرَاهُ حَلَالٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً، وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا فَلَا يَكُونُ جِنَايَةً، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنَّا نُهِينَا عَلَى التَّعْرِيضِ لَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ تَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنْ الشُّرْبِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُمْ إذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ لِأَجْلِ السُّكْرِ لَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ.
وَمِنْهَا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلُّقٌ بِهِ، حَتَّى لَوْ خُلِطَ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ شُرِبَ نُظِرَ فِيهِ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِيَّةِ يَزُولُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أَوْ كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ.
(فَأَمَّا) الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ رَائِحَةِ الْخَمْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا وَلَمْ يَشْرَبْهَا، أَوْ شَرِبَهَا عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ مَخْمَصَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَيَّأَ خَمْرًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَأَمَّا الْأَشْرِبَةُ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالدُّخْنِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالسُّكَّرِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا؛ لِأَنَّ شُرْبَهَا حَلَالٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنْ هِيَ حُرْمَةُ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يَكُنْ شُرْبُهَا جِنَايَةً مَحْضَةً فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ وَلَا بِالسُّكْرِ مِنْهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا أَصْلًا فَلَا عِبْرَةَ بِنَفْسِ السُّكْرِ كَشُرْبِ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: حَدُّ الْقَذْفِ:

وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا، وَفِيهَا إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دَفْعًا لِلْعَارِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ): شَرَائِطُ وُجُوبِهِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبَعْضُهَا إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ.

.الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ:

أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا- الْعَقْلُ، وَالثَّانِي- الْبُلُوغُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَاذِفُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ الْقَذْفِ جِنَايَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً، وَالثَّالِثُ- عَدَمُ إثْبَاتِهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَإِنْ أَتَى بِهِمْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} عَلَّقَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وُجُوبَ إقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ، بَلْ عِنْدَ الْقَذْفِ وَالْخُصُومَةِ، إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَبَدِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ أَصْلًا، إذْ لَا يُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَإِذَا ظَهَرَ زِنَاهُ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْدِفَاعَ بِالْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَزْجُرُ عَنْ قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ.
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْقَاذِفِ وَإِسْلَامُهُ وَعِفَّتُهُ عَنْ فِعْلِ الزِّنَا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ فَيُحَدُّ الرَّقِيقُ وَالْكَافِرُ وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا، وَالشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لَا إحْصَانَ الْقَاذِفِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً وَشَرَائِطُ إحْصَانِ الْقَذْفِ خَمْسَةٌ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالرَّقِيقِ وَالْكَافِرِ وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا.
أَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ؛ فَلِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَكَانَ قَذْفُهُمَا بِالزِّنَا كَذِبًا مَحْضًا فَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ لَا الْحَدَّ.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَطَ الْإِحْصَانَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ هاهنا الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ عَنْ الزِّنَا، فَدَلَّ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ، وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى قَاذِفِ الْمَمْلُوكِ الْجَلْدَ؛ لَأَوْجَبْنَا ثَمَانِينَ، وَهُوَ لَوْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الزِّنَا لَا يُجْلَدُ إلَّا خَمْسِينَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا وَأَنَّهُ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا؛ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} وَالْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ، وَالْغَافِلَاتُ الْعَفَائِفُ عَنْ الزِّنَا، وَالْمُؤْمِنَاتُ مَعْلُومَةٌ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعِفَّةَ عَنْ الزِّنَا وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطٌ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْمُحْصَنَاتِ وَالْغَافِلَاتِ فِي الذِّكْرِ وَالْغَافِلَاتُ الْعَفَائِفُ؛ فَلَوْ أُرِيدَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفُ لَكَانَ تَكْرَارًا؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ بِالْقَذْفِ دَفْعًا لِعَارِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَمَا فِي الْكَافِرِ مِنْ عَارِ الْكُفْرِ أَعْظَمُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
ثُمَّ تَفْسِيرُ الْعِفَّةِ عَنْ الزِّنَا: هُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْذُوفُ وَطِئَ فِي عُمْرِهِ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا، وَلَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَسَادًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِي السَّلَفِ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَ سَقَطَتْ عِفَّتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ زِنًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لَكِنْ فِي الْمِلْكِ أَوْ النِّكَاحِ حَقِيقَةً، أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَكِنْ فَسَادًا هُوَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ؛ لَا تَسْقُطُ عِفَّتُهُ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ بِأَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ؛ لِوُجُودِ الْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ؛ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ كُلَّ الْجَارِيَةِ- وَكُلُّهَا لَيْسَ مِلْكَهُ- فَيُصَادِفُ مِلْكَ الْغَيْرِ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا مِنْ وَجْهٍ، لَكِنْ دُرِئَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ.
وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لِغَيْرِ الْبَائِعِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَعْلَقَهَا أَوْ لَمْ يُعْلِقْهَا؛ لِوُجُودِ الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ حَقِيقَةً.
وَلَوْ وَطِئَ الْحَائِضَ أَوْ النُّفَسَاءَ أَوْ الصَّائِمَةَ أَوْ الْمُحْرِمَةَ أَوْ الْحُرَّةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا، أَوْ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ- لَمْ تَسْقُطْ عِفَّتُهُ؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ أَوْ النِّكَاحِ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ مُحَلَّلٌ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا إذَا وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ فِي قَوْلِهِمَا، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ تَسْقُطُ عِفَّتُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا وَطْءٌ حَصَلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْوَطْءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا، وَكَذَا الْمَهْرُ يَكُونُ لَهَا لَا لِلْمَوْلَى، وَهَذَا دَلِيلُ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْوَطْءِ، وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ الذَّاتَ، وَمِلْكُ الذَّاتِ قَائِمٌ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ الْمِلْكُ الْمُحَلِّلُ قَائِمًا، وَإِنَّمَا الزَّائِلُ مِلْكُ الْيَدِ فَمُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِرْدَادِ يَدِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَشْبَهَتْ الْجَارِيَةَ الْمُزَوَّجَةَ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ؛ سَقَطَتْ عِفَّتُهُ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ- لَا تَسْقُطُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ- لَا يَكُونُ الْوَطْءُ حَرَامًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَأَثِمَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا- لَمْ تَسْقُطْ الْعِفَّةُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ هاهنا ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مُنْتَفٍ، وَالْإِثْمُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْحُرْمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِذَا كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ سَقَطَتْ الْعِفَّةُ، وَلَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِابْنَتِهَا فَوَطِئَهَا أَوْ تَزَوَّجَ بِأُمِّهَا فَوَطِئَهَا؛ لَا تَسْقُطُ عِفَّتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَعِنْدَهُمَا تَسْقُطُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْبِيلَ أَوْ النَّظَرَ أَوْجَبَ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَإِنَّهَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَتَسْقُطُ الْعِصْمَةُ كَحُرْمَةِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ فِي السَّلَفِ، فَلَا تَسْقُطُ الْعِفَّةُ.
فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهَا أَوْ أُمَّهَا فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عَلَى فَسَادِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَوَطِئَهَا- سَقَطَتْ عِفَّتُهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ هَذَا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ فِي السَّلَفِ، إذْ لَا يُعْرَفُ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَالِكٍ فِيهِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَوَطِئَهَا، أَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فَوَطِئَهُمَا- لَمْ تَسْقُطْ عِفَّتُهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ هَذَا النِّكَاحِ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِي السَّلَفِ، بَلْ هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَالْوَطْءُ فِيهِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِفَّةِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ امْرَأَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ رَجُلٌ إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ- سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ فِي حَالِ الْكُفْرِ- لَمْ تَسْقُطْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَسْقُطُ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عَلَى فَسَادِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- لِنَوْعِ شُبْهَةٍ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مَحْدُودَةً فِي الزِّنَا، أَوْ مَعَهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَبٌ أَوْ لَاعَنَتْ بِوَلَدٍ؛ لِأَنَّ أَمَارَةَ الزِّنَا مَعَهَا ظَاهِرَةٌ فَلَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً، فَإِنْ لَاعَنَتْ بِغَيْرِ الْوَلَدِ أَوْ مَعَ الْوَلَدِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ النَّسَبَ أَوْ قَطَعَ لَكِنَّ الزَّوْجَ عَادَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأُلْحِقَ النَّسَبُ بِالْأَبِ- حُدَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا عَلَامَةُ الزِّنَا- فَكَانَتْ عَفِيفَةً، وَالثَّانِي- أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا يَجِبُ الْحَدُّ كَمَا إذَا قَالَ لِجَمَاعَةٍ: كُلُّكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدًا، أَوْ قَالَ: لَيْسَ فِيكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدٌ، أَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: أَحَدُكُمَا زَانٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: أَحَدُكُمَا زَانٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَحَدُهُمَا هَذَا، فَقَالَ: لَا، لَا حَدَّ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَلَا بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: جَدُّكَ زَانٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَدِّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَسْفَلِ وَعَلَى الْأَعْلَى فَكَانَ الْمَقْذُوفُ مَجْهُولًا وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ أَخُوكَ زَانٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ، أَوْ أَخَوَانِ سِوَاهُ- لَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا حَضَرَ وَطَالَبَ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) حَيَاةُ الْمَقْذُوفِ وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ، حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَوَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَاذِفُ أَبِ الْمَقْذُوفِ وَلَا جَدَّهُ وَإِنْ عَلَا، وَلَا أُمَّهُ وَلَا جَدَّتَهُ وَإِنْ عَلَتْ، فَإِنْ كَانَ- لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَالنَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَصًّا، نَهْيٌ عَنْ الضَّرْبِ دَلَالَةً؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا؛ وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} وَالْمُطَالَبُ بِالْقَذْفِ لَيْسَ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي شَيْءٍ فَكَانَ مَنْفِيًّا بِالنَّصِّ؛ وَلِأَنَّ تَوْقِيرَ الْأَبِ وَاحْتِرَامَهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْقَذْفِ لِلْجَدِّ تَرْكُ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَهُوَ نَفْيُ النَّسَبِ فَإِنْ كَانَ بِالْكِنَايَةِ- لَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مُحْتَمَلَةٌ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، فَمَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْلَى، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِي أَوْ قَالَ: زَنَيْتَ، أَوْ قَالَ أَنْتَ زَانِي- يُحَدُّ، لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَلَوْ قَالَ: يَا زَانِئ (بِالْهَمْزِ) أَوْ: زَنَأْتَ (بِالْهَمْزِ)- يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فِي الْجَبَلِ- لَا يُصَدَّقُ، لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ، وَكَذَا مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ، وَلَوْ قَالَ: زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ- يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فِي الْجَبَلِ لَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُصَدَّقُ، وَلَوْ قَالَ: زَنَأْتَ عَلَى الْجَبَلِ، وَقَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ- لَا يُصَدَّقُ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الزِّنَا الَّذِي هُوَ فَاحِشَةٌ مُلَيَّنٌ يُقَالُ: زَنَى يَزْنِي زِنًى، وَالزِّنَا الَّذِي هُوَ صُعُودٌ مَهْمُوزٌ، يُقَالُ: زَنَأَ يَزْنَأُ زَنْئًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنْئًا فِي الْجَبَلْ وَأَرَادَ بِهِ الصُّعُودَ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ- حُمِلَ عَلَى الزِّنَا الْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفُجُورِ عُرْفًا وَعَادَةً، وَإِذَا قَالَ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فَقَدْ عَنَى بِهِ مَا هُوَ مُوجِبُ اللَّفْظِ لُغَةً فَلَزِمَ اعْتِبَارُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفُجُورِ عُرْفًا وَعَادَةً، وَالْعَامَّةُ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ بَلْ تَسْتَعْمِلُ الْمَهْمُوزَ مُلَيَّنًا وَالْمُلَيَّنَ مَهْمُوزًا، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْ الْمُتَعَارَفِ، كَمَا إذَا قَالَ: زَنَيْتَ فِي الْجَبَلِ، وَقَالَ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ، أَوْ: زَنَأْتَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَبَلَ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ كَلِمَة فِي مَكَانَ كَلِمَةِ عَلَى، وَأَنَّهُ جَائِزٌ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلِأَصْلُبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ عَلَّلَ لَهُمَا بِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْمُلَيَّنِ وَهُوَ الزِّنَا الْمَعْرُوفُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ فَيَتَعَيَّنُ مَعْنَى الْمُلَيَّنِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهِيَ حَالُ الْغَضَبِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَقْصُورَةٌ فِيهَا، وَإِذَا قَالَ: زَنَأْتَ عَلَى الْجَبَلِ، وَقَالَ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ- لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْتَعْمَلُ كَلِمَةُ عَلَى فِي الصُّعُودِ، فَلَا يُقَالُ: صَعِدَ عَلَى الْجَبَلِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: صَعِدَ فِي الْجَبَلِ.
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الزَّانِي- فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَبُوكَ زَانِي، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ- فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُمُّكَ زَانِيَةٌ، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ- فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَبَوَاكَ زَانِيَانِ، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزِّنَا أَوْ يَا وَلَدَ الزِّنَا- كَانَ قَذْفًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ أَنَّكَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الزِّنَا، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَتَيْنِ- يَكُونُ قَذْفًا، وَيُعْتَبَرُ إحْصَانُ أُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ لَا إحْصَانَ جَدَّتِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ جَدَّتُهُ كَافِرَةً وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كَافِرَةً- فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ جَدَّتُهُ مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ أُمَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالِدَتُهُ وَالْجَدَّةُ تُسَمَّى أُمًّا مَجَازًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا ابْنَ مِائَةِ زَانِيَةٍ، أَوْ يَا ابْنَ أَلْفِ زَانِيَةٍ- يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْإِحْصَانِ حَالُ الْأُمِّ؛ لِمَا قُلْنَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ عَدَدَ الْمَرَّاتِ لَا عَدَدَ الْأَشْخَاصِ، أَيْ أُمُّكَ زَنَتْ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّانِيَةِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الْمُهَيَّأَةِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلزِّنَا وَإِنْ لَمْ تَزْنِ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الدَّعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّعِيَّةَ هِيَ الْمَرْأَةُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى قَبِيلَةٍ لَا نَسَبَ لَهَا مِنْهُمْ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا زَانِيَةً؛ لِجَوَازِ ثُبُوتِ نَسَبِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِي فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا، بَلْ أَنْتَ الزَّانِي، أَوْ قَالَ: لَا، بَلْ أَنْتَ- يُحَدَّانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَذَفَ صَاحِبَهُ صَرِيحًا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ- لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَدَّقَتْهُ فِي الْقَذْفِ، فَخَرَجَ قَذْفُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهَا قَذَفَتْهُ بِالزِّنَا نَصًّا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّصْدِيقُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ زَنَيْتُ مَعَكَ- لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ، أَمَّا عَلَى الرَّجُلِ؛ فَلِوُجُودِ التَّصْدِيقِ مِنْهَا إيَّاهُ.
وَأَمَّا عَلَى الْمَرْأَةِ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا زَنَيْتُ مَعَكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ زَنَيْتُ بِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ زَنَيْتُ بِحَضْرَتِكَ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ لَا، بَلْ أَنْتَ- حُدَّتْ الْمَرْأَةُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَا لِعَانَ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ قَذَفَ صَاحِبَهُ، وَقَذْفُ الْمَرْأَةِ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَقَذْفُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُدَّ.
وَفِي الْبِدَايَةِ بِحَدِّ الْمَرْأَةِ إسْقَاطُ الْحَدِّ عَنْ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَا شَهَادَةَ لَهُ وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتُ الزَّانِيَةِ، فَخَاصَمَتْ الْأُمُّ أَوَّلًا فَحُدَّ الزَّوْجُ حَدَّ الْقَذْفِ- سَقَطَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا فَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، ثُمَّ خَاصَمَتْ الْأُمُّ- يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ زَنَيْتُ بِكَ- لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ بِكَ أَيْ قَبْلَ النِّكَاحِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَيْ مَا مَكَّنْتُ مِنْ الْوَطْءِ غَيْرَكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِنًا فَهُوَ زِنًا؛ لِأَنَّ هَذَا مُتَعَارَفٌ فَإِنْ أَرَادَتْ الْأَوَّلَ- لَا يَجِبُ اللِّعَانُ، وَيَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَإِنْ أَرَادَتْ بِهِ الثَّانِي- يَجِبُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَذَفَهَا بِالزِّنَا، وَهِيَ لَمْ تُصَدِّقْهُ فِيمَا قَذَفَهَا بِهِ؛ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي ثُبُوتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَثْبُتُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: أَنْتِ زَانِيَةٌ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي- يُحَدُّ الرَّجُلُ.
وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ، أَمَّا الرَّجُلُ؛ فَلِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِصَرِيحِ الزِّنَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا التَّصْدِيقُ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي يُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِهِ النِّسْبَةَ إلَى الزِّنَا عَلَى التَّرْجِيحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا وَأَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْقَذْفِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِإِنْسَانٍ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ، أَوْ أَزْنَى الزُّنَاةِ، أَوْ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ- لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَزْنَى النَّاسِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَزْنَى مِنِّي أَوْ مِنْ فُلَانٍ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: يُحَدُّ، وَفِي الثَّانِي: لَا يُحَدُّ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ، أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ وَهُوَ التَّرْجِيحُ فِي وُجُودِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُ؛ لِتَحَقُّقِ الزِّنَا مِنْ النَّاسِ فِي الْجُمْلَةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي أَوْ مِنْ فُلَانٍ، لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّرْجِيحِ فِي وُجُودِ الزِّنَا؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الزِّنَا مِنْهُ أَوْ مِنْ فُلَانٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّرْجِيحِ فِي الْقُدْرَةِ أَوْ الْعِلْمِ، فَلَا يَكُونُ قَذْفًا بِالزِّنَا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: زَنَيْتَ وَفُلَانٌ مَعَكَ- كَانَ قَاذِفًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أَحَدَهُمَا وَعَطَفَ الْآخَرَ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَكَانَ مُخْبِرًا عَنْ وُجُودِ الزِّنَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
رَجُلَانِ اسْتَبَّا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، لَمْ يَكُنْ هَذَا قَذْفًا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ الزِّنَا عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُكَنِّي بِهَذَا الْكَلَامِ عَنْ نِسْبَةِ أَبُ صَاحِبِهِ وَأُمِّهِ إلَى الزِّنَا.
لَكِنَّ الْقَذْفَ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ تَزْنِي لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَالِ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتَ تَزْنِي وَأَنَا- أُضْرَبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْقَذْفِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ عَلَى الِاسْتِعْجَابِ أَنْ كَيْفَ تَكُونُ الْعُقُوبَةُ عَلَى إنْسَانٍ وَالْجِنَايَةُ مِنْ غَيْرِهِ؟ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: مَا رَأَيْتُ زَانِيَةً خَيْرًا مِنْكِ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: مَا رَأَيْتُ زَانِيًا خَيْرًا مِنْكَ- لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّهُ مَا جَعَلَ هَذَا الْمَذْكُورَ خَيْرَ الزُّنَاةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ خَيْرًا مِنْ الزُّنَاةِ.
وَهَذَا لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الزِّنَا مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَى بِكِ زَوْجُكِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَكِ- فَهُوَ قَاذِفٌ؛ فَإِنَّهُ نَسَبَ زَوْجَهَا إلَى زِنًا حَصَلَ مِنْهُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ فَيَكُونُ قَذْفًا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: وَطِئَكِ فُلَانٌ وَطْئًا حَرَامًا، أَوْ جَامَعَكِ حَرَامًا، أَوْ فَجَرَ بِكِ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: وَطِئْتَ فُلَانَةَ حَرَامًا، أَوْ بَاضَعْتَهَا أَوْ جَامَعْتَهَا حَرَامًا- فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَذْفُ بِالزِّنَا بَلْ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ حَرَامًا وَلَا يَكُونُ زِنًا، كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَقُلْ لَهُ: يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ- لَمْ يَكُنْ الْمُرْسِلُ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَذْفِ وَلَمْ يَقْذِفْ.
وَأَمَّا الرَّسُولُ فَإِنْ ابْتَدَأَ فَقَالَ- لَا عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ: يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ- فَهُوَ قَاذِفٌ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ بَلَّغَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ قَالَ: أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُلْ لَكَ: يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ- لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ بَلْ أَخْبَرَ عَنْ قَذْفِ غَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: أُخْبِرْتُ أَنَّكَ زَانٍ أَوْ أُشْهِدْتُ عَلَى ذَلِكَ- لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ حَكَى خَبَرَ غَيْرِهِ بِالْقَذْفِ وَإِشْهَادَ غَيْرِهِ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا لُوطِيُّ- لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَسَبَهُ إلَى قَوْمِ لُوطٍ فَقَطْ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ وَهُوَ اللِّوَاطُ، وَلَوْ أَفْصَحَ وَقَالَ: أَنْتَ تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَسَمَّى ذَلِكَ- لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا.
وَعِنْدَهُمَا هُوَ قَاذِفٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِي، فَقَالَ لَهُ آخَرُ: صَدَقْتَ- يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَلَا حَدَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِوُجُودِ الْقَذْفِ الصَّرِيحِ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: صَدَقْتَ قَذْفٌ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، وَلَوْ قَالَ: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ- يُحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَخُوك زَانٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا، بَلْ أَنْتَ- يُحَدُّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ؛ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ، فَقَدْ قَذَفَ الْأَوَّلَ بِالزِّنَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لِلرَّجُلِ إخْوَةٌ أَوْ أَخَوَانِ سِوَاهُ- فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ- فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْحَدِّ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ الْمُخَاطَبِ أَنْ يُطَالِبَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ قَالَ: لَسْتَ لِأَبِيكَ- فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ، سَوَاءٌ قَالَ فِي غَضَبٍ أَوْ رِضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُذْكَرُ إلَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ، فَكَانَ قَذْفًا لِأُمِّهِ، وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا أَبُوكَ، أَوْ قَالَ: لَسْتَ أَنْتَ ابْنَ فُلَانٍ لِأَبِيهِ، أَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِأَجْنَبِيٍّ، إنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ- فَهُوَ قَذْفٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ- فَلَيْسَ بِقَذْفٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ يُذْكَرُ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَقَدْ يُذْكَرُ لِنَفْيِ التَّشَبُّهِ فِي الْأَخْلَاقِ، أَيْ أَخْلَاقُكَ لَا تُشْبِهُ أَخْلَاقَ أَبِيكَ، أَوْ أَخْلَاقُكَ تُشْبِهُ أَخْلَاقَ فُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ.
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ مُزَيْقِيَا، أَوْ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ- أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَا فِي حَالَةِ الرِّضَا؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ بِالتَّشْبِيهِ بِرَجُلَيْنِ مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ، فَعَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ كَانَ يُسَمَّى مَاءَ السَّمَاءِ؛ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ، وَعَمْرُو بْنُ عَامِرٍ كَانَ يُسَمَّى الْمُزَيْقِيَا؛ لِمَزْقِهِ الثِّيَابَ، إذْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَنَخْوَةٍ، كَانَ يَلْبَسُ كُلَّ يَوْمٍ ثَوْبًا جَدِيدًا، فَإِذَا أَمْسَى خَلَعَهُ وَمَزَّقَهُ؛ لِئَلَّا يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ فَيُسَاوِيهِ، فَيُحَكَّمُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ؛ فَيَكُونُ قَذْفًا، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الرِّضَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ؛ فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِعَمِّهِ أَوْ لِخَالِهِ، أَوْ لِزَوْجِ أُمِّهِ- لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَبًا.
وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَزَوْجُ الْأُمِّ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سَمَّاهُ أَبَاهُ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وَقِيلَ: إنَّهُمَا أَبُوهُ وَخَالَتُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أُمًّا- كَانَ الْخَالُ أَبًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ: لَسْتَ بِابْنٍ لِفُلَانٍ لِجَدِّهِ- لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يُسَمَّى أَبًا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا، وَلَوْ قَالَ لِلْعَرَبِيِّ: يَا نَبَطِيُّ- لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، لِلْقَبِيلَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا- لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَكُونُ قَذْفًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ: يَا نَبَطِيُّ؛ لَمْ يَقْذِفْهُ، وَلَكِنَّهُ نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، كَمَنْ قَالَ لِلْبَلَدِيِّ: يَا رُسْتَاقِيُّ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا ابْنَ الْخَيَّاطِ، أَوْ يَا ابْنَ الْأَصْفَرِ أَوْ الْأَسْوَدِ، وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ- لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا بَلْ يَكُونُ كَاذِبًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا ابْنَ الْأَقْطَعِ، أَوْ يَا ابْنَ الْأَعْوَرِ، وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ- يَكُونُ كَاذِبًا لَا قَاذِفًا، كَمَا إذَا قَالَ لِلْبَصِيرِ: يَا أَعْمَى، ثُمَّ الْقَذْفُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ وَيَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ هُوَ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ بِهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ مِنْ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ- لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِآخَرَ: زَنَى فَخْذُكَ، أَوْ ظَهْرُكَ- أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ حَقِيقَةً، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَجَازَ مِنْ طَرِيقِ النَّسَبِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَنَيْتَ بِأُصْبُعِكَ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْأُصْبُعِ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً، وَلَوْ قَالَ: زَنَى فَرْجُكَ- يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْفَرْجِ يَتَحَقَّقُ، كَأَنَّهُ قَالَ: زَنَيْتُ بِفَرْجِكَ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتِ بِفَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ بَعِيرٍ أَوْ ثَوْرٍ- لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَمْكِينَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَعْلَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عِوَضًا وَأُجْرَةً عَلَى الزِّنَا، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ- لَا يَكُونُ قَذْفًا؛ لِأَنَّهَا بِالتَّمْكِينِ مِنْهَا لَا تَصِيرُ مَزْنِيًّا بِهَا؛ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْ الْبَهِيمَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الثَّانِي- يَكُونُ قَذْفًا، كَمَا إذَا قَالَ زَنَيْتِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَمْتِعَةِ- فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ بِنَاقَةٍ أَوْ بِبَقَرَةٍ أَوْ أَتَانٍ أَوْ رَمَكَةٍ- فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى التَّمْكِينِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْعِوَضِ.
لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَعْوَاضِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ- لَمْ يَكُنْ قَذْفًا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْوَطْءِ، وَوَطْؤُهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ زِنًا فَلَا يَكُونُ قَذْفًا، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِوَضِ فَيَكُونُ قَذْفًا فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي كَوْنِهِ قَذْفًا فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَقَالَ: يَكُونُ قَذْفًا فِي الذَّكَرِ لَا فِي الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَطْءِ مِنْ الرَّجُلِ يُوجَدُ فِي الْأُنْثَى فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعِوَضِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الذَّكَرِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْعِوَضِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُتَصَوَّرُ فِي الصِّنْفَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ زَنَيْتِ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ أَوْ مَعْتُوهَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ أَوْ نَائِمَةٌ- لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا فِي حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا وُجُودُ الزِّنَا فِيهَا، فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا قَذْفًا، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ لِأَمَةٍ أُعْتِقَتْ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ، أَوْ قَالَ لِكَافِرَةٍ أَسْلَمَتْ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ- يَكُونُ قَذْفًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَذَفَهَا لِلْحَالِ بِالزِّنَا فِي حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا وُجُودُ الزِّنَا فِيهَا، فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا قَذْفًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ قَذَفَهَا لِلْحَالِ لِوُجُودِ الزِّنَا مِنْهَا فِي حَالٍ يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الزِّنَا وَهِيَ حَالُ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْنَعَانِ وُقُوعَ الْفِعْلِ زِنًا، وَإِنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِحْصَانَ.
وَالْإِحْصَانُ يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: لَسْتَ لِأُمِّكَ- لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ نَفْيُ النَّسَبِ مِنْ الْأُمِّ وَنَفْيُ النَّسَبِ مِنْ الْأُمِّ لَا يُتَصَوَّرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّهُ وَلَدَتْهُ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ؛ لِأَنَّهُ نَفْيُ نَسَبِهِ عَنْهُمَا وَلَا يَنْتَفِي عَنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ كَذِبًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَسْتَ لِأَبِيكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَفْيٍ لِوِلَادَةِ الْأُمِّ، بَلْ هُوَ نَفْيُ النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ، وَنَفْيُ النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ يَكُونُ قَذْفًا لِلْأُمِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: لَسْتَ لِأَبِيكَ وَلَسْتَ لِأُمِّكَ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ- لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّ هَذَا وَقَوْلَهُ: لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ سَوَاءٌ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: لَسْتَ لِآدَمَ أَوْ لَسْتَ لِرَجُلٍ أَوْ لَسْت لِإِنْسَانٍ- لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَكَانَ كَذِبًا مَحْضًا لَا قَذْفًا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ، أَنَّهُ- لَا يَكُونُ قَذْفًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ قَذْفًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْهَاءَ قَدْ تَدْخُلُ صِلَةً زَائِدَةً فِي الْكَلَامِ، قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ- خَبَرًا عَنْ الْكُفَّارِ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} وَمَعْنَاهُ: مَالِي وَسُلْطَانِي وَالْهَاءُ زَائِدَةٌ؛ فَيُحْذَفُ الزَّائِدُ فَيَبْقَى قَوْلُهُ: يَا زَانِي، وَقَدْ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، كَمَا يُقَالُ: عَلَّامَةُ وَنَسَّابَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَخْتَلُّ بِهِ مَعْنَى الْقَذْفِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ إنْ حَذَفَهُ فِي نَعْتِ الْمَرْأَةِ لَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الْقَذْفِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي- يَجِبُ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي نَعْتِ الرَّجُلِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَيَلْغُو، وَدَلِيلُ عَدَمِ التَّصَوُّرِ؛ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ التَّمْكِينُ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الزَّانِيَةِ هَاءُ التَّأْنِيثِ كَالضَّارِبَةِ وَالْقَاتِلَةِ وَالسَّارِقَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الِاسْمِ وَحَذَفَ الْهَاءَ وَهَاءُ التَّأْنِيثِ قَدْ تُحْذَفُ فِي الْجُمْلَةِ كَالْحَائِضِ وَالطَّالِقِ وَالْحَامِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.