فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ السَّرِقَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ السَّرِقَةِ:

وَأَمَّا حُكْمُ السَّرِقَةِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ-: لِلسَّرِقَةِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ، وَالْآخَرُ: يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَالْقَطْعُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}؛ وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ صِفَاتِ هَذَا الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُقِيمُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ، أَوْ عَدَمِ الثُّبُوتِ أَصْلًا لِمَانِعٍ مِنْ الشُّبْهَةِ.
(أَمَّا) صِفَاتُ هَذَا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَنَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَالْقَطْعُ فِي سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الضَّمَانَ، وَالْقَطْعَ هَلْ يَجْتَمِعَانِ فِي سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ؟ عِنْدَنَا لَا يَجْتَمِعَانِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَسْرُوقُ فِي يَدِ السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَوْ قَبْلَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: فَيُقْطَعُ، وَيَضْمَنُ مَا اسْتَهْلَكَهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّهُ وُجِدَ مِنْ السَّارِقِ سَبَبُ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ؛ فَيَجِبَانِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ السَّرِقَةُ، وَإِنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حَقَّيْنِ: حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.
(أَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَهَتْكُ حُرْمَةِ حِفْظِ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إذْ الْمَالُ حَالَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
(وَأَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ فَبِإِتْلَافِ مَالِهِ، فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقَّيْنِ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِضَمَانَيْنِ فَيَجِبُ ضَمَانُ الْقَطْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَضَمَانُ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ، كَمَنْ شَرِبَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالضَّمَانُ حَقًّا لِلْعَبِيدِ، وَكَذَا قَتْلُ الْخَطَأِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالدِّيَةَ حَقًّا لِلْعَبْدِ، كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لَوْ كَانَ قَائِمًا يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ فَدَلَّ أَنَّهُ بَقِيَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ.
(وَلَنَا) الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْمَعْقُولُ: أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سَمَّى الْقَطْعَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ يُبْنَى عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَوْ ضَمَّ إلَيْهِ الضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ كَافِيًا فَلَمْ يَكُنْ جَزَاءً تَعَالَى اللَّهُ- سُبْحَانَهُ عَزَّ شَأْنُهُ- عَنْ الْخُلْفِ فِي الْخَبَرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْقَطْعَ كُلَّ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ ذَكَرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ؛ فَيَكُونُ نَسْخًا لِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ- سَيِّدِنَا- عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ»، وَالْغُرْمُ فِي اللُّغَةِ مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.
(وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِنَاءٌ، وَالْآخَرُ ابْتِدَاءٌ.
(أَمَّا) وَجْهُ الْبِنَاءِ فَهُوَ: أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَنَا تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، أَوْ اخْتِيَارِهِ مِنْ وَقْتِ الْأَخْذِ فَلَوْ ضَمَّنَّا السَّارِقَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ، أَوْ مِثْلَهُ لَمَلَكَ الْمَسْرُوقَ مِنْ وَقْتِ الْأَخْذِ فَتَبَيَّنَّ أَنَّهُ قُطِعَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
(
وَأَمَّا)، وَجْهُ الِابْتِدَاءِ فَمَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَهُوَ: أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَخْذِ مَالٍ مَعْصُومٍ ثَبَتَتْ عِصْمَتُهُ حَقًّا لِلْمَالِكِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِيَكُونَ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانَات، وَالْمَضْمُونُ حَالَةَ السَّرِقَةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ بِدَلَالَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَلَوْ بَقِيَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ لَمَا وَجَبَ، إذْ الثَّابِتُ حَقًّا لِلْعَبْدِ يَثْبُتُ لِدَفْعِ حَاجَتِهِ، وَحَاجَةُ السَّارِقِ كَحَاجَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ.
وَالْقَطْعُ وَاجِبٌ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ رَدُّ الْمَسْرُوقِ حَالَ قِيَامِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ يَقِفُ عَلَى الْمِلْكِ لَا عَلَى الْعِصْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ خَمْرَ الْمُسْلِمِ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ؛ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهَا، وَلَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ حَقًّا لِلْعَبْدِ زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ الْمَحِلّ، وَهَاهُنَا الْمِلْكُ قَائِمٌ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ، وَالْعِصْمَةُ زَائِلَةٌ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْهَلَاكِ، وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ إذَا اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا يَضْمَنُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ يَضْمَنُ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَطْعِ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ، وَقَبْضُ السَّارِقِ لَيْسَ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ، فَكَانَ الْمَسْرُوقُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانَةِ فَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَ.
(وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ عِصْمَةَ الْمَحِلِّ الثَّابِتَةِ حَقًّا لِلْمَالِكِ قَدْ سَقَطَتْ فِي حَقِّ السَّارِقِ لِضَرُورَةِ إمْكَانِ إيجَابِ الْقَطْعِ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فَلَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا قَبْلَهُ؛ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا، وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ؛ رَجُلٌ آخَرُ يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ فِي حَقِّ السَّارِقِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ فَيَضْمَنُ، وَلَوْ سَقَطَ الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ، قَدْ زَالَ الْمَانِعُ.
وَلَوْ بَاعَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ مِنْ إنْسَانٍ، أَوْ مَلَكَهُ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ، وَلِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عَلَى السَّارِقِ فِي عَيْنِ الْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْمَسْرُوقِ لَا بِقِيمَتِهِ لِيُوجِبَ ذَلِكَ مِلْكَ الْمَسْرُوقِ لِلسَّارِقِ، وَإِنْ كَانَ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ، وَلَا عَلَى الْقَابِضِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَمَّا السَّارِقُ؛ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ.
(وَأَمَّا) الْمُشْتَرِي؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَى السَّارِقِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمَالِكَ ضَمِنَ السَّارِقَ، وَقَطْعُهُ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ الْقَابِضُ كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ لَيْسَ بِتَضْمِينٍ وَلَوْ اغْتَصَبَهُ إنْسَانٌ مِنْ السَّارِقِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا ضَمَانَ لِلسَّارِقِ، وَلَا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ،.
(أَمَّا) السَّارِقُ؛ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ.
(وَأَمَّا) الْمَالِكُ؛ فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ لَهُ حَقًّا قَدْ بَطَلَتْ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَكَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ الْغَاصِبَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى السَّارِقِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ ثَوْبًا فَخَرَقَهُ فِي الدَّارِ خَرْقًا فَاحِشًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْخَرْقَ الْفَاحِشَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَطْعَ، وَإِنْ خَرَقَهُ عَرْضًا؛ فَقَدْ مَرَّ الِاخْتِلَافُ فِيهِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ التَّدَاخُلُ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَرَفَعَ فِيهَا كُلِّهَا فَقُطِعَ، أَوْ رَفَعَ فِي بَعْضِهَا فَقُطِعَ فِيمَا رَفَعَ فَالْقَطْعُ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا، وَلَا يُقْطَعُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ- وَأَنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ- يُكْتَفَى فِيهَا بِحَدٍّ وَاحِدٍ كَمَا فِي الزِّنَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ، وَالرَّدْعُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ، فَكَانَ فِي إقَامَةِ الثَّانِي.
وَالثَّالِثِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فَلَا يُقَامُ؛ وَلِهَذَا يُكْتَفَى فِي بَابِ الزِّنَا بِالْإِقَامَةِ لِأَوَّلِ حَدٍّ كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ مَحِلَّ الْإِقَامَةِ قَدْ فَاتَ، إذْ مَحِلُّهَا الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ سَرِقَةٍ وُجِدَتْ مَا أَوْجَبَتْ إلَّا قَطْعَ الْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا قُطِعَتْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَقَدْ فَاتَ مَحِلُّ الْإِقَامَةِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ ذَهَبَتْ الْيَدُ الْيُمْنَى بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ.
وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّهُ إذَا حَضَرَ أَصْحَابُ السَّرِقَاتِ، وَخَاصَمُوا فِيهَا فَقُطِعَ بِمُخَاصَمَتِهِمْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مُخَاصَمَةَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِالْقَطْعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا، فَإِذَا خَاصَمُوا جَمِيعًا فَكَأَنَّهُمْ أَبْرَءُوا.
وَأَمَّا إذَا خَاصَمَ وَاحِدٌ فِي سَرِقَةٍ فَقُطِعَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ فِيمَا خُوصِمَ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا فِيمَا لَمْ يُخَاصَمْ فِيهِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّرِقَاتِ خَاصَمُوا، أَوْ لَمْ يُخَاصِمُوا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-: يَضْمَنُ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا إلَّا فِيمَا خُوصِمَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمَالَ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، وَهُوَ الضَّمَانُ، وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّرِقَةَ لِيَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَهُوَ الْقَطْعُ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ، فَكَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ مَبْنِيًّا عَلَى دَعْوَى السَّرِقَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا، فَمَنْ خَاصَمَ مِنْهُمْ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ، وَمَنْ لَمْ يُخَاصِمْ؛ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْمُسْقِطُ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي الضَّمَانِ كَمَا كَانَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: أَنَّ النَّافِيَ لِلضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ، وَالْقَطْعُ وَقَعَ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا فَيَنْفِي الضَّمَانَ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا، هَذَا إذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ هَالِكًا، أَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا رُدَّ كُلُّ مَسْرُوقٍ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ لَا الرَّدَّ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ حَتَّى لَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِقَطْعِ السَّارِقِ فَعَفَا عَنْهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ كَانَ عَفْوُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْعَفْوِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ حَقًّا لِلْعَافِي، وَالْقَطْعُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هَذَا الْحُكْمِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ أَصْلِ الْمَحِلِّ، وَمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَوْضِعِ إقَامَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَصْلُ الْمَحِلِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا طَرَفَانِ فَقَطْ، وَهُمَا: الْيَدُ الْيُمْنَى، وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى فَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يُقْطَعُ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ، وَيُعَزَّرُ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: الْأَطْرَافُ الْأَرْبَعَةُ مَحِلُّ الْقَطْعِ عَلَى التَّرْتِيبِ: فَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَتَقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الرَّابِعَة، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وَالْأَيْدِي اسْمُ جَمْعٍ، وَالِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ إلَّا قَلْبٌ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي قَطْعِ الْأَيْدِي ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَهَذَا لَا يُخْرِجُ الْيَدَ الْيُسْرَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلْقَطْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ- سَيِّدَنَا- أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ سَارِقَ حُلِيِّ أَسْمَاءَ، وَكَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ- سَيِّدَنَا- عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ وَقَدْ سَرَقَ فَقَالَ: لَا أَقْطَعُهُ إنْ قَطَعْت يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ، وَإِنْ قَطَعْت رِجْلَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي إنِّي لَأَسْتَحْيِ مِنْ اللَّهِ فَضَرَبَهُ بِخَشَبَةٍ، وَحَبَسَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ- سَيِّدَنَا- عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ أَقْطَعَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ نِعَالًا يُقَالُ لَهُ سَدُومُ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ فَقَالَ لَهُ- سَيِّدُنَا- عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا عَلَيْهِ قَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ فَحَبَسَهُ- سَيِّدُنَا- عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَسَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَزِيدَا فِي الْقَطْعِ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ؛ فَيَكُونَ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
(وَلَنَا) أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى إذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةً لَا يُعْدَلُ إلَى الْيَدِ الْيُسْرَى، بَلْ إلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَلَوْ كَانَ لِلْيَدِ الْيُسْرَى مَدْخَلًا فِي الْقَطْعِ لَكَانَ لَا يُعْدَلُ إلَّا إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ فَدَلَّ الْعُدُولُ إلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى لَا إلَيْهَا عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ أَصْلًا.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ فِي قَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى تَفْوِيتَ جِنْسِ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ النَّفْسِ أَصْلًا، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى بَعْدَ قَطْعِ الْيُمْنَى فَتَصِيرُ النَّفْسُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ هَالِكَةً، فَكَانَ قَطْعُ الْيَدِ الْيُسْرَى إهْلَاكَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا قَطْعُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ تَفُوتُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَ قَطْعُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى إهْلَاكَ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِهْلَاكُ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَصْلُحُ حَدًّا فِي السَّرِقَةِ، كَذَا إهْلَاكُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْحُدُودِ احْتِيَاطًا، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا، وَلَا يُظَنُّ بِمِثْلِهِ أَنْ يَقْرَأَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
بَلْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَتْ قِرَاءَتُهُ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِمُبْهَمِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ- {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أَنَّهُ قَالَ أَيْمَانَهُمَا، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَأَمَّا حَدِيثُ لَا قَطْعَ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ- سَيِّدَتِنَا- عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا كَانَ الَّذِي سَرَقَ حُلِيَّ أَسْمَاءَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطَعَ- سَيِّدُنَا- أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَكَانَتْ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ، ثُمَّ إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي الْكَرَّةِ الْأُولَى إذَا كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى صَحِيحَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى.
وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى، فَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً، أَوْ شَلَّاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْإِبْهَامِ، أَوْ أُصْبُعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْيَدُ الْيُسْرَى يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا؛ فَقَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى يَقَعُ تَفْوِيتًا لِجِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ أَصْلًا فَيَقَعُ إهْلَاكًا لِلنَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تُقْطَعُ، وَلَا يَقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ أَحَدُ الشِّقَّيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَيُهْلِكُ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةَ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ سِوَى الْإِبْهَامِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَتَضَمَّنُ فَوَاتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ.
وَكَذَا إنْ كَانَتْ الرِّجْلُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً، أَوْ شَلَّاءَ، أَوْ بِهَا عَرَجٌ يَمْنَعُ الْمَشْيَ عَلَيْهَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ الشِّقِّ، وَلَا رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بِلَا رِجْلَيْنِ فَيَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا فَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ، وَالْمَشْيَ عَلَيْهَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَفُوتُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ لَا يُقْطَعُ لِفَوَاتِ الشِّقِّ وَلَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ، وَلَكِنَّ رِجْلَهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ، أَوْ شَلَّاءُ أَوْ مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أَوْ الْأَصَابِعِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَفُوتُ، وَلَا فِيهِ فَوَاتُ الشِّقِّ أَيْضًا.
وَلَوْ سَرَقَ وَيُمْنَاهُ شَلَّاءُ، أَوْ مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ، أَوْ الْأَصَابِعِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أَيْ: أَيْمَانَهُمَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ يَمِينٍ، وَيَمِينٍ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سَلِيمَةً تُقْطَعُ فَالنَّاقِصَةُ الْمَعِيبَةُ أَوْلَى بِالْقَطْعِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ فِي الْكَفَّارَةِ حَيْثُ جَعَلَ فَوَاتَ إصْبَعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ مِنْ الْيَدِ الْيُسْرَى نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، وَلَمْ يُجْعَلْ فَوَاتُ إصْبَعَيْنِ نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْإِعْتَاقِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَلَاثًا.
(وَجْهُ) الْفَرْقِ: أَنَّ الْقَطْعَ حَدٌّ فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ النُّقْصَانِ يُورِثُ شُبْهَةً، بِخِلَافِ الْعِتْقِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ فَقَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى فَهَذَا عَلَى، وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ قَالَ اقْطَعْ يَدَهُ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ قَيَّدَهُ فَقَالَ: اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَإِنْ أَطْلَقَ فَقَالَ: لَهُ اقْطَعْ يَدَهُ فَقَطَعَ الْيُسْرَى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَقَدْ قَطَعَ الْيَدَ، وَإِنْ قَيَّدَ فَقَالَ: اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَ الْيُسْرَى فَإِنْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَدَهُ، وَقَالَ هَذَا هُوَ يَمِينِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ السَّارِقُ يَدَهُ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ الْيُسْرَى خَطَأً لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ.
(وَلَنَا) أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْيَسَارَ مَقَامَ الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ، وَالْيَسَارِ، فَكَانَ هَذَا خَطَأً مِنْ الْمُجْتَهِدِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْخَطَأِ لَا فِيمَا إذَا أَخْطَأَ فَظَنَّ الْيَسَارَ يَمِينًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ مَعَ مَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَا يَضْمَنُ هُنَاكَ أَيْضًا عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَإِنْ قَطَعَ الْيُسْرَى عَمْدًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ لَهُمَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ بِإِقَامَةِ الْيَسَارِ مَقَامَ الْيَمِينِ فَلَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فَيَضْمَنُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ، وَأَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ، فَلَا يَضْمَنُ كَرَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ أَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ الْيُسْرَى فَقَدْ سَلِمَتْ لَهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْطَعُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْيُمْنَى خَيْرٌ مِنْ الْيُسْرَى ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَطْعُ- وَهُوَ قَطْعُ الْيُسْرَى- قَطْعًا مِنْ السَّرِقَةِ حَتَّى إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ السَّارِقِ، أَوْ اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ، أَوْ لَا يَكُونُ مِنْ السَّرِقَةِ حَتَّى يَضْمَنَ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ هَذَا كُلُّهُ إذَا قَطَعَ الْحَدَّادُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ إذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَإِنْ كَانَ خَطَأً تَجِبُ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ فِي الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يُؤَدِّي إلَى إهْلَاكِ النَّفْسِ مِنْ، وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَيُرَدُّ عَلَيْهِ الْمَسْرُوقُ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ فِي الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ وَقَدْ سَقَطَ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الْيَدِ الْيَمِينِ فِي السَّرِقَةِ فَلَمْ تُقْطَعْ حَتَّى قَطَعَ قَاطِعٌ يَمِينَهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَعَلَى قَاطِعِهِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَالْأَرْشُ إنْ كَانَ خَطَأً، وَتُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ كَأَنَّهُ سَرَقَ، وَلَا يَمِينَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْخُصُومَةِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، إلَّا أَنَّا هاهنا لَا نَقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خُوصِمَ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْيَمِينِ وَقَدْ فَاتَتْ؛ فَسَقَطَ الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ ذَهَبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّهُ احْتَسَبَ لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَكَانَ قَطْعُهُ عَنْ السَّرِقَةِ حَتَّى لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ السَّرِقَةِ فِي يَدِهِ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ.
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقْطَعُ مِنْ الْيَدِ الْيُمْنَى فَهُوَ مَفْصِلُ الزَّنْدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ تُقْطَعُ الْأَصَابِعُ، وَقَالَ الْخَوَارِجُ: تُقْطَعُ مِنْ الْمَنْكِبِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ»، فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ كَأَنَّهُ نَصَّ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَقَالَ: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُقِيمُ هَذَا الْحُكْمُ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ، أَوْ مَنْ وَلَّاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ وَالْمُتَوَلِّي لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الْأَئِمَّةُ أَوْ مَنْ وَلَّوْهُمْ مِنْ الْقُضَاةِ، وَالْحُكَّامِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: الْمَوْلَى يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَنَقُولُ: مَا يُسْقِطُهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ السَّارِقَ فِي إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: لَمْ تَسْرِقْ مِنِّي، وَمِنْهَا تَكْذِيبُهُ الْبَيِّنَةَ بِأَنْ يَقُولَ: شَهِدَ شُهُودِي بِزُورٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَذَبَ فَقَدْ بَطَلَ الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ؛ فَسَقَطَ الْقَطْعُ، وَمِنْهَا رُجُوعُ السَّارِقِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ فَلَا يُقْطَعُ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَلَا يُسْقِطُ الْمَالَ رَجُلَانِ أَقَرَّا بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: الثَّوْبُ ثَوْبُنَا لَمْ نَسْرِقْهُ، أَوْ قَالَ: هَذَا لِي دُرِئَ الْقَطْعُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقَرَّا بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي السَّرِقَةِ.
ثُمَّ لَمَّا أَنْكَرَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْحَدُّ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ الشَّرِيكِ؛ لِاتِّحَادِ السَّرِقَةِ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: سَرَقْنَا هَذَا الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ فَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، وَقَالَ كَذَبْت لَمْ نَسْرِقْهُ قُطِعَ الْمُقِرُّ وَحْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ بِإِنْكَارِهِ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ضَرُورَةَ اتِّحَادِ السَّرِقَةِ، وَهَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْ: إنَّهُ يُحَدُّ الرَّجُلُ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْمَرْأَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إقْرَارِ الرَّجُلِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الزِّنَا مِنْ جَانِبِهَا عَدَمُهُ مِنْ جَانِبِهِ، كَمَا لَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ، أَوْ مَجْنُونَةٍ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ، فَعَدَمُ السَّرِقَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْآخَرِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ إقْرَارَهُ بِالشَّرِكَةِ فِي السَّرِقَةِ إقْرَارٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ صَاحِبُهُ السَّرِقَةَ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ فِعْلُ السَّرِقَةِ، وَعَدَمُ الْفِعْلِ مِنْهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ مِنْ صَاحِبِهِ فَبَقِيَ إقْرَارُ صَاحِبِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، بِخِلَافِ إقْرَارِ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ، وَهِيَ تَجْحَدُ؛ إنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَإِذَا أَنْكَرَتْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُجُودُ مِنْ الرَّجُلِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) رَدُّ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ إلَى الْمَالِكِ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ عِنْدَهُمَا، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الرَّدَّ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ السَّرِقَةَ حِينَ وُجُودِهَا انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ فَرَدُّ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِالسَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ؛ فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا رُدَّ الْمَسْرُوقُ عَلَى الْمَالِكِ فَقَدْ بَطَلَتْ الْخُصُومَةُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْخُصُومَةِ لَا بَقَاؤُهَا، وَقَدْ وُجِدَتْ.
(وَمِنْهَا) مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَضَاءِ نَحْوُ مَا إذَا وَهَبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ الْمَسْرُوقَ مِنْ السَّارِقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَهَبَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَإِمَّا أَنْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ وَهَبَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ يَسْقُطُ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ أُخِذَ فَأُتِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطَعَ يَدُهُ فَقَالَ صَفْوَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» فَدَلَّ أَنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ تُسْقِطُ، وَبَعْدَهُ لَا تُسْقِطُ.
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ وَقَدْ تَمَّتْ السَّرِقَةُ، وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَطَرَيَانُ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ فَبَقِيَ الْقَطْعُ وَاجِبًا كَمَا كَانَ، كَمَا لَوْ رُدَّ الْمَسْرُوقُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الْخُصُومَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْهِبَةِ، وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَثْبُتُ مِنْ، وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَكَوْنُ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِلسَّارِقِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الشُّبْهَةِ يَمْنَعُ مِنْ الْقَطْعِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إمْضَاؤُهَا فَمَا لَمْ يَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُقْضَ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يُقْضَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا إذَا لَمْ يَمْضِ.
وَلِأَنَّ الطَّارِئَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقٌ بِالْمُقَارَنِ؛ إذَا كَانَ فِي الْإِلْحَاقِ إسْقَاطُ الْحَدِّ، وَهَاهُنَا فِيهِ إسْقَاطُ الْحَدِّ فَيَلْحَقُ بِهِ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ قَوْلُهُ هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَقَوْلُهُ هُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَسْرُوقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَطْعَ، وَهِبَةُ الْقَطْعِ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ: وَهَبْت الْقَطْعَ، وَكَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالْمَسْرُوقِ، أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَالْقَطْعُ إنَّمَا يَسْقُطُ بِالْهِبَةِ مَعَ الْقَبْضِ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ الْمَسْرُوقُ مِنْ السَّارِقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالنِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ الْوَطْءِ فَلَا تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ فِي الزِّنَا؛ فَيُحَدُّ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الشُّبْهَةُ وَغَيْرُهَا، فَدُخُولُ الْمَسْرُوقِ فِي ضَمَانِ السَّارِقِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ اسْتَهْلَكَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ زَالَ الْمَانِعُ فَيَضْمَنُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالثَّانِي وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَسْرُوقِ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْمَسْرُوقَ فِي يَدِ السَّارِقِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَإِمَّا أَنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فِيهِ حَدَثًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ رَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ».
وَرُوِيَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدَّ رِدَاءَ صَفْوَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ السَّارِقَ فِيهِ»، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السَّارِقُ قَدْ مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ رَجُلًا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ السَّارِقُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَلَعَتْ مِنْ نَفْسِهَا بِهِ.
وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، إذْ السَّرِقَةُ لَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ، فَكَانَ تَمْلِيكُ السَّارِقِ بَاطِلًا، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِمَا مَرَّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ فِي يَدَيْ الْقَابِضِ، وَكَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَطْعِ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا ضَمَانَ لَا عَلَى السَّارِقِ، وَلَا عَلَى الْقَابِضِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فِيهِ حَدَثًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ، وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ، فَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ يُقْطَعْ، وَتُسْتَرَدَّ الْعَيْنُ عَلَى الْمَالِكِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَسْرُوقِ هَلَاكُ بَعْضِهِ، وَلَوْ هَلَكَ كُلُّهُ يُقْطَعُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ، وَيَرُدُّ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْكُلِّ فَكَذَا الْبَعْضِ، وَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ السَّارِقَ إذَا أَحْدَثَ فِي الْمَسْرُوقِ حَدَثًا لَوْ أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ، يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْغَصْبِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ، أَوْ قِيمَتَهُ، وَهَاهُنَا لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ لِمَانِعٍ وَهُوَ الْقَطْعُ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: السَّارِقُ إذَا قَطَعَ الثَّوْبَ الْمَسْرُوقَ، وَخَاطَهُ قَمِيصًا؛ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ لَانْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَذَا إذَا فَعَلَهُ السَّارِقُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ فَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَفِي قَوْلِهِمَا يَأْخُذُ الْمَالِكُ الثَّوْبَ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ هَذَا مِنْ الْغَاصِبِ لَخُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ التَّضْمِينَ هاهنا مُتَعَذَّرٌ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ: أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ إذْ الْغَصْبُ، وَالسَّرِقَةُ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا فِي الضَّمَانِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ هاهنا وَهُوَ: أَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إنَّمَا لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ الثَّوْبِ بِالصَّبْغِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الثَّوْبِ مِلْكُهُ، وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ، وَلِلْغَاصِبِ فِيهِ حَقٌّ مُتَقَوِّمٌ أَيْضًا، إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ لَا لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ صَاحِبُ أَصْلٍ، وَالْغَاصِبَ صَاحِبُ وَصْفٍ، وَهَاهُنَا حَقُّ السَّارِقِ فِي الصَّبْغِ مُتَقَوِّمٌ، وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي أَصْلِ الثَّوْبِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ السَّارِقِ لِأَجْلِ الْقَطْعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَهُ السَّارِقُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَاعْتُبِرَ حَقُّ السَّارِقِ، وَجُعِلَ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْأَصْلِ تَبَعًا لَحَقِّهِ فِي الْوَصْفِ، وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُهُ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَيَكُونُ لَهُ مَجَّانًا، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذَا الثَّوْبِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، وَتَضْمِينُهُ فِي الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ، فَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ السَّارِقُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مَحْظُورٍ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الضَّمَانِ؛ فَلَا يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَالُ إنْسَانٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ الرَّدِّ، وَالضَّمَانُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَالْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ- جَلَّ جَلَالُهُ.
وَكَذَلِكَ الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ، ثُمَّ تَابَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَيُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إذَا أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِنَا، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ، وَيُفْتَى بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ- جَلَّتْ عَظَمَتُهُ- وَكَذَلِكَ السَّارِقُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَسْرُوقَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا قَاطِعُ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا بِعَصًا ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا بَطَلَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَيُؤْمَرُ بِأَدَاءِ الدِّيَةِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ، وَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا بِعَصًا، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُفْتَى بِدَفْعِ الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ، بِخِلَافِ الْبَاغِي، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَمْ يَقَعْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَقْتُولِ لَمْ تَظْهَرْ فِي حَقِّهِ، فَلَا يُجَبُّ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، بِخِلَافِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ، وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ إذَا لَمْ يَجِبْ لِشُبْهَةٍ يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْمَانِعِ فِي الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ لَا فِي الْفَتْوَى، وَكَذَا فِعْلُ الْبَاغِي، وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِالْوُجُوبِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ لِقِيَامِ الْمَنَعَةِ، وَهَذَا الْمَانِعُ يَخُصُّ الْحُكْمَ، وَالْقَضَاءَ، فَكَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا عِنْدَ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَيُقْضَى بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَنَّهُ يُقْطَعُ، وَالدَّرَاهِمُ تُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْ الدَّرَاهِمِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الصُّنْعَ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ فِي بَابِ الْغَصْبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ، وَلَوْ سَرَقَ حَدِيدًا، أَوْ صُفْرًا، أَوْ نُحَاسًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَضَرَبَهَا أَوَانِيَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بَعْدَ الصِّنَاعَةِ، وَالضَّرْبِ تُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدًا فَيُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ- كَمَا فِي الْغَصْبِ- وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَسَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-، وَاَللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ.