فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ الْإِجَارَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: صِفَةُ الْإِجَارَةِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ إذَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً عَرِيَّةً عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا تُفْسَخُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَقَالَ شُرَيْحٌ: إنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ وَتُفْسَخُ بِلَا عُذْرٍ؛ لِأَنَّهَا إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَتْ الْإِعَارَةَ، وَلَنَا أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَالْفَسْخُ لَيْسَ مِنْ الْإِيفَاءِ بِالْعَقْدِ وَقَالَ عُمَرُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ جَعَلَ الْبَيْعَ نَوْعَيْنِ: نَوْعًا لَا خِيَارَ فِيهِ، وَنَوْعًا فِيهِ خِيَارٌ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعٌ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَوْعَيْنِ، نَوْعًا لَيْسَ فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ، وَنَوْعًا فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ وَلِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِيهَا بِالْفَسْخِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَحَمُّلِ ضَرَرٍ كَالْبَيْعِ.

.فَصْلٌ: حُكْمُ الْإِجَارَةِ:

وَأَمَّا حُكْمُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ لَا تَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ فَاسِدَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ بَاطِلَةً.
أَمَّا الصَّحِيحَةُ: فَلَهَا أَحْكَامٌ، بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْآجِرِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ.
وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِهِ فَالْعَقْدُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ عُقِدَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ، وَإِمَّا أَنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ أَوْ تَأْجِيلُهَا.
فَإِنْ عُقِدَ مُطْلَقًا؛ فَالْحُكْمُ يَثْبُتُ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُؤَاجِرِ فِي الْأُجْرَةِ وَقْتَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعَقْدِ فَعِنْدَنَا: يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ الْمُدَّةُ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا فِي الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُمْلَكُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ مُطْلَقَةً، وَالْمُعَاوَضَةُ الْمُطْلَقَةُ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لابد لَهُ مِنْ مَحَلٍّ تَثْبُتُ فِيهِ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْحَالِ حَقِيقَةً، فَتُجْعَلُ مَوْجُودَةً حُكْمًا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَقَدْ يُجْعَلُ الْمَعْدُومُ حَقِيقَةً مَوْجُودًا تَقْدِيرًا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَلَنَا أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ الْمُطْلَقَةَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَثْبُتُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ، إذْ لَوْ ثَبَتَ لَا يَكُونُ مُعَاوَضَةً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ مَطْلُوبُ الْعَاقِدَيْنِ، وَلَا مُسَاوَاةَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَالْمِلْكُ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَهُوَ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تَثْبُتُ فِي الْأُجْرَةِ فِي الْحَالِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَثْبُتُ؟ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ: إنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِثْلُ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ سَنَةً أَوْ عَشْرَ سِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ رَجَعَ هُنَا فَقَالَ: تَجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا وَفِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ مِثْلَ إنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا كَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلَ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ حَتَّى يَعُودَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يُسَلِّمُ حَالًا فَحَالًا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ أُجْرَةَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ أَوْ الْمَسَافَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَعْقُودٌ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَمَا لَمْ يَسْتَوْفِهَا كُلَّهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِهَا، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا يَخِيطُ ثَوْبًا فَخَاطَ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، وَكَذَا الْقَصَّارُ، وَالصَّبَّاغُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ الثَّانِي- وَهُوَ الْمَشْهُورُ- أَنَّهُ مِلْكُ الْبَدَلِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَيَمْلِكُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا، فَكَذَا مَا يُقَابِلُهَا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ سَاعَةً فَسَاعَةً، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَاسْتُحْسِنَ، فَقَالَ: يَوْمًا فَيَوْمًا وَمَرْحَلَةً فَمَرْحَلَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ ثُلُثَ الطَّرِيقِ أَوْ نِصْفَهُ أَعْطَى مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ اسْتِحْسَانًا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّيْرَ إلَى ثُلُثِ الطَّرِيقِ أَوْ نِصْفِهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ الْقَدْرُ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ بَدَلِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَبْرَأَ الْمُؤَاجِرُ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ عَيْنًا كَانَ الْأَجْرُ أَوْ دَيْنًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ دَيْنًا جَازَ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ خَارِجٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَمْ يَمْلِكْهَا الْمُؤَاجِرُ فِي الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ، وَالْإِبْرَاءُ عَمَّا لَيْسَ بِمَمْلُوكِ الْمُبْرِئِ لَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، وَإِنَّمَا التَّأْجِيلُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءِ عَنْهُ، وَهِبَةُ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ لَا تَصِحُّ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقَبُولِ، فَإِذَا قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّةَ تَصَرُّفِهِمَا، وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالْمِلْكِ، فَيُثْبِتُ الْمِلْكُ مُقْتَضَى التَّصَرُّفِ تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: أَعْتَقْت، وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هاهنا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْنِي بِالِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا آخَرَ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْأُجْرَةِ أَوْ وَهَبَ مِنْهُ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، أَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي الْكُلِّ فَكَذَا فِي الْبَعْضِ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حَطُّ بَعْضِ الْأُجْرَةِ فَيُلْحَقُ الْحَطُّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ وُجِدَ فِي حَالِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ بَعْضِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَحَطُّ الْكُلِّ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَصْحِيحِهِ لِلْحَالِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ فَوَهَبَهَا الْمُؤَاجِرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْإِجَارَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْهِبَةَ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ رَدَّهَا لَمْ تَبْطُلْ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ مَرَّ عَلَى الْأَصْلِ أَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَصِحَّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ رَأْسًا، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي إذَا وُهِبَ الْمَبِيعَ مِنْ بَائِعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَبِلَهُ الْبَائِعُ إنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ هُنَاكَ قَدْ صَحَّتْ لِصُدُورِهَا مِنْ الْمَالِكِ فَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ.
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْأُجْرَةُ إذَا كَانَتْ عَيْنًا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهَا هُوَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ، وَالْمُشْتَرِي إذَا وُهِبَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْبَائِعِ فَقَبِلَهُ الْبَائِعُ؛ يَبْطُلُ الْبَيْعُ، كَذَا هَذَا، وَإِذَا رَدَّ الْمُسْتَأْجِرُ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ، فَإِذَا رَدَّ بَطَلَتْ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَارَفَ الْمُؤَاجِرُ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْأُجْرَةِ فَأَخَذَ بِهَا دِينَارًا بِأَنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ دَرَاهِمَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْأَخِيرِ، وَكَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلَ: إنَّهُ جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى الْأَصْلِ فَقَالَ: الْأُجْرَةُ لَمْ تَجِبْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَمَا وَجَبَ بِعَقْدِ الصَّرْفِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَبْطُلَ الْعَقْدُ فِيهِ كَمَنْ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةٍ فَلَمْ يَتَقَابَضَا؛ وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِي الدِّينَارَ بِدَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَجْعَلُهَا قِصَاصًا بِالْأُجْرَةِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ، فَيَبْقَى ثَمَنُ الصَّرْفِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الصَّرْفُ، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: إذَا لَمْ يَجُزْ الصَّرْفُ إلَّا بِبَدَلٍ وَاجِبٍ- وَلَا وُجُوبَ إلَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ- ثَبَتَ الشَّرْطُ مُقْتَضٍ إقْدَامَهُمَا عَلَى الصَّرْفِ، وَلَوْ شَرَطَا تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ ثُمَّ تَصَارَفَا جَازَ، كَذَا هَذَا، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُؤَاجِرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ بِالْأُجْرَةِ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْهِبَةِ جَائِزَانِ، فَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ أَوْلَى.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِأَنَّ جَوَازَهَا لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الدَّيْنِ لِلْحَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ جَازَتْ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالدَّرَكِ جَائِزَةٌ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِدَيْنٍ لَمْ يَجِبْ جَائِزٌ، كَالرَّهْنِ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ شُرِعَا لِلتَّوَثُّقِ، وَالتَّوَثُّقُ مُلَائِمٌ لِلْأَجْرِ.
هَذَا إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ، فَأَمَّا إذَا شُرِطَ فِي تَعْجِيلِهَا مُلِكَتْ بِالشَّرْطِ وَجَبَ تَعْجِيلُهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ عِنْدَنَا إلَّا بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: شَرْطُ التَّعْجِيلِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَالثَّانِي: التَّعْجِيلُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ: وَالثَّالِثُ:
اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَمَّا مِلْكُهَا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ وَتَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ الَّتِي هِيَ مَطْلُوبُ الْعَاقِدَيْنِ، وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِمَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا شُرِطَ التَّعْجِيلُ فَلَمْ تُوجَدْ الْمُعَاوَضَةُ الْمُطْلَقَةُ بَلْ الْمُقَيَّدَةُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ شَرْطِهِمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».
فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْعِوَضِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ فِي الْمُعَوَّضِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ التَّعْجِيلُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْحُلُولَ، كَذَا هَذَا وَلِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ كَالْمَبِيعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَالْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَاتِ كَالثَّمَنِ فِي الْبِيَاعَاتِ، وَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ، فَكَذَا لِلْمُؤَاجِرِ حَبْسُ الْمَنَافِعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ، فَإِنْ قِيلَ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى مُدَّةٍ فَإِذَا حُبِسَ الْمُسْتَأْجَرُ مُدَّةً بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ الْأُجْرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ مُفِيدًا، فَالْجَوَابُ: إنَّ الْحَبْسَ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ وَيُطَالَبُ بِالْأُجْرَةِ، فَإِنْ عَجَّلَ وَإِلَّا فُسِخَ الْعَقْدُ فَكَانَ فِي الْحَبْسِ فَائِدَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ بِأَنْ أَجَّرَ دَابَّةً مَسَافَةً مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هاهنا لَا يَبْطُلُ بِالْحَبْسِ، وَكَذَا هَذَا، وَيَبْطُلُ بِبَيْعِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالسَّمَكِ الطَّرِيِّ وَنَحْوِهِ إذْ لِلْبَائِعِ حَبْسُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْبَيْعِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَجْرَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ إلَّا فِي آخِرِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا شُرِطَ كَانَ هَذَا شَرْطًا مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَ جَائِزًا.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَالْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَقَدْ شُرِطَ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ، وَالْأُجْرَةُ كَالثَّمَنِ فَتَحْتَمِلُ التَّأْجِيلَ كَالثَّمَنِ.
وَأَمَّا إذَا عَجَّلَ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَجَّلَ الْأُجْرَةَ فَقَدْ غَيَّرَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَبَتَ حَقًّا لَهُ فَيَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالتَّعْجِيلِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَعَجَّلَهُ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ فَالِاسْتِحْقَاقُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُهُ، وَتَعْجِيلُ الْحُكْمِ قَبْلَ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ، كَتَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَأَمَّا إذَا اُسْتُوْفِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُعَوَّضَ فَيَمْلِكُ الْمُؤَاجِرُ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَتِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَتَسْوِيَةً بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْنَى الْإِجَارَةُ الْمُضَافَةُ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ قَالَ: أَجَّرْتُك هَذِهِ الدَّارَ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا، أَوْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً أَوَّلُهَا غُرَّةُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ، وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَطَرِيقُ جَوَازِهَا عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا عَقِيبَ الْعَقْدِ تَصْحِيحًا لَهُ إذْ لابد وَأَنْ يَكُونَ مَحَلُّ حُكْمِ الْعَقْدِ مَوْجُودًا لِيُمْكِنَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ فِيهِ، فَجُعِلَتْ الْمَنَافِعُ مَوْجُودَةً حُكْمًا كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، وَإِضَافَةُ الْبَيْعِ إلَى عَيْنٍ سَتُوجَدُ لَا تَصِحُّ كَمَا فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ فَكَانَ الْعَقْدُ مُضَافًا إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْإِضَافَةِ يَكُونُ مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الْإِضَافَةَ فِي الْإِجَارَةِ دُونَ الْبَيْعِ لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَالَ وُجُودِهَا لَا يُمْكِنُ إنْشَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْإِضَافَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لِإِمْكَانِ إيقَاعِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بَعْدَ وُجُودِهَا؛ لِكَوْنِهَا مُحْتَمِلَةً لِلْبَقَاءِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْإِضَافَةِ، وَطَرِيقُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا تَقْدِيرٌ لِلْمُحَالِ، وَتَقْدِيرُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَلَا إحَالَةَ فِي الْإِضَافَةِ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ تَصِحُّ مُضَافَةً إلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا، فَكَانَ الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ فَكَثِيرَةٌ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْآجِرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ مِمَّا عَلَيْهِمَا وَلَهُمَا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ أَوْ تَأْجِيلُهُ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَعْجِيلُهَا وَالِابْتِدَاءُ بِتَسْلِيمِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ كَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ، أَوْ كَانَ صَانِعًا أَوْ عَامِلًا يُنْتَفَعُ بِصَنْعَتِهِ أَوْ عَمَلِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّيَّاغِ وَالْإِسْكَافِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا شَرَطَا تَعْجِيلَ الْبَدَلِ لَزِمَ اعْتِبَارُ شَرْطِهِمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».
وَمَلَكَ الْآجِرُ الْبَدَلَ حَتَّى تَجُوزَ لَهُ هِبَتُهُ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ، وَالشِّرَاءُ، وَالرَّهْنُ، وَالْكَفَالَةُ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِأَعْيَانِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ، وَكَذَا لِلْأَجِيرِ الْوَاحِدِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ، وَلِلْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ إيفَاءِ الْعَمَلِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ كَالثَّمَنِ فِي الْبِيَاعَاتِ، وَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَجَّلًا، كَذَا هَاهُنَا، وَإِنْ شُرِطَ فِيهِ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ يُبْتَدَأُ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ وَإِيفَاءِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِتَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا؛ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ يُبْتَدَأُ بِتَسْلِيمِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فِي نَوْعَيْ الْإِجَارَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ تَسْلِيمُ الْمُسْتَأْجَرِ، وَعَلَى الْأَجِيرِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ أَوْ إيفَاءُ الْعَمَلِ أَوَّلًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ عِنْدَنَا بِالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، وَعِنْدَهُ تَجِبُ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ، غَيْرَ أَنَّ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِأَعْيَانِهَا إذَا سَلِمَ الْمُسْتَأْجَرُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ كُلِّهِ لِلْحَالِّ، بَلْ عَلَى حَسَبِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْأُجْرَةِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ يَوْمًا فَيَوْمًا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ، وَمَرْحَلَةً مَرْحَلَةً فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ، وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمُكَارِي عَلَى الْحَمْلِ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، إذْ لَوْ لَمْ يُخَيَّرْ لَتَضَرَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ كُلِّهَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى قَطْعِ الْمَسَافَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا فِي النَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ اسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ، وَالْعُمَّالِ فَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى قَالُوا فِي الْحَمَّالِ مَا لَمْ يَحُطَّ الْمَتَاعَ مِنْ رَأْسِهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْحَمَّالِ يَطْلُبُ الْأُجْرَةَ بَعْدَ مَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهُ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ فِي هَذَا النَّوْعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ الْكُلُّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يُقَابِلُهُ الْبَدَلُ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ السُّكْنَى وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ مَقْصُودٌ فَيُقَابَلُ بِالْأُجْرَةِ ثُمَّ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ إذَا.
أَرَادَ الْأَجِيرُ حَبْسَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْإِسْكَافِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الثَّوْبِ مَخِيطًا مَقْصُورًا.
وَإِنَّمَا الْعَمَلُ يُحَصِّلُ ذَلِكَ الْأَثَرَ عَادَةً، وَالْبَدَلُ يُقَابِلُ ذَلِكَ الْأَثَرَ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ، كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ؟ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ الْحَبْسِ عِنْدَهُمَا، فَبَعْدَ الْحَبْسِ أَوْلَى.
وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ وَالْمُكَارِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَيْنِ فَالْبَدَلُ إنَّمَا يُقَابِلُ نَفْسَ الْعَمَلِ، إلَّا أَنَّ الْعَمَلَ كُلَّهُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَمَا فَرَغَ حَصَلَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَمْلِكُ حَبْسَهُ عَنْهُ بَعْدَ طَلَبِهِ كَالْيَدِ الْمُودَعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ حَبْسُ الْوَدِيعَةِ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ حَبَسَهُ فَهَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَمَا وَقَعَ فِي الْعَمَلِ حَصَلَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ، فَتَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ فَلَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْهَلَاكِ، وَيَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ غَاصِبًا بِالْحَبْسِ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى الْغَصْبِ فَقَالَ: فَإِنْ حَبَسَ الْحَمَّالُ الْمَتَاعَ فِي يَدِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ.
وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِذَا حَبَسَهَا بِدَيْنِهِ فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا، كَمَا لَوْ حَبَسَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ بِالدَّيْنِ.
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ؛ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَجِيرُ الْمُطَالَبَةَ بِالْأُجْرَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ إذَا كَانَ الْمَعْمُولُ فِيهِ فِي يَدِ الْأَجِيرِ.
، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْرُ مَا أَوْقَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجَرِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ؛ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِقَدْرِهِ مِنْ الْمُدَّةِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَبْنِيَ لَهُ بِنَاءً فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ، بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ بِنَاءً فِي دَارِهِ، أَوْ يَعْمَلَ لَهُ سَابَاطًا أَوْ جَنَاحًا، أَوْ يَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا أَوْ قَنَاةً أَوْ نَهْرًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَعَمِلَ بَعْضَهُ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقَدْرِهِ مِنْ الْأُجْرَةِ.
لَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَاقِي، حَتَّى لَوْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ، أَوْ انْهَارَتْ الْبِئْرُ، أَوْ وَقَعَ فِيهَا الْمَاءُ وَالتُّرَابُ وَسَوَّاهَا مَعَ الْأَرْضِ، أَوْ سَقَطَ السَّابَاطُ فَلَهُ أَجْرُ مَا عَمِلَهُ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ فِي يَدِهِ فَكَمَا عَمِلَ شَيْئًا حَصَلَ فِي يَدِهِ قَبْلَ هَلَاكِهِ وَصَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بَدَلُهُ بِالْهَلَاكِ.
وَلَوْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِهِ، وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ، وَلَا فِي يَدِهِ، تَوَقَّفَ وُجُوبُ الْأُجْرَةِ فِيهِ عَلَى الْفَرَاغِ وَالتَّمَامِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إذَا أَرَاهُ مَوْضِعًا مِنْ الصَّحْرَاءِ يَحْفِرُ فِيهِ بِئْرًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ: وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ قَابِضًا إلَّا بِالتَّخْلِيَةِ وَإِنْ أَرَاهُ الْمَوْضِعَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالتَّعْيِينِ لَمْ يَصِرْ فِي يَدِهِ فَلَا يَصِيرُ عَمَلُ الْأَجِيرِ فِيهِ مُسَلَّمًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَدِهِ فَعَمِلَ الْأَجِيرُ بَعْضَهُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ قَرِيبٌ مِنْ الْعَامِلِ، فَخَلَّى الْأَجِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: لَا أَقْبِضُهُ مِنْكَ حَتَّى يَفْرُغَ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا عَمِلَ لَمْ يَصِرْ مُسَلَّمًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِ عَمَلِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّسْلِيمِ حَتَّى يُتِمَّهُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لَبَّانًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَجِفَّ اللَّبِنُ وَيَنْصِبَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: حَتَّى يَجِفَّ أَوْ يَنْصِبَهُ وَيَشْرُجَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا ضَرَبَهُ وَلَمْ يُقِمْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَقْلِبْهُ عَنْ مَكَانِهِ فَهُوَ أَرْضٌ.
فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ اللَّبِنِ، وَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ: هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِالْإِقَامَةِ أَوْ لَا يَصِيرُ إلَّا بِالتَّشْرِيجِ؟ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِنَفْسِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِقَامَةِ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْعَمَلِ فَيَصِيرُ اللَّبِنُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِهَا، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا مَا لَمْ يَشْرُجْ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَمَلِ بِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ النَّصْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَبْلَ التَّشْرِيجِ فِي قَوْلِهِمَا فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَهُ فَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ تَمَّ فَصَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي يَدِهِ، فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الْبَدَلَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْنَ عَنْ الْفَسَادِ يَقَعُ بِالتَّشْرِيحِ؛ وَلِهَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ اللَّبَّانَ هُوَ الَّذِي يَشْرُجُ لِيُؤَمِّنَ عَلَيْهِ الْفَسَادَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ، وَلَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَهُ ضَرْبُ اللَّبِنِ، وَلَمَّا جَفَّ وَنَصَبَهُ فَقَدْ وُجِدَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّبِنِ وَهُوَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ قَابِضًا لَهُ، فَأَمَّا التَّشْرِيجُ فَعَمَلٌ زَائِدٌ لَمْ يُلْزَمْهُ الْعَامِلُ؛ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْأَجِيرُ بَيْنَ اللَّبِنِ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ مَا نَصَبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا بَعْدَ مَا شَرَجَهُ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ قَفِيزًا مِنْ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ، فَخَبَزَ، فَاحْتَرَقَ الْخُبْزُ فِي التَّنُّورِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ، أَوْ أَلْزَقَهُ فِي التَّنُّورِ ثُمَّ أَخَذَهُ لِيُخْرِجَهُ فَوَقَعَ مِنْ يَدِهِ فِي التَّنُّورِ فَاحْتَرَقَ، فَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلَ الْخُبْزِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ التَّنُّورِ، فَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ خُبْزٌ فَصَارَ كَهَلَاكِ اللَّبِنِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهُ، قَالَ: وَلَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ التَّنُّورِ وَوَضَعَهُ وَهُوَ يَخْبِزُ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاحْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ بِإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ، وَحَصَلَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلِأَنَّ الْهَلَاكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ عِنْدَهُ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ دَقِيقًا مِثْلَ الدَّقِيقِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْخُبْزِ مَخْبُوزًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَجِيرِ قَبْضٌ مَضْمُونٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِوَضْعِهِ فِي مَنْزِلِ مَالِكِهِ، وَإِنَّمَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ كَالْغَاصِبِ إذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، فَصَاحِبُ الدَّقِيقِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ دَقِيقًا وَأَسْقَطَ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ الْعَمَلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ خُبْزًا فَصَارَ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ، فَوَجَبَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ قَالَ: وَلَا أُضَمِّنُهُ الْقَصَبَ وَلَا الْمِلْحَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا قَبْلَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَحِينَ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَصَبَ صَارَ رَمَادًا وَالْمِلْحَ صَارَ مَاءً وَكَذَلِكَ الْخَيَّاطُ الَّذِي يَخِيطُ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ قَمِيصًا، فَإِنْ خَاطَ لَهُ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضِهِ فَلَا تَلْزَمُ الْأُجْرَةُ إلَّا بِتَمَامِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ ثُمَّ هَلَكَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ حَصَلَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ لِحُصُولِهِ فِي مِلْكِهِ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْعَيْنُ مَضْمُونَةٌ فَلَا يَبْرَأُ عَنْ ضَمَانِهَا إلَّا بِتَسْلِيمِهَا إلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَخِيطًا وَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ دَنًّا مِنْ السُّوقِ إلَى مَنْزِلِهِ فَحَمَلَهُ حَتَّى إذَا بَلَغَ بَابَ دَرْبِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ كَسَرَهُ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَامِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَهُ الْأَجْرُ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَيْنِ كَمَا وَقَعَ يَحْصُلُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ يَخِيطُهُ بِدِرْهَمٍ، فَمَضَى، فَخَاطَهُ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَفَتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ رَبُّ الثَّوْبِ فَلَا أَجْرَ لِلْخَيَّاطِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَقَطَ بَدَلُهَا قَالَ: وَلَا أُجْبِرُ الْخَيَّاطَ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ ثَانِيًا، وَإِنْ كَانَ الْخَيَّاطُ هُوَ الَّذِي فَتَقَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَقَهُ فَقَدْ فَسَخَ الْمَنَافِعَ الَّتِي عَمِلَهَا، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ رَأْسًا، وَإِذَا فَتَقَهُ الْأَجْنَبِيُّ فَقَدْ أَتْلَفَ الْمَنَافِعَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَقَالُوا فِي الْمَلَّاحِ إذَا حَمَلَ الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ فَرَدَّ السَّفِينَةَ إنْسَانٌ فَلَا أَجْرَ لِلْمَلَّاحِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ السَّفِينَةَ، فَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ هُوَ الَّذِي رَدَّهَا لَزِمَهُ إعَادَةُ الْحَمْلِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شُرِطَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي رَجَعَتْ إلَيْهِ السَّفِينَةُ لَا يَقْدِرُ رَبُّ الطَّعَامِ عَلَى قَبْضِهِ فَعَلَى الْمَلَّاحِ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ رَبُّ الطَّعَامِ عَلَى قَبْضِهِ، وَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا سَارَ فِي هَذَا الْمَسِير؛ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا لِلْمَلَّاحِ تَسْلِيمَهُ فِي مَكَان لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَتَلِفَ الْمَالُ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ حَمْلَهُ بِالْأَجْرِ إلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ الْقَبْضُ فِيهِ فَقَدْ رَاعَيْنَا الْحَقَّيْنِ.
قَالُوا وَلَوْ اكْتَرَى بَغْلًا إلَى مَوْضِعٍ يَرْكَبُهُ فَلَمَّا سَارَ إلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ جَمَحَ بِهِ فَرَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ بِقَدْرِ مَا سَارَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمَنَافِعِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَذْهَبُ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءُ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ قَالَ: لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَذْهَبُ بِكِتَابِهِ إلَى الْبَصْرَةِ إلَى فُلَانٍ وَيَجِيءُ بِجَوَابِهِ، فَذَهَبَ، فَوَجَدَ فُلَانًا قَدْ مَاتَ، فَرَدَّ الْكِتَابَ فَلَا أَجْرَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ، أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَمْلُ الْعِيَالِ، فَإِذَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَمَلَ.
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا بِحَمْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ، وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ فِي الذَّهَابِ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَسْتَحِقُّ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَجْرِ، وَفِي الْعَوْدِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَمْلِ الْكِتَابِ إيصَالُهُ إلَى فُلَانٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ وَإِنْ كَانَ نَقْلَ الْكِتَابِ لَكِنَّهُ إذَا رَدَّهُ فَقَدْ نَقَصَ تِلْكَ الْمَنَافِعَ فَبَطَلَ الْأَجْرُ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ طَعَامًا إلَى الْبَصْرَةِ إلَى فُلَانٍ فَحَمَلَهُ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ فَرَدَّهُ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا.
، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ فِي إجَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعَقَارِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَيْفَ شَاءَ بِالسُّكْنَى، وَوَضْعِ الْمَتَاعِ، وَأَنْ يَسْكُنَ بِنَفْسِهِ، وَبِغَيْرِهِ، وَأَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ بِالْإِجَارَةِ، وَالْإِعَارَةِ.
إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا حَدَّادًا، وَلَا قَصَّارًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِنُ الْبِنَاءَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ أَجَّرَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ الْأُولَى فَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْأُولَى طَابَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأُولَى لَا تَطِيبُ لَهُ حَتَّى يَزِيدَ فِي الدَّارِ زِيَادَةً مِنْ بِنَاءٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ تَطْيِينٍ أَوْ تَجْصِيصٍ.
فَإِنْ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا فَلَا خَيْرَ فِي الْفَضْلِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، لَكِنْ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ، أَمَّا جَوَازُ الْإِجَارَةِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي عَقْدٍ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ.
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ جِنْسِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْفَضْلَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمُسْتَأْجَرُ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ، وَكَذَا لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ زِيَادَةٌ كَانَ الرِّبْحُ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِبْحًا، وَلَوْ كَنَسَ الْبَيْتَ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ، فَلَا تَطِيبُ بِهِ زِيَادَةُ الْأَجْرِ، وَكَذَا فِي إجَارَةِ الدَّابَّةِ إذَا زَادَ فِي الدَّابَّةِ جُوَالِقَ أَوْ لِجَامًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ عَلَفَهَا لَا يَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا يَصِيرُ شَيْءٌ مِنْهَا مُقَابَلًا بِالْعَلَفِ، فَلَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ، وَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ غَيْرَهُ، وَإِنْ فَعَلَ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ضَمِنَهُ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي إلْبَاسِهِ غَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِلُبْسِهِ، فَمَا يَكُونُ مُسْتَوْفًى بِلُبْسِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، وَاسْتِيفَاءُ غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ الْيَدَ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ غَصَبَ مِنْهُ ثَوْبًا آخَرَ فَلَبِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجْرُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَلْبَسَ ذَلِكَ الثَّوْبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ اللَّابِسِ كَتَعْيِينِ الْمَلْبُوسِ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ، قُلْنَا تَمَكُّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، فَإِذَا وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ فَيَدُهُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ، فَأَمَّا إذَا أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَيَدُهُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ضَامِنٌ، وَإِنْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ اللُّبْسِ فَإِنَّ يَدَ اللَّابِسِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَكُونَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَ غَيْرَ اللَّابِسِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ تَفْوِيتِ يَدِهِ حُكْمًا فَلِهَذَا لَا يُلْزِمُهُ الْأُجْرَةَ وَإِنْ سَلِمَ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيُلْبَسَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَلْبَسُهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَلْبُوسِ، وَكَمَا أَنَّ تَرْكَ التَّعْيِينِ فِي الْمَلْبُوسِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَكَذَلِكَ تَرْكُ تَعْيِينِ اللَّابِسِ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يُطَالِبُهُ بِإِلْبَاسِ أَرْفَقِ النَّاسِ فِي اللُّبْسِ، وَصِيَانَةِ الْمَلْبُوسِ، وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يُلْبِسَ إلَّا أَحْسَنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنْ اخْتَصَمَا فِيهِ قَبْلَ اللُّبْسِ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ لَبِسَهُ هُوَ وَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَرْكَبُهَا، أَوْ لِلْعَمَلِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا، فَعَمِلَ عَلَيْهَا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ: عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُفْسِدَ وَهُوَ الْجَهَالَةُ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ قَدْ زَالَ، وَبِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ يَنْعَدِمُ الْفَسَادُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْمُضَافِ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا جَهَالَةَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَوُجُوبُ الْأَجْرِ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْمُسَمَّى وَجَعَلْنَا التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ ضَاعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ سَوَاءٌ لَبِسَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَلْبَسَ غَيْرَهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ عَيَّنَ هُنَاكَ لُبْسَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِلْبَاسِ غَيْرِهِ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَوَضَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَكَّنَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الثَّوْبِ إلَيْهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالْإِذْنِ فِي اللُّبْسِ كَانَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا أَوْ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ غَيْرَهُ لِلرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ بَاعَ الْمُؤَاجِرُ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَعْدَ مَا أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ أَيْ لَا يَنْفُذُ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ التَّوَقُّفَ.
وَقَوْلُهُ: بَاطِلٌ أَيْ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ ظَاهِرٌ لِلْحَالِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، حَتَّى إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْأَخْذِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْبَيْعِ، فَإِنْ أَجَازَ؛ جَازَ، وَإِنْ أَبَى؛ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، وَمَتَى فُسِخَ لَا يَعُودُ جَائِزًا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ.
وَهَلْ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ فَسْخَ هَذَا الْبَيْعِ؟ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ، حَتَّى لَوْ فَسَخَ لَا يَنْفَسِخُ حَتَّى إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ، وَإِذَا نَقَضَهُ لَا يَعُودُ جَائِزًا،.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ نَقْضُ الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةُ كَالْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَضَاهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْبَيْعُ نَافِذٌ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْبَيْعَ صَادَفَ مَحِلَّهُ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ، وَإِنَّمَا حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَمَحَلُّ الْبَيْعِ الْعَيْنُ، وَلَا حَقَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا وَلَنَا أَنَّ الْبَائِعَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِهِ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هاهنا بِالتَّوَقُّفِ فِي حَقِّهِ، فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَبِالتَّوَقُّفِ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ صِيَانَةً لِلْحَقَّيْنِ وَمُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِإِنْسَانٍ إنَّ إقْرَارَهُ يَنْفُذُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَإِذَا مَضَتْ نَفَذَ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا، فَيُقْضَى بِالدَّارِ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ أَجَّرَ مِنْ غَيْرِهِ إنَّ الْإِجَارَةَ الثَّانِيَةَ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَجَازَهَا جَازَتْ، وَإِنْ أَبْطَلَهَا بَطَلَتْ، وَهَاهُنَا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَقَعُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ إذْ هُوَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ، فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِ، وَتَبْطُلُ بِإِبْطَالِهِ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ لَكِنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا حَقٌّ فَإِذَا زَالَ حَقُّهُ بِتَقْدِيمِ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ إذَا أَجَازَ الْإِجَارَةَ الثَّانِيَةَ حَتَّى نَفَذَتْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ لَا لِصَاحِبِ الدَّارِ، وَفِي الْبَيْعِ يَكُونُ الثَّمَنُ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَرَدَتْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهَا مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا أَجَازَ كَانَ بَدَلُهَا لَهُ، فَأَمَّا الثَّمَنُ فَإِنَّهُ بَدَلُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ فَكَانَ بَدَلُهَا لَهُ، وَبِالْإِجَارَةِ لَا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا مَضَتْ فَإِنْ كَانَتْ مُدَّتُهُمَا وَاحِدَةً تَنْقَضِي الْمُدَّتَانِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الثَّانِيَةِ أَقَلَّ فَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَسْكُنَ حَتَّى تَتِمَّ الْمُدَّةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهَا الْمُؤَاجِرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْمُسْتَأْجَرِ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّتُهُ، وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْمَرْهُونِ مِنْ الرَّاهِنِ أَنَّهُ جَائِزٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَالَهُ، فَإِذَا افْتَكَّهَا الرَّاهِنُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَى الْمُشْتَرِي كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، إلَّا أَنَّ هاهنا إذَا أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ حَتَّى جَاءَ وَسَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ قَائِمًا مَقَامَ الدَّارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ حَبْسِ الْعَيْنِ كَانَ ثَابِتًا لَهُ مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، وَبَدَلُ الْعَيْنِ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَيْنِ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ حَبْسِهِ، وَفَرَّقَ الْقُدُورِيُّ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ فَقَالَ فِي الرَّهْنِ: لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ، فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْهُ تَصَرُّفًا فِي مَحَلِّ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يَمْلِكُهُ.
وَأَمَّا حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَتَعَلَّقَ بِغَيْرِ الْمَرْهُونِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْهُ تَصَرُّفًا فِي مَحَلِّ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ؟ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلِلْأَجِيرِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ وَأُجَرَائِهِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَعْمَلَ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَعْمَلُ بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ أُجَرَائِهِ يَقَعُ لَهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ، إلَّا إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَالتَّعْيِينُ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْعُمَّالَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْعَمَلِ فَيَتَعَيَّنُ فَلَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهَا مِنْ شَخْصٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُسْتَأْجِرِ، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا بِعَيْنِهِ لِلْحَمْلِ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ غَيْرِهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْحَمْلِ وَلَمْ يُعَيِّنْ جَمَلًا كَانَ لِلْمُكَارِي أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ أَيَّ جَمَلٍ شَاءَ، كَذَا هَاهُنَا.
وَتَطْيِينُ الدَّارِ، وَإِصْلَاحُ مِيزَابِهَا، وَمَا وَهَى مِنْ بِنَائِهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ وَإِصْلَاحُ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ، لَكِنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ إنْ لَمْ يَعْمَلْ الْمُؤَاجِرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَالِكُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إزَالَةِ الْعَيْبِ عَنْ مِلْكِهِ، لَكِنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَرْضَى بِالْعَيْبِ حَتَّى لَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَ وَهِيَ كَذَلِكَ وَرَآهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَإِصْلَاحُ دَلْوِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ امْتَلَأَ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ لِمَا قُلْنَا، وَقَالُوا فِي الْمُسْتَأْجِرِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الدَّارِ تُرَابٌ مِنْ كَنْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَتُرَابٍ وَضَعَهُ فِيهَا، وَإِنْ امْتَلَأَ خَلَاهَا وَمَجْرَاهَا مِنْ فِعْلِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ نَقْلُهُ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِفِعْلِهِ فَيَلْزَمُهُ نَقْلُهُ، كَالْكُنَاسَةِ، وَالرَّمَادِ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَجَعَلُوا نَقْلَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ إذْ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ مَا كَانَ مُغَيَّبًا فِي الْأَرْضِ فَنَقْلُهُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ، فَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى الْعَادَةِ فَإِنْ أَصْلَحَ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ أَصْلَحَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مُتَبَرِّعًا.
وَقَبْضُ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ، حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فِي حَوَائِجِهِ فِي الْمِصْرِ وَقْتًا مَعْلُومًا فَمَضَى الْوَقْتُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إلَى صَاحِبِهَا بِأَنْ يَمْضِيَ بِهَا إلَيْهِ، وَعَلَى الَّذِي أَجَّرَهَا أَنْ يَقْبِضَ مِنْ مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ وَإِنْ انْتَفَعَ بِالْمُسْتَأْجَرِ لَكِنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بِعِوَضٍ حَصَلَ لِلْمُؤْجِرِ فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رَدُّهَا كَالْوَدِيعَةِ، حَتَّى لَوْ أَمْسَكَهَا أَيَّامًا فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا سَوَاءٌ طَلَبَ مِنْهُ الْمُؤَاجِرُ أَمْ لَمْ يَطْلُبْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الرَّدُّ إلَى بَيْتِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِمْسَاكِ فَلَا يَضْمَنُ.
كَالْمُودَعِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ إلَى بَيْتِ الْمُودِعِ حَتَّى هَلَكَتْ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعَارِ أَنَّ رَدَّهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ لَهُ عَلَى الْخُلُوصِ فَكَانَ رَدُّهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»؛ وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، فَكَذَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ.
فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ مَوْضِعٍ مُسَمًّى فِي الْمِصْرِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَإِنَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي قَبَضَهَا فِيهِ، لَا لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بَلْ لِأَجْلِ الْمَسَافَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْتَهِي إلَّا بِرَدِّهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ حَمَلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَأَمْسَكَهَا حَتَّى عَطِبَتْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى فِي حَمْلِهَا إلَى غَيْرِ مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: ارْكَبْهَا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَارْجِعْ إلَى مَنْزِلِي فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَدُّهَا إلَى مَنْزِلِ الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَبَقِيَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَتَبَرَّعْ الْمَالِكُ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَا يَلْزَمُ رَدُّهَا كَالْوَدِيعَةِ.
وَلَيْسَ لِلظِّئْرِ أَنْ تَأْخُذَ صَبِيًّا آخَرَ فَتُرْضِعَهُ مَعَ الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَخَذَتْ صَبِيًّا آخَرَ فَأَرْضَعَتْهُ مَعَ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَسَاءَتْ وَأَثِمَتْ إنْ كَانَتْ قَدْ أَضَرَّتْ بِالصَّبِيِّ، وَلَهَا الْأَجْرُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ،.
(أَمَّا) الْإِثْمُ فَلِأَنَّهُ قَدْ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهَا كَمَالُ الرَّضَاعِ، وَلَمَّا أَرْضَعَتْ صَبِيَّيْنِ فَقَدْ أَضَرَّتْ بِأَحَدِهِمَا لِنُقْصَانِ اللَّبَنِ،.
(وَأَمَّا) اسْتِحْقَاقُ الْأُجْرَةِ فَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْعَقْدِ الْإِرْضَاعُ مُطْلَقًا وَقَدْ وُجِدَ.
وَلِلْمُسْتَرْضِعِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ظِئْرًا آخَرَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}.
نَفَى الْجُنَاحَ عَنْ الْمُسْتَرْضِعِ مُطْلَقًا، فَإِنْ أَرْضَعَتْهُ الْأُخْرَى فَلَهَا الْأُجْرَةُ أَيْضًا، فَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ الظِّئْرُ ظِئْرًا أُخْرَى فَأَرْضَعَتْهُ أَوْ دَفَعَتْ الصَّبِيَّ إلَى جَارِيَتِهَا فَأَرْضَعَتْهُ فَلَهَا الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا الْأَجْرُ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَمَلِهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِ غَيْرِهَا، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَعَمِلَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ، فَكَذَا هَذَا، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إرْضَاعَهَا قَدْ يَكُونُ بِنَفْسِهَا وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ تَارَةً يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَمَّا عَمِلَتْ بِأَمْرِ الْأُولَى وَقَعَ عَمَلُهَا لِلْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهَا عَمِلَتْ بِنَفْسِهَا.
هَذَا إذَا أُطْلِقَ، فَأَمَّا إذَا قُيِّدَ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ الْإِرْضَاعَ بِنَفْسِهَا، فَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ أُخْرَى فَأَرْضَعَتْهُ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَرْضِعِ أَنْ يَحْبِسَ الظِّئْرَ فِي مَنْزِلِهِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الصَّبِيَّ إلَى مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ عَلَى الظِّئْرِ طَعَامُ الصَّبِيِّ وَدَوَاؤُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّ عَلَى الظِّئْرِ مَا يُعَالَجُ بِهِ الصِّبْيَانُ مِنْ الرَّيْحَانِ وَالدُّهْنِ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ.
وَقَدْ قَالُوا فِي تَوَابِعِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْعُقُودِ: إنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ، حَتَّى قَالُوا فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَضْرِبُ لَهُ لَبِنًا: إنَّ الزِّنْبِيلَ وَالْمِلْبَنَ عَلَى صَاحِبِ اللَّبِنِ، وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِمْ.
وَقَالُوا فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ عَلَى حَفْرِ قَبْرٍ: إنَّ حَثْيَ التُّرَابِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ يَتَعَامَلُونَ بِهِ، وَتَشْرِيجُ اللَّبِنِ عَلَى اللَّبَّانِ، وَإِخْرَاجُ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ عَلَى الْخَبَّازِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ.
وَقَالُوا فِي الْخَيَّاط: إنَّ السُّلُوكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِذَلِكَ، وَقَالُوا فِي الدَّقِيقِ الَّذِي يُصْلِحُ بِهِ الْحَائِكُ الثَّوْبَ: إنَّهُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ بَلَدٍ تَعَامَلُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَعَامَلُونَ، وَقَالُوا فِي الطَّبَّاخِ إذَا اسْتَأْجَرَ فِي عُرْسٍ: إنَّ إخْرَاجَ الْمَرَقِ عَلَيْهِ وَلَوْ طَبَخَ قِدْرًا خَاصَّةً فَفَرَغَ مِنْهَا فَلَهُ الْأَجْرُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ إخْرَاجِ الْمَرَقِ شَيْءٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَادَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ، وَقَالُوا فِيمَنْ تَكَارَى دَابَّةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا حِنْطَةً إلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَيْهِ أَرَادَ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُكَارِي ذَلِكَ فَيُدْخِلَهُ مَنْزِلَهُ وَأَبَى الْمُكَارِي، قَالُوا: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَيَتَعَامَلُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ بِهَا إلَى السَّطْحِ وَالْغُرْفَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَهُ، وَلَوْ كَانَ حَمَّالًا عَلَى ظَهْرِهِ فَعَلَيْهِ إدْخَالُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْعَدَ بِهِ إلَى عُلُوِّ الْبَيْتِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ، وَإِذَا تَكَارَى دَابَّةً فَالْإِكَافُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ، فَأَمَّا الْحِبَالُ وَالْجُوَالِقُ فَعَلَى مَا تَعَارَفَهُ أَهْلُ الصَّنْعَةِ، وَكَذَلِكَ اللِّجَامُ.
وَأَمَّا السَّرْجُ فَعَلَى رَبِّ الدَّابَّةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ الْبَلَدِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَيَكُونُ عَلَى سُنَّتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ، وَلَوْ الْتَقَطَ رَجُلٌ لَقِيطًا فَاسْتَأْجَرَ لَهُ ظِئْرًا فَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ، أَمَّا لُزُومُ الْأُجْرَةِ إيَّاهُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَطَوِّعًا فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى اللَّقِيطِ فَلَا يَمْلِكُ إيجَابَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَرَضَاعُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ صِفَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُغَيِّرُ تِلْكَ الصِّفَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ-: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ، وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ.
وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ فِيهِ كَثَوْبِ الْقِصَارَةِ، وَالصِّبَاغَةِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَالْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ فِي السَّفِينَةِ، أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ، أَوْ عَلَى الْجِمَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالْأَجِيرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ خَاصًّا وَهُوَ الْمُسَمَّى أَجِيرُ الْوَحْدِ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ إلَّا حَرَقٌ غَالِبٌ أَوْ غَرَقٌ غَالِبٌ أَوْ لُصُوصٌ مُكَابِرِينَ، وَلَوْ احْتَرَقَ بَيْتُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِسِرَاجٍ؛ يَضْمَنُ الْأَجِيرُ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَرِيقٍ غَالِبٍ، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَوْ عَلِمَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِهِ لَأَطْفَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ الْعُذْرِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، ثُمَّ إنْ هَلَكَ قَبْلَ الْعَمَلِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْعَمَلِ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَعْمُولًا، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ»، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّ عَيْنِهِ بِالْهَلَاكِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ قَائِمًا مَقَامَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ احْتِيَاطًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأُجَرَاءَ الَّذِينَ يُسَلَّمُ الْمَالُ إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ تُخَافُ الْخِيَانَةُ مِنْهُمْ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ؛ لَهَلَكَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْحَرْقِ الْغَالِبِ، وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ، وَالسَّرَقِ الْغَالِبِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ إلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّي لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}، وَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي مِنْ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْقَبْضِ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُودِعِ، وَالْحَدِيثُ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِعَارَةُ وَالْغَصْبُ، وَفِعْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ الْأُجَرَاءِ، وَهُوَ الْمُتَّهَمُ بِالْخِيَانَةِ، وَبِهِ نَقُولُ ثُمَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي الضَّمَانِ عِنْدَهُمَا بِالْقَبْضِ كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، حَتَّى لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ مَعَهُ رَاكِبًا فِي السَّفِينَةِ أَوْ رَاكِبًا عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْحِمْلُ فَعَطِبَ الْحِمْلُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ، وَالْمُكَارِي رَاكِبَيْنِ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ سَائِقَيْنِ أَوْ قَائِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي أَيْدِيهِمَا، فَلَمْ يَنْفَرِدْ الْأَجِيرُ بِالْيَدِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْيَدِ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ سُرِقَ الْمَتَاعُ مِنْ رَأْسِ الْحَمَّالِ، وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ يَمْشِي مَعَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَمْ يَصِرْ فِي يَدِهِ، حَيْثُ لَمْ يُخْلِ صَاحِبُ الْمَتَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ، وَقَالُوا فِي الطَّعَامِ إذَا كَانَ فِي سَفِينَتَيْنِ وَصَاحِبُهُ فِي إحْدَاهُمَا، وَهُمَا مَقْرُونَتَانِ أَوْ غَيْرُ مَقْرُونَتَيْنِ إلَّا أَنَّ سَيْرَهُمَا جَمِيعًا وَحَبْسَهُمَا جَمِيعًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ الْقِطَارُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُمُولَةٌ، وَرَبُّ الْحُمُولَةِ عَلَى بَعِيرٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَمَّالِ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ زِقًّا مِنْ سَمْنٍ فَحَمَلَهُ صَاحِبُ الزِّقِّ وَالْحَمَّالُ جَمِيعًا لِيَضَعَاهُ عَلَى رَأْسِ الْحَمَّالِ فَانْخَرَقَ الزِّقُّ، وَذَهَبَ مَا فِيهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ الْحَمَّالُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلَّمْ إلَى الْحَمَّالِ بَلْ هُوَ فِي يَدِهِ قَالَ: وَإِنْ حَمَلَهُ إلَى بَيْتِ صَاحِبِهِ ثُمَّ أَنْزَلَهُ الْحَمَّالُ مِنْ رَأْسِهِ وَصَاحِبُ الزِّقِّ فَوَقَعَ مِنْ أَيْدِيهِمَا فَالْحَمَّالُ ضَامِنٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْمُولَ دَاخِلٌ فِي ضَمَانِ الْحِمَالَةِ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى صَاحِبِهِ، فَإِذَا أَخْطَئُوا جَمِيعًا فَيَدُ الْحَمَّالِ لَمْ تَزُلْ فَلَا يَزُولُ الضَّمَانُ، وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ وَصَلَ إلَى صَاحِبِهِ بِإِنْزَالِهِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا، كَمَا لَوْ حَمَلَاهُ ابْتِدَاءً إلَى رَأْسِ الْحَمَّالِ فَهَلَكَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مُصْحَفًا يَعْمَلُ فِيهِ، وَدَفَعَ الْغِلَافَ مَعَهُ، أَوْ دَفَعَ سَيْفًا إلَى صَيْقَلٍ يَصْقُلُهُ بِأَجْرٍ، وَدَفَعَ الْجَفْنَ مَعَهُ فَضَاعَا، قَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ الْمُصْحَفَ، وَالْغِلَافَ، وَالسَّيْفَ وَالْجَفْنَ؛ لِأَنَّ الْمُصْحَفَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْغِلَافِ، وَالسَّيْفَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْجَفْنِ، فَصَارَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، قَالَ: فَإِنْ أَعْطَاهُ مُصْحَفًا يَعْمَلُ لَهُ غِلَافًا أَوْ سِكِّينًا يَعْمَلُ لَهُ نِصَالًا فَضَاعَ الْمُصْحَفُ أَوْ ضَاعَ السِّكِّينُ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهِمَا بَلْ فِي غَيْرِهِمَا، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْأَجِيرُ، وَصَاحِبُ الثَّوْبِ فَقَالَ الْأَجِيرُ: رَدَدْت، وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عِنْدَهُ فِي الْقَبْضِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْأَجْرِ، وَعِنْدَهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ قَدْ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ عِنْدَهُمَا فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا فَمَا فِي يَدِهِ يَكُونُ أَمَانَةً فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَضْمَنُ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَجِيرِ الْخَالِصِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ، وَلَا يَتَسَلَّمُ الْمَالَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخِيَانَةُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَا يُغَيِّرُهُ مِنْ صِفَةِ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ فَالْمُغَيِّرُ لَهُ أَشْيَاءُ مِنْهَا: تَرْكُ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْتَأْجَرَ فِيهِ فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ، وَتَرْكُ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، كَالْمُودَعِ إذَا تَرَكَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ حَتَّى ضَاعَتْ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْهَا الْإِتْلَافُ وَالْإِفْسَادُ إذَا كَانَ الْأَجِيرُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ بِأَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ أَوْ عَنُفَ فِي الدَّقِّ، سَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ خَاصًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِفْسَادِ بِأَنْ أَفْسَدَ الثَّوْبَ خَطَأً بِعَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا لَمْ يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا كَالْقَصَّارِ إذَا دَقَّ الثَّوْبَ فَتَخَرَّقَ، أَوْ أَلْقَاهُ فِي النُّورَةِ فَاحْتَرَقَ، أَوْ الْمَلَّاحِ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ مِنْ عَمَلِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَضْمَنُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِعَمَلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ كَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ، وَالْمُعَيَّنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ بِعَمَلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ أَنَّهُ حَصَلَ بِالدَّقِّ، وَالدَّقُّ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الدَّقُّ الْمُصْلِحُ فَأَشْبَهَ الْحَجَّامَ وَالْبَزَّاغَ، وَلَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ إلَّا بِحَرَجٍ، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ فَكَانَ مُلْحَقًا بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ الدَّقُّ الْمُصْلِحُ لَا الْمُفْسِدُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى بِإِفْسَادِ مَالِهِ، وَلَا يَلْتَزِمُ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ فَيَتَقَيَّدُ الْأَمْرُ بِالْمُصْلِحِ دَلَالَةً، وَقَوْلُهُ: لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْفَسَادِ مَمْنُوعٌ، بَلْ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي النَّظَرِ فِي آلَةِ الدَّقِّ وَمَحَلِّهِ، وَإِرْسَالِ الْمِدَقَّةِ عَلَى الْمَحَلِّ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ مَعَ الْحَذَاقَةِ فِي الْعَمَلِ، وَالْمَهَارَةِ فِي الصَّنْعَةِ، وَعِنْدَ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ لَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ، فَلَمَّا حَصَلَ دَلَّ أَنَّهُ قَصَّرَ كَمَا نَقُولُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، إلَّا أَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ حَتَّى يُؤَاخَذَ الْخَاطِئُ وَالنَّاسِي بِالضَّمَانِ، وَقَوْلُهُ: لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْفَسَادِ إلَّا بِحَرَجٍ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْحَرَجَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِسْقَاطِ لَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْحَجَّامَ وَالْبَزَّاغَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ وَالسِّرَايَةَ هُنَاكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قُوَّةِ الطَّبِيعَةِ، وَضَعْفِهَا، وَلَا يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ السِّرَايَةِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ.
وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْخَاصُّ فَهُنَاكَ وَإِنْ وَقَعَ عَمَلُهُ إفْسَادًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ عَمَلَهُ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِعَمَلِهِ بَلْ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَمَّالُ إذَا زَلِقَتْ رَجُلُهُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ عَثَرَ فَسَقَطَ وَفَسَدَ حِمْلُهُ، وَلَوْ زَحَمَهُ النَّاسُ حَتَّى فَسَدَ لَمْ يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَعْنَى الْحَرْقِ الْغَالِبِ، وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ، وَلَوْ كَانَ الْحَمَّالُ هُوَ الَّذِي زَاحَمَ النَّاسَ حَتَّى انْكَسَرَ يَضْمَنُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَكَذَلِكَ الرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ إذَا سَاقَ الدَّوَابَّ عَلَى السُّرْعَةِ فَازْدَحَمْنَ عَلَى الْقَنْطَرَةِ أَوْ عَلَى الشَّطِّ فَدَفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ فَعَطِبَ فَعَلَى هَذَا الْخِلَاف، وَلَوْ تَلِفَتْ دَابَّةٌ بِسَوْقِهِ أَوْ ضَرْبِهِ إيَّاهَا فَإِنْ سَاقَ سَوْقًا مُعْتَادًا أَوْ ضَرَبَ ضَرْبًا مُعْتَادًا فَعَطِبَتْ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ سَاقَ أَوْ ضَرَبَ سَوْقًا، وَضَرْبًا بِخِلَافِ الْعَادَةِ يَضْمَنُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إتْلَافٌ عَلَى طَرِيقِ التَّعَدِّي، ثُمَّ إذَا تَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ عَمَلِ الْأَجِيرِ حَتَّى ضَمِنَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بَلْ الْمَضَرَّةَ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَمَلِ الْمُصْلِحِ دُونَ الْمُفْسِدِ، وَفِي الْحَمَّالِ إذَا وَجَبَ ضَمَانُ الْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فَسَدَ أَوْ هَلَكَ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ بَلْ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فَسَدَ أَوْ هَلَكَ، أَمَّا التَّخْيِيرُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ جِهَتَا الضَّمَانِ: الْقَبْضُ وَالْإِتْلَافُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْقَبْضِ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْإِتْلَافِ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الضَّمَانُ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ سَبَبٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِتْلَافُ، فَيَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَةُ يَوْمِ الْإِتْلَافِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وُجِدَ هاهنا سَبَبَانِ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِتْلَافُ، وَالثَّانِي: الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ الْتَزَمَ الْوَفَاءَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِالْعَمَلِ الْمُصْلِحِ وَقَدْ خَالَفَ، وَالْخِلَافُ مِنْ أَسْبَابِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْإِتْلَافِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْقَدْرِ التَّالِفِ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ الصَّفْقَةُ فِي الْمَنَافِعِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ رَضِيَ بِتَفْرِيقِهَا، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّخْيِيرِ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى حَمْلِهِ عَبِيدًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَارِي فِيمَا عَطِبَ مِنْ سَوْقِهِ، وَلَا قَوْدِهِ، وَلَا يَضْمَنُ بَنُو آدَمَ مِنْ وَجْهِ الْإِجَارَةِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَتَاعَ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ بَنِي آدَمَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ، وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ، دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ مَا يَضْمَنُهُ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ يَضْمَنُهُ بِالْعَقْدِ لَا بِالْإِفْسَادِ، وَالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمَتَاعُ وَالْآدَمِيُّ، وَأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِيهِ بِالْخِلَافِ لَا بِالْإِتْلَافِ، وَذَكَرَ بِشْرٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْقَصَّارِ إذَا اسْتَعَانَ بِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِيَدُقَّ مَعَهُ فَتَخَرَّقَ، وَلَا يُدْرَى مِنْ أَيِّ الدَّقِّ تَخَرَّقَ وَقَدْ كَانَ صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يَدُقَّاهُ، قَالَ: عَلَى الْقَصَّارِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إنَّ الضَّمَانَ كُلَّهُ عَلَى الْقَصَّارِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ تَخَرَّقَ مِنْ دَقَّ صَاحِبِهِ أَوْ مِنْ دَقِّهِمَا، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الثَّوْبَ دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْقَصَّارِ بِالْقَبْضِ بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِهِ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ التَّخَرُّقَ حَصَلَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَسَادَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ الْقَصَّارِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْقَصَّارِ فِي حَالٍ، وَلَا يَجِبُ فِي حَالٍ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ فِيهِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَقَالُوا فِي تِلْمِيذِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا، وَطِئَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَخَرَقَهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الثَّوْبِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَلَوْ، وَقَعَ مِنْ يَدِهِ سِرَاجٌ فَأَحْرَقَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى التِّلْمِيذِ؛ لِأَنَّ الذَّهَابَ، وَالْمَجِيءَ بِالسِّرَاجِ عَمَلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَيَنْتَقِلُ عَمَلُهُ إلَى الْأُسْتَاذِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَوْ دَقَّ الْغُلَامُ فَانْقَلَبَ الكودين مِنْ غَيْرِ يَدِهِ فَخَرَقَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْقِصَارَةِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْأُسْتَاذِ، فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا وَدِيعَةً عِنْدَ الْأُسْتَاذِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْأُسْتَاذِ فِيمَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَهُ عَلَيْهِ وَاسْتِعْمَالَهُ فِيهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي ثِيَابِ الْقِصَارَةِ لَا فِي ثَوْبِ الْوَدِيعَةِ، فَبَقِيَ مُضَافًا إلَيْهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ سِرَاجٌ عَلَى ثَوْبِ الْوَدِيعَةِ فَأَحْرَقَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغُلَامِ لِمَا قُلْنَا، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَا قَوْمًا إلَى مَنْزِلِهِ فَمَشَوْا عَلَى بِسَاطِهِ فَتَخَرَّقَ لَمْ يَضْمَنُوا، وَكَذَلِكَ لَوْ جَلَسُوا عَلَى وِسَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْمَشْيِ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْجُلُوسِ عَلَى الْوِسَادَةِ، فَالْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا، وَلَوْ وَطِئُوا آنِيَةً مِنْ الْأَوَانِي ضَمِنُوا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُؤْذَنُ فِي وَطْئِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا وَطِئُوا ثَوْبًا لَا يُبْسَطُ مِثْلُهُ، وَلَوْ قَلَبُوا إنَاءً بِأَيْدِيهِمْ فَانْكَسَرَ لَمْ يَضْمَنُوا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقَلَّدًا سَيْفًا فَخَرَقَ السَّيْفُ الْوِسَادَةَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْجُلُوسِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَوْ جَفَّفَ الْقَصَّارُ ثَوْبًا عَلَى حَبْلٍ فِي الطَّرِيقِ فَمَرَّتْ عَلَيْهِ حَمُولَةٌ فَخَرَقَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَصَّارِ، وَالضَّمَانُ عَلَى سَائِقِ الْحَمُولَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ السَّائِقِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّرِيقِ مُقَيَّدٌ بِالسَّلَامَةِ، فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ تَكَارَى رَجُلٌ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَعَطَبَهَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: نَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا نُضَمِّنَهُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ فِي الضَّرْبِ الْمُعْتَادَ، وَالْكَبْحِ الْمُعْتَادَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ ضَرْبَ الدَّابَّةِ وَكَبْحَهَا مُعْتَادٌ مُتَعَارَفٌ، وَالْمُعْتَادُ كَالْمَشْرُوطِ، وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ، كَذَا هَذَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الضَّرْبِ وَالْكَبْحِ مَأْذُونٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يُوجِبُ الْإِذْنَ بِذَلِكَ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ بِدُونِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُخَيَّرًا فِيهِ فَأَشْبَهَ ضَرْبَهُ لِزَوْجَتِهِ، وَدَعْوَى الْعُرْفِ فِي غَيْرِ الدَّابَّةِ الْمَمْلُوكَةِ مَمْنُوعَةٌ، عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مَأْذُونًا فِيهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ إذَا كَانَ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا الْخِلَافُ، وَهُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إذَا وَقَعَ غَصْبًا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْخِلَافَ قَدْ يَكُونُ فِي الْجِنْسِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْقَدْرِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الصِّفَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَكَانِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الزَّمَانِ.
وَالْخِلَافُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ يَكُونُ فِي اسْتِئْجَارِ الدَّوَابِّ، وَقَدْ يَكُونُ فِي اسْتِئْجَارِ الصُّنَّاعِ كَالْحَائِكِ، وَالصَّبَّاغِ، وَالْخَيَّاطِ خَلَا الْمَكَانِ.
أَمَّا اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، وَالصِّفَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الدَّوَابِّ ضَرَرُ الدَّابَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِيهِ فِي الْجِنْسِ يُنْظَرُ: إنْ كَانَ ضَرَرُ الدَّابَّةِ فِيهِ بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ، فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِي الثَّانِي أَكْثَرَ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ إذَا عَطِبَتْ الدَّابَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ غَاصِبًا لِكُلِّهَا، وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِي الثَّانِي مِثْلَ الضَّرَرِ فِي الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالشَّيْءِ إذْنٌ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ فَكَانَ مَأْذُونًا بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ دَلَالَةً، فَلَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ ضَرَرُ الدَّابَّةِ فِيهِ لَا مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ بَلْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ، وَالثِّقَلُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الدَّابَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْقَدْرِ، وَالضَّرَرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْجِهَةُ فِي الضَّمَانِ لَا الْخِفَّةُ، وَالثِّقَلُ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الصِّفَةِ، وَضَرَرُ الدَّابَّةِ يَنْشَأُ مِنْهَا يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِيهَا، وَيُبْنَى الضَّمَانُ عَلَيْهَا.
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ أَثْقَلُ مِنْ الشَّعِيرِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ أَصْلًا، فَصَارَ غَاصِبًا كُلَّ الدَّابَّةِ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهَا فَيَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهَا، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِصَيْرُورَتِهِ غَاصِبًا، وَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْغَاصِبِ عَلَى أَصْلِنَا، وَلِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَذَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا مَكِيلًا آخَرَ ثِقَلُهُ كَثِقَلِ الْحِنْطَةِ وَضَرَرُهُ كَضَرَرِهَا فَعَطِبَتْ لَا يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فِيهَا نَوْعًا سَمَّاهُ فَزَرَعَ غَيْرَهُ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ شَعِيرٍ.
وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فِيهَا نَوْعًا آخَرَ ضَرَرُهُ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُسَمَّى، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ قَدْ تَحَقَّقَ فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ، وَلَنَا أَنَّ الْخِلَافَ إلَى مِثْلِهِ أَوْ إلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ لَا يَكُونُ خِلَافًا مَعْنًى؛ لِأَنَّ رِضَا الثَّانِيَ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الضَّرَرِ كَانَ الرِّضَا بِالْأَوَّلِ رِضًا بِالثَّانِي، وَإِذَا كَانَ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ فَإِذَا رَضِيَ بِالْأَوَّلِ كَانَ بِالثَّانِي أَرْضَى فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ غَيْرِهِ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْكَيْلِ، أَوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا تِسْعَةً أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا، كَذَا هَذَا.
، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ فَإِنْ سَلِمَتْ فَعَلَيْهِ مَا سَمَّى مِنْ الْأُجْرَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ عَطِبَتْ ضَمِنَ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَةِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ زُفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَضْمَنُ قِيمَةَ كُلِّ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عِلَّةَ التَّلَفِ، وَلَنَا أَنَّ تَلَفَ الدَّابَّةِ حَصَلَ بِالثِّقَلِ، وَالثِّقَلُ بَعْضُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَبَعْضُهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَيُقَسَّمُ التَّلَفُ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي حَائِطٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَثْلَاثًا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَأُشْهِدَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَى الَّذِي أُشْهِدَ عَلَيْهِ قَدْرُ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ ثِقَلِ الْحَائِطِ، وَثِقَلُ الْحَائِطِ أَثْلَاثٌ، كَذَا هَذَا، وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَمْلُ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الزِّيَادَةِ، وَأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ سَفِينَةً لِيَطْرَحَ فِيهَا عَشَرَةَ أَكْرَارٍ فَطَرَحَ فِيهَا أَحَدَ عَشَرَ فَغَرِقَتْ السَّفِينَةُ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يَضْمَنُ قِيمَةَ كُلِّ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ فَهِيَ عِلَّةُ التَّلَفِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَزِدْ لَمَا حَصَلَ التَّلَفُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ التَّلَفُ حَصَلَ بِالْكُلِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُرَّ الزَّائِدَ لَوْ انْفَرَدَ لَمَا حَصَلَ بِهِ التَّلَفُ؟ فَثَبَتَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالْكُلِّ، وَالْبَعْضُ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَالْبَعْضُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَمَا هَلَكَ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَا هَلَكَ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَفِيهِ الضَّمَانُ، وَصَارَ كَمَسْأَلَةِ الْحَائِطِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ قُطْنٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الدَّابَّةِ هاهنا لَيْسَ لِلثِّقَلِ بَلْ لِلِانْبِسَاطِ وَالِاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَالْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ أَنَكَى لِظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَأَعْقَرَ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَصَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيُحَمِّلَهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا حَطَبًا أَوْ خَشَبًا أَوْ آجُرًّا أَوْ حَدِيدًا أَوْ حِجَارَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ أَنَكَى لِظَهْرِ الدَّابَّةِ أَوْ أَعْقَرَ لَهُ حَتَّى عَطِبَتْ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَحَمَلَ عَلَيْهَا، أَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا فَرَكِبَهَا حَتَّى عَطِبَتْ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْ اخْتَلَفَ، وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْكَبَهَا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الثِّقَلِ أَوْ أَخَفُّ مِنْهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ هاهنا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْحَزْقُ وَالْعِلْمُ، فَإِنَّ خَفِيفَ الْبَدَنِ إذَا لَمْ يُحْسِنْ الرُّكُوبَ يَضُرُّ بِالدَّابَّةِ، وَالثَّقِيلَ الَّذِي يُحْسِنُ الرُّكُوبَ لَا يَضُرُّ بِهَا، فَإِذَا عَطِبَتْ عُلِمَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ حَزْقِهِ بِالرُّكُوبِ فَضَمِنَ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا بِنَفْسِهِ فَأَرْكَبَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَتِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ الثِّقَلُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ تَلَفَ الدَّابَّةِ لَيْسَ مِنْ ثِقَلِ الرَّاكِبِ بَلْ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِالرُّكُوبِ، فَصَارَ تَلَفُهَا بِرُكُوبِهَا بِمَنْزِلَةِ تَلَفِهَا بِجِرَاحَتِهَا، وَرُكُوبُ أَحَدِهِمَا مَأْذُونٌ فِيهِ، وَرُكُوبُ الْآخَرِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَصَارَ كَحَائِطٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَثْلَاثًا أُشْهِدَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَوَقَعَتْ مِنْهُ آجُرَّةٌ فَقَتَلَتْ رَجُلًا فَعَلَى الَّذِي أُشْهِدَ عَلَيْهِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الْحَائِطِ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ مَا حَصَلَ بِالثِّقَلِ بَلْ بِالْجُرْحِ، وَالْجِرَاحَةُ الْيَسِيرَةُ كَالْكَثِيرَةِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا جِرَاحَةً، وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَتَيْنِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، كَذَا هَاهُنَا، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ إرْكَابُ الْغَيْرِ، غَيْرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ اُسْتُوْفِيَتْ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا يَجِبُ بِهَا الْأَجْرُ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ تَطِيقُ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ لَا تَطِيقُهُمَا فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِإِرْكَابِ غَيْرِهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِإِكَافٍ فَنَزَعَهُ مِنْهُ وَأَسْرَجَهُ فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ السَّرْجِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْإِكَافِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَقَلَّ مِمَّا يَأْخُذُ الْإِكَافُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِسَرْجٍ فَنَزَعَ مِنْهُ السَّرْجَ، وَأَوْكَفَهُ فَعَطِبَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ مَا زَادَ الْإِكَافُ عَلَى السَّرْجِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ بِحِسَابِ الزِّيَادَةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِكَافَ وَالسَّرْجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرْكَبُ بِهِ عَادَةً، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ بِالثِّقَلِ، وَالْخِفَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِكَافَ أَثْقَلُ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ الثِّقَلِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِسَرْجٍ فَنَزَعَهُ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ آخَرَ أَثْقَلُ مِنْ الْأَوَّلِ فَعَطِبَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ، كَذَا هَذَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِكَافَ لَا يُخَالِفُ السَّرْجَ فِي الثِّقَلِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ السَّرْجُ وَلِأَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي لَمْ تَأْلَفْ الْإِكَافَ يَضُرُّ بِهَا الْإِكَافُ، وَالْخِلَافُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلثِّقَلِ يَجِبُ بِهِ جَمِيعُ الضَّمَانِ كَمَا إذَا حَمَلَ مَكَانَ الْقُطْنِ الْحَدِيدَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَدَّلَ السَّرْجَ بِسَرْجٍ أَثْقَلَ مِنْهُ، وَالْإِكَافُ بِإِكَافٍ أَثْقَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ هُنَاكَ مِنْ نَاحِيَةِ الثِّقَلِ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ كَمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا عَارِيًّا فَأَسْرَجَهُ ثُمَّ رَكِبَ فَعَطِبَ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ السَّرْجَ أَثْقَلُ عَلَى الدَّابَّةِ، وَقِيلَ: هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ فِي الْمِصْرِ، وَهُوَ مِنْ غَرْضِ النَّاسِ مِمَّنْ يَرْكَبُ فِي الْمِصْرِ بِغَيْرِ سَرْجٍ، فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ أَوْ هُوَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يُرْكَبُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ بِغَيْرِ سَرْجٍ، وَلَا إكَافٍ، وَكَذَا ذُو الْهَيْئَةِ فَكَانَ الْإِسْرَاجُ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِسَرْجٍ فَأَسْرَجَهُ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ سَرْجًا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ إذَا كَانَ مِمَّا يُسْرَجُ بِهِ الْحُمُرُ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الضَّرَرِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَحَدِهِمَا إذْنًا بِالْآخَرِ دَلَالَةً، وَإِذَا كَانَ لَا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ بِأَنْ كَانَ سَرْجًا كَبِيرًا كَسُرُوجِ الْبَرَاذِينِ كَانَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ، فَكَانَ إتْلَافًا لِلدَّابَّةِ فَيَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ لِجَامٌ فَأَلْجَمَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِثْلُهُ يُلْجَمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ اللِّجَامِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَبْدَلَهُ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يَتْلَفُ بِأَصْلِ اللِّجَامِ فَإِذَا كَانَ الْحِمَارُ قَدْ يُلْجَمُ بِمِثْلِهِ أَوْ أَبْدَلَهُ بِمِثْلِهِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ، وَلَا الْخِلَافُ فَلَا يَضْمَنُ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الْمَكَانِ فَنَحْوُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ أَوْ لِلْحَمْلِ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ كَمَا جَاوَزَ الْمَكَانَ الْمَعْلُومَ دَخَلَ الْمُسْتَأْجَرُ فِي ضَمَانِهِ حَتَّى لَوْ عَطِبَ قَبْلَ الْعَوْدِ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ.
وَلَوْ عَادَ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ هَلْ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؟ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ: يَبْرَأُ كَالْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: لَا يَبْرَأُ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهَا سَلِيمَةً وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الشَّيْءَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْخِلَافِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ، فَالْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْدَ الْهَلَاكِ، وَضَمِنَهُ الْمُسْتَحِقُّ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ كَالْمُودِعِ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ إنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الشَّيْءَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ نَفْسِهِ لَا يَدَ الْمُؤَاجِرِ، وَكَذَا يَدُ الْمُسْتَعِيرِ لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ يَدَ نَفْسِهِ فَإِذَا ضَمِنَ بِالتَّعَدِّي لَا يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهِ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكُونُ الْإِعَادَةُ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ رَدًّا إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ الْمَالِكِ لَا يَدُ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ الْوَدِيعَةِ فَكَانَ الْعَوْدُ إلَى الْوِفَاقِ رَدًّا إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ فَكَانَ رَدًّا إلَى الْمَالِكِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ بِالضَّمَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِكَوْنِ يَدِهِ يَدَ الْمُؤَاجِرِ، بَلْ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ مِنْ يَدِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِسَبَبِ الْغَرُورِ، كَذَا هَذَا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان عَيَّنَهُ فَرَكِبَهَا إلَى مَكَان آخَرَ يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَقْرَبَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخَالِفًا لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ إلَى الْأَمَاكِنِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ رَكِبَهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَكِنْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ يُنْظَرُ: إنْ كَانَ النَّاسُ يَسْلُكُونَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يَسْلُكُونَهُ يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ لِصَيْرُورَتِهِ مُخَالِفًا غَاصِبًا بِسُلُوكِهِ، وَإِنْ لَمْ تَهْلَكْ، وَبَلَغَ الْمَوْضِعَ الْمَعْلُومَ ثُمَّ رَجَعَ، وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ إلَى صَاحِبِهَا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا أَوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَذَهَبَ بِهَا، وَلَمْ يَرْكَبْهَا، وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهَا شَيْئًا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْمَنَافِعَ إلَيْهِ بِتَسْلِيمِ مَحَلِّهَا إلَى الْمَكَانِ الْمَعْلُومِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا فَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ فَلَمْ يَسْكُنْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْأُجْرَةُ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، وَلَوْ أَمْسَكَ الدَّابَّةَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا، وَلَمْ يَذْهَبْ بِهَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا إلَيْهِ فَإِنْ أَمْسَكَهَا عَلَى قَدْرِ مَا يُمْسِكُ النَّاسُ إلَى أَنْ يَرْتَحِلَ فَهَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الدَّابَّةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مُسْتَثْنًى عَادَةً فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً، وَإِنْ حَبَسَ مِقْدَارَ مَا لَا يَحْبِسُ النَّاسُ مِثْلَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَعَطِبَ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ فِي الْمَكَانِ بِالْإِمْسَاكِ الْخَارِجِ عَنْ الْعَادَةِ فَصَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ إذَا هَلَكَ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ تَهْلَكْ فَأَمْسَكَهَا فِي بَيْتِهِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِيَرْكَبَهَا فَحَبَسَهَا، وَلَمْ يَرْكَبْهَا حَتَّى رَدَّهَا يَوْمَ الْعَاشِرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ، وَيَسَعُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْكِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَبْهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى الْوَقْتِ بِالتَّسْلِيمِ فِي الْوَقْتِ، وَقَدْ وُجِدَ فَتَجِبُ الْأُجْرَةُ كَمَا فِي إجَارَةِ الدَّارِ، وَنَحْوِهَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ بِالتَّسْلِيمِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الزَّمَانِ فَنَحْوُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا، أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَانْتَفَعَ بِهَا زِيَادَةً عَلَى الْمُدَّةِ فَعَطِبَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ مِنْ الْحَائِكِ، وَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ، وَنَحْوِهِمْ.
فَالْخِلَافُ إنْ كَانَ فِي الْجِنْسِ بِأَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ لِيَصْبُغَهُ لَوْنًا فَصَبَغَهُ لَوْنًا آخَرَ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ، وَسَلَّمَ الثَّوْبَ لِلْأَجِيرِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ إنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا يَزِيدُ.
أَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ فَلِفَوَاتِ غَرَضِهِ؛ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ لِتَفْوِيتِهِ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً، فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ حَقًّا لَهُ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ، وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ رَأْسًا حَيْثُ لَمْ يُوَفِّ الْعَمَلَ الْمَأْذُونَ فِيهِ أَصْلًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، كَالْغَاصِبِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ إنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا يَزِيدُ كَالْحُمْرَةِ، وَالصُّفْرَةِ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ بِالثَّوْبِ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَخْذِهِ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ فَيَأْخُذُهُ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ وَنَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا لَا يَزِيدُ كَالسَّوَادِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَاخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا بَلْ يُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الثَّوْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّوَادَ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَهُ فَلَا يَزِيدُ بَلْ يَنْقُصُ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ قِيمَةٌ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْأَلْوَانِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا رَطْبَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا؛ لِأَنَّ الرَّطْبَةَ مَعَ الزَّرْعِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ إذْ الرَّطْبَةُ لَيْسَتْ لَهَا نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ، وَكَذَا الرَّطْبَةُ تَضُرُّ بِالْأَرْضِ مَا لَا يَضُرُّهَا الزَّرْعُ، فَصَارَ بِالِاشْتِغَالِ بِزِرَاعَةِ الرَّطْبَةِ غَاصِبًا إيَّاهَا بَلْ مُتْلِفًا، وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَنْقُشَ فِي فِضَّةٍ اسْمَهُ، فَنَقْشَ اسْمَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْخَاتَمَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْخَاتَمِ، وَهُوَ الْخَتْمُ بِهِ فَصَارَ كَالْمُتْلِفِ إيَّاهُ قَالَ: وَإِذَا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُحَمِّرَ لَهُ بَيْتًا فَخَضَّرَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ: أُعْطِيهِ مَا زَادَتْ الْخُضْرَةُ فِيهِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَا اسْتَأْجَرَهُ عَلَيْهِ رَأْسًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ الصِّبْغِ الَّذِي زَادَ فِي الْبَيْتِ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ، وَالْقَمِيصَ مُخْتَلِفَانِ فِي الِانْتِفَاعِ فَصَارَ مُفَوِّتًا مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُعْطِيَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لِمَا قُلْنَا.
، وَإِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الصِّفَةِ نَحْوَ أَنْ دَفَعَ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِصِبْغٍ مُسَمًّى فَصَبَغَهُ بِصَبْغٍ آخَرَ لَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ اللَّوْنِ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ أَبْيَضَ، وَيُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّوْبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ.
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِي الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا، وَجَبَ الْأَجْرُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الصِّفَةِ لَا يُخْرِجُ الْعَمَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، فَقَدْ أَتَى بِأَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِوَصْفِهِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِوَصْفِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَمْ يَجِبْ الْمُسَمَّى، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَتَى بِالْأَصْلِ، وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ شَبَهًا لِيَضْرِبَ لَهُ طَشْتًا مَوْصُوفًا مَعْرُوفًا فَضَرَبَ لَهُ كُوزًا قَالَ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ شَبَهِهِ وَيَصِيرُ الْكُوزُ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ شَاءَ أَخْذَهُ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ صِفَةً، فَقَدْ فَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِأَصْلِهِ، وَخَالَفَ فِي، وَصْفِهِ فَيَثْبُتُ لِلْمُسْتَعْمِلِ الْخِيَارُ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَحُوكَ لَهُ ثَوْبًا صَفِيقًا فَحَاكَ لَهُ ثَوْبًا رَقِيقًا أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُوكَ لَهُ ثَوْبًا رَقِيقًا فَحَاكَهُ صَفِيقًا إنَّ صَاحِبَ الْغَزْلِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ غَزْلَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ مَا سُمِّيَ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا دَفَعَ خُفَّهُ إلَى خَفَّافٍ لِيُنَعِّلَهُ فَأَنْعَلَهُ بِنَعْلٍ لَا يُنَعِّلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ، فَصَاحِبُ الْخُفِّ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ خُفَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ فِي عَمَلِهِ، وَقِيمَةَ النَّعْلِ، لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ، وَإِنْ كَانَ يُنَعِّلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا.
وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ إذَا أَنَعْلَهُ بِمَا لَا يُنَعِّلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ رَأْسًا بَلْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ ابْتِدَاءً فَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا أَنْعَلَ الْخُفَّ الْمَغْصُوبَ فَكَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ كَالْغَاصِبِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُفَّ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّضْمِينِ تَثْبُتُ لِحَقِّ الْمَالِكِ فَإِذَا رَضِيَ بِالْأَخْذِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا أَخَذَ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْعَمَلِ، وَقَدْ أَتَى بِأَصْلِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الصِّفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَهُ وَيُعْطِيَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَلَا يُعْطِيَهُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ مَوْصُوفٍ وَلَمْ يَأْتِ بِالصِّفَةِ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ النَّعْلَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ لِلْخَفَّافِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ فِي الثَّوْبِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخِيَارُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى صَاحِبِ الْخُفِّ، وَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبٌ مَتْبُوعٌ وَالنَّعْلُ، وَالصِّبْغُ تَبَعٌ فَكَانَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ جَيِّدًا فَأَنْعَلَهُ بِغَيْرِ جَيِّدٍ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْخُفِّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْخُفَّ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَقِيمَةَ مَا زَادَ فِيهِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّ الرَّدِيءَ مِنْ جِنْسِ الْجَيِّدِ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ.
وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْقَدْرِ نَحْوَ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ يَنْسِجُهُ لَهُ سَبْعًا فِي أَرْبَعٍ فَخَالَفَ بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالنُّقْصَانِ، فَإِنْ خَالَفَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ الرَّجُلَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ، وَسَلَّمَ الثَّوْبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى.
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي قَدْرِ الذِّرَاعِ تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصِّفَةِ، وَهِيَ الصَّفَاقَةُ، فَيَفُوتُ غَرَضُهُ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الَّذِي سَمَّاهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الصِّفَةِ، وَالْخِلَافُ فِي صِفَةِ الْعَمَلِ لَا يُخْرِجُ الْعَمَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ الْعَيْبِ.
وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي النُّقْصَانِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ عَلَيْهِ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَقَصَ فِي الْقَدْرِ فَقَدْ فَوَّتَ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الثَّوْبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَمِلَ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَجْرٌ مُسَمًّى، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُقَدَّرٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْمُقَدَّرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَى نَقْلِ كُرٍّ مِنْ طَعَامٍ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِدِرْهَمٍ فَنَقَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَإِنْ أَوْفَاهُ الْوَصْفَ، وَهُوَ الصَّفَاقَةُ وَالذِّرَاعُ، وَزَادَ فِيهِ فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ، وَصَارَ الثَّوْبُ لِلصَّانِعِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ الْمُسَمَّى، وَلَا يَزِيدُ لِلذِّرَاعِ الزَّائِدِ شَيْئًا، أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الثَّوْبِ الْقَصِيرِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّوِيلِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَادَ فِي طُولِهِ فَقَدْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْغَزْلِ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ فِيهَا حَيْثُ عَمِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الثَّوْبِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَعْطَى صَبَّاغًا ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِعُصْفُرِ رُبُعِ الْهَاشِمِيِّ بِدِرْهَمٍ فَصَبَغَهُ بِقَفِيزِ عُصْفُرٍ، وَأَقَرَّ رَبُّ الثَّوْبِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ رَبَّ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِيهِ مَعَ الْأَجْرِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ مَشَايِخَنَا ذَكَرُوا تَفْصِيلًا فَقَالُوا: إنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ صَبَغَهُ أَوَّلًا بِرُبُعِ الْهَاشِمِيِّ ثُمَّ صَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَفِيزِ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى، وَمَا زَادَ لِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَفِيزِ فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَهُ بِالصِّبْغِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَوَّلًا وَهُوَ رُبُعُ الْهَاشِمِيِّ فَقَدْ أَوْفَاهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالصِّبْغِ الثَّانِي كَأَنَّهُ غَصَبَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالرُّبُعِ ثُمَّ صَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الصِّبْغَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ الثَّانِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمَةٌ لِلصَّبَّاغِ فِي الثَّوْبِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا بِرُبُعِ الْقَفِيزِ، وَوَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ مِنْ وَجْهٍ لِحُصُولِهِ فِي ثَوْبِهِ لَكِنْ يُكْمِلُ الْقَبْضَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ فَكَانَ مَقْبُوضًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ لَهُ فَسْخُ الْقَبْضِ لِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ، وَيَضْمَنَ الْأَجْرَ، وَإِنْ كَانَ صَبَغَهُ ابْتِدَاءً بِقَفِيزٍ فَلَهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوفِ بِالْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَلَمْ يَعْمَلْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ غَصَبَ ثَوْبًا، وَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ خِلَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ، وَيَغْرَمَ الْأَجْرَ، وَمَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِيهِ مُجْتَمِعًا كَانَ أَوْ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ لَا يَتَشَرَّبُ فِي الثَّوْبِ دُفْعَةً، وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَسْتَوِي فِيهِ الِاجْتِمَاعُ، وَالِافْتِرَاقُ.
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَحُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُؤَاجِرِ فِي أَجْرِ الْمِثْلِ لَا فِي الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ لَمْ يَرْضَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِبَدَلٍ.
وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَلِأَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ هُوَ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ، وَالْقِيمَةُ هِيَ الْعَدْلُ إلَّا أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ، فَيُعْدَلُ مِنْهَا إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، فَإِذَا فَسَدَتْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجَبِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى فِي عَقْدٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُزَادُ، وَيَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ شَرْعًا بِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِتَقْوِيمِ الْعَاقِدَيْنِ، وَالْعَاقِدَانِ مَا قَوَّمَاهَا إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى فَلَوْ وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسَمَّى لَوَجَبَتْ بِلَا عَقْدٍ وَإِنَّهَا لَا تَتَقَوَّمُ بِلَا عَقْدٍ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ، وَالْأَعْيَانُ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا فَوَجَبَ كُلُّ قِيمَتِهَا، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ- وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ- هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا كَالْأَعْيَانِ.
هَذَا إذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْأَجْرِ لَا يُرْضَى بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ كَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا بِالْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ دَلَالَةً، فَكَانَ تَقْوِيمًا لِلْمَنَافِعِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إذْ هُوَ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ فِيهِ، وَهِيَ كَوْنُهُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ لِحُصُولِ الْهَلَاكِ فِي قَبْضٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الْمُؤَاجِرِ.
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْبَاطِلَةُ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ فَلَا حُكْمَ لَهَا رَأْسًا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَنْعَقِدُ فَوُجُودُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْبَاطِلِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْبَيْعِ، وَنَحْوِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.