فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ:

وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا قَالَ الْغَاصِبُ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِي، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْغَاصِبِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُ الْغَاصِبَ مُدَّةً لَوْ كَانَ قَائِمًا لَأَظْهَرَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هُوَ وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، وَالْقِيمَةُ خَلَفٌ عَنْهُ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْعَجْزُ عَنْ الْأَصْلِ لَا يَقْضِي بِالْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ خَلْفٌ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْغَصْبِ، أَوْ فِي جِنْسِ الْمَغْصُوبِ وَنَوْعِهِ، أَوْ قَدْرِهِ، أَوْ صِفَتِهِ، أَوْ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إذْ الْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِمَا يَدَّعِي الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَادَّعَى الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ، إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْغَصْبِ إقْرَارٌ بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُودِ الضَّمَانِ مِنْهُ فَهُوَ بِقَوْلِهِ: رَدَدْت عَلَيْك يَدَّعِي انْفِسَاخَ السَّبَبِ، فَلَا يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ الْعَيْبَ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الْغَصْبِ مِنْهُ إقْرَارٌ بِوُجُودِ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ فَهُوَ يَدَّعِي إحْدَاثَ الْعَيْبِ مِنْ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَيَدَّعِي خُرُوجَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَنْ ضَمَانِهِ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ الدَّابَّةَ وَنَفَقَتْ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ وَأَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِمَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِالْغَصْبِ وَمَا عَلِمُوا بِالرَّدِّ، فَبَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ وَشُهُودُ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ بِالرَّدِّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَهُوَ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الرَّدِّ أَوْلَى، كَمَا فِي شُهُودِ الْجُرْحِ مَعَ شُهُودِ التَّزْكِيَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ وَمَاتَ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ فِي يَدِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْغَصْبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْغَصْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، فَلَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ، وَهُوَ حَالُ الْيَدِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى لِجَوَازِ أَنَّهُمْ عَلِمُوهَا ثَابِتَةً، وَلَمْ يَعْلَمُوهَا بِالْغَصْبِ وَظَنُّوا تِلْكَ الْيَدَ قَائِمَةً فَاسْتُصْحِبُوهَا وَشُهُودُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ تَحَقُّقَ الْغَصْبِ، فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَاصِبَ غَصَبَ هَذَا الْعَبْدَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ هُوَ وَالْعَبْدُ، فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَتْ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِلَا مُعَارِضٍ فَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْإِمْلَاءِ: إذَا أَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَأَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْغَاصِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى إثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الرَّدُّ، وَبَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ قَامَتْ عَلَى إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ الْغَصْبُ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الرَّدِّ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّابَّةَ نَفَقَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ مِنْ رُكُوبِهِ، وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا تَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ رَدَّهَا، ثُمَّ غَصَبَهَا ثَانِيًا وَرَكِبَهَا فَنَفَقَ فِي يَدِهِ فَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنَّ الْغَاصِبَ قَتَلَهَا، وَشَهِدَ شُهُودُ الْغَاصِبِ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ غَصَبْنَا مِنْكَ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: كُنَّا عَشَرَةً، قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُصَدَّقُ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُصَدَّقُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: غَصَبْنَا مِنْكَ حَقِيقَةٌ لِلْجَمْعِ، وَالْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَاجِبٌ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْوَاحِدِ تَرْكٌ لِلْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ فَيُصَدَّقُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَصَبْنَا إخْبَارٌ عَنْ وُجُودِ الْغَصْبِ مِنْ جَمَاعَةٍ مَجْهُولِينَ، فَلَوْ عَمِلْنَا بِحَقِيقَتِهِ لَأَلْغَيْنَا كَلَامَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: مَسَائِلُ الْإِتْلَافِ:

وَأَمَّا مَسَائِلُ الْإِتْلَافِ فَالْكَلَامُ فِيهَا أَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ، فَإِنْ وَرَدَ عَلَى بَنِي آدَمَ فَحُكْمُهُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شُرُوطِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً، وَهَذَا اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَقَدْ تَعَذَّرَ نَفْيُ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، فَيَجِبُ نَفْيُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالضَّمَانِ لِيَقُومَ الضَّمَانُ مَقَامَ الْمُتْلَفِ فَيَنْتَفِي الضَّرَرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَوْقَ الْغَصْبِ، فَلَمَّا وَجَبَ بِالْغَصْبِ فَلَأَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ أَوْلَى، سَوَاءٌ وَقَعَ إتْلَافًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ صَالِحًا لِلِانْتِفَاعِ، أَوْ مَعْنًى بِإِحْدَاثِ مَعْنًى فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ قِيَامِهِ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ سَوَاءٌ كَانَ الْإِتْلَافُ مُبَاشَرَةً بِإِيصَالِ الْآلَةِ بِمَحِلِّ التَّلَفِ، أَوْ تَسْبِيبًا بِالْفِعْلِ فِي مَحِلٍّ يُفْضِي إلَى تَلَفٍ غَيْرِهِ عَادَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ إذَا قَتَلَ دَابَّةَ إنْسَانٍ، أَوْ أَحْرَقَ ثَوْبَهُ، أَوْ قَطَعَ شَجَرَةَ إنْسَانٍ، أَوْ أَرَاقَ عَصِيرَهُ، أَوْ هَدَمَ بِنَاءَهُ ضَمِنَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُتْلَفُ فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لِتَحَقُّقِ الْإِتْلَافِ فِي الْحَالَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ إنْ كَانَ مَنْقُولًا وَهُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُتْلِفِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِتْلَافَ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ضَمِنَ الْمُتْلِفُ وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَوَابُ فِيهِ، وَفِي الْمَنْقُولِ سَوَاءٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ، كَمَا فِي الْمَنْقُولِ.
وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَ مَالُ إنْسَانٍ بِمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ضَمِنَ النُّقْصَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْهُ وَتَضْمِينُهُ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَضْمَنُ قَدْرَ النُّقْصَانِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ، غَيْرَ أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ بِفِعْلِ غَيْرِ الْغَاصِبِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ وَيَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الَّذِي نَقَصَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي نَقَصَ وَهُوَ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَازْدَادَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَاتِلَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَا وُجُوبِ الضَّمَانِ الْغَصْبَ وَالْقَتْلَ.
وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْغَصْبِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْقَتْلِ؛ لِذَلِكَ ضَمِنَ الْغَاصِبُ أَلْفًا وَالْقَاتِلُ أَلْفَيْنِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْقَاتِلُ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِأَلْفَيْنِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى الْأَلْفِ.
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِأَلْفَيْنِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَتْلَ وَرَدَ عَلَى عَبْدِ الْغَاصِبِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ.
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى الْأَلْفِ فَلِتَمَكُّنِ الْخَبَثِ فِيهِ لِاخْتِلَالِ الْمِلْكِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَظْهَرَ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْفَضْلُ طَيِّبٌ لَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ خَطَأً، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَتَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَتْلِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا كَانَ حَيَوَانًا سِوَى بَنِي آدَمَ فَقَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، إلَّا يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا لَهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفًا؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ يُهْدَرُ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَتْ وَلَدهَا، ثُمَّ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ، فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهَا وَلَدَهَا هَدَرٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهَلَكَ أَمَانَةً وَبَقِيَتْ الْأُمُّ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ، وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَخَلَطَ الْمُسْتَوْدَعُ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ بِالْآخَرِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ وَقَعَ إتْلَافًا مَعْنًى، وَعِنْدَهُمَا هُمَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَا ذَلِكَ وَيَقْتَسِمَاهُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَاهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ.
ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَسَعُ الْمُودَعُ أَكْلَ هَذِهِ الدَّرَاهِم حَتَّى يُؤَدِّيَ مِثْلَهَا إلَى أَصْحَابِهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ لَا خِلَافَ فِيهِ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ انْقَطَعَ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُسْتَوْدَعِ لَكِنْ فِيهِ خَبَثٌ فَيُمْنَعُ مِنْ الصَّرْفِ فِيهِ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ كُرَّانِ اغْتَصَبَ رَجُلٌ أَحَدَهُمَا، أَوْ سَرَقَهُ، ثُمَّ إنَّ الْمَالِكَ أَوْدَعَ الْغَاصِبَ، أَوْ السَّارِقَ ذَلِكَ الْآخَرَ فَخَلَطَهُ بِكُرِّ الْغَصْبِ ثُمَّ ضَاعَ ذَلِكَ كُلُّهُ ضَمِنَ كُرَّ الْغَصْبِ، وَلَمْ يَضْمَنْ كُرَّ الْوَدِيعَةِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ وَبَقِيَ الْكُرُّ الْمَضْمُونُ وَكُرُّ الْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِمَا فَصَارَ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا قَبْلَ الْخَلْطِ، وَلَوْ خَلَطَ الْغَاصِبُ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ مِثْلَهَا وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِالْخَلْطِ.
وَإِنْ مَاتَ كَانَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا وَصَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَلَوْ اخْتَلَطَتْ دَرَاهِمُ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، فَلَا يَضْمَنُ وَهُوَ شَرِيكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ هَلَاكٌ، وَلَيْسَ بِإِهْلَاكٍ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا وَصَارَا شَرِيكَيْنِ لِاخْتِلَاطِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ صَبَّ مَاءً فِي طَعَامٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَهُ وَزَادَ فِي كَيْلِهِ فَلِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَصُبَّ فِيهِ الْمَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ طَعَامًا مِثْلَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ كَيْلِهِ قَبْلَ صَبِّ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَبَّ مَاءً فِي دُهْنٍ، أَوْ زَيْتٍ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ الطَّعَامِ الْمَبْلُولِ وَالدُّهْنِ الْمَصْبُوبِ فِيهِ الْمَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَبْلَ صَبِّ الْمَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ غَصْبٌ مُتَقَدِّمٌ، حَتَّى لَوْ غَصَبَ ثُمَّ صَبَّ، فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ مِنْهُ وَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِهِمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَضْمَنُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ طَارَ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ ضَمِنَ، وَإِنْ مَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ طَارَ لَا يَضْمَنُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَقَعَ إتْلَافًا لِلطَّيْرِ تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّ الطَّيَرَانَ لِلطَّيْرِ طَبْعٌ لَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَطِيرُ إذَا وَجَدَ الْمُخَلِّصَ، فَكَانَ الْفَتْحُ إتْلَافًا لَهُ تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ، كَمَا إذَا شَقَّ زِقَّ إنْسَانٍ فِيهِ دُهْنٌ مَائِعٌ فَسَالَ وَهَلَكَ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: إذَا مَكَثَ سَاعَةً لَمْ يَكُنْ الطَّيَرَانُ بَعْدَ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى الْفَتْحِ، بَلْ إلَى اخْتِيَارِهِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَتْحَ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا.
(أَمَّا) الْمُبَاشَرَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ.
(وَأَمَّا) التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الطَّيْرَ مُخْتَارٌ فِي الطَّيَرَانِ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ وَكُلُّ حَيٍّ لَهُ اخْتِيَارٌ، فَكَانَ الطَّيَرَانُ مُضَافًا إلَى اخْتِيَارِهِ وَالْفَتْحُ سَبَبًا مَحْضًا، فَلَا حُكْمَ لَهُ كَمَا إذَا حَلَّ الْقَيْدَ عَنْ عَبْدِ إنْسَانٍ، حَتَّى آبِقَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ شَقِّ الزِّقِّ الَّذِي فِيهِ دُهْنٌ مَائِعٌ؛ لِأَنَّ الْمَائِعَ سَيَّالٌ بِطَبْعِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الِاسْتِمْسَاكُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ، إلَّا عَلَى نَقْضِ الْعَادَةِ، فَكَانَ الْفَتْحُ تَسَبُّبًا لِلتَّلَفِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا حَلَّ رِبَاطَ الدَّابَّةِ، أَوْ فَتَحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ، حَتَّى خَرَجَتْ الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ، وَقَالُوا إذَا حَلَّ رِبَاطَ الزَّيْتِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَائِبًا فَسَالَ مِنْهُ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ جَامِدًا فَذَابَ بِالشَّمْسِ وَزَالَ لَمْ يَضْمَنْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَائِعَ يَسِيلُ بِطَبْعِهِ إذَا وَجَدَ مَنْفَذًا بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ اسْتِمْسَاكُهُ عَادَةً، فَكَانَ حَلُّ الرِّبَاطِ إتْلَافًا لَهُ تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْجَامِدِ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ طَبْعُ الْمَائِعِ لَا طَبْعُ الْجَامِدِ، وَهُوَ وَإِنْ صَارَ مَائِعًا لَكِنْ لَا بِصُنْعِهِ، بَلْ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ، فَلَمْ يَكُنْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا، فَلَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ صَبِيًّا صَغِيرًا حُرًّا مِنْ أَهْلِهِ فَعَقَرَهُ سَبْعٌ، أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، أَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ، أَوْ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْ الْغَاصِبِ تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْفُوظًا بِيَدِ وَلِيِّهِ، إذْ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا فَوَّتَ حِفْظَ الْأَهْلِ عَنْهُ وَلَمْ يَحْفَظْهُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى أَصَابَتْهُ آفَةٌ فَقَدْ ضَيَّعَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إتْلَافًا تَسْبِيبًا، وَالْحُرُّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً كَانَ أَوْ تَسْبِيبًا، وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يَتَّبِعُوا أَيَّهمَا شَاءُوا الْغَاصِبَ أَوْ الْقَاتِلَ.
(أَمَّا) الْقَاتِلُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ مُبَاشَرَةً.
(وَأَمَّا) الْغَاصِبُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَالتَّسَبُّبُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاشَرَةِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ ضَمِنُوا فَإِنْ اتَّبَعُوا الْقَاتِلَ بِالْمَالِ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قَامَ مَقَامَ الْمُسْتَحَقِّ فِي حَقِّ مِلْكِ الضَّمَانِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَضْمُونِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِهِ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطُ إنْسَانٍ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ وَيَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ إنْ كَانَ تَقَدَّمَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عَمْدًا فَأَوْلِيَاؤُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا قَتَلُوا الْقَاتِلَ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ.
وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ عَمْدًا، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ الْقِصَاصُ.
(أَمَّا) وِلَايَةُ الْقِصَاصِ مِنْ الْقَاتِلِ فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْخَالِي عَنْ الْمَوَانِعِ.
(وَأَمَّا) وِلَايَةُ اتِّبَاعِ الْغَاصِبِ بِالدِّيَةِ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنْ قَتَلُوا الْقَاتِلَ بَرِئَ الْغَاصِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي قَتْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ تَرْجِعُ عَاقِلَتُهُ عَلَى مَالِ الْقَاتِلِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لَهُمْ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، إذْ هُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، فَلَمْ يَقُمْ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ فِي مِلْكِ الْقِصَاصِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ مَالًا، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ فِي مِلْكِ الْمَالِ.
وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ إنْسَانًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ عَلَى الْوَلِيِّ وَضَمِنَ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ ضَمَانِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَصِيرُ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ لَا بِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ، أَوْ أَتَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ أَرْكَبَهُ الْغَاصِبُ دَابَّةً فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْهَا فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ سَقَطَتْ يَدُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِالْغَصْبِ وَالْحُرُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ كَذَا هَذَا.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحُرَّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسْبِيبًا، وَقَدْ وُجِدَ التَّسْبِيبُ مِنْ الْغَاصِبِ حَيْثُ تَرَكَ حِفْظَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَكَانَ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَوْ مَاتَتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ فِي الصَّبِيِّ الْحُرِّ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَغْرَم قِيمَتَهَا حَالَّةً فِي مَالِهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا، وَأُمُّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ، وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فِي الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ وُجُوبِ هَذَا الضَّمَانِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ هَذَا الضَّمَانِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ مَالًا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ وَجِلْدِ الْمَيِّتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْبُيُوعِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَى الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا لِسُقُوطِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا يَضْمَنُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالدَّلَائِلُ مَرَّتْ فِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ، وَلَوْ أَتْلَفَ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَمَّا فِي الْخِنْزِيرِ، فَلَا يَبْرَأُ الْمُتْلِفُ عَنْ الضَّمَانِ الَّذِي لَزِمَهُ سَوَاءٌ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، أَوْ الْمَطْلُوبُ، أَوْ أَسْلَمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِإِتْلَافِ الْخِنْزِيرِ الْقِيمَةُ وَإِنَّهَا دَرَاهِمُ، أَوْ دَنَانِيرُ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
(وَأَمَّا) فِي الْخَمْرِ فَإِنْ أَسْلَمَا جَمِيعًا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الطَّالِبُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْمُتْلِفُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْخَمْرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، أَوْ لَمْ يُسْلِمْ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْخَمْرِ وَلَا يُتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعَافِيَةَ بْنِ زَيْدٍ الْقَاضِي وَهُوَ رِوَايَتُهُمْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ وَيَتَحَوَّلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَمْرِ إلَى الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْإِتْلَافُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلذِّمِّيِّ، فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَلَوْ كَسَرَ عَلَى إنْسَانٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ خَشَبًا مَنْحُوتًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى خَشَبًا أَلْوَاحًا.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا آلَةُ اللَّهْوِ وَالْفَسَادِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَمَا يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَالْفَسَادِ يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَاقَ لِإِنْسَانٍ مُسْكِرًا، أَوْ مُنَصَّفًا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَلَوْ أَحْرَقَ بَابًا مَنْحُوتًا عَلَيْهِ تَمَاثِيلُ مَنْقُوشَةٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَنْقُوشٍ بِتَمَاثِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِنَقْشِ التَّمَاثِيلِ؛ لِأَنَّ نَقْشَهَا مَحْظُورٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ قَطَعَ رُءُوسَ التَّمَاثِيلِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَنْقُوشًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تِمْثَالًا بِلَا رَأْسٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، فَكَانَ النَّقْشُ مَنْقُوشًا وَلَوْ أَحْرَقَ بِسَاطًا فِيهِ تَمَاثِيلُ رِجَالٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مُصَوَّرًا؛ لِأَنَّ التِّمْثَالَ عَلَى الْبِسَاطِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ؛ لِأَنَّ الْبِسَاطَ يُوطَأُ، فَكَانَ النَّقْشُ مُتَقَوِّمًا، وَلَوْ هَدَمَ بَيْتًا مُصَوَّرًا ضَمِنَ قِيمَةَ الْبَيْتِ، وَالصُّوَرُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ؛ لِأَنَّ الصُّوَرَ عَلَى الْبَيْتِ لَا قِيمَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَأَمَّا الصِّبْغُ فَمُتَقَوِّمٌ، وَلَوْ قَتَلَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ضَمِنَ قِيمَتَهَا غَيْرَ مُغَنِّيَةٍ؛ لِأَنَّ الْغِنَاءَ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ، هَذَا إذَا كَانَ الْغِنَاءُ زِيَادَةً فِي الْجَارِيَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ نُقْصَانًا فِيهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ قِيمَتِهَا، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا إذْ التَّقَوُّمُ يُبْنَى عَلَى الْعِزَّةِ وَالْحَظْرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، إلَّا بِالْإِحْرَازِ وَالِاسْتِيلَاءِ.
(وَأَمَّا)
الْمُبَاحُ الْمَمْلُوكُ وَهُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ شِئْت قُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى شَرْطِ التَّقَوُّمِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا، أَرْضٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ زَرْعَهَا أَحَدُهُمَا وَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الَّذِي لَمْ يَزْرَعْ نِصْفَ الْبَذْرِ، وَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا فَهَذَا لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ كَانَ الزَّرْعُ نَبَتَ (وَإِمَّا) أَنْ كَانَ لَمْ يَنْبُتْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ نَبَتَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعُ الْحَشِيشِ بِالْحِنْطَةِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ.
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْبُتْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا بَقِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ مِمَّا تَلِفَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَإِنْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَطَلَبَ الَّذِي لَمْ يَزْرَعْ الْقِسْمَةَ قَسَمَ، وَأَمَرَ الَّذِي زَرَعَ أَنْ يَقْلَعَ مَا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مَشْغُولٌ بِمِلْكِهِ فَيُجْبَرُ عَلَى تَفْرِيغِهِ وَتَضْمِينِهِ نُقْصَانَ الزِّرَاعَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَتْ مَالَ إنْسَانٍ بَهِيمَةٌ لَا ضَمَانَ عَلَى مَالِكِهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ، فَكَانَ هَدَرًا وَلَا إتْلَافَ مِنْ مَالِكِهَا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِإِتْلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَلَا عَلَى الْحَرْبِيِّ بِإِتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْعَادِلِ إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْبَاغِي، وَلَا عَلَى الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْوُجُوبِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ، فَأَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ، إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْخُوذٌ بِضَمَانِ الْإِتْلَافِ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَةُ الْمُتْلَفِ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِتَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ مَعَ إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ، وَكَذَا كَسْرُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مُبَاحٌ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ بِإِذْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ، فَلَا يُفِيدُ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُتْلَفِ مَالَ الْغَيْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْغَصْبِ عَلَى مَا مَرَّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ يَضْمَنُ وَيَأْثَمُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِ مَا سِوَى بَنِي آدَمَ: فَالْوَاجِبُ بِهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ وَهُوَ ضَمَانُ الْمِثْلِ إنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ، فَعِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمِثْلِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ، كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.