فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ الْهِبَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْهِبَةِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْهِبَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْهِبَةِ أَمَّا رُكْنُ الْهِبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْوَاهِبِ فَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي قَوْلٍ قَالَ الْقَبْضُ أَيْضًا رُكْنٌ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ هَذَا الشَّيْءِ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَفِي قَوْلٍ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَيَقْبِضْ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ فَلَمْ يَقْبَلْ فَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ لَا بَلْ قَبِلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ فَلَمْ تُقْبَلْ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا بَلْ قَبِلْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْهِبَةَ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ وَالتَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ وُجُودُهُ شَرْعًا بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ انْعِقَادُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ فَلَا يَكُونُ نَفْسُ الْإِيجَابِ هِبَةً شَرْعًا لِهَذَا أَمْكَنَ الْإِيجَابُ بِدُونِ الْقَبُولِ تَبَعًا كَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ إيجَابِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةِ الْقَبُولِ وَإِنَّمَا الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ لِثُبُوتِ حُكْمِهَا لَا لِوُجُودِهَا فِي نَفْسِهَا فَإِذَا أَوْجَبَ فَقَدْ أَتَى بِالْهِبَةِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ هِبَةٌ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً» أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ وَرُوِيَ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ بِوَدَّانِ فَرَدَّهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: «لَوْلَا أَنَّا حَرَامٌ وَإِلَّا لَقَبِلْنَا» فَقَدْ أَطْلَقَ الرَّاوِي اسْمَ الْإِهْدَاءِ بِدُونِ الْقَبُولِ وَالْإِهْدَاءُ مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَى سَيِّدَتَنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَقَالَ لَهَا إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكَ لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا حَرَزْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ مَالُ الْوَارِثِ أَطْلَقَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْمَ النِّحْلَى بِدُونِ الْقَبْضِ وَالنِّحْلَى مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِ إيجَابِ الْمِلْكِ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ لُغَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ اسْمُ الْإِيجَابِ مَعَ الْقَبُولِ فَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَيْعِ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَتَّسِمُ التَّصَرُّفُ بِسِمَةِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ هُوَ اكْتِسَابُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ بِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَكَذَا الْغَرَضُ مِنْ الْحَلِفِ هُوَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِيجَابُ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْوَاهِبِ فَيَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ عَنْهُ.
(فَأَمَّا) الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ فَفِعْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورَ الْوَاهِبِ وَالْمِلْكُ مَحْكُومٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ أَوْ أَبَى فَلَا يُتَصَوَّرُ مَنْعَ النَّفْسِ عَنْهُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ وَإِنْ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّ الْإِيجَابَ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ تَبَعًا بِدُونِ الْقَبُولِ فَشَرَطَ الْقَبُولَ لِيَصِيرَ تَبَعًا فَالْإِيجَابُ هُوَ أَنْ يَقُولَ الْوَاهِبُ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَكَ أَوْ مَلَّكْتُهُ مِنْكَ أَوْ جَعَلْتُهُ لَكَ أَوْ هُوَ لَكَ أَوْ أَعْطَيْتُهُ أَوْ نَحَلْتُهُ أَوْ أَهْدَيْتُهُ إلَيْكَ أَوْ أَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ أَوْ حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ وَنَوَى بِهِ الْهِبَةَ.
(أَمَّا) قَوْلُهُ وَهَبْتُ لَكَ فَصَرِيحٌ فِي الْبَابِ وَقَوْلُهُ مَلَّكْتُكَ يُجْرَى مَجْرَى الصَّرِيحِ أَيْضًا لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ هُوَ تَفْسِيرُ الْهِبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ جَعَلْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَكَ وَقَوْلُهُ هُوَ لَكَ لِأَنَّ اللَّامَ الْمُضَافَ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ فَكَانَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مَعْنَى الْهِبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ أَعْطَيْتُكَ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْعَيْنِ فِي عُرْفِ النَّاسِ هُوَ تَمْلِيكُهَا لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهَذَا مَعْنَى الْهِبَةِ وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ الْإِعْطَاءُ اسْتِعْمَالَ الْهِبَةِ يُقَالُ أَعْطَاكَ اللَّهُ كَذَا وَوَهَبَكَ بِمَعْنَى وَالنِّحْلَةُ هِيَ الْعَطِيَّةُ يُقَالُ فُلَانٌ نَحَلَ وَلَدَهُ نِحْلَى أَيْ أَعْطَاهُ عَطِيَّةً وَالْهِبَةُ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ وَقَوْلُهُ أَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ فِي مَعْنَى أَعْطَيْتُكَ وَقَوْلُهُ حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ وَيَحْتَمِلُ الْعَارِيَّةَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ رَجُلًا عَلَى دَابَّةٍ ثُمَّ رَآهَا تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْجِعْ فِي صَدَقَتِكَ» فَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ فلابد مِنْ النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ.
وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ أَوْ قَالَ هَذَا الشَّيْءُ لَكَ مِنْحَةً فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ كَالدَّارِ وَالثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ مِنْحَةً أَوْ هَذَا الثَّوْبُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ الْمِنْحَةَ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةٌ عَنْ هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مَا لَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ وَقَدْ أُضِيفَ إلَى مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكِهِ مِنْ السُّكْنَى وَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ زِرَاعَتُهَا فَكَانَ هَذَا تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْإِعَارَةِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَرْضٍ بَيْضَاءَ هَذِهِ الْأَرْضُ لَكَ طُعْمَةً كَانَ عَارِيَّةً لِأَنَّ عَيْنَ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُطْعَمُ وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَكَانَ طُعْمَةُ الْأَرْضِ زِرَاعَتَهَا فَكَانَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ إعَارَةً وَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَرْعٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةُ الْقَلْعِ كَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَفِي الِاسْتِحْسَان يُتْرَكُ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَسَنَذْكُرُ وَجْهَيْهَا فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ وَلَوْ مَنَحَهُ شَاةً حَلُوبًا أَوْ نَاقَةً حَلُوبًا أَوْ بَقَرَةً حَلُوبًا وَقَالَ هَذِهِ الشَّاةُ لَكَ مِنْحَةٌ أَوْ هَذِهِ النَّاقَةُ أَوْ هَذِهِ الْبَقَرَةُ كَانَ عَارِيَّةً وَجَازَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا لِأَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا حَقِيقَةً فَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ الْمَنَافِعِ عُرْفًا وَعَادَةً فَأَعْطَى لَهُ حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ شُرْبَ اللَّبَنَ فَيَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ مَنَحَهُ جَدْيًا أَوْ عَنَاقًا كَانَ لَهُ عَارِيَّةً لِأَنَّ الْجَدْيَ بِعَرَضِ أَنْ يَصِيرَ فَحْلًا وَالْعَنَاقَ حَلُوبًا وَإِنْ عَنَى بِالْمِنْحَةِ الْهِبَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعَ عَلَى فَهُوَ مَا عَنَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِأَنْ.
قَالَ هَذَا الطَّعَامُ لَكَ مِنْحَةٌ أَوْ هَذَا اللَّبَنُ أَوْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ كَانَ هِبَةً لِأَنَّ الْمِنْحَةَ الْمُضَافَةَ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا يُمْكِنُ حَمْلَهَا عَلَى هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى هِبَةِ الْعَيْنِ وَهِيَ تَمْلِيكُهَا وَتَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ هُوَ تَغْيِيرُ الْهِبَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِيجَابُ مُطْلَقًا عَنْ الْقَرِينَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِقَرِينَةٍ فَالْقَرِينَةُ لَا تَخْلُو.
(إمَّا) إنْ كَانَ وَقْتًا.
(وَإِمَّا) إنْ كَانَ شَرْطًا.
(وَإِمَّا) إنْ كَانَ مَنْفَعَةً فَإِنْ كَانَ وَقْتًا بِأَنْ قَالَ أَعْمَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ أَوْ صَرَّحَ فَقَالَ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى أَوْ قَالَ جَعَلْتُهَا لَك عُمُرَكَ أَوْ قَالَ هِيَ لَك عُمُرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ فَإِذَا مِتَّ أَنْتَ فَهِيَ رَدٌّ عَلَيَّ أَوْ قَالَ جَعَلْتُهَا عُمْرِي أَوْ حَيَاتِي فَإِذَا مِتَّ أَنَا فَهِيَ رَدٌّ عَلَى وَرَثَتِي فَهَذَا كُلُّهُ هِبَةٌ وَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالتَّوْقِيتُ بَاطِلٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا تَعْمُرُوهَا فَإِنَّ مَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لِمَنْ أَعْمَرَهُ» وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ».
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى حَيَاتَهُ فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ بَعْدَهُ» فَدَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِ الْهِبَةِ وَبُطْلَانِ التَّوْقِيتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ أَوْ هِيَ لَك تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مُطْلَقًا ثُمَّ قَوْلُهُ عُمْرَى تَوْقِيتُ التَّمْلِيكِ وَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَكَذَا تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ نَصًّا كَالْبَيْعِ فَكَانَ التَّوْقِيتُ تَصَرُّفًا مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالشَّرْعِ فَبَطَلَ وَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ شَرْطًا نَظَرَ إلَى الشَّرْطِ الْمَقْرُونِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَمْنَعُ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ وَإِلَّا فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْهِبَةُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ أَرْقَبْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ صَرَّحَ فَقَالَ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ رُقْبَى أَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ رُقْبَى وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهِيَ عَارِيَّةٌ فِي يَدِهِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ مَتَى شَاءَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا هِبَةٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى بَاطِلٌ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى وَلِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَكَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَلَمَّا قَالَ رُقْبَى فَقَدْ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ دَارِي لَكَ عُمْرَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَبْطُلُ شَرْطُ الْمُعَمَّرِ كَذَا هَذَا.
وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ الرُّقْبَى» وَمِثْلُهُمَا لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَكَ رُقْبَى تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى أَنَّهُ يَقُولُ إنْ مِتَّ أَنَا قَبْلَكَ فَهِيَ لَك وَإِنْ مِتَّ أَنْتَ قَبْلِي فَهِيَ لِي سَمَّى الرُّقْبَى مِنْ الرُّقُوبِ وَالِارْتِقَابِ وَالتَّرَقُّبُ وَهُوَ الِانْتِظَارُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَظِرُ مَوْتَ صَاحِبِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَتْ الرُّقْبَى تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِأَمْرٍ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالتَّمْلِيكَاتُ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ فَلَمْ تَصِحَّ هِبَةً وَصَحَّتْ عَارِيَّةً لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ وَأَطْلَقَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْعَارِيَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُمْرَى لِأَنَّ هُنَاكَ وَقَعَ التَّصَرُّفُ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ عُمْرَى وَقْتَ التَّمْلِيكِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَبَطَلَ وَبَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ الرُّقْبَى تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ وَهِيَ الِانْتِظَارُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الرِّقَابِ وَهُوَ هِبَةُ الرَّقَبَةِ:
فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَوَّلُ كَانَ حُجَّةً وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّانِي لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لِكَلَامِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّنَاقُضُ عَنْهُ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَة إنْ كَانَ الرُّقْبَى وَالْإِرْقَابُ مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي اللُّغَةِ فِي هِبَةِ الرَّقَبَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ فَإِنْ عَنَى بِهِ هِبَةَ الرَّقَبَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ عَنَى بِهِ مُرَاقَبَةَ الْمَوْتِ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ دَارِي لِأَطْوَلِكُمَا حَيَاةً فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَطْوَلُ حَيَاةً فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ فَبَطَلَ وَلَوْ قَالَ دَارِي لَكَ حَبِيسٌ فَهَذَا عَارِيَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ هِبَةٌ وَقَوْلُهُ حَبِيسٌ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ الرُّقْبَى.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَكَ تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ حَبِيسٌ نَفَى الْمِلْكَ فَلَمْ يَصِحَّ النَّفْيُ وَبَقِيَ التَّمْلِيكُ عَلَى حَالِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ حَبِيسٌ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَكَ فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالْحَبِيسِ فَقَالَ دَارِي حَبِيسٌ لَكَ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ عَارِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا وَلَوْ قَالَ دَارِي رُقْبَى لَكَ كَانَ عَارِيَّةً إجْمَاعًا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ وَهَبَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا لِفُلَانٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مِمَّا لَمْ تَمْنَعْ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ وَهِيَ شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَتَبْطُلُ وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ بِخِلَافِ شُرُوطِ الرُّقْبَى عَلَى مَا بَيَّنَّا وَبِخِلَافِ الْبَيْع فَإِنَّهُ تُبْطِلُهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ قِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لِعَقْدٍ مَا مُفَسِّرًا لَهُ لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي الْعَقْد لَمْ يَصِحَّ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا إلَّا أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ وَلَا نَهْيَ فِي الْهِبَةِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ وَلِأَنَّ دَلَائِلَ شَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ فِي أَكْلِ الْمَهْرِ.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَهَذَا نَدْبٌ إلَى التَّهَادِي وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ وَرَوَيْنَا عَنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ كَذَا وَكَذَا وَعَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهَا وَنَحْوِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُقْتَضِيَةِ لِشَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَرَنَ بِهَا شَرْطًا فَاسِدًا أَوْ لَمْ يَقْرِنْ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُج مَا إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَوْ وَهَبَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ أَنَّ الْهِبَة جَائِزَةٌ فِي الْأُمِّ وَالْوَلَدِ جَمِيعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ وَالْكُلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي فِيهَا اسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ أَنَّهَا أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ قِسْمٌ مِنْهَا يَبْطُلُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ جَمِيعًا وَقِسْمٌ مِنْهَا يَصِحُّ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَقِسْمٌ مِنْهَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَهُوَ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِمَا فِي الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَهَذِهِ الْعُقُودُ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
(وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّانِي فَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَدْخُلُ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جَمِيعًا فِي الْعَقْد لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا إذَا لَمْ يَصْلُحْ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ وَكَذَا الْعِتْقُ بِأَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَنَّهُ يَصِحُّ الْعِتْقُ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَعْتِقَ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا.
(وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَالْوَصِيَّةُ بِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَارِيَةٍ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا لِأَنَّهُ لَمَا جَعَلَ الْجَارِيَةَ وَصِيَّةً لَهُ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا فَقَدْ أَبْقَى مَا فِي بَطْنِهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَالْمِيرَاثُ يُجْرَى فِيمَا فِي الْبَطْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِرَجُلٍ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا وَغَلَّتَهَا لِوَرَثَتِهِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ الْغَلَّةَ وَالْخِدْمَةَ لَا يُجْرَى فِيهِمَا الْمِيرَاثُ بِانْفِرَادِهِمَا بِدُونِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِخِدْمَتِهَا وَغَلَّتِهَا لِإِنْسَانٍ وَمَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ لَا تَصِيرُ الْغَلَّةُ وَالْخِدْمَةُ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بَلْ تَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ مَنْفَعَةً بِأَنْ قَالَ دَارِي لَك سُكْنَى أَوْ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ صَدَقَةً سُكْنَى أَوْ هِبَةً سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةً أَوْ هِيَ لَكَ عُمْرَى عَارِيَّةً وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهَذَا كُلُّهُ عَارِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّكْنَى فِي قَوْلِهِ دَارِي لَكَ سُكْنَى أَوْ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ صَدَقَةً سُكْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا لَكَ ظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعَةٌ عُرْفًا وَشَرْعًا وَقَوْلُهُ سُكْنَى مَوْضُوعٌ لِلْمَنْفَعَةِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا لَهَا فَكَانَ مُحْكَمًا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لِلْمُحْتَمِلِ وَبَيَانًا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ هُوَ تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ وَكَذَا قَوْلُهُ سُكْنَى بَعْدَ ذِكْرِ الْهِبَةِ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْهِبَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ هِبَةٌ يَحْتَمِلُ هِبَةَ الْعَيْنِ وَيَحْتَمِلُ هِبَةَ الْمَنَافِعِ.
فَإِذَا قَالَ سُكْنَى فَقَدْ عَيَّنَ هِبَةَ الْمَنَافِعِ فَكَانَ بَيَانًا لِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ أَرَادَ هِبَةَ الْمَنَافِعِ وَهِبَةُ الْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكُهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مَعْنَى الْعَارِيَّةِ وَإِذَا قَالَ سُكْنَى هِبَةً فَمَعْنَاهَا أَنَّ سُكْنَى الدَّارِ هِبَةٌ لَكَ فَكَانَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ وَلَوْ قَالَ هِيَ لَكَ عُمْرَى تَسْكُنُهَا أَوْ هِبَةً تَسْكُنُهَا أَوْ صَدَقَةً تَسْكُنُهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهُوَ هِبَةٌ لِأَنَّهُ مَا فَسَّرَ الْهِبَةَ بِالسُّكْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ نَعْتًا فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْمُحْتَمِلِ بَلْ وَهَبَ الدَّارَ مِنْهُ ثُمَّ شَاوَرَهُ فِيمَا يَعْمَلُ بِمِلْكِهِ وَالْمَشُورَةُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلَةٌ فَتَعَلَّقَتْ الْهِبَةُ بِالْعَيْنِ وَقَوْلُهُ تَسْكُنُهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِتَسْكُنَهَا كَمَا إذَا قَالَ وَهَبْتُهَا لَكَ لِتُؤَاجِرَهَا وَلَوْ قَالَ هِيَ لَكَ تَسْكُنُهَا كَانَتْ هِبَةً أَيْضًا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ الْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ وَقَوْلُهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الْهِبَةِ:

وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَلَّقًا بِمَا لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مِنْ دُخُول زَيْدٍ وَقُدُومِ خَالِدٍ وَالرُّقْبَى وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ كَالْبَيْعِ.
(وَأَمَّا) مَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهَا مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا مَحْضًا لَا يُقَابِلُهُ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ فَلَا يَمْلِكُهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَكَذَا الْأَبُ لَا يَمْلِكُ هِبَةَ مَالِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعِوَضِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْمُتَبَرِّعَ بِمَالِ الصَّغِيرِ قُرْبَانِ مَالِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ وَلِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنَهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقَابِلْهُ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ كَانَ التَّبَرُّعُ ضَرَرًا مَحْضًا وَتَرَكَ الْمَرْحَمَةِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ لَا يَرْحَمُ صَغِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَلِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَإِعْتَاقَ عَبْدِهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ.
وَإِنْ شَرَطَ الْأَبُ الْعِوَضَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا هِبَةُ الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ لَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ يَمْلِكُ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فَإِذَا شَرَطَ فِيهَا الْعِوَضَ كَانَتْ تَمْلِيكًا بِعِوَضٍ وَهَذَا تَفْسِيرُ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ وَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِلَافِهَا بَعْدَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَلَفْظِ الْبَيْعِ مَعَ لَفْظَةِ التَّمْلِيكِ.
(وَلَهُمَا) أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَقَعُ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً ثُمَّ تَصِيرُ بَيْعًا فِي الِانْتِهَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ وَقَعَتْ بَيْعًا مِنْ حِينِ وُجُودِهَا لَمَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِيهِ عَلَى الْقَبْضِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُفِيدَ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ دَلَّ أَنَّهَا وَقَعَتْ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ حِينَ وُجُودِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَصِيرَ بَيْعًا بَعْدَ ذَلِكَ.
(وَأَمَّا) مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ بِأَنْ وَهَبَ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ الْعَامَ وَمَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ وَتَمْلِيكُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَمْنَعُ جَوَازَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الشَّاةِ أَوْ مَا فِي ضَرْعِهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَالْحَلْبِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِأَنَّ انْتِفَاخَ الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَمْلِ وَقَدْ يَكُونُ لِدَاءٍ فِي الْبَطْنِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا انْتِفَاخُ الضَّرْعِ قَدْ يَكُونُ بِاللَّبَنِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ فَكَانَ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَا سَبِيلَ لِتَصْحِيحِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَ زَمَانِ الْحُدُوثِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِالْهِبَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَبَطَلَ.
وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لِلْحَالِ لِكَوْنِ الْمَوْهُوبِ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا لِلْحَالِ مَقْدُورَ الْقَبْضِ بِطَرِيقِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ زُبْدًا فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ أَوْ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْد حُدُوثِهِ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ فَلَمْ يُوجَدْ مَحَلُّ حُكْمِ الْعَقْدِ لِلْحَالِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتِ الْحُدُوثِ فَبَطَلَ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَجَزَّهُ وَسَلَّمَهُ أَنَّهُ يَجُوز لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَوْجُودٌ مَمْلُوكٌ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِمَانِعٍ وَهُوَ كَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَإِذَا جَزَّهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الشُّغْلِ فَيَنْفُذُ عِنْدَ وُجُودِ الْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا ثُمَّ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا كَالْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ وَلَا هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُطْلَقٍ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُكَاتَبِ لِكَوْنِهِمْ أَحْرَارًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ هَؤُلَاءِ وَلَا هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُبَاحَاتِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ مُحَالٌ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَ هَذَا الشَّرْطَ إلَى الْوَاهِبِ وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَالِكَ وَالْمَمْلُوكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْإِضَافَةُ هِيَ الْمِلْكُ فَيَجُوزُ رَدُّ هَذَا الشَّرْطِ إلَى الْمَوْهُوبِ وَيَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْوَاهِبِ فِي صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَافْهَمْ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا فَتَجُوزُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
(وَأَمَّا) هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَجَائِزٌ أَيْضًا إذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ وَقَبَضَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الْهِبَةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ لِمَنْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ فِي قَبْضِهِ فَكَانَ الدَّيْنُ فِي قَبْضِهِ بِوَاسِطَةِ قَبْضِ الذِّمَّةِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَهُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ فَإِذَا قَبَضَ الْعَيْنَ قَامَ قَبْضُهَا مَقَامَ قَبْضِ عَيْنِ مَا فِي الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ لابد مِنْ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْقَبْضِ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ بِخِلَافِ هِبَةِ الْعَيْنِ لِمَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَحُوزًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَتَجُوزُ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ كَالْعَبْدِ وَالْحَمَّامِ وَالدِّنِّ وَنَحْوِهَا وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ هِبَة الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَفِيمَا لَا يُقَسَّمُ عِنْدَهُ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْحَطُّ مِنْ الزَّوْجَاتِ عَنْ النِّصْفِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْمُشَاعِ وَالْمَقْسُومِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِي الْجُمْلَةِ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا شَدَّدَ فِي الْغُلُولِ فِي الْغَنِيمَةِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى سَنَامِ بَعِيرٍ وَأَخَذَ مِنْهُ وَبَرَةً ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إنِّي لَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنِيمَتِكُمْ وَلَوْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ بِكُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ أَخَذْتُهَا لِأُصْلِحَ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَمَّا نَصِيبِي فَهُوَ لَكَ وَسَأُسَلِّمُكَ الْبَاقِيَ» وَهَذَا هِبَةُ الْمَشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَهُ بَيْنَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَبَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِهِ فَاسْتَبَاعَ أَسْعَدُ نَصِيبَهُمَا لِيَهَبَ الْكُلَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَيَا ذَلِكَ فَوَهَبَ أَسْعَدُ نَصِيبَهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوَهَبَا أَيْضًا نَصِيبَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَبِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْهِبَةَ فِي نَصِيبِ أَسْعَدَ وَقَبِلَ فِي نَصِيبِ الرَّجُلَيْنِ أَيْضًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا قَبِلَ لِأَنَّ أَدْنَى حَالِ فِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَوَازُ وَلِأَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ هَذَا التَّصَرُّفِ وَلَا شَرْطَهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْهِبَةِ الْمِلْكُ وَالشِّيَاعُ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ وَكَذَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ وَشَرْطُهُ هُوَ الْقَبْضُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ الْقَبْضَ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ قَابِضًا لِلنِّصْفِ الْمُشَاعِ بِتَخْلِيَةِ الْكُلِّ وَلِهَذَا جَازَتْ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ كَذَا هَذَا.
(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى أَنْتِ وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكِ لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا جَذَيْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ اعْتَبَرَ سَيِّدُنَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَبْضَ وَالْقِيمَةَ فِي الْهِبَةِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْحِيَازَةَ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الشَّيْءِ الْمُفَرَّقِ فِي حَيِّزٍ وَهَذَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ الشَّائِعَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً وَالْقِسْمَةُ تَجْمَعُ كُلَّ نَصِيبٍ فِي حَيِّزٍ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَنْحَلُ وَلَدَهُ نُحْلًا لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا وَيَقُولُ إنْ مِتُّ فَهُوَ لَهُ وَإِنْ مَاتَ رَجَعَتْ إلَيَّ وَأَيْمُ اللَّهِ لَا يَنْحَلُ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ نُحْلَى لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا فَيَمُوتُ إلَّا جَعَلْتُهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ.
وَالْمُرَادُ مِنْ الْحِيَازَةِ الْقَبْضُ هُنَا لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِمُقَابَلَةِ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى التَّكْرَارِ أَخْرَجَ الْهِبَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْمِلْكِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ وَهَبَ ثُلُثَ كَذَا أَوْ رُبْعَ كَذَا لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُقَاسِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ مِنْ الْقَبْضِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ وَالتَّصَرُّفُ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ فَإِنَّ سُكْنَى نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا وَلُبْسَ نِصْفِ الثَّوْبِ شَائِعًا مُحَالٌ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْكُلَّ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يُقَسَّمُ أَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى هِبَةِ بَعْضِهِ وَلَا حُكْمَ لِلْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالشِّيَاعُ مَانِعٌ مِنْ الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ لِلتَّصَرُّفِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إزَالَةِ الْمَانِعِ بِالْقِسْمَةِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْقِسْمَةِ فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْجَوَازِ وَإِقَامَةِ صُورَةِ التَّخْلِيَةِ مَقَامَ الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ فَيُمْكِنُ إزَالَةَ الْمَانِعِ مِنْ الْقَبْض الْمُمَكِّنِ بِالْقِسْمَةِ.
أَوْ نَقُولَ: الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ شَرَطُوا الْقَبْضَ الْمُطْلَقَ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَقَبْضُ الْمُشَاعِ قَبْضٌ قَاصِرٌ لِوُجُودِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ دُونَ الْمَعْنَى عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِالصُّورَةِ فِي الْمُشَاع الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي الْقَبْضِ وَلَا يُوجَدُ فِي الْمُشَاعِ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَوْ صَحَّتْ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَصَارَ عَقْدُ ضَمَانٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْوَاهِبِ بِالْقِسْمَةِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ عَلَى الْقَبْضِ لِمَا أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَثَبَتَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ فَيُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ فِي عَقْدِ التَّبَرُّعِ وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ وَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِأَنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ وَالْمَحِلُّ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَهُوَ الْفَرْقُ.
(وَأَمَّا) الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَفْرُوضِ الدَّيْنُ لَا الْعَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} وَالْعَفْوُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْمَهْرِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَهِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنْهُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْمُشَاعِ.
(وَأَمَّا) حَدِيثُ الْكُبَّةِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَبَ نَصِيبَهُ مِنْهُ وَاسْتَوْهَبَ الْبَقِيَّةَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ فَوَهَبُوا وَسَلَّمُوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأُسَلِّمُكَ الْبَاقِي وَمَا كَانَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَخْلِفَ فِي وَعْدِهِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ هِبَةٍ مُشَاعٍ لَا يَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ كُبَّةً وَاحِدَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ لَا يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمْ إلَّا نَزْرٌ حَقِيرٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى مُشَاعٍ لَا يَنْقَسِمُ.
(وَأَمَّا) حَدِيثُ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَحِكَايَةُ حَالٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَهَبَ نَصِيبَهُ وَشَرِيكَاهُ وَهَبَا نَصِيبَهُمَا مِنْهُ وَسَلَّمُوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْأَنْصِبَاءَ كَانَتْ مَقْسُومَةً مُفْرَزَةً وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا بَيْنَهُمْ إذَا كَانَتْ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَقَرْيَةٍ بَيْنَ جَمَاعَةٍ أَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ مَقْسُومَةً وَاحْتَمَلَ بِخِلَافِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ لَا عُمُومَ لَهُ وَلَوْ قَسَمَ مَا وَهَبَ وَأَفْرَزَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ جَازَ لِأَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ عِنْدَنَا مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ نَفَاذُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ هُوَ الصَّحِيحُ إذْ الشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ رُكْنَ الْعَقْدِ وَلَا حُكْمَهُ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا سَائِرِ الشَّرَائِطِ إلَّا الْقَبْضُ الْمُمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَإِذَا قَسَمَ وَقَبَضَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ.
وَحَدِيثُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ لَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي وَكَانَ ذَلِكَ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ لِأَنَّ النَّحْلَ مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ لَمَا فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِيَعْقِدَ عَقْدًا بَاطِلًا فَدَلَّ قَوْلُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي نَفْسِهِ وَتَوَقُّفِ حُكْمِهِ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ وَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ ثُمَّ وَهَبَ مِنْهُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ إلَيْهِ جُمْلَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ وَهَبَ مِنْهُ نِصْفَ الدَّارِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ بِنِحْلَةِ الْكُلِّ ثُمَّ وَهَبَ مِنْهُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هِبَةُ الْمُشَاعِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْجَوَابُ فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ شَرِيكِهِ كُلُّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشِّيَاعُ عِنْدَ الْقَبْضِ وَقَدْ وُجِدَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ صَدَقَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا شَرْطَهُ وَهُوَ الْقَبْضُ وَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ كَالْمَفْرُوضِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ وَمَعْنَى الْقَبْضِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الشَّائِعِ أَوْ لَا يَتَكَامَلُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ وَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ وَتَصْحِيحُهُ فِي الْمُشَاعِ يُصَيِّرُهَا عَقْدَ ضَمَانٍ فَيَتَغَيَّرُ الْمَشْرُوعُ عَلَى مَا يُنَافِي الْهِبَةَ وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا يَنْقَسِمُ مِنْ رَجُلَيْنِ كَالدَّارِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَنَحْوِهَا وَقَبَضَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ مِنْ وَاحِدٍ شَيْئًا يَنْقَسِمُ وَقَبَضَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الشُّيُوعَ عِنْدَ الْقَبْضِ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ جَمِيعًا فَلَمْ يُجَوِّزُ أَبُو حَنِيفَةَ هِبَةَ الْوَاحِدِ مِنْ اثْنَيْنِ لِوُجُودِ الشِّيَاعِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَهُمَا جَوَّزَاهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشِّيَاعُ فِي الْحَالَيْنِ بَلْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَجَوَّزُوا هِبَةَ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ.
(أَمَّا) أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِعَدَمِ الشُّيُوعِ فِي وَقْتِ الْقَبْضِ.
(وَأَمَّا) هُمَا فَلِانْعِدَامِهِ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَ الْقَبْضِ وَمَدَارُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَهُوَ أَنَّ هِبَةَ الدَّارِ مِنْ رَجُلَيْنِ تَمْلِيكُ كُلِّ الدَّارِ جُمْلَةً أَوْ تَمْلِيكٌ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفُ مِنْ الْآخَرِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَمْلِيكُ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ فَيَكُونُ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ كَأَنَّهُ أَفْرَدَ تَمْلِيكَ كُلِّ نِصْفٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَعِنْدَهُمَا هِيَ تَمْلِيكُ الْكُلِّ مِنْهُمَا إلَّا تَمْلِيكَ النِّصْفِ مِنْ هَذَا وَالنِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَمْلِيكَ الشَّائِعِ فَيَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ الصِّيغَةِ هُوَ الْأَصْلُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ كُلَّهَا هِبَةُ كُلِّ الدَّارِ جُمْلَةً مِنْهُمَا إلَّا هِبَةَ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوْزِيعٌ وَتَفْرِيقٌ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ مُوجَبِ اللَّفْظِ لُغَةً إلَّا لِضَرُورَةِ الصِّحَّةِ وَفِي الْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الصِّيغَةِ هاهنا فَسَادُ الْعَقْدِ بِسَبَبِ الشُّيُوعِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الصِّيغَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْكُلِّ مِنْهُمَا وَمُوجِبُ التَّمْلِيكِ مِنْهَا ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُمَا فِي الْكُلِّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ عِنْدَ الِانْقِسَامِ ضَرُورَةُ الْمُزَاحِمَةِ وَاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ إذْ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ لِدُخُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى السَّوَاءِ كَالْأَخَوَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الدَّرَجَةِ أَنَّ الْمِيرَاثَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كَانَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ حَتَّى لَوْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْمَالِ.
وَإِذَا جَاءَتْ الْمُزَاحَمَةُ مَعَ الْمُسَاوَاةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ يَثْبُتُ عِنْدَ انْقِسَامِ الْمِيرَاثِ فِي النِّصْفِ وَكَذَا الشَّفِيعَانِ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْذَ نِصْفِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ لِضَرُورَةِ الْمُزَاحَمَةِ وَالِاسْتِوَاءِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحًا لِإِثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْكُلِّ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا يَكُونُ الْكُلُّ لِلْآخَرِ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلَ فَلَمْ يَكُنْ الِانْقِسَامُ عَلَى التَّنَاصُفِ مُوجِبَ الصِّيغَةِ بَلْ لَتَضَايُقِ الْمَحَلِّ لِهَذَا جَازَ الرَّهْنُ مِنْ رَجُلٍ فَكَانَ ذَلِكَ رَهْنًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ إذْ لَوْ كَانَ رَهَنَ النِّصْفَ مِنْ هَذَا وَالنِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ لَمَا جَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ رَهَنَ الْمُشَاعِ لِهَذَا لَوْ قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ حَبْسُ الْكُلِّ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ رَهْنُ الْكُلِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى الشَّائِعِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا إذَا مَلَكَ نِصْفَ الدَّارِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفَ مِنْ الْآخَرِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى الشَّائِعِ أَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْكُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ كُلِّ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُوجِبَ الْعَقْدِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ لِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ فِي كُلِّ الدَّارِ بَلْ فِي نِصْفِهَا وَلَوْ كَانَ كُلُّ الدَّارِ مَمْلُوكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَلَكَ وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ صَاحِبِهِ بِالتَّهَايُؤِ أَوْ بِالْقِسْمَةِ وَهَذَا آيَةُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي النِّصْفِ وَإِذَا كَانَ هَذَا تَمْلِيكَ الدَّارِ لَهُمَا عَلَى التَّنَاصُفِ كَانَ تَمْلِيكًا مُضَافًا إلَى الشَّائِعِ كَأَنَّهُ أَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَقْدَ فِي النِّصْفِ وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ فِي الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا مَرَّ.
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ مُوجِبَ الصِّيغَةِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي كُلِّ الدَّارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مُحَالٌ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُوجِبَ الْعَقْدِ وَلَا الْعَاقِدُ بِعَقْدِهِ يَقْصِدُ أَمْرًا مُحَالًا أَيْضًا فَكَانَ مُوجِبُ الْعَقْدِ التَّمْلِيكَ مِنْهُمَا عَلَى التَّنَاصُفِ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الدَّارِ مِنْهُمَا فَكَانَ عَمَلًا بِمُوجِبِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ إحَالَةٍ فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ تَصْلُحُ مَرْهُونَةً عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الرَّهْنَ هُوَ الْحَبْسُ وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْحَبْسِ مُتَصَوَّرٌ بِأَنْ يَحْبِسَاهُ مَعًا أَوْ يَضَعَاهُ جَمِيعًا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَتَكُونَ الدَّارُ مَحْبُوسَةً كُلُّهَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ فِي الْمِلْكِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ فَقَسَمَ ذَلِكَ وَسَلَّمَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّيُوعُ عِنْدَ الْقَبْضِ وَقَدْ زَالَ هَذَا إذَا وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ عَلَى أَصْلِهِمَا إذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ وَهَبْتُ لَكُمَا هَذِهِ الدَّارَ لِهَذَا نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا جَازَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِهَذَا نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا خَرَجَ تَفْسِيرًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ إذْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ تَمْلِيكُ الدَّارِ جُمْلَةً مِنْهُمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لِحُكْمِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ إشَاعَةً فِي الْعَقْدِ.
وَلَوْ قَالَ وَهَبْتُ لَك نِصْفَهَا وَلِهَذَا نِصْفَهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الشُّيُوعَ دَخَلَ عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَمَنَعَ الْجَوَازَ وَلَوْ قَالَ وَهَبْتُ لَكُمَا هَذِهِ الدَّارَ ثُلُثُهَا لِهَذَا وَثُلُثَاهَا لِهَذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى جَازَ لِاثْنَيْنِ يَسْتَوِي فِيهِ التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلُ كَعَقْدِ الْبَيْعِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجَوَازَ عِنْد التَّسَاوِي بِطَرِيقِ التَّفْسِيرِ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ شُيُوعًا فِي الْعَقْدِ وَلَمَّا فَضَّلَ أَحَدَ النَّصِيبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّفَاضُلَ فَكَانَ تَفْضِيلُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ فِي مَعْنَى إفْرَادِ الْعَقْدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ هِبَةَ الْمُشَاعِ وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ فِي الْهِبَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ وَلَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخِرِ ثُلُثَاهُ أَوْ نِصْفُهُ لِهَذَا وَنِصْفُهُ لِذَلِكَ عَلَى التَّفَاضُلِ وَالتَّنَاصُفِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْهَمَ بِأَنْ قَالَ وَهَبْتُ مِنْكُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ وَهَبَ مِنْ فَقِيرَيْنِ شَيْئًا يَنْقَسِمُ فَالْهِبَةُ مِنْ فَقِيرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ هِبَةَ الشَّجَرِ دُونَ الثَّمَرِ وَالثَّمَرِ دُونَ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ دُونَ الزَّرْعِ وَالزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ اتِّصَالَ جُزْءٍ بِجُزْءٍ فَكَانَ كَهِبَةِ الْمُشَاعِ وَلَوْ فُصِلَ وَسُلِّمَ جَازَ كَمَا فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ.
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى رَجُلَيْنِ فَإِنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْهِبَةُ مِنْ اثْنَيْنِ لَا تَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ فَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ فِي الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي كِتَاب الْهِبَةِ لَا يَجُوزُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ الشِّيَاعَ كَمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْهِبَةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّدَقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَاهُنَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ فِي الْقَبْضِ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ مَعْنَى الشُّيُوعِ فِي الْقَبْضِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى فَقِيرَيْنِ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَتَقَرَّبُ بِالصَّدَقَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ الْفَقِيرُ يَقْبِضُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّدَقَةُ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ الْفَقِيرِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وَكَّلَ بِقَبْضِهَا وَكِيلَيْنِ بِخِلَافِ التَّصَدُّقِ عَلَى غَنِيَّيْنِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ فَكَانَتْ هَدِيَّةً لَا صَدَقَةً قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّدَقَةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارُ الْآخِرَةُ» وَالْهَدِيَّةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الرَّسُولِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ فِي الْقَبْضِ وَأَنَّهُ مَانِعُ الْجَوَازِ عِنْدَهُ.
(وَمِنْهَا) الْقَبْضُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَقْبُوضًا وَإِنْ شِئْت رَدَدْتَ هَذَا الشَّرْطَ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّ الْقَابِضَ وَالْمَقْبُوضَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْإِضَافَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَتَأَمَّلْ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْقَبْضِ أَنَّهُ شَرْطٌ أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَان شَرَائِطِ صِحَّةِ الْقَبْضِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ شَرْطٌ وَالْمَوْهُوبُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْوَصِيَّةِ.
(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اعْتَبَرَا الْقِسْمَةَ وَالْقَبْضَ لِجَوَازِ النُّحْلَى بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ وَسَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً وَلَمْ يَرِدْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ وَلِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَوْ صَحَّتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ وَهَذَا تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إيجَابِ الْمِلْكِ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضِعهَا إذْ لَا مُطَالَبَةَ قِبَلَ الْمُتَبَرِّعِ وَهُوَ الْمُوصِي لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ الصَّدَقَةُ إذَا أُعْلِمَتْ وَإِنْ لَمْ تُقْبَضْ وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ وَلَا النَّحْلَى إلَّا مَقْبُوضَةً وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا إذَا عُلِمَتْ الصَّدَقَةُ جَازَتْ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: «يَا ابْنَ آدَمَ تَقُولُ: مَالِي وَلَيْسَ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ» اعْتَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ وَالْإِمْضَاءُ هُوَ التَّسْلِيمُ دَلَّ أَنَّهُ شَرْطٌ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا أَبِي بَكْرٍ وَسَيِّدنَا عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا تَتِمُّ الصَّدَقَةُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَالْهِبَةِ وَمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَبِهِ نَقُولُ لَا حَاجَةَ هُنَاكَ إلَى الْقَبْضِ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ.
(وَالثَّانِي) شَرَائِطُ صِحَّةِ الْقَبْضِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فِي بَابِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فَلَأَنْ يَكُونَ فِي الْهِبَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْهِبَةُ لَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ فَلَمَّا كَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ شَرْطًا لَصِحَّتِهِ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ فَلَأَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِيمَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الْهِبَةِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَلَا يَجُوزُ الْقَبُولُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ وَرِضَاهُ فَلَا يَجُوزُ الْقَبْضُ مِنْ غَيْرِ إذْن الْوَاهِبِ أَيْضًا وَالْإِذْنُ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ.
أَمَّا الصَّرِيحُ فَنَحْوِ أَنْ يَقُولَ اقْبِضْ أَوْ أَذِنْتُ لَكَ بِالْقَبْضِ أَوْ رَضِيتُ وَمَا يُجْرَى هَذَا الْمَجْرَى فَيَجُوزُ قَبْضُهُ سَوَاءٌ قَبَضَهُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ قَبْضُهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ عِنْدَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ كَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمِلَ إلَيْهِ سِتُّ بَدَنَاتٍ فَجَعَلْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَحَرَهُنَّ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ وَقَالَ مَنْ شَاءَ فَلِيَقْطَعَ وَانْصَرَفَ فَقَدْ أَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ حَيْثُ أَذِنَ لَهُمْ بِالْقَطْعِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْقَبْضِ وَاعْتِبَارُهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بِقَبْضِ الْوَاهِبِ صَرِيحًا بِمَنْزِلَةِ إذْنِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ يَعْمَلُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَذَا هَذَا.
(وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَيْنَ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا يَنْهَاهُ الْوَاهِبُ فَيَجُوزُ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ كَمَا لَا يَجُوزَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الزِّيَادَاتِ وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَيْعًا جَائِزًا بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يُسْتَرَدَّ وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبُيُوعِ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ كَالْقَبُولِ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ وُجِدَ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى إيجَابِ الْهِبَةِ إذْنٌ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ قَصْدِ التَّمْلِيكِ وَلَا ثُبُوتَ لِلْمِلْكِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيجَابِ إذْنًا بِالْقَبْضِ دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَلِأَنَّ لِلْقَبْضِ فِي بَابِ الْهِبَةِ شَبَهًا بِالرُّكْنِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَإِيجَابُ الْبَيْعِ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَكَذَا إيجَابُ الْهِبَةِ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ.
وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا مُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْهِبَةُ كَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّجَرِ دُونَ الشَّجَرِ أَوْ الشَّجَرِ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ حِلْيَةِ السَّيْفِ دُونَ السَّيْفِ أَوْ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ أَوْ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا جَوَازَ لِلْهِبَةِ فِيهِ إلَّا بِالْفَصْلِ وَالْقَبْضِ فَفَصَلَ وَقَبَضَ فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ لَمْ يَجُزْ الْقَبْضُ سَوَاءٌ كَانَ الْفَصْلُ وَالْقَبْضُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْوَاهِبِ لِلْإِذْنِ الثَّابِتِ دَلَالَةَ الْإِيجَابِ وَلَمْ يُوجَدْ هاهنا لِأَنَّ الْإِيجَابَ لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا حِينَ وُجُودِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ وَإِنْ قَبَضَ بِإِذْنِهِ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ عِنْدَهُ بِحَالٍ لِاسْتِحَالَةِ انْقِلَابِ الْفَاسِدِ جَائِزًا وَعِنْدَنَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِإِسْقَاطِ الْمُفْسِدِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ أَوْ مِنْ حِينِ وُجُودِ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْبَيْعِ.
وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى إنْسَانٍ لِآخَرَ أَنَّهُ إنَّ قَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ صَرِيحًا جَازَ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فَرَّقَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْجَوَازَ فِي هِبَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ لِكَوْنِ الْإِيجَابِ فِيهَا دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِكَوْنِ دَلَالَةِ قَصْدِهِ تَمْلِيكُ مَا هُوَ مِلْكَهُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِيجَابُ الْهِبَةِ فِي الدَّيْنِ لِغَيْرِ مِنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَصِحُّ دَلَالَةُ الْإِذْنِ إلَّا بِقَبْضِهِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِوَاسِطَةِ دَلَالَةِ قَصْدِ التَّمْلِيكِ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا قَامَ قَبْضُهُ مَقَامَ قَبْضِ الْوَاهِبِ فَيَصِيرُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ قَابِضًا لِلْوَاهِبِ أَوَّلًا وَيَصِيرُ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ مِنْ الْوَاهِبِ فَيَصِيرُ الْوَاهِبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَاهِبًا مِلْكَ نَفْسِهِ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ قَابِضًا مِلْكَ الْوَاهِبِ فَصَحَّتْ الْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ مِنْ الْمَالِ الْعَيْن عَلَى مِلْكِ مَنْ عَلَيْهِ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَشْغُولًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الشَّغْلِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ دَارًا فِيهَا مَتَاعَ الْوَاهِبِ وَسَلَّمَ الدَّارَ إلَيْهِ أَوْ سَلَّمَ الدَّارَ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَتَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطُ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ قِيلَ الْحِيلَةُ فِي صِحَّةِ التَّسْلِيمِ أَنْ يُودِعَ الْوَاهِبُ الْمَتَاعَ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوَّلًا وَيُخْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ ثُمَّ يُسَلِّمُ الدَّارَ إلَيْهِ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِيهَا لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعٍ هُوَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَفِي هَذِهِ الْحِيلَةِ إشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ يَدَ الْمُودِع يَدُ الْمُودَعِ مَعْنَى فَكَانَتْ يَدُهُ قَائِمَةً عَلَى الْمَتَاعِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ.
وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الدَّارِ ثُمَّ سَلَّمَ فَارِغًا جَازَ وَيَنْظُرُ إلَى حَالِ الْقَبْضِ لَا إلَى حَالِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّفَاذِ قَدْ زَالَ فَيَنْفُذُ كَمَا فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ وَلَوْ وَهَبَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَتَاعِ دُونَ الدَّارِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ جَازَتْ الْهِبَةُ لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِالدَّارِ وَالدَّارُ تَكُونُ مَشْغُولَةً بِالْمَتَاعِ لِهَذَا افْتَرَقَا فَيَصِحُّ تَسْلِيمُ الْمَتَاعِ وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُ الدَّارِ وَلَوْ جَمَعَ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ الْمَتَاعِ وَبَيْنَ الدَّارِ الَّذِي فِيهَا فَوَهَبَهُمَا جَمِيعًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ صَحَّ فِيهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِبَةِ بِأَنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ وَأَمَّا إنْ فَرَّقَ فَإِنْ جَمَعَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَسَلَّمَ ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَرُوعِيَ فِيهِ التَّرْتِيبُ إنْ قَدَّمَ هِبَةَ الدَّارِ فَالْهِبَةُ فِي الدَّارِ لَمْ تَجُزْ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْمَتَاعِ فَلَمْ يَصِحَّ تَسْلِيمُ الدَّارِ وَجَازَتْ فِي الْمَتَاعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَلَوْ قَدَّمَ هِبَةَ الْمَتَاعِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا أَمَّا فِي الْمَتَاعِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَأَمَّا فِي الدَّارِ فَلِأَنَّهَا وَقْتَ التَّسْلِيمِ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِمَتَاعٍ هُوَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَوْ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَكَانَ ذَلِكَ هِبَةَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ وَكَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولًا بِغَيْرِهِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ وَهَبَ الْأُمَّ يَجُوزُ وَذَكَرَ فِي الْعَتَاقِ أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ مَشْغُولٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَأَشْبَهَ هِبَةَ دَارٍ فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَوَازِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْجَنِينِ تَجْعَلُهُ مُسْتَثْنَى مِنْ الْعَقْدِ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مَعَ تَنَاوُلِهِ إيَّاهُ ظَاهِرًا وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءُ وَلَوْ اسْتَثْنَاهُ لَفْظًا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ فَكَذَا إذَا كَانَ مُسْتَثْنَى فِي الْمَعْنَى وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمُدَبَّرَ مَالُ الْمَوْلَى فَإِذَا وَهَبَ الْأُمَّ فَقَدْ وَهَبَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِمَالِ الْوَاهِبِ فَلَمْ يَجُزْ كَهِبَةِ دَارٍ فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ وَأَمَّا الْحُرُّ فَلَيْسَ بِمَالٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا حُرٌّ جَالِسٌ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْهِبَةِ كَذَا هَذَا وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مُتَّصِلًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبِ اتِّصَالِ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَوْهُوبِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمُشَاعِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ شَجَرًا عَلَيْهَا ثَمَرٌ دُونَ الثَّمَرِ أَوْ وَهَبَ الزَّرْعَ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ الثَّمَرَ دُونَ الشَّجَرِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبِ اتِّصَالِ جُزْءٍ بِجُزْءٍ فَمَنَعَ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ جَذَّ الثَّمَرَ وَحَصَدَ الزَّرْعَ ثُمَّ سَلَّمَهُ فَارِغًا جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّفَاذِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ قَدْ زَالَ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِبَةِ فَوَهَبَهُمَا جَمِيعًا وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا جَازَ وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِبَةِ فَوَهَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ وَهَبَ الْأَرْضَ ثُمَّ الزَّرْعَ أَوْ الزَّرْعَ ثُمَّ الْأَرْضَ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَإِنْ فَرَّقَ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ سَوَاءٌ.
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْقَبْضِ هُنَا الِاتِّصَالُ وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ وَالْمَانِعُ هُنَاكَ الشَّغْلُ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ نَظِيرَ هَذَا مَا إذَا وَهَبَ نِصْفَ الدَّارِ مُشَاعًا مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ حَتَّى وَهَبَ النِّصْفَ الْبَاقِي مِنْهُ وَسَلَّمَ الْكُلَّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ وَهَبَ النِّصْفَ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَهَبَ الْبَاقِي وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ جَزَّهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا إذَا وَهَبَ دَابَّةً وَعَلَيْهَا حِمْلٌ بِدُونِ الْحِمْلِ لَا تَجُوزُ وَلَوْ رَفَعَ الْحَمْلَ عَنْهَا وَسَلَّمَهَا فَارِغًا جَازَ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ هِبَةِ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ غَنَمِهِ أَوْ مَا فِي ضَرْعِهَا أَوْ هِبَةِ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنٍ فِي سِمْسِمٍ أَوْ زَيْتٍ فِي زَيْتُونٍ أَوْ دَقِيقٍ فِي حِنْطَةٍ أَنَّهُ يَبْطُلُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَ الْوُلَاةِ أَوْ عِنْدَ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ هُنَاكَ لَيْسَ مَحَلَّ الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا لِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا فَلَا تَجُوزُ هِبَتُهَا وَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ الْقَبْضِ وَهِيَ الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ اسْتِحْسَانًا فَيَجُوزُ قَبْضُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ مَا وَهَبَ لَهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُهُ فِي الْهِبَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ النَّافِعَةِ الْمَحْضَةِ فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ كَمَا يَمْلِكُ وَلِيُّهُ وَمَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ وَكَذَا الصَّبِيَّةُ إذَا عَقَلَتْ جَازَ قَبْضُهَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ وَلَا يَجُوز قَبْضُ الْمَوْلَى عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوَّلًا فَالْقَبْضُ إلَى الْعَبْدِ وَالْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وَقَعَ لِلْعَبْدِ فَكَانَ الْقَبْضُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ لِعَارِضٍ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِمْ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لَهُمْ وَالِانْحِجَارَ لِعَارِضِ الرِّقِّ عَنْ التَّصَرُّفِ يَتَضَمَّنُ الضَّرَرَ بِالْمَوْلَى وَلَمْ يُوجَدْ فَبَقِيَ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَقْبُوضُ كَسْبُ الْعَبْدِ وَكَسْبُ الْعَبْدِ الْقِنِّ لِلْمَوْلَى وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ فَالْقَبْضُ إلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَوْلَى عَنْهُ لِمَا قُلْنَا فِي الْقِنِّ فَإِذَا قَبَضَ الْمُكَاتَبُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْهِبَةَ كَسْبُهُ وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِاكْتِسَابِهِ وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقَبْضِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْقَبْضَ نَوْعَانِ قَبْضٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَقَبْضٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ.
(أَمَّا) الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْعَقْلَ فَقَطْ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَأَمَّا) الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَالنِّيَابَةُ فِي الْقَبْضِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ فَهُوَ الْقَبْضُ لِلصَّبِيِّ وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْوِلَايَةِ بِالْحَجْرِ وَالْعَيْلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْوِلَايَةِ فَيَقْبِضُ لِلصَّبِيِّ وَلِيُّهُ أَوْ مَنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ وَعِيَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ فَيَقْبِضُ لَهُ أَبُوهُ ثُمَّ وَصِيُّ أَبِيهِ بَعْدَهُ ثُمَّ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ بَعْدَ أَبِيهِ وَوَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ جَدِّهِ بَعْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ هَؤُلَاءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَجُوزُ قَبْضُهُمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ حَالَ حَضْرَتِهِمْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِمْ فَيَجُوزُ قَبْضُهُمْ لَهُ.
وَإِذَا غَابَ أَحَدُهُمْ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً جَازَ قَبْضُ الَّذِي يَتْلُوهُ فِي الْوِلَايَةِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى قُدُومِ الْغَائِبِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الصَّغِيرِ فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَى مَنْ يَتْلُوهُ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ كَمَا فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ وُجُودِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ الْقَابِضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ أَوْ أَجْنَبِيًّا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَقِيَامُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَهُمْ تَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْقَبْضِ لِغَيْرِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ جَازَ قَبْضُ مِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ وَعِيَالِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ أَجْنَبِيًّا كَانَ أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي فِي عِيَالِهِ لَهُ عَلَيْهِ ضَرْبُ وِلَايَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدِّبُهُ وَيُسَلِّمُهُ فِي الصَّنَائِعِ الَّتِي لِلصَّبِيِّ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَلِلصَّبِيِّ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ فَقِيَامُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْوِلَايَةِ يَكْفِي لِتَصَرُّفٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ لِلصَّبِيِّ.
(وَأَمَّا) مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ قَبْضُهُ لَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْقَبْضُ لِلصَّبِيَّةِ إذَا عَقَلَتْ وَلَهَا زَوْجٌ قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجهَا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا فِي عِيَالِهِ لَكِنْ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الزَّوْجِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ.
(وَأَمَّا) الثَّانِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ فَهُوَ أَنَّ الْقَبْضَ الْمَوْجُودَ فِي الْهِبَةِ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِثْلَ قَبْضِ الْهِبَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِثْلُهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقَ التَّنَاوُبِ إذْ الْمُتَمَاثِلَانِ غَيْرَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ فَتُثْبِتُ الْمُنَاوَبَةُ مُقْتَضَى الْمُمَاثَلَةِ وَإِذَا كَانَ أَقْوَى مِنْهُ يُوجَدُ فِيهِ الْمُسْتَحَقُّ وَزِيَادَةٌ وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً فَوَهَبَ مِنْهُ جَازَتْ الْهِبَةُ وَصَارَ قَابِضًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَوَقَعَ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ مَعًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ قَابِضًا مَا لَمْ يُجَدِّدْ الْقَبْضَ وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ بَعْدَ الْعَقْدِ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ إنْ كَانَتْ يَدُهُ صُورَةً فَهِيَ يَدُ الْمُودَعِ مَعْنَى فَكَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَهَبَ مَا فِي يَدِهِ فلابد مِنْ الْقَبْضِ بِالتَّخْلِيَةِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَبْضَيْنِ مُتَمَاثِلَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْضٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ إذْ الْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَكَذَا عَقْدُ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ فَتَمَاثَلَ الْقَابِضَانِ فَيَتَنَاوَبَانِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ بَيْعِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ مِنْ الْمُودِعِ وَالْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ قَبَضَهُمَا لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ أَمَانَةٌ وَقَبْضَ الْبَيْعِ قَبْضُ ضَمَانٍ فَلَمْ يَتَمَاثَلْ الْقَبْضَانِ بَلْ الْمَوْجُودُ أَدْنَى مِنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَمْ يَتَنَاوَبَا وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِهِ مَغْصُوبًا أَوْ مَقْبُوضًا بِبَيْعِ فَاسِدٍ أَوْ مَقْبُوضًا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَكَذَا يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ لِوُجُودِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَهُوَ أَصْلُ الْقَبْضِ وَزِيَادَةُ ضَمَانٍ.
وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا وَيَنُوبُ قَبْضُ الرَّهْنِ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ وَقَبْضَ الرَّهْنِ فِي حَقّ الْعَيْنِ قَبْضُ أَمَانَةٍ أَيْضًا فَيَتَمَاثَلَانِ فَنَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَئِنْ كَانَ قَبْضُ الرَّهْنِ قَبْضَ ضَمَانٍ فَقَبْضُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ قَبْضِ الْأَمَانَةِ وَالْأَقْوَى يَنُوبُ عَنْ الْأَدْنَى لِوُجُودِ الْأَدْنَى فِيهِ وَزِيَادَةٌ وَإِذَا صَحَّتْ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ بَطَلَ الرَّهْنُ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِدَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا حَتَّى يُجَدِّدَ الْقَبْضَ بَعْدَ عَقْدِ الْهِبَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ قَبْضُ ضَمَانٍ لَكِنْ هَذَا ضَمَانٌ لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِبْرَاءَ بِالْهِبَةِ لِيَصِيرَ قَبْضَ أَمَانَةٍ فَيَتَجَانَسُ الْقَبْضَانِ فَيَبْقَى قَبْضُ ضَمَانٍ فَاخْتَلَفَ الْقَبْضَانِ فَلَا يَتَنَاوَبَانِ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ الضَّمَانَ مِمَّا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ فَيَبْرَأُ عَنْهُ بِالْهِبَةِ وَيَبْقَى قَبْضٌ بِغَيْرِ ضَمَانٍ فَتَمَاثَلَ الْقَابِضَانِ فَيَتَنَاوَبَانِ وَلَوْ كَانَ مَبِيعًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَوَهَبَ مِنْ الْبَائِعِ جَازَ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ هِبَةً بَلْ يَكُونُ إقَالَةً حَتَّى لَا تَصِحَّ بِدُونِ قَبُولِ الْبَائِعِ وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُجْعَلُ إقَالَةً بَلْ يَبْطُلُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَوْ نَحَلَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ شَيْئًا جَازَ وَيَصِيرُ قَابِضًا لَهُ مَعَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا بَاعَ مَالَهُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ عَقِيبَ الْبَيْعِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الِابْنِ لِصَيْرُورَتِهِ قَابِضًا لِلصَّغِيرِ مَعَ الْعَقْدِ وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي النَّحْلَى لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}.
(وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ الْعَدْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ وَلَا يُفَضِّلَ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ فِي الْمَوَارِيثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّإِ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي النُّحْلِ وَلَا يُفَضِّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بَشِيرًا أَبَا النُّعْمَانِ أَتَى بِالنُّعْمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لَا فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَرْجِعهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْعَدْلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي النِّحْلَةِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّ فِي التَّسْوِيَةِ تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَالتَّفْضِيلُ يُورِثُ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ التَّسْوِيَةُ أَوْلَى وَلَوْ نَحَلَ بَعْضًا وَحَرَمَ بَعْضًا جَازَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَدْلًا سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْرُومُ فَقِيهًا تَقِيًّا أَوْ جَاهِلًا فَاسِقًا عَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُتَأَدِّبِينَ وَالْمُتَفَقِّهِينَ دُونَ الْفَسَقَةِ الْفَجَرَةِ.