فصل: فَصْلٌ: صِفَةُ الْحُكْمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ:

وَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ ثُبُوتِهِ شَرْعًا، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الثُّبُوتِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ السَّبَبِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ ثَابِتٌ وَيَقَعُ بِهِ التَّوَارُثُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهُ يُورَثُ بِهِ وَيُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ فِي عَقْدِ الْوَلَاءِ إبْطَالَ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ كَانَ وَرَثَتُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَقَامُوا مَقَامَ الْوَرَثَةِ الْمُعَيَّنِينَ، وَكَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ مَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَا: إذَا أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ، وَلَا وَارِثَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ كَانَ وَارِثُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ كَذَا هَذَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا بِالْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وَالْمُرَادُ مِنْ النَّصِيبِ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ النَّصِيبَ إلَيْهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى قِيَامِ حَقٍّ لَهُمْ مُقَدَّرٍ فِي التَّرِكَةِ وَهُوَ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} لَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ، وَوَالَاهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ» أَيْ حَالَ حَيَاتِهِ وَحَالَ مَوْتِهِ، أَرَادَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْيَاهُ فِي الْعَقْلِ وَمَمَاتَهُ فِي الْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إنَّمَا يَرِثُ بِوَلَاءِ الْإِيمَانِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَلِلْمَوْلَى هَذَا الْوَلَاءُ وَوَلَاءُ الْمُعَاقَدَةِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلتَّسَاوِي فِي وَلَاءِ الْإِيمَانِ؟ وَالتَّرْجِيحُ لِوَلَاءِ الْعِتْقِ كَذَا هَذَا، إلَّا أَنَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَتَأَخَّرُ عَنْ سَائِرٍ الْأَقَارِبِ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِالرَّحِمِ فَوْقَ الْوَلَاءِ بِالْعَقْدِ.
فَيُخَلَّفُ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّعْمَةِ بِالْإِعْتَاقِ الَّذِي هُوَ إحْيَاءُ وَإِيلَادُ مَعْنًى أُلْحِقَ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَرَثَتُهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْعَقْدِ.
فَنَقُولُ: إنَّمَا يَصِيرُونَ وَرَثَتَهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْمُعَاقَدَةِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمُعَاقَدَةِ فَلَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِالثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ.
وَأَمَّا سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعَقْدُ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا مِتّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْت فَيَقُولَ: قَبِلْت سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لِآخَرَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَلَمْ يُوَالِهِ وَوَالَى غَيْرَهُ فَهُوَ مَوْلًى لِلَّذِي وَالَاهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ عَطَاءٍ هُوَ مَوْلًى لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} جَعَلَ الْوَلَاءَ لِلْعَاقِدِ، وَكَذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوا الْوَلَاءَ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ النَّاسِ كَانُوا يُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِ رَجُلٍ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ، بَلْ السَّبَبُ هُوَ الْعَقْدُ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ وَالْعَقْلُ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْعَقْدِ فَمِنْهَا عَقْلُ الْعَاقِدِ، إذْ لَا صِحَّةَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِدُونِ الْعَقْلِ، وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْإِيجَابِ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيجَابُ مِنْ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَالَاهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَذِنَ أَبُوهُ الْكَافِرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ وَعُقُودُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إنَّمَا يَقِفُ عَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ الْكَافِرِ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ، فَكَانَ إذْنُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ سَائِرُ عُقُودِهِ بِإِذْنِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، كَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ.
وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْقَبُولِ فَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ حَتَّى لَوْ وَالَى بَالِغٌ صَبِيًّا فَقَبِلَ الصَّبِيُّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ، فَإِنْ أَجَازَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ عَقْدٍ فَكَانَ قَبُولُ الصَّبِيِّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، فَيَجُوزُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَوَصِيِّهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَقْبَلَا عَنْهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَالَى رَجُلٌ عَبْدًا فَقَبِلَ الْعَبْدُ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَجَازَ جَازَ، إلَّا أَنَّ فِي الْعَبْدِ إذَا أَجَازَ الْمَوْلَى فَالْوَلَاءُ مِنْ الْمَوْلَى، وَفِي الصَّبِيِّ إذَا أَجَازَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ مِنْ الصَّبِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَوَقَعَ قَبُولُهُ لِمَوْلَاهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ الْمُشْتَرَى لِمَوْلَاهُ؟ فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ؟ وَلَوْ وَالَى رَجُلٌ مُكَاتَبًا جَازَ وَكَانَ مَوْلًى لِمَوْلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ فَجَازَ قَبُولُهُ؟ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى؟ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَبْدًا فَأَدَّى وَعَتَقَ كَانَ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى؟ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ لَوْ كَاتَبَ عَبْدَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْ الِابْنِ؟.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ، فَيَصِحُّ فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّ، وَالذِّمِّيِّ الْمُسْلِمَ، وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ، أَوْ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِالْمَالِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ، كَذَا الْمُوَالَاةُ، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا وَالَى ذِمِّيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْأَسْفَلُ جَازَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً، وَالْمَرْأَةِ رَجُلًا، وَكَذَا دَارُ الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَام أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَبِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبِدَارِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَنْ أَقَارِبِهِ مِنْ يَرِثُهُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ أَقْوَى مِنْ الْعَقْدِ وَلِقَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَتُعْطَى نَصِيبُهَا وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْعَرَبِ حَتَّى لَوْ وَالَى عَرَبِيٌّ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى عَشِيرَتِهِ وَهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُوَالَاةِ لِلتَّنَاصُرِ، وَالْعَرَبُ يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَبَائِلِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ مُوَالَاةُ الْعَجَمِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَبِيلَةٌ فَيَتَنَاصَرُونَ بِهَا، فَتَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ لِأَجْلِ التَّنَاصُرِ.
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ الْعَرَبِ فَلَهُ قَبِيلَةٌ يَنْصُرُونَهُ، وَالنُّصْرَةُ بِالْقَبِيلَةِ أَقْوَى فَلَا يَصِيرُ مَوْلًى، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَكَذَا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ وَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِي الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُمْ مِنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ».
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَقَ أَحَدٍ فَإِنْ كَانَ، لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ فَقَدْ صَارَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ حَتَّى لَوْ مَاتَ فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِمَنْ عَاقَدَهُ أَوَّلًا فَعَقَلَ عَنْهُ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ، فَقَدْ تَأَكَّدَ عَقْدُهُ وَلَزِمَ وَخَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ لِمَا يُذْكَرُ فَلَا يَصِحُّ مُعَاقَدَتُهُ غَيْرَهُ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ الَّذِي يُوَالِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَاقَدَ غَيْرَهُ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ جَازَ عَقْدُهُ مَعَ آخَرَ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ بِدُونِ الْعَقْلِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الثَّانِي فَسْخًا لِلْأَوَّلِ.
وَأَمَّا صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى لَوْ وَالَى رَجُلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَمْلِكُ بِهِ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَالْوَصِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَكَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، إلَّا إذَا عَقَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ إذَا عَقَلَ عَنْهُ فَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَقْلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَفِي التَّحَوُّلِ بِهِ إلَى غَيْرِهِ فَسْخُ قَضَائِهِ فَلَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْقَضَاءِ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ صَرِيحًا قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ غَيْرِ لَازِمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ يَجُوزُ لِلْآخَرِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ.
وَهَا هُنَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ وَهُوَ الْقَابِلُ، فَكَذَا الْآخَرُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْآخَرِ أَيْ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، إلَّا أَنْ يُوَالِيَ الْأَسْفَلُ آخَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا دَلَالَةً، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهُ أَوْ انْتِقَاضًا ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُوَالَاةَ غَيْرِهِ إلَّا بِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ، فَيَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ دَلَالَةً وَضَرُورَةً، وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا كَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ ثُمَّ عَزَلَهُ، وَالْوَكِيلُ غَائِبٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَمْ يَصِحَّ عَزْلُهُ، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ انْعَزَلَ الْوَكِيلُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ.
فَالْعَقْلُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالْإِرْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى الْأَعْلَى يَعْقِلُ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَيَرِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَرِثُ الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، فِيمَا تَقَدَّمَ وَيَرِثُ الْأَسْفَلُ مِنْ الْأَعْلَى أَيْضًا إذَا شَرَطَا ذَلِكَ فِي الْمُعَاقَدَةِ، بِخِلَافِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَنَّ هُنَاكَ يَرِثُ الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ مِنْ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ هُنَاكَ وُجِدَ مِنْ الْأَعْلَى لَا مِنْ الْأَسْفَلِ وَهُوَ الْعِتْقُ.
وَالسَّبَبُ هاهنا الْعَقْدُ وَقَدْ شُرِطَ فِيهِ التَّوَارُثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ؛ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَكَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَلَاءِ فِي الرِّجَالِ يَثْبُتُ فِي أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ تَبَعًا لَهُمْ، حَتَّى لَوْ وَالَى إنْسَانًا وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ صَارُوا مَوَالِيَ لِلَّذِي وَالَاهُ الْأَبُ، وَكَذَا إذَا وَالَى إنْسَانًا ثُمَّ وُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ دَخَلُوا فِي وَلَاءِ الْأَبِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَلِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَيَنْفُذُ عَقَدُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ مَوَالِيَ بِمُوَالَاةِ الْأَبِ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ بِالْبُلُوغِ، حَتَّى لَوْ وَالَى الْأَبُ إنْسَانًا وَلَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ فَوَالَى رَجُلًا آخَرَ فَوَلَاؤُهُ لَهُ لَا لِمَوْلَى أَبِيهِ، وَلَوْ كَبِرَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَأَرَادَ التَّحَوُّلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ عَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ أَحَدِ إخْوَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا جَوَازُ التَّحَوُّلِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَقْلِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَبِيرًا وَقْتَ عَقْدِ الْأَبِ لَجَازَ لَهُ التَّحَوُّلُ، وَكَذَا إذَا كَبِرَ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السِّرَايَةِ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ عَدَمُ التَّبَعِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَ الْعَقْلِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اتِّصَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ وَفِي التَّحَوُّلِ فَسْخُهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيَلْزَمَ ضَرُورَةً، وَلَوْ عَاقَدَتْ امْرَأَةٌ عَقْدَ الْوَلَاءِ وَلَهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ لَا يَصِيرُونَ مَوَالِيَ لِلَّذِي وَالَتْهُ أُمُّهُمْ وَلَا تُشْبِهُ الْأُمُّ فِي هَذَا الْبَابِ الْأَبَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَشْتَرِي لَهُمْ وَلَا تَبِيعُ عَلَيْهِمْ وَلِلْأَبِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؟، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: يَثْبُتُ حُكْمُ وَلَائِهَا فِي أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ، وَلَوْ وَالَى رَجُلٌ رَجُلًا، ثُمَّ وُلِدَ مِنْ امْرَأَةٍ قَدْ وَالَتْ رَجُلًا فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ وَلَاءَانِ؛ وَلَاءُ الْأَبِ وَوَلَاءُ الْأُمِّ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْأَبِ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَيْهِمْ وَلَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى وَلَدِهِ عَقْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَلَيْسَ لِلْأُمِّ ذَلِكَ؟ فَكَذَا عَقْدُ الْوَلَاءِ وَكَذَا لَوْ وَالَتْ وَهِيَ حُبْلَى وَلَا يُشْبِهُ هَذَا وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ؛ لِأَنَّ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ حُبْلَى يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِالْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْأُمِّ، فَكَانَ لِلْوَلَدِ وَلَاءُ نَفَسِهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي الْعِتْقِ.
فَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فَبِالْعَقْدِ، وَعَقْدُهَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا فَلَمْ يَصِرْ الْوَلَدُ أَصْلًا فِي الْوَلَاءِ فَكَانَ تَبَعًا لِلْأَبِ فِي الْوَلَاءِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ فَوَالَتْ الْأُمُّ إنْسَانًا ثُمَّ وَالَى الْأَبُ آخَرَ فَوَلَاءُ الْأَوْلَادِ لِمَوَالِي الْأَبِ لِمَا قُلْنَا ذِمِّيَّةٌ أَسْلَمَتْ فَوَالَتْ رَجُلًا وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ مِنْ ذِمِّيٍّ لَمْ يَكُنْ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَتَاقَةِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأُمَّ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى الْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَعْقِدَ عَلَى وَلَدِهَا عَقْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَلَاءِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْوَلَاءِ مِنْ الْأَبِ، وَالْوَلَاءُ إذَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، كَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا وَكَمَا فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا، وَلَوْ قَدِمَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا ثُمَّ سُبِيَ ابْنُهُ فَأُعْتِقَ لَمْ يَجُزْ وَلَاءُ الْأَبِ، وَإِنْ سُبِيَ أَبُوهُ فَأُعْتِقَ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَتْبَعُ الْأَبَ فِي الْوَلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْأَبُ فَلَا يَتْبَعُ الِابْنَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الِابْنُ إلَى أَبِيهِ فَإِنْ كَانَ ابْنُ الِابْنِ أَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا لَمْ يَجُرَّ الْجَدُّ وَلَاءَهُ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يَجُرُّ الْوَلَاءَ إلَّا أَنْ يَجُرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ فَيَجُرُّ بِجَرِّهِ وَلَاءَ ابْنِهِ وَلَاءَهُ، وَقَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ: وَجْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَسْفَلُ مُوَالِيًا، وَالْأَوْسَطُ حَرْبِيًّا وَالْجَدُّ مُعْتِقًا فَلَا يَجُرُّ وَلَاءَ الْأَسْفَلِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ الْأَوْسَطُ وَيُوَالِيَ، فَيَجُرُّ الْجَدُّ وَلَاءَهُ وَوَلَاءَ الْأَسْفَلِ بِجَرِّ وَلَائِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ابْنُهُ الْكَبِيرُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ كَانَ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَوْلَى لِلَّذِي وَالَاهُ وَلَا يُجَرُّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْعَتَاقِ أَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هاهنا وَلَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ، وَعَقْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِ، وَهُنَاكَ وَلَاءُ الْوَلَدِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ وَوَلَاءُ الْأَبِ ثَبَتَ بِالْعِتْقِ وَوَلَاءُ الْعِتْقِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَيَسْتَتْبِعُ الْأَقْوَى الْأَضْعَفَ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ صَاحِبِهِ لِثُبُوتٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ، فَهُوَ الْفَرْقُ.

.فَصْلٌ: صِفَةُ الْحُكْمِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ بِهَذَا الْعَقْدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالنَّسَبِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَاءُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» حَتَّى لَوْ بَاعَ رَجُلٌ وَلَاءَ مُوَالَاةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ بِعَبْدٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ كَانَ إعْتَاقُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ إذْ الْوَلَاءُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يَمْلِكْهُ فَلَمْ يَصِحَّ إعْتَاقُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ بِحُرٍّ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ، وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَاءَهُ مِنْ آخَرَ، أَوْ وَهَبَهُ لَا يَكُونُ بَيْعًا أَيْضًا وَلَا هِبَةً لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِوَلَاءِ الْأَوَّلِ وَمُوَالَاةً لِهَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُعْتَاضُ مِنْهُ فَبَطَل الْعِوَضُ وَبَقِيَ قَوْلُهُ: الْوَلَاءُ لَك فَيَكُونُ مُوَالَاةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي، كَمَا لَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بِمَالٍ صَحَّ التَّسْلِيمُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْمَالُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِمَا ظَهَرَ بِهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ الْمُفَسِّرَةُ، أَوْ الْإِقْرَارُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي إقْرَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْلُومٌ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ كَمَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْلُومٌ، وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فَأَخَذَ رَجُلٌ مَالَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ وَارِثُهُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ إذَا لَمْ يُخَاصِمْهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي، أَلِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ وَلَا مَانِعَ عَنْهُ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ، فَإِنْ خَاصَمَهُ أَحَدٌ سَأَلَهُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ، وَكَانَ مُدَّعِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.

.كِتَابُ الْإِجَارَةِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِ الْإِجَارَةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِجَارَةِ، وَمَعْنَاهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْإِجَارَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الْعَاقِدَيْنِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: إنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ لِلْحَالِ مَعْدُومَةٌ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْبَيْعِ إلَى مَا يُؤْخَذُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِضَافَةِ الْبَيْعِ إلَى أَعْيَانٍ تُؤْخَذُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهَا لَا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ فَلَا جَوَازَ لَهَا رَأْسًا لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ أَبُ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقَى لَهُمَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أَيْ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا لِي أَوْ عَلَى أَنْ تَجْعَلَ عِوَضِي مِنْ إنْكَاحِي ابْنَتِي إيَّاكَ رَعْيَ غَنَمِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ، يُقَالُ: آجَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ عَوَّضَهُ، وَأَثَابَهُ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ تَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وَمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ يَصِيرُ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً وَيَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَتُنَا لَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَالْإِجَارَةُ ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} وَقَدْ قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي حَجِّ الْمُكَارِي فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: إنَّا قَوْمٌ نُكْرَى، وَنَزْعُمُ أَنْ لَيْسَ لَنَا حَجٌّ فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ، وَتَقِفُونَ، وَتَرْمُونَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْتُمْ حُجَّاجٌ، ثُمَّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَأَلْتنِي فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمْ حُجَّاجٌ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجُنَاحَ عَمَّنْ يَسْتَرْضِعُ وَلَدَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِرْضَاعُ بِالْأُجْرَةِ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} قِيلَ أَيْ الْأَجْرَ الَّذِي قَبِلْتُمْ، وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَهَذَا نَصٌّ وَهُوَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَنْكِحُ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمُ شَرْطِ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ إعْلَامُ الْأَجْرِ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى إعْطَاءِ أَجْرِ الْأَجِيرِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ»، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَأَتَاهُمَا فَارْتَحَلَا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ» وَأَدْنَى مَا يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَازُ.
وَرُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَهُوَ فِي حَائِطِهِ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الْحَائِطُ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْجَرْته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ» خَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيَ بِاسْتِئْجَارِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ جَائِزَةً أَصْلًا لَعَمَّ النَّهْيُ إذْ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ، وَكَذَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا مِنْهُ وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الْأَصَمِّ حَيْثُ يَعْقِدُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَلَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِ إذْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الْعُقُودَ لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْإِجَارَةِ مَاسَّةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ لَهُ دَارٌ مَمْلُوكَةٌ يَسْكُنُهَا أَوْ أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ يَزْرَعُهَا أَوْ دَابَّةٌ مَمْلُوكَةٌ يَرْكَبُهَا وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ تَمَلُّكُهَا بِالشِّرَاءِ لِعَدَمِ الثَّمَنِ، وَلَا بِالْهِبَةِ وَالْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ كُلِّ وَاحِدٍ لَا تَسْمَحُ بِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِجَارَةِ فَجُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ كَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ، تَحْقِيقُهُ أَنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ لِكُلِّ حَاجَةٍ عَقْدًا يَخْتَصُّ بِهَا فَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِعِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْبَيْعُ، وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْهِبَةُ، وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْإِعَارَةُ، فَلَوْ لَمْ يُشَرِّعْ الْإِجَارَةَ مَعَ امْتِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لَمْ يَجِدْ الْعَبْدُ لِدَفْعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ سَبِيلًا وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ.