فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَيَسْتَقِرُّ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ- أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ وَيَسْتَقِرُّ بِالطَّلَبِ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّلَبِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ وَقْتِ الطَّلَبِ وَفِي بَيَانِ شُرُوطِهِ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ.
(أَمَّا) وَقْتُهُ فَالطَّلَبُ نَوْعَانِ: طَلَبُ مُوَاثَبَةٍ وَطَلَبُ تَقْرِيرٍ.
(أَمَّا) طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ فَوَقْتُهُ وَقْتُ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ حَتَّى لَوْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ قَبْلَ وَقْتِ الطَّلَبِ فَلَا يَضُرُّهُ ثُمَّ عِلْمُهُ بِالْبَيْعِ قَدْ يَحْصُلُ بِسَمَاعِهِ بِالْبَيْعِ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَحْصُلُ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ، لَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُشْتَرَطُ أَحَدُ هَذَيْنِ إمَّا الْعَدَدُ فِي الْمُخْبِرِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَإِمَّا الْعَدَالَةُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالشُّفْعَةِ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَسَكَتَ وَلَمْ يَطْلُبْ عَلَى فَوْرِ الْخَبَرِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَهُمَا إذَا ظَهَرَ كَوْنُ الْخَبَرِ صِدْقًا، وَهَذَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ عَنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَعَنْ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَعَنْ عَجْزِ الْمَوْلَى عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، فَهُمَا يَقُولَانِ: الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ سَاقِطَا الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا إخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَبْطُلُ لَوْ لَمْ يَطْلُبْ بَعْدَ الْخَبَرِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ، وَلَوْ أَخْبَرَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ قَدْ اشْتَرَيْتُهُ فَلَمْ يَطْلُبْ شُفْعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي عَدْلًا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ خَصْمٌ، وَعَدَالَةُ الْخَصْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْخُصُومَاتِ.
وَقَالُوا فِي الْمُخَيَّرَةِ إذَا بَلَغَهَا التَّخْيِيرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُخْبِرِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ التَّخْيِيرِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ؛ لِخُلُوِّهِ عَنْ إلْزَامِ حُكْمٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْبَيْعِ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَوْرِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَسَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ وَخِيَارِ الْقَبُولِ مَا لَمْ يَقُمْ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ يَتَشَاغَلْ عَنْ الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلشَّفِيعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَيُحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ هَلْ تَصْلُحُ بِمِثْلِ هَذَا الثَّمَنِ؟ وَأَنَّهُ هَلْ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِ هَذَا الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؟ أَوْ لَا يَتَضَرَّرُ فَيَتْرُكَ؟ وَهَذَا لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ؟ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّأَمُّلِ شَرْطُ الْمَجْلِسِ فِي جَانِبِ الْمُخَيَّرَةِ وَالْقَبُولُ كَذَا هَاهُنَا.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا» وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الشُّفْعَةُ كَنَشْطِ عِقَالٍ إنْ قُيِّدَ مَكَانَهُ ثَبَتَ وَإِلَّا ذَهَبَ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «إنَّمَا الشُّفْعَةُ كَحَلِّ عِقَالٍ إنْ قُيِّدَ مَكَانَهُ ثَبَتَ وَإِلَّا فَاللَّوْمُ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ مُتَزَلْزِلٌ لِثُبُوتِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ إذْ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكُ مَالٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ؛ لِخَوْفِ ضَرَرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالطَّلَبِ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ.
(وَأَمَّا) الْإِشْهَادُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ حَتَّى لَوْ طَلَبَ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ وَلَمْ يُشْهِدْ صَحَّ طَلَبُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جَلَّتْ عَظَمَتُهُ- وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْإِظْهَارِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُصَدِّقُ الشَّفِيعَ فِي الطَّلَبِ أَوْ لَا يُصَدِّقُ فِي الْفَوْرِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِظْهَارِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ صِحَّةَ الطَّلَبِ.
وَنَظِيرُهُ مَنْ أَخَذَ لُقَطَةً لِيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْإِشْهَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَوْثِيقِ الْأَخْذِ لِلرَّدِّ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ؛ إلَّا أَنَّهُ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ الضَّمَانَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا وَإِذَا طَلَبَ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شُهُودٌ أَشْهَدَهُمْ وَتَوَثَّقَ الطَّلَبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُشْهِدُهُ فَبَعَثَ فِي طَلَبِ شُهُودٍ لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْإِشْهَادَ لِإِظْهَارِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، لَكِنْ يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَى الطَّلَبِ عَلَى رِوَايَةِ الْفَوْرِ فَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْفَوْرِ ضَرُورَةً.
وَعَلَى رِوَايَةِ الْمَجْلِسِ إذَا قَالَ- وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ-: اُدْعُوا لِي شُهُودًا أُشْهِدُهُمْ فَجَاءَ الشُّهُودُ فَأَشْهَدَهُمْ صَحَّ وَتَوَثَّقَ الطَّلَبُ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَائِمٌ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِبَيْعِ الدَّارِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ ادَّعَيْتُ شُفْعَتَهَا، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ قَدْ ادَّعَيْتُ شُفْعَتَهَا فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُذْكَرُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِهِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الطَّلَبِ.
وَكَذَا إذَا سَلَّمَ أَوْ شَمَّتَ الْعَاطِسَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ خِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ مَنْ ابْتَاعَهَا وَبِكَمْ بِيعَتْ؟ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرْضَى بِمُجَاوَرَةِ إنْسَانٍ دُونَ غَيْرِهِ وَقَدْ تَصْلُحُ لَهُ الدَّارُ بِثَمَنٍ دُونَ غَيْرِهِ فَكَانَ السُّؤَالُ عَنْ حَالِ الْجَارِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الطَّلَبِ لَا إعْرَاضًا عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْمَجْلِسِ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْفَوْرِ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِانْقِطَاعِ الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَمَضَى فِيهَا فَالشَّفِيعُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْضِ أَوْ فِي الْوَاجِبِ أَوْ فِي السُّنَّةِ أَوْ فِي النَّفْلِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ كَانَ فِي الْفَرْضِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ قَطْعَهَا حَرَامٌ فَكَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِ الطَّلَبِ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَّةِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَتْ السُّنَّةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا كَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَ بَعْدَمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَوَصَلَ بِهِمَا الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَمْ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَاجِبَةٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ الْبَيْعُ فَصَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ، وَإِنْ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ سُنَّةٌ فَصَارَ كَالرَّكْعَتَيْنِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُخَيَّرَةِ إذَا كَانَتْ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ فَزَادَتْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْغَائِبُ إذَا عَلِمَ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ مِثْلُ الْحَاضِرِ فِي الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّلَبِ الَّذِي يَتَأَكَّدُ بِهِ الْحَقُّ وَعَلَى الْإِشْهَادِ الَّذِي يَتَوَثَّقُ بِهِ الطَّلَبُ.
وَلَوْ وَكَّلَ الْغَائِبُ رَجُلًا لِيَأْخُذَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ فَذَلِكَ طَلَبٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِي التَّوْكِيلِ طَلَبًا وَزِيَادَةً، وَإِذَا طَلَبَ الْغَائِبُ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ وَأَشْهَدَ فَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَجَلِ مِقْدَارُ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَأْتِي إلَى حَيْثُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي أَوْ الدَّارُ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَأْجِيلَ هَذَا الْقَدْرِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ لِلزِّيَادَةِ.
(أَمَّا) طَلَبُ التَّقْرِيرِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَوْرِ الطَّلَبِ الْأَوَّلِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، فَإِذَا طَلَبَ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ وَأَشْهَدَ عَلَى فَوْرِهِ ذَلِكَ شَخْصًا إلَى حَيْثُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي أَوْ الدَّارُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَلَبَ مِنْ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ عِنْدَ الدَّارِ.
(أَمَّا) الطَّلَبُ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي؛ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ الْبَائِعُ بِالْيَدِ وَالْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا فَصَحَّ الطَّلَبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
(وَأَمَّا) الطَّلَبُ عِنْدَ الدَّارِ؛ فَلِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِهَا فَإِنْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَعِنْدَ الدَّارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ.
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ عِنْدَ الدَّارِ، وَلَا يَطْلُبُ مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَالِ يَدِهِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَا عِنْدَ الدَّارَ وَشَخَصَ إلَى الْبَائِعِ لِلطَّلَبِ مِنْهُ وَالْإِشْهَادِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا وَلَوْ تَعَاقَدَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ فَلَيْسَ عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يَأْتِيَهُمَا وَلَكِنَّهُ يَطْلُبُ عِنْدَ الدَّارِ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كَانَ بِجَنْبِ الدَّارِ- وَالْعَاقِدَانِ غَائِبَانِ- تَعَيَّنَتْ الدَّارُ لِلطَّلَبِ عِنْدَهَا وَالْإِشْهَادِ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ عِنْدَهَا وَشَخَصَ إلَى الْعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِوُجُودِ الْإِعْرَاضِ عَنْ الطَّلَبِ، هَذَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّلَبِ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ الدَّارِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مَخُوفٌ أَوْ أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَانِعِ- لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِتَرْكِ الْمُوَاثَبَةِ إلَى أَنْ يَزُولَ الْحَائِلُ.
(وَأَمَّا) الْإِشْهَادُ عَلَى هَذَا الطَّلَبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهِ كَمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوْثِيقِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ كَمَا فِي الطَّلَبِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، وَالْعَقَارُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ فَلَا يَصِحُّ الطَّلَبُ وَالْإِشْهَادُ بِدُونِهِ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الطَّلَبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشَّفِيعَ يَقُولُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا وَأَنَا طَالِبُهَا، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ فَحَسْبُ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ أَلْفَاظُ الطَّلَبِ بَلْ لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ أَيَّ لَفْظٍ كَانَ يَكْفِي، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ ادَّعَيْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ سَأَلْتُ الشُّفْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّلَبِ وَمَعْنَى الطَّلَبِ يَتَأَدَّى بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ أَوْ بِغَيْرِهِ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ الطَّلَبِ فَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْحَقِّ فَالشَّفِيعُ إذَا أَتَى بِطَلَبَيْنِ صَحِيحَيْنِ اسْتَقَرَّ الْحَقُّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَبَدًا حَتَّى يُسْقِطَهَا بِلِسَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ إلَى الْقَاضِي فِي زَمَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَلَمْ يُوَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّفِيعِ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْإِنْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ، وَفِي إبْقَاءِ هَذَا الْحَقِّ بَعْدَ تَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ أَبَدًا إضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ خَوْفًا مِنْ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فلابد مِنْ التَّقْدِيرِ بِزَمَانٍ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِهِ، فَقَدَّرْنَا بِالشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ فَتَبْطُلْ شُفْعَتُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- أَنَّ الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ قَدْ ثَبَتَ بِالطَّلَبَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِإِبْطَالٍ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ لَا يَكُونُ إبْطَالًا كَتَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَقَوْلُهُ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ خَوْفًا مِنْ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ، فَلَئِنْ فَعَلَ فَهُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ فَلَا يُضَافُ ذَلِكَ إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِغَيْبَةِ الشَّفِيعِ وَلَا يُقَالُ أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ-: مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ؛ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ دَلَالَةً؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ: أَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَسْقَطْتُهَا أَوْ أَبْرَأْتُكَ عَنْهَا أَوْ سَلَّمْتُهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا إسْقَاطُ الْحَقِّ صَرِيحًا وَصَرِيحُ الْإِسْقَاطِ يَسْتَوِي فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ كَالطَّلَاقِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ، بِخِلَافِ الْإِسْقَاطِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ ثَمَّةَ إلَّا الْعِلْمُ، وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا.
وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ- قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ- مُحَالٌ وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ بِقَدْرٍ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ جِنْسٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ فُلَانٍ فَسَلَّمَ فَظَهَرَ بِخِلَافِهِ هَلْ يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ؟ فَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَا يَخْتَلِفُ غَرَضُ الشَّفِيعِ فِي التَّسْلِيمِ صَحَّ التَّسْلِيمُ وَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ غَرَضُهُ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ فِي التَّسْلِيمِ إذَا لَمْ يَخْتَلِفْ بَيْنَ مَا أُخْبِرَ بِهِ وَبَيْنَ مَا بِيعَ بِهِ وَقَعَ التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَصَحَّ، وَإِذَا اخْتَلَفَ غَرَضُهُ فِي التَّسْلِيمِ لَمْ يَقَعْ التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ: إذَا أُخْبِرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفَيْنِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ كَانَ لِاسْتِكْثَارِهِ الثَّمَنَ فَإِذَا لَمْ تَصْلُحْ لَهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ فَبِأَكْثَرِهِمَا أَوْلَى، فَحَصَلَ غَرَضُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ.
وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ قِلَّتِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَبَقِيَ عَلَى شُفْعَتِهِ.
وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ الشُّفْعَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً، وَاعْتِبَارُ الْحَقَائِقِ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ جِنْسٌ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَلَمْ يَقَعْ التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَيَبْقَى عَلَى شُفْعَتِهِ؛ كَمَا لَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِحِنْطَةٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِشَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي حَقِّ الثَّمَنِيَّةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ، وَقِيمَتُهَا تُقَوَّمُ الْأَشْيَاءُ بِهَا تَقْوِيمًا وَاحِدًا أَعْنِي أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِهَذَا مَرَّةً وَبِذَاكَ أُخْرَى، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْقَدْرِ لَا غَيْرُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قَدْرِ قِيمَتِهِمَا فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، كَمَا إذَا أَخْبَرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَكْثَرَ أَوْ بِأَقَلَّ عَلَى مَا بَيَّنَّا، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِحِنْطَةٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِشَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكَثْرُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اخْتَلَفَ؛ إذْ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْغَرَضِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ.
وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِمَكِيلٍ أَوْ بِمَوْزُونٍ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ فَالشُّفْعَةُ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ إذَا كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِمِثْلِهِ، وَأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْجِنْسِ الَّذِي أُخْبِرَ بِهِ الشَّفِيعُ فَاخْتَلَفَ الْغَرَضُ.
وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِعَرَضٍ وَمَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الْأَلْفِ أَوْ أَكْثَرَ صَحَّ تَسْلِيمُهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ لَمْ يَصِحَّ تَسْلِيمُهُ وَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ هاهنا يَأْخُذُ الدَّارَ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَقِيمَتُهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ رَاجِعًا إلَى الْقَدْرِ فَأَشْبَهَ الْأَلْفَ وَالْأَلْفَيْنِ وَالْأَلْفَ وَخَمْسَمِائَةٍ عَلَى مَا مَرَّ.
وَلَوْ أُخْبِرَ بِشِرَاءِ نِصْفِ الدَّارِ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْجَمِيعَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ وَلَوْ أُخْبِرَ بِشِرَاءِ الْجَمِيعِ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ فَالتَّسْلِيمُ جَائِزٌ وَلَا شُفْعَةَ لَهُ.
هَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَقَدْ رُوِيَ الْجَوَابُ فِيهِمَا عَلَى الْقَلْبِ وَهُوَ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي النِّصْفِ يَكُونُ تَسْلِيمًا فِي الْكُلِّ، وَالتَّسْلِيمُ فِي الْكُلِّ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا فِي النِّصْفِ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ النِّصْفِ لِعَجْزِهِ عَنْ الثَّمَنِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْقَلِيلِ كَانَ عَنْ الْكَثِيرِ أَعْجَزَ، فَأَمَّا الْعَجْزُ عَنْ الْكَثِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ الْقَلِيلِ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي النِّصْفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الضَّرَرِ وَهُوَ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْكُلِّ فَاخْتَلَفَ الْغَرَضُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ فَبَقِيَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَإِذَا صَحَّ تَسْلِيمُ الْكُلِّ فَقَدْ سَلَّمَ الْبَعْضَ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْكُلِّ، فَصَارَ بِتَسْلِيمِ الْكُلِّ مُسَلِّمًا لِلنِّصْفِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فَكَانَ التَّسْلِيمُ بِدُونِ الْعَيْبِ تَسْلِيمًا مَعَ الْعَيْبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى أُخْبِرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَيْدٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْأَمْنِ عَنْ الضَّرَرِ، وَالْأَمْنُ عَنْ ضَرَرِ زَيْدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْنِ عَنْ ضَرَرِ عَمْرٍو؛ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْجِوَارِ وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَيْدٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ عَمْرٍو؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ نَصِيبَ زَيْدٍ لَا نَصِيبَ عَمْرٍو فَبَقِيَ لَهُ الشُّفْعَةُ فِي نَصِيبِهِ.
وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ حَطَّ عَنْ الْمُشْتَرِي خَمْسَمِائَةٍ وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْحَطَّ كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَصَارَ، كَمَا إذَا أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْحَطَّ لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ لَمْ يَصِحَّ إذَا لَمْ يَقْبَلْ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَنْقَصَ مِنْ أَلْفٍ فَلَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ.
وَلَوْ بَاعَ الشَّفِيعُ دَارِهِ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا بَعْدَ شِرَاءِ الْمُشْتَرِي هَلْ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا وَإِمَّا إنْ كَانَ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ؛ فَإِنْ كَانَ بَاتًّا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ بَاعَ كُلَّ الدَّارِ وَإِمَّا إنْ بَاعَ جُزْءًا مِنْهَا، فَإِنْ بَاعَ كُلَّهَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَقِّ هُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ سَوَاءٌ عَلِمَ بِالشِّرَاءِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى صَرِيحِ الْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ سَبَبِ الْحَقِّ إبْطَالُ الْحَقِّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ، فَإِنْ رَجَعَتْ الدَّارُ إلَى مِلْكِهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ لِلْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَلَ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا الشَّفِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِزَوَالِ سَبَبِ الْحَقِّ وَهُوَ جَوَازُ الْمِلْكِ، فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقَّ بَعْدَمَا بَطَلَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.
وَإِنْ بَاعَ جُزْءًا مِنْ دَارِهِ فَإِنْ بَاعَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا فَلَهُ الشُّفْعَةُ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ يَصْلُحُ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ابْتِدَاءً فَأَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ لِلْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسَهْلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَإِنْ بَاعَ جُزْءًا مُعَيَّنًا بَيْتًا أَوْ حُجْرَةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَلِي الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ قَائِمٌ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلِي تِلْكَ الدَّارَ؛ فَإِنْ اسْتَغْرَقَ حُدُودَ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَةُ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْجِوَارَ قَدْ زَالَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ حَدِّهَا شَيْءٌ مُلَاصِقٌ لِمَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَصْلُحُ لِلِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِبَقَاءِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يُوجِبْ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ قَائِمٌ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ، فَإِنْ طَلَبَ الشُّفْعَةَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ وَذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْخِيَارِ وَنَقْضٌ لِلْبَيْعِ.
وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ فَزَالَ سَبَبُ الْحَقِّ وَهُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ شَرِيكًا وَجَارًا فَبَاعَ نَصِيبَهُ الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَطَلَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ- وَهُوَ الشَّرِكَةُ- فَقَدْ بَقِيَ الْآخَرُ- وَهُوَ الْجِوَارُ- وَلِهَذَا اُسْتُحِقَّ بِهِ ابْتِدَاءً، فَلَأَنْ يَبْقَى بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ أَوْلَى.
وَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ مِنْ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ وَلَمْ يَثْبُتْ الْعِوَضُ وَبَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ أَمَّا بُطْلَانُ الصُّلْحِ فَلِانْعِدَامِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِالشَّفِيعِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ وَلَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ وَأَمَّا بُطْلَانُ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ بِالصُّلْحِ، فَالصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَإِسْقَاطُ حَقِّ الشُّفْعَةِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ بَلْ هُوَ شَيْءٌ مِنْ الْأَمْوَالِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ فَالْتَحَقَ ذِكْرُ الْعِوَضِ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِلَا عِوَضٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ الزَّوْجُ لِلْمُخَيَّرَةِ: اخْتَارِينِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُكَ، لَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ وَبَطَلَ خِيَارُهَا.
وَكَذَلِكَ الْعِنِّينُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ- بَعْدَمَا أُخْبِرَتْ بِسَبَبِ الْعُنَّةِ-: اخْتَارِي تَرْكَ الْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ بِأَلْفٍ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ، بَطَلَ خِيَارُهَا وَلَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ.
وَفِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إذَا أَسْقَطَهَا بِعِوَضٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَجِبُ الْعِوَضُ وَتَبْطُلُ الْكَفَالَةُ كَمَا فِي الشُّفْعَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَسْقَطَ الْكَفَالَةَ بِعِوَضٍ، فَالِاعْتِيَاضُ إنْ لَمْ يَصِحَّ فَالْإِسْقَاطُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالسُّقُوطِ إلَّا بِعِوَضٍ وَلَمْ يَثْبُتْ الْعِوَضُ فَلَا يَسْقُطُ.
وَأَمَّا بُطْلَانُ الشُّفْعَةِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنْ الشَّفِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالْعَقْدِ وَحُكْمِهِ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَيَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرِّضَا أَيْضًا؛ وَذَلِكَ نَحْوُ مَا إذَا عَلِمَ بِالشِّرَاءِ فَتَرَكَ الطَّلَبَ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَوْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ تَشَاغَلَ عَنْ الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَقْدِ وَحُكْمِهِ لِلدَّخِيلِ، وَكَذَا إذَا سَاوَمَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ سَأَلَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إيَّاهَا أَوْ اسْتَأْجَرَهَا الشَّفِيعُ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَخَذَهَا مُزَارَعَةً أَوْ مُعَامَلَةً، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا، أَمَّا الْمُسَاوَمَةُ؛ فَلِأَنَّهَا طَلَبُ تَمْلِيكٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ، وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ؛ لِأَنَّهَا تَمَلُّكٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَأَنَّهَا دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ.
وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ وَالْأَخْذُ مُعَامَلَةً أَوْ مُزَارَعَةً؛ فَلِأَنَّهَا تَقْرِيرٌ لِمِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ دَلِيلَ الرِّضَا بِمِلْكِهِ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حَيْثُ شَرَطَ هاهنا عِلْمَ الشَّفِيعِ بِالشِّرَاءِ لِبُطْلَانِ حَقِّ الشُّفْعَةِ وَهُنَاكَ لَمْ يَشْتَرِطْ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ، وَالْإِسْقَاطُ تَصَرُّفٌ فِي نَفْسِ الْحَقِّ فَيُسْتَدْعَى ثُبُوتُ الْحَقِّ لَا غَيْرُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدُّيُونِ، وَالسُّقُوطُ هاهنا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَهِيَ دَلَالَةُ الرِّضَا لَا بِالتَّصَرُّفِ فِي مَحَلِّ الْحَقِّ بَلْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَالتَّصَرُّفُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الرِّضَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ؛ إذْ الرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ مُحَالٌ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي النِّصْفِ بَطَلَتْ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ فِي النِّصْفِ بَطَلَ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ وَبَطَلَ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ فِي الْكُلِّ.
وَلَوْ طَلَبَ نِصْفَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلشُّفْعَةِ فِي الْكُلِّ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ؛ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ تَسْلِيمًا فِي الْكُلِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَبَقَ مِنْهُ طَلَبُ الْكُلِّ بِالشُّفْعَةِ فَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمُشْتَرِي فَقَالَ لَهُ حِينَئِذٍ أَعْطِنِي نِصْفَهَا عَلَى أَنْ أُسَلِّمَ لَكَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ النِّصْفَ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَذَا دَلِيلُ الرِّضَا فَبَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ الْمَطْلُوبِ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَبَقَ مِنْهُ الطَّلَبُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ فِي الْكُلِّ فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْكُلِّ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَعْطِنِي النِّصْفَ عَلَى أَنْ أُسَلِّمَ لَكَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ تَسْلِيمًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَتَقَرَّرْ بَعْدُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ فِي كُلِّ الدَّارِ، وَالْحَقُّ إذَا ثَبَتَ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِسْقَاطِ وَلَمْ يُوجَدْ فَبَقِيَ كَمَا كَانَ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ هَذَا أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَنَحْوُ أَنْ يَمُوتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الطَّلَبَيْنِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَبْطُلُ وَلِوَارِثِهِ حَقُّ الْأَخْذِ، وَلَغَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الشُّفْعَةِ هَلْ يُوَرَّثُ؟ عِنْدَنَا لَا يُوَرَّثُ، وَعِنْدَهُ يُوَرَّثُ وَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَارِثِهِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ حَقٌّ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ فِي التَّمَلُّكِ فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ؟، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.