فصل: فَصْلٌ: سَبَبُ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوِلَادَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَالْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ قِيلَ صَيْرُورَتُهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَاحِدٌ وَهُوَ مُضِيُّ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْضِ الْقَاضِي وَالتَّرَاضِي.
وَأَمَّا الْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَأُمُورٌ: مِنْهَا الْإِبْرَاءُ عَنْ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَانَ الْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا لِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَيَصِحُّ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَمَّا يُسْتَقْبَلُ مِنْ النَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا إسْقَاطَ الْوَاجِبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَيْضًا وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الزَّمَانِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ وَكَذَا يَصِحُّ هِبَةُ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ يَكُونُ إبْرَاءً عَنْهُ فَيَكُونُ إسْقَاطَ دَيْنٍ وَاجِبٍ فَيَصِحُّ وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ مَا يُسْتَقْبَلُ لِمَا قُلْنَا.
وَمِنْهَا: مَوْتُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الرَّجُلُ قَبْلَ إعْطَاءِ النَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَهَا مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَالصِّلَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَسَلَفَهَا نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ تَرْجِعْ وَرَثَتُهُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ فِي تَرِكَتِهَا عِنْدَهُمَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا حِصَّةُ مَا مَضَى مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَيَجِبُ رَدُّ الْبَاقِي إنْ كَانَ قَائِمًا وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَلَا شَيْءَ بِالْإِجْمَاعِ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ قَبَضَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ فَمَا دُونَهُ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَ الْمَفْرُوضُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَرْفَعُ عَنْهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَرَدَّتْ مَا بَقِيَ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهْرَ فَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْحَالِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ فَيَثْبُتُ بِهِ الرُّجُوعُ كَالدَّيْنِ، وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ فَتَسْلَمُ لَهَا بِقَدْرِ مَا سَلِمَ لِلزَّوْجِ مِنْ الْمُعَوَّضِ كَالْإِجَارَةِ إذَا عَجَّلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأُجْرَةَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ صِلَةٌ اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَسَائِرِ الصِّلَاتِ الْمَقْبُوضَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ فَنَعَمْ لَكِنْ بِوَصْفِهَا لَا بِأَصْلِهَا بَلْ هِيَ صِلَةٌ بِأَصْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصِّلَةِ فَيُرَاعِي فِيهَا الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا: إنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا: إنَّهَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالصِّلَاتِ وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا: لَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ كَالْأَعْوَاضِ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ:

وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ فَالْكَلَامُ فِيهَا أَيْضًا يَقَعُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَهِيَ بَيَانُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا وَشَرْطُ الْوُجُوبِ وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ وَكَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ وَمَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ بَيَانُ الْوُجُوبِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْقَرَابَاتِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْقَرَابَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ، وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا: قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ كَالْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ وَقَرَابَةٌ غَيْرُ مُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ فَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَضَى رَبُّك أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} أَيْ: أَمَرَ رَبُّك وَقَضَى أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ.
أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَوَصَّى بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا حَالَ فَقْرِهِمَا مِنْ أَحْسَنِ الْإِحْسَانِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} وقَوْله تَعَالَى: {أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك} وَالشُّكْرُ لِلْوَالِدَيْنِ هُوَ الْمُكَافَأَةُ لَهُمَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْوَلَدَ أَنْ يُكَافِئَ لَهُمَا وَيُجَازِيَ بَعْضَ مَا كَانَ مِنْهُمَا إلَيْهِ مِنْ التَّرْبِيَةِ وَالْبِرِّ وَالْعَطْفِ عَلَيْهِ وَالْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَمَكْرُوهٍ وَذَلِكَ عِنْدَ عَجْزِهِمَا عَنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أَنْفُسِهِمَا وَالْحَوَائِجِ لَهُمَا وَإِدْرَارُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا حَالَ عَجْزِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَهَذَا فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ فَالْمُسْلِمَانِ أَوْلَى وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ أَعْرَفِ الْمَعْرُوفِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَلَامٍ فِيهِ ضَرْبُ إيذَاءٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى التَّأَذِّي بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا عِنْدَ عَجْزِهِمَا وَقُدْرَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهْيًا عَنْ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ دَلَالَةً، كَمَا كَانَ نَهْيًا عَنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ دَلَالَةً.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أَبُوهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَإِنَّ لِي أَبًا وَلَهُ مَالٌ وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» أَضَافَ مَالَ الِابْنِ إلَى الْأَبِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْحَقِيقَةُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ إذَا احْتَجْتُمْ إلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ» وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ بِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَمَّا بِآخِرِهِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ لِلْأَبِ الْأَكْلَ مِنْ كَسْبِ وَلَدِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْإِذْنِ وَالْعِوَضِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.
وَأَمَّا بِأَوَّلِهِ فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ أَيْ: كَسْبُ وَلَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ كَسْبَ الرَّجُلِ أَطْيَبَ الْمَأْكُولِ وَالْمَأْكُولُ كَسْبُهُ لَا نَفْسُهُ وَإِذَا كَانَ كَسْبُ وَلَدِهِ كَسْبَهُ كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي كَسْبِهِ وَلِأَنَّ وَلَدَهُ لَمَّا كَانَ مِنْ كَسْبِهِ؛ كَانَ كَسْبُ وَلَدِهِ كَكَسْبِهِ وَكَسْبُ كَسْبِ الْإِنْسَانِ كَسْبُهُ، كَكَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ.
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَلَدِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} إلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أَيْ: رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُنْقَضِيَاتِ الْعِدَّةِ؛ فَفِيهَا إيجَابُ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَهُوَ الْأَبُ لِأَجْلِ الْوَلَدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ (هُنَّ) الْمَنْكُوحَاتِ أَوْ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعْتَدَّاتِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فِي حَالِ الرَّضَاعِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى فَضْلِ إطْعَامٍ وَفَضْلِ كِسْوَةٍ لِمَكَانِ الرَّضَاعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ إذَا كَانَتْ صَائِمَةً لِزِيَادَةِ حَاجَتِهَا إلَى الطَّعَامِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عِنْدَ الْحَاجَةَ مِنْ بَابِ إحْيَاءِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَالْوَلَدُ جُزْءُ الْوَالِدِ وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ كَذَا إحْيَاءُ جُزْئِهِ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ النَّفَقَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ مُفْتَرَضَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ بَابِ الصِّلَةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَتَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ لِلْمُنْفِقِ وَتَحَقُّقِ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى الْقَطْعِ فَكَانَ حَرَامًا وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا فِي الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ سِوَى قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: تَجِبُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: لَا نَفَقَةَ إلَّا عَلَى الْأَبِ لِلِابْنِ وَالِابْنِ لِلْأَبِ حَتَّى قَالَ: لَا نَفَقَةَ عَلَى الْجَدِّ لِابْنِ الِابْنِ وَلَا عَلَى ابْنِ الِابْنِ لِلْجَدِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ عَلَى الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ مُفْتَرَضَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي الْعِتْقُ عِنْدَ الْمِلْكِ، وَوُجُوبُ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْعَتَاقِ نَذْكُرُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ لَا غَيْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَمَنْ كَانَ مِثْلَ حَالِهِ فِي الْقُرْبِ يَلْحَقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُقَالُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَرَفَ قَوْلَهُ ذَلِكَ إلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَا إلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ؛ فَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُضَارُّ الْوَارِثُ بِالْيَتِيمِ كَمَا لَا تُضَارُّ الْوَالِدَةُ وَالْمَوْلُودُ لَهُ بِوَلَدِهِمَا وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لَا غَيْرُ، لَا عَلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ مَعْنَاهُ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ مَا عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ؛ وَمِصْدَاقُ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ عَطْفًا عَلَى هَذَا؛ لَكَانَ عَطْفَ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ وَإِنَّهُ شَائِعٌ، وَلَوْ عُطِفَ عَلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَكَانَ عَطْفَ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ؛ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {لَا تُضَارَّ} لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: وَالْوَارِثُ مِثْلُ ذَلِكَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَطَفُوا عَلَى الْكُلِّ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَتَرْكِ الْمُضَارَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَإِنَّهُ حَرْفُ جَمْعٍ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مَذْكُورًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْصَرِفُ قَوْلُهُ ذَلِكَ إلَى الْكُلِّ أَيْ: عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَأَنَّهُ لَا يُضَارُّهَا، وَلَا تُضَارُّهُ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ رُجْحَانُ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَارِثِ بَلْ يُوجِبُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} نَهَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الْمُضَارَّةِ مُطْلَقًا فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا كَانَ مَعْنَى إضْرَارِ الْوَالِدِ الْوَالِدَةَ بِوَلَدِهَا بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَوْ بِانْتِزَاعِ الْوَلَدِ مِنْهَا وَقَدْ أُمِرَ الْوَارِثُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أَنَّهُ لَا يُضَارُّهَا؛ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مِثْلِ مَا لَزِمَ الْأَبَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْوَالِدَةَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا وَلَا يُخْرِجُ الْوَلَدَ مِنْ يَدِهَا إلَى يَدِ غَيْرِهَا إضْرَارًا بِهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ أَوْ عَلَى مُطْلَقِ الْوَارِثِ إلَّا مَنْ خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ.
وَأَمَّا الْقَرَابَةُ الَّتِي بِمُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ فَلَا نَفَقَةَ فِيهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ وَارِثٍ وَوَارِثٍ، وَإِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ الْوَارِثِ الْأَقَارِبُ الَّذِي لَهُ رَحِمٌ مَحْرَمٌ لَا مُطْلَقُ الْوَارِثِ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَعْلُولًا بِكَوْنِهَا صِلَةَ الرَّحِمِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ الْقَطِيعَةِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِقَرَابَةٍ يَجِبُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا وَلَمْ تُوجَدْ؛ فَلَا تَجِبُ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ عِنْدَ الْمِلْكِ وَلَا يَحْرُمُ النِّكَاحُ وَلَا يُمْنَعُ وُجُوبُ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: سَبَبُ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوِلَادَةِ:

وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ أَمَّا نَفَقَةُ الْوِلَادَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا هُوَ الْوِلَادَةُ؛ لِأَنَّ بِهِ تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ وَالْبَعْضِيَّةُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْمُحْتَاجِ إحْيَاءٌ لَهُ وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إحْيَاءُ كُلِّهِ وَجُزْئِهِ وَإِنْ شِئْت قُلْت: سَبَبُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ هُوَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ قَطْعُهَا يَحْرُمُ كُلُّ سَبَبٍ مُفْضٍ إلَى الْقَطْعِ.
وَتَرْكُ الْإِنْفَاقِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَعَ قُدْرَتِهِ وَحَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ تُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ فَيَحْرُمُ التَّرْكُ وَإِذَا حَرُمَ التَّرْكُ؛ وَجَبَ الْفِعْلُ ضَرُورَةً وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَالُ فِي الْقَرَابَةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّفَقَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ حَالَ الِانْفِرَادِ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ حَالَ الِاجْتِمَاعِ فَإِنْ كَانَتْ حَالَ الِانْفِرَادِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ إلَّا وَاحِدًا تَجِبُ كُلُّ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كُلِّ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَالرَّحِمُ الْمَحْرَمُ وَشَرْطُهُ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَالَ الِاجْتِمَاعِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ؛ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَقْرَبِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ فَفِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ نَوْعُ رُجْحَانٍ فَلَا تَنْقَسِمُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّرْجِيحُ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا.
وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ أَحَدَهُمَا وَالْآخَرُ مَحْجُوبًا؛ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ وَيُرَجَّحُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ تَجِبُ بِحَقِّ الْوِلَادَةِ لَا بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَهَا بِاسْمِ الْوِلَادَةِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ تَجِبُ بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الِاسْتِحْقَاقَ بِالْإِرْثِ فَتَجِبُ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ؛ كَانَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءً فَدَلَّ بِهِ مَا ذَكَرْنَا.
وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ إذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ مُعْسِرًا وَابْنُ الِابْنِ مُوسِرًا فَالنَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ زَمِنًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَقْرَبُ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبْعَدِ مَعَ قِيَامِ الْأَقْرَبِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ ابْنَ الِابْنِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ فَيَصِيرُ الْأَبْعَدُ نَائِبًا عَنْ الْأَقْرَبِ فِي الْأَدَاءِ، وَلَوْ أَدَّى بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَرْجِعْ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَجَدٌّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْجَدِّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقْرَبُ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا وَالْجَدُّ مُوسِرًا فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ زَمِنًا لَكِنْ يُؤْمَرُ الْجَدُّ بِأَنْ يُنْفِقَ ثُمَّ يَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَابْنُ ابْنٍ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا غَيْرَ زَمِنٍ وَابْنُ الِابْنِ مُوسِرًا فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْ الْأَبِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَابْنٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الِابْنِ لَا عَلَى الْأَبِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ وَالْوِرَاثَةِ وَيَرْجِعُ الِابْنُ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ كَسْبَ الْأَبِ فَيَكُونُ لَهُ حَقًّا فِي كَسْبِهِ وَكَوْنِ مَالِهِ مُضَافًا إلَيْهِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ وَالِدِهِ أَحَدٌ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا فِي نَفَقَة وَالِدَتِهِ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَالِاخْتِصَاصُ بِالسَّبَبِ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْحُكْمِ وَكَذَا لَا يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ أَحَدٌ فِي نَفَقَةِ جَدِّهِ وَجَدَّتِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْجَدَّةُ تَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهَا.
وَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ وَلَا يُفَضِّلُ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى فِي النَّفَقَةِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَأُخْتٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تُعْتَبَرُ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ تَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهَا مَعَ الْبِنْتِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الِابْنِ نَفَقَةُ مَنْكُوحَةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مُحْتَاجًا إلَى مَنْ يَخْدُمُهُ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِخِدْمَةِ الْأَبِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْأَجِيرِ، وَلَوْ كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبَوَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ وَالْوِلَادَةِ وَلَا يُشَارِكُ الْأَبَ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْأَبَ بِتَسْمِيَتِهِ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا لَهُ وَأَضَافَ الْوَلَدَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَخَصَّهُ بِإِيجَابِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} أَيْ رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ سَمَّى الْأُمَّ وَالِدَةً وَالْأَبَ مَوْلُودًا لَهُ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} خَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَبَ بِإِيتَاءِ أَجْرِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَكَذَا أَوْجَبَ فِي الْآيَتَيْنِ كُلَّ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْكُلِّ شَيْءٌ وَلَا يُقَالُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} ثُمَّ قَالَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَالْأُمُّ وَارِثَةٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تُشَارِكَ فِي النَّفَقَةِ كَسَائِرِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَكَمَنْ قَالَ: أَوْصَيْت لِفُلَانٍ مِنْ مَالِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَوْصَيْت لِفُلَانٍ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَخْرُجْ الْوَصِيَّتَانِ مِنْ الثُّلُثِ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ كَذَا هَذَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} تَعَذَّرَ إيجَابُهَا عَلَى الْأُمِّ حَالَ قِيَامِ الْأَبِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَالِ عَدَمِهِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالنَّصِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْحَالَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذَا فِي سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَفِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي حَالَيْنِ وَقَدْ ضَاقَ الْمَحَلُّ عَنْ قَبُولِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالشَّرِكَةِ ضَرُورَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا غَيْرَ عَاجِزٍ عَنْ الْكَسْبِ وَالْأُمُّ مُوسِرَةً فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ لَكِنْ تُؤْمَرُ الْأُمُّ بِالنَّفَقَةِ ثُمَّ تَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إذَا أَنْفَقَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَلَوْ كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبٌ وَأُمُّ أُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ وَالْحَضَانَةُ عَلَى الْجَدَّةِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ لَمَّا لَمْ تُشَارِكْ الْأَبَ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ مَعَ قُرْبِهَا؛ فَالْجَدَّةُ مَعَ بُعْدِهَا أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَقِيرًا وَلَهُ أَبَوَانِ مُوسِرَانِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كَبِيرًا وَهُوَ ذَكَرٌ فَقِيرٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ نَفَقَتَهُ أَيْضًا عَلَى الْأَبِ خَاصَّةً، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَبِ وَثُلُثُهَا عَلَى الْأُمِّ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ أَنَّ الْأَبَ إنَّمَا خُصَّ بِإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْوِلَايَةِ وَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِالْبُلُوغِ فَيَزُولُ الِاخْتِصَاصُ فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَبِ بِالْإِيجَابِ حَالَ الصِّغَرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِتَسْمِيَتِهِ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا لَهُ وَهَذَا ثَابِتٌ بَعْدَ الْكِبَرِ فَيَخْتَصُّ بِنَفَقَتِهِ كَالصِّغَرِ، وَاعْتِبَارُ الْوِلَايَةِ وَالْإِرْثِ فِي هَذِهِ النَّفَقَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا وِلَايَةَ وَلَا إرْثَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا يُشَارِكُ الْجَدَّ أَحَدٌ فِي نَفَقَةِ وَلَدِ وَلَدِهِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ وَلَدِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلَا يُشَارِكُ الزَّوْجَ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي سَبَبِ وُجُوبِهَا وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ مُعْسِرٌ وَابْنٌ مُوسِرٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الزَّوْجِ أَوْ أَبٌ مُوسِرٌ أَوْ أَخٌ مُوسِرٌ؛ فَنَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَى الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأَخِ، لَكِنْ يُؤْمَرُ الْأَبُ أَوْ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا ثُمَّ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ وَالْوِرَاثَةِ سَوَاءٌ وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ: السُّدُسُ عَلَى الْجَدِّ وَالْبَاقِي عَلَى ابْنِ الِابْنِ كَالْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدٌّ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا: الثُّلُثُ عَلَى الْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْجَدِّ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ أُمٌّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ عَمٌّ لِأُمٍّ وَأَبٍ أَوْ لِأَبٍ؛ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثُهَا عَلَى الْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَسْدَاسًا سُدُسُهَا عَلَى الْأَخِ لِأُمٍّ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَجَدَّةٌ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَسْدَاسًا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَعَمَّةٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْعَمِّ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقَطْعِ، وَالْعَمُّ هُوَ الْوَارِثُ فَيُرَجَّحُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَخَالٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ أَوْ خَالٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهَا عَلَى الْعَمَّةِ وَالثُّلُثُ عَلَى الْخَالِ أَوْ الْخَالَةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ لَا عَلَى ابْنِ الْعَمِّ؛ لِأَنَّهُمَا مَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الرَّحِمُ الْمُحَرِّمُ لِلْقَطْعِ؛ إذْ الْخَالُ هُوَ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَاسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لِلتَّرْجِيحِ وَالتَّرْجِيحُ يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ وَابْنُ عَمٍّ فَعَلَى الْخَالَةِ الثُّلُثُ وَعَلَى الْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فَيَكُونُ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلَا شَيْءَ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ الْقَطْعِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَابْنُ عَمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَخَوَاتِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَسَهْمٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأُمٍّ وَسَهْمٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلَا يُعْتَدُّ بِابْنِ الْعَمِّ فِي النَّفَقَةِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّهِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْأَخَوَاتُ وَمِيرَاثُهُ لَهُنَّ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ كَذَا النَّفَقَةُ عَلَيْهِنَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَعَلَى الْأَخِ لِلْأُمِّ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ أَسْدَاسًا؛ لِأَنَّ الْأَخَ لَا يَرِثُ مَعَهُمَا فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَعَمَّةٌ وَخَالَةٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْعَمِّ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ مُسَاوٍ لَهُمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الرَّحِمُ وَفَضَلَهُمَا بِكَوْنِهِ وَارِثًا؛ إذْ الْمِيرَاثُ لَهُ لَا لَهُمَا فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ لَا عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْعَمُّ مُعْسِرًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ وَهُوَ مُعْسِرٌ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ وَإِذَا جُعِلَ كَالْمَيِّتِ؛ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْبَاقِينَ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَحُوزُ بَعْضَ الْمِيرَاثِ لَا يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِ مَنْ يَرِثُ مَعَهُ بَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ: رَجُلٌ مُعْسِرٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ وَلَهُ ابْنٌ مُعْسِرٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ أَوْ هُوَ صَغِيرٌ وَلَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ فَنَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعَلَى أَخِيهِ لِأُمِّهِ أَسْدَاسًا: سُدُسُ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَخِ لِأُمٍّ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فَيُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ فَيَكُونُ نَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا مِنْهُ وَمِيرَاثِهِمَا مِنْ الْأَبِ هَذَا فَأَمَّا الِابْنُ فَوَارِثُهُ الْعَمُّ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا الْعَمُّ لِأَبٍ وَلَا الْعَمُّ لِأُمٍّ؛ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى عَمِّهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِنَّ أَخْمَاسًا: ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَخُمْسٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَخُمْسٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأُمٍّ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِنَّ وَنَفَقَةُ الِابْنِ عَلَى عَمَّتِهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْوَارِثَةُ مِنْهُ لَا غَيْرُ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الِابْنِ بِنْتٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا؛ فَنَفَقَةُ الْأَبِ فِي الْإِخْوَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ عَلَى أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَفِي الْأَخَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ عَلَى أُخْتِهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ تُجْعَلَ كَالْمَيِّتَةِ فَكَانَ الْوَارِثُ مَعَهَا الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَا غَيْرُ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ لِأُمٍّ لَا يَرِثَانِ مَعَ الْوَلَدِ وَالْأَخُ لِأَبٍ لَا يَرِثُ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ لَا تَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ وَفِي الْعَصَبَاتِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْبِنْتِ عَلَى الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ عَلَى الْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّهُمَا وَارِثَاهَا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ إلَّا بِجَعْلِ الِابْنِ كَالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يُجْعَلَ مَيِّتًا حُكْمًا، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ مَيِّتًا كَانَ مِيرَاثُ الْأَبِ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا وَلِلْأَخَوَاتِ أَخْمَاسًا، فَكَذَا النَّفَقَةُ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفِقِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ خَاصَّةً فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا إعْسَارُهُ فَلَا تَجِبُ لِمُوسِرٍ عَلَى غَيْرِهِ نَفَقَةٌ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا مَعْلُولٌ بِحَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ فَلَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْمُحْتَاجِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ غَنِيًّا لَا يَكُونُ هُوَ بِإِيجَابِ النَّفَقَةِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِيجَابِ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ فَيَمْتَنِعُ الْوُجُوبُ بَلْ إذَا كَانَ مُسْتَغْنًى بِمَالِهِ كَانَ إيجَابُ النَّفَقَةِ فِي مَالِهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهَا فِي مَالِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ أَنَّهَا تَجِبُ لِلزَّوْجَةِ الْمُوسِرَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ تِلْكَ النَّفَقَةِ لَا يَتْبَعُ الْحَاجَةَ بَلْ لَهَا شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْمُعْسِرَةُ وَالْمُوسِرَةُ كَثَمَنِ الْبَيْعِ وَالْمَهْرِ وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْمُعْسِرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ قِيلَ: هُوَ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَقِيلَ: هُوَ الْمُحْتَاجُ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ مَنْزِلٌ وَخَادِمٌ هَلْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى قَرِيبِهِ الْمُوسِرِ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ.
فِي رِوَايَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ حَتَّى لَوْ كَانَ أُخْتًا لَا يُؤْمَرُ الْأَخُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بِنْتًا لَهُ أَوْ أُمًّا وَفِي رِوَايَةٍ يَسْتَحِقُّ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْمُحْتَاجِ وَهَؤُلَاءِ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاكْتِفَاءُ بِالْأَدْنَى بِأَنْ يَبِيعَ بَعْضَ الْمَنْزِلِ أَوْ كُلَّهُ وَيَكْتَرِيَ مَنْزِلًا فَيَسْكُنَ بِالْكِرَاءِ أَوْ يَبِيعَ الْخَادِمَ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ بَيْعَ الْمَنْزِلِ لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا وَكَذَا لَا يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ السُّكْنَى بِالْكِرَاءِ أَوْ بِالْمَنْزِلِ الْمُشْتَرَكِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ أَنْ لَا يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِبَيْعِ الدَّارِ بَلْ يُؤْمَرُ الْقَرِيبُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِهَؤُلَاءِ وَلَا يُؤْمَرُونَ بِبَيْعِ الْمَنْزِلِ ثُمَّ الْوَلَدُ الصَّغِيرُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَتَّى كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْأَبِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ الْمَالُ حَاضِرًا فِي يَدِ الْأَبِ أَنْفَقَ مِنْهُ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُشْهِدْ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُنْكِرَ الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ فَيَقُولُ لِلْأَبِ إنَّك أَنْفَقْت مِنْ مَالِ نَفْسِك لَا مِنْ مَالِي فَيُصَدِّقُهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُوسِرَ يُنْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لِوَلَدِهِ مَالٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَلَدِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَائِبًا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي إيَّاهُ بِالْإِنْفَاقِ لِيَرْجِعَ أَوْ يُشْهِدَ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ وَلَدِهِ لِيُمْكِنَهُ الرُّجُوعُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَبَرَّعُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى وَلَدِهِ فَإِذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ لِيَرْجِعَ أَوْ أَشْهَدَ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ فَقَدْ بَطَلَ الظَّاهِرُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَرْضِ وَهُوَ يَمْلِكُ إقْرَاضَ مَالِهِ مِنْ الصَّبِيِّ فَيُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسَعُهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَالْإِشْهَادِ بَعْدَ أَنْ نَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الصَّغِيرِ وَهُوَ يَمْلِكُ إثْبَاتَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إقْرَاضَ مَالِهِ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَالِمٌ بِنِيَّتِهِ فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالثَّانِي عَجْزُهُ عَنْ الْكَسْبِ بِأَنْ كَانَ بِهِ زَمَانَةٌ أَوْ قَعَدٌ أَوْ فَلَجٌ أَوْ عَمًى أَوْ جُنُونٌ أَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ أَشَلَّهُمَا أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَفْقُوءَ الْعَيْنَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ الِاكْتِسَابِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا لَا يُقْضَى لَهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا إلَّا لِلْأَبِ خَاصَّةً وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِنَفَقَةِ الْأَبِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُعْسِرًا عَلَى وَلَدِهِ الْمُوسِرِ وَكَذَا نَفَقَةُ الْجَدِّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ كَانَ مُسْتَغْنًى بِكَسْبِهِ فَكَانَ غِنَاهُ بِكَسْبِهِ كَغِنَاهُ بِمَالِهِ فَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى الْوَلَدَ عَنْ إلْحَاقِ أَدْنَى الْأَذَى بِالْوَالِدَيْنِ وَهُوَ التَّأْفِيفُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَمَعْنَى الْأَذَى فِي إلْزَامِ الْأَبِ الْكَسْبَ مَعَ غِنَى الْوَلَدِ أَكْثَرُ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّهْيِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الِابْنِ وَلِهَذَا لَا يُحْبَسُ الرَّجُلُ بِدَيْنِ ابْنِهِ وَيُحْبَسُ بِدَيْنِ أَبِيهِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ مَالَ الِابْنِ إلَى الْأَبِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ فَكَانَ مَالُهُ كَمَالِهِ وَكَذَا هُوَ كَسْبُ كَسْبِهِ؛ فَكَانَ كَكَسْبِهِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الطَّلَبَ وَالْخُصُومَةَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي فِي أَحَدِ نَوْعَيْ النَّفَقَةِ وَهِيَ نَفَقَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ فَلَا تَجِبُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَضَاءُ لابد لَهُ مِنْ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفِقِ خَاصَّةً فَيَسَارُهُ فِي قَرَابَةِ غَيْرِ الْوِلَادِ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُوسِرِ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ نَفَقَةٌ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ مِنْ طَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ لَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِذَا كَانَ يَسَارُ الْمُنْفِقِ شَرْطَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ فِي قَرَابَةِ ذِي الرَّحِمِ؛ فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْيَسَارِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ نِصَابَ الزَّكَاةِ قَالَ: ابْنُ سِمَاعَةَ قَالَ فِي نَوَادِرِهِ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ: لَا أُجْبِرُ عَلَى نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا وَلَيْسَ لَهُ عِيَالٌ وَلَهُ أُخْتٌ مُحْتَاجَةٌ لَمْ أُجْبِرْهُ عَلَى نَفَقَتِهَا وَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ وَيَكْتَسِبُ فِي الشَّهْرِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ نَفَقَةُ شَهْرٍ وَعِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَةِ شَهْرٍ لَهُ وَلِعِيَالِهِ؛ أُجْبِرُهُ عَلَى نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَمَّا مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ وَهُوَ يَكْتَسِبُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا يَكْتَفِي مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ دَوَانِيقَ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ مَا يَتَّسِعُ بِهِ وَيُنْفِقُ فَضْلَهُ عَلَى مَنْ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِ، وَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِفَايَةُ شَهْرٍ فَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَالِ وَالشَّهْرُ يَتَّسِعُ لِلِاكْتِسَابِ؛ فَكَانَ عَلَيْهِ صَرْفُ الزِّيَادَةِ إلَى أَقَارِبِهِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نَفَقَةَ ذِي الرَّحِمِ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ كَالصَّدَقَةِ وَحَدُّ الْغِنَى فِي الشَّرِيعَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَوْفَقُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ كَسْبٌ دَائِمٌ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى جَمِيعِهِ فَمَا زَادَ عَلَى كِفَايَتِهِ يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى أَقَارِبِهِ كَفَضْلِ مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ وَالنَّفَقَةُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِبَارِ بِالنِّصَابِ فِيهَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا إمْكَانُ الْأَدَاءِ، وَلَوْ طَلَبَ الْفَقِيرُ الْعَاجِزُ عَنْ الْكَسْبِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ نَفَقَةً فَقَالَ: أَنَا فَقِيرٌ وَادَّعَى هُوَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَقْرُ وَالْغِنَى عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى النِّكَاحِ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ فَبَطَلَتْ شَهَادَةُ الظَّاهِرِ.
وَأَمَّا قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُنْفِقُ هُوَ الْأَبَ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ يَسَارُهُ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ بَلْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْكَسْبِ كَافِيَةٌ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الذُّكُورِ الزَّمْنَى الْفُقَرَاءِ وَالْإِنَاثِ الْفَقِيرَاتِ وَإِنْ كُنَّ صَحِيحَاتٍ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ وَعَجْزِهِمْ عَنْ الْكَسْبِ إحْيَاؤُهُمْ وَإِحْيَاؤُهُمْ إحْيَاءُ نَفْسِهِ؛ لِقِيَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ جَدٌّ مُوسِرٌ لَمْ يُفْرَضْ النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ الْجَدُّ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى ابْنِهِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ إذَا كَانَ الْأَبُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ ابْنِهِ فَنَفَقَةُ أَوْلَادِهِ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَبُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ بِأَنْ كَانَ زَمِنًا قُضِيَ بِنَفَقَتِهِمْ عَلَى الْجَدِّ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ نَفَقَةَ أَبِيهِمْ فَكَذَا نَفَقَتُهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي صَغِيرٍ لَهُ وَالِدٌ مُحْتَاجٌ وَهُوَ زَمِنٌ فُرِضَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى قَرَابَتِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ دُونَ قَرَابَتِهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ كُلُّ مَنْ أَجْبَرْته عَلَى نَفَقَةِ الْأَبِ أَجْبَرْته عَلَى نَفَقَةِ الْغُلَامِ إذَا كَانَ زَمِنًا؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ زَمِنًا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى قَرَابَتِهِ فَكَذَا نَفَقَةُ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ قَضَيْت بِنَفَقَتِهِ عَلَى أَبِيهِ وَأَمَرْت الْخَالَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَيَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَرَابَةِ الْأَبِ وَقَرَابَةِ الْأُمِّ أَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَةُ الْأَبِ إذَا كَانَ زَمِنًا فَكَذَا نَفَقَةُ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَأَمَّا قَرَابَةُ الْأُمِّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَةُ الْأَبِ وَلَا نَفَقَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُنْفِقُ هُوَ الِابْنَ وَهُوَ مُعْسِرٌ مُكْتَسِبٌ يُنْظَرُ فِي كَسْبِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ قُوتِهِ يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَبِ مِنْ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَفْضُلُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ يُؤْمَرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَاسِيَ أَبَاهُ؛ إذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَتْرُكَ أَبَاهُ ضَائِعًا جَائِعًا يَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَلَهُ كَسْبٌ وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَتُفْرَضَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ إذَا طَلَبَ الْأَبُ الْفَرْضَ أَوْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ إذَا طَلَبَ الْأَبُ ذَلِكَ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَصَابَ النَّاسَ السَّنَةُ لَأَدْخَلْت عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ مِثْلَهُمْ فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَهْلِكُوا عَلَى أَنْصَافِ بُطُونِهِمْ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ» وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْإِشْرَاكِ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ الْمُعْسِرِ يُؤَدِّي إلَى إعْجَازِهِ عَنْ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ لَا يَقُومُ إلَّا بِكَمَالِ الْقُوَّةِ وَكَمَالُ الْقُوَّةِ بِكَمَالِ الْغِذَاءِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ نِصْفَيْنِ؛ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَسْبِ وَفِيهِ خَوْفُ هَلَاكِهِمَا جَمِيعًا، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ الِابْنُ يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِ رَجُلٍ غَنِيٍّ يُعْطِيهِ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا أَوْ رَغِيفَيْنِ أَيُؤْمَرُ الِابْنُ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدَهُمَا أَبَاهُ؟ قَالَ: لَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَلَوْ قَالَ الْأَبُ لِلْقَاضِي: إنَّ ابْنِي هَذَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَكْتَسِبَ مَا يَفْضُلُ عَنْ كَسْبِهِ مِمَّا يُنْفِقُ عَلَيَّ لَكِنَّهُ يَدَعُ الْكَسْبَ عَمْدًا يَقْصِدُ بِذَلِكَ عُقُوقِي؛ يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ الْأَبُ صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ أَمَرَ الِابْنَ بِأَنْ يَكْتَسِبَ فَيُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اكْتِسَابِ زِيَادَةٍ؛ تَرَكَهُ، هَذَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ وَاحِدًا.
فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ وَزَوْجَةٌ وَلَا يَفْضُلُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ يُنْفِقُ عَلَى أَبِيهِ فَطَلَبَ الْأَبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُدْخِلَهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى عِيَالِهِ يُدْخِلُهُ الْقَاضِي هَاهُنَا؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَا يُخِلُّ بِطَعَامِهِمْ خَلَلًا بَيِّنًا بِخِلَافِ إدْخَالِ الْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ بِأَنْ كَانَ زَمِنًا يُشَارِكُ الِابْنَ فِي قُوتِهِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ فَيَأْكُلُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُشَارَكَةِ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَفِي تَرْكِ الْمُشَارَكَةِ خَوْفُ هَلَاكِ الْأَبِ فَتَجِبُ الْمُشَارَكَةُ وَكَذَلِكَ الْأُمُّ إذَا كَانَتْ فَقِيرَةً تَدْخُلُ عَلَى ابْنِهَا فَتَأْكُلُ مَعَهُ لَكِنْ لَا يُفْرَضُ لَهُمَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اتِّحَادُ الدِّينِ فِي غَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَجْرِي النَّفَقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ فَأَمَّا فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ فَاتِّحَادُ الدِّينِ فِيهِمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ أُمِّهِمْ وَنَفَقَةُ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ وَلَا تَجِبُ صِلَةُ رَحِمِ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَتَجِبُ صِلَةُ رَحِمِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَتْلِ أَخِيهِ الْحَرْبِيِّ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَتْلِ أَبِيهِ الْحَرْبِيِّ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ بِحَقِّ الْوِلَادَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوِلَادَةَ تُوجِبُ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ؛ فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَالْوُجُوبُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ وَلَا وِرَاثَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ فَلَا نَفَقَةَ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ ابْنَانِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ ذِمِّيٌّ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ الْوِلَادَةِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ.
وَالثَّانِي اتِّحَادُ الدَّارِ فِي غَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَجْرِي النَّفَقَةُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَلَا بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لِحَوَائِجَ يَقْضِيهَا ثُمَّ يَعُودُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يُمَكِّنُهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ إطَالَةِ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَاخْتَلَفَ الدَّارَانِ وَكَذَا لَا نَفَقَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ الْمُتَوَطِّنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَلَا تَجِبُ هَذِهِ الصِّلَةُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَتَجِبُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْوُجُوبَ هاهنا بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ وَلَا وِرَاثَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَالْوُجُوبُ هُنَاكَ بِحَقِّ الْوِلَادَةِ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا فَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي أَحَدِ نَوْعَيْ النَّفَقَةِ وَهِيَ نَفَقَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَجِبُ هَذِهِ النَّفَقَةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْوِلَادِ حَتَّى تَجِبَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ نَفَقَةَ الْوِلَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْإِحْيَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ بَيْنَ الْمُنْفِقِ وَالْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إحْيَاءُ نَفْسِهِ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَقِفُ وُجُوبُهُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فَأَمَّا نَفَقَةُ سَائِرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَيْسَ وُجُوبُهَا مِنْ طَرِيقِ الْإِحْيَاءِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ صِلَةً مَحْضَةً فَجَازَ أَنْ يَقِفَ وُجُوبُهَا عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَبِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ؛ لِأَنَّ لَهَا شَبَهًا بِالْأَعْوَاضِ فَمِنْ حَيْثُ هِيَ صِلَةٌ لَمْ تَصِرْ دَيْنًا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَرِضًا وَمِنْ حَيْثُ هِيَ عِوَضٌ تَجِبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ غَائِبًا وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِالنَّفَقَةِ مِنْ مَالِهِ إلَّا الْأَبَوَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ وَأَوْلَادَهُ الْفُقَرَاءَ الصِّغَارَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَالْكِبَارَ الذُّكُورَ الْفُقَرَاءَ الْعَجَزَةَ عَنْ الْكَسْبِ وَالْإِنَاثَ الْفَقِيرَاتِ وَالزَّوْجَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ إلَّا لِهَؤُلَاءِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِهِ فَيَأْخُذَهُ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُحْتَاجًا وَلَهُمْ ذَلِكَ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ مِنْ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ لِغَيْرِهِمْ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ قَضَاءً بَلْ يَكُونُ إعَانَةً ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ حَاضِرًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَكَانَ النَّسَبُ مَعْرُوفًا أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالنَّفَقَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ الْأَمْرُ مِنْ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ إعَانَةً لَا قَضَاءً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّسَبِ فَطَلَبَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَالُهُ وَدِيعَةً عِنْدَ إنْسَانٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهَا أَمَرَهُمْ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ دَفَعَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْ الْمَدْيُونُ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي يَضْمَنُ، وَإِذَا وَقَعَ بِإِذْنِهِ لَا يَضْمَنُ وَاسْتَوْثَقَ الْقَاضِي مِنْهُمْ كَفِيلًا إنْ شَاءَ وَكَذَا لَا يَأْمُرُ الْجَدَّ وَوَلَدَ الْوَلَدِ حَالَ وُجُودِ الْأَبِ وَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَ وُجُودِهِمَا بِمَنْزِلَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَيَأْمُرُهُمَا حَالَ عَدَمِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ حَالَ عَدَمِهِ وَوَلَدَ الْوَلَدِ يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ حَالَ عَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْ الْمَدْيُونُ مُنْكِرًا فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ أَنْفَقَ الْأَبُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ ثُمَّ حَضَرَ الِابْنُ فَقَالَ لِلْأَبِ: كُنْت مُوسِرًا، وَقَالَ الْأَبُ: كُنْت مُعْسِرًا يُنْظَرُ إلَى حَالِ الْأَبِ وَقْتَ الْخُصُومَةِ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ حَالِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالتَّغَيُّرُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَيُحَكَّمُ الْحَالُ وَصَارَ هَذَا كَالْآجِرِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي جَرَيَانِ الْمَاءِ وَانْقِطَاعِهِ أَنَّهُ يُحَكَّمُ الْحَالُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الِابْنِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا زَائِدًا وَهُوَ الْغِنَى.
هَذَا إذَا كَانَ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا فَالْقَاضِي لَا يَبِيعُ عَلَى الْغَائِبِ الْعَقَارَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ بِالْإِنْفَاقِ وَكَذَا الْأَبُ إلَّا إذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَلْيَبِعْ الْعَقَارَ.
وَأَمَّا الْعُرُوض فَهَلْ يَبِيعُهَا الْقَاضِي؟ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَهَلْ يَبِيعُهَا الْأَبُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبِيعُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَا الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَبِيعُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأُمَّ لَا تَبِيعُ مَالَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَكَذَا الْأَوْلَادُ لَا يَبِيعُونَ مَالَ الْأَبَوَيْنِ.
(وَجْهٌ) قَوْلِهِمَا- وَهُوَ الْقِيَاسُ- أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ عَلَى الْوَلَدِ الْكَبِيرِ فَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَقَارِبِ سَوَاءً؛ وَلِهَذَا لَا يَبِيعُ الْعَقَارَ وَكَذَا الْعُرُوض وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ نَظَرًا لِلْوَلَدِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ فَكَانَ بَيْعُهَا مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَالْأَبُ يَمْلِكُ النَّظَرَ لِوَلَدِهِ بِحِفْظِ مَالِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْعَقَارِ فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى حِفْظِهِ بِالْبَيْعِ فَيَبْقَى بَيْعُهُ تَصَرُّفًا عَلَى الْوَلَدِ الْكَبِيرِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ مَالَ الْوَلَدِ إلَى الْوَالِدِ وَسَمَّاهُ كَسْبًا لَهُ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَظْهَرَ فِي وِلَايَةِ بَيْعِ عَرَضِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.