فصل: فَصْلٌ: مَكَانُ الطَّوَافِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: مَكَانُ الطَّوَافِ:

وَأَمَّا مَكَانُ الطَّوَافِ فَمَكَانُهُ حَوْلَ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ هُوَ الطَّوَافُ حَوْلَهُ فَيَجُوزُ الطَّوَافُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَرِيبًا مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى لَوْ طَافَ مِنْ، وَرَاءِ زَمْزَمَ قَرِيبًا مِنْ حَائِطِ الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِحُصُولِهِ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَلَوْ طَافَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حِيطَانُ الْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حِيطَانَ الْمَسْجِدِ حَاجِزَةٌ فَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ لِعَدَمِ الطَّوَافِ حَوْلَهُ بَلْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ لِوُجُودِ الطَّوَافِ حَوْلَهُ لَا حَوْلَ الْبَيْتِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الطَّوَافُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ مَعَ حَيْلُولَةِ حِيطَانِ الْمَسْجِدِ لَجَازَ حَوْلَ مَكَّةَ، وَالْحَرَمِ، وَذَا لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا.
وَيَطُوفُ مِنْ خَارِجِ الْحَطِيمِ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا «إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَقَصَرُوا الْبَيْتَ عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَثَانُ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ لَرَدَدْتُهُ إلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَلَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا» وَرُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ».
وَرُوِيَ: «أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَذَرَتْ بِذَلِكَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ» فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَوُجُوبُ التَّوَجُّهِ إلَى الْبَيْتِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ الْكِتَابِ بِالْآحَادِ، وَلَيْسَ فِي الطَّوَافِ مِنْ، وَرَاءِ الْحَطِيمِ عَمَلًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بَلْ فِيهِ عَمَلٌ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَوْ طَافَ فِي دَاخِلِ الْحِجْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ لَمَّا كَانَ مِنْ الْبَيْتِ فَإِذَا طَافَ فِي دَاخِلِ الْحَطِيمِ فَقَدْ تَرَكَ الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبَيْتِ، وَالْمَفْرُوضُ هُوَ الطَّوَافُ بِكُلِّ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ كُلَّهُ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ فَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ خَاصَّةً أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ لَا غَيْرُ فَاسْتَدْرَكَهُ، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى عَادَ إلَى أَهْلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ رُبْعُ الْبَيْتِ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِهِ رُبْعَهُ.

.فَصْلٌ: زَمَانُ الطَّوَافِ:

وَأَمَّا زَمَانُ هَذَا الطَّوَافِ، وَهُوَ وَقْتُهُ فَأَوَّلُهُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَا يَجُوزَ قَبْلَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَوَّلُ، وَقْتِهِ مُنْتَصَفُ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَقْتُ رُكْنٍ آخَرَ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَلَا يَكُونُ، وَقْتًا لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ وَقْتًا لِرُكْنَيْنِ، وَلَيْسَ لِآخِرِهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مُوَقَّتٌ بِهِ فَرْضًا بَلْ جَمِيعُ الْأَيَّامِ، وَاللَّيَالِي، وَقْتُهُ فَرْضًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُ مُوَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَوْ أَخَّرَهُ عَنْهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ غَيْرُ مُوَقَّتٍ أَصْلًا، وَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ فَقَالَ ارْمِ، وَلَا حَرَجَ»، وَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ قُدِّمَ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ.
فَهَذَا يَنْفِي تَوْقِيتَ آخِرِهِ، وَيَنْفِي وُجُوبَ الدَّمِ بِالتَّأْخِيرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّتَ آخِرُهُ لَسَقَطَ بِمُضِيِّ آخِرِهِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّتُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّأْخِيرَ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا تَأْخِيرُ الشَّكِّ، وَكَذَا تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ، وَهُوَ سَجْدَتَا السَّهْوِ فَكَانَ الْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ كَمَا هُوَ، وَاجِبٌ فَمُرَاعَاةُ مَحَلِّ الْوَاجِبِ، وَاجِبٌ فَكَانَ التَّأْخِيرُ تَرْكًا لِلْمُرَاعَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ مُرَاعَاتُهُ فِي مَحَلِّهِ، وَالتَّرْكُ تَرْكًا لِوَاجِبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ فِي نَفْسِهِ، وَالثَّانِي مُرَاعَاتُهُ فِي مَحَلِّهِ فَإِذَا تَرَكَ هَذَا الْوَاجِبَ يَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ وَإِذَا تَوَقَّتْ هَذَا الطَّوَافُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا عِنْدَهُ فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْهَا فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ، وَلَمَّا لَمْ يَتَوَقَّتْ عِنْدَهُمَا فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ فَقَدْ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ نَقْصٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْيَ الْحَرَجِ، وَهُوَ نَفْيُ الْإِثْمِ، وَانْتِفَاءُ الْإِثْمِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ كَذَا هَاهُنَا، وَقَوْلُهُمَا إنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ آخِرِ الْوَقْتِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مُوَقَّتًا، وَوَاجِبًا فِي الْوَقْتِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِخُرُوجِ أَوْقَاتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُوَقَّتَةً حَتَّى تُقْضَى كَذَا هَذَا، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الطَّوَافُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا».
وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِالْعِبَادَاتِ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ يَقَعُ بِهِ تَمَامُ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْ النِّسَاءِ فَكَانَ فِي تَعْجِيلِهِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْجِمَاعِ، وَلُزُومِ الْبَدَنَةِ فَكَانَ أَوْلَى.

.فَصْلٌ: مِقْدَارُ الطَّوَافِ:

وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَالْمِقْدَارُ الْمَفْرُوضُ مِنْهُ هُوَ أَكْثَرُ الْأَشْوَاطِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْوَاطٍ، وَأَكْثَرُ الشَّوْطِ الرَّابِعِ، فَأَمَّا الْإِكْمَالُ فَوَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ قَبْلَ الْإِتْمَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ الشَّاةُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْفَرْضُ هُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لَا يَتَحَلَّلُ بِمَا دُونَهَا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ «وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ إلَى أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَلَا إجْمَاعَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِيمَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فِي بَابِ الْحَجِّ كَالذَّبْحِ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ قَطْعَ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَفْرُوضُ هَذَا الْقَدْرَ فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ فَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ السَّبْعَةِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ الشَّاةَ دُونَ الْبَدَنَةِ كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا فَاتَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ:

فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ، وَقْتُهُ بِخِلَافِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّهُ إذَا فَاتَ عَنْ، وَقْتِهِ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ ثُمَّ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ يَأْتِي بِهِ بِإِحْرَامِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ؛ إذْ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ بِإِحْرَامِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَعُودَ فَيَطُوفَ، وَعَلَيْهِ لِلتَّأْخِيرِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَلَا يُجْزِئُ عَنْ هَذَا الطَّوَافِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ لَا يُجْزِئُ عَنْهَا الْبَدَلُ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا بَلْ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِعَيْنِهَا كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَهُوَ وَاَلَّذِي لَمْ يَطُفْ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ طَافَ جُنُبًا أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، أَمَّا إذَا طَافَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ لَا مَحَالَةَ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَبِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ حَتَّى يُعِيدَ الطَّوَافَ، أَمَّا وُجُوبُ الْعَوْدِ بِطَرِيقِ الْعَزِيمَةِ فَلِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ بِالْجَنَابَةِ فَيُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ كَمَا لَوْ تَرَكَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ.
وَأَمَّا تَجْدِيدُ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ حَصَلَ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ مَعَ الْجَنَابَةِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ فَإِذَا حَصَلَ التَّحَلُّلُ صَارَ حَلَالًا، وَالْحَلَالُ لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى مَكَّةَ لَكِنَّهُ بَعَثَ بَدَنَةً جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ تَجْبُرُ النَّقْصَ بِالْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ هُوَ الْعَوْدُ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ فَاحِشٌ فَكَانَ الْعَوْدُ أَجْبَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ بِالْجِنْسِ.
وَأَمَّا إذَا طَافَ مُحْدِثًا أَوْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَإِنْ، عَادَ وَطَافَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ جَبَرَ النَّقْصَ بِجِنْسِهِ، وَإِنْ بَعَثَ شَاةً جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ يَسِيرٌ فَيَنْجَبِرُ بِالشَّاةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْعَثَ بِالشَّاةِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ تَجْبُرُ النَّقْصَ، وَتَنْفَعُ الْفُقَرَاءَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ مَشَقَّةَ الرُّجُوعِ، وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَالرُّجُوعُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ جَبْرُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ فَكَانَ أَوْلَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: وَاجِبَاتُ الْحَجِّ:

وَأَمَّا وَاجِبَاتُ الْحَجِّ فَخَمْسَةٌ:
السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، وَطَوَافُ الصَّدْرِ.

.أَمَّا السَّعْيُ:

فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ، وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ، وَقْتِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ فَرْضٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْحَاجُّ خُطْوَةً مِنْهُ، وَأَتَى أَقْصَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَعُودَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ، وَيَخْطُو تِلْكَ الْخُطْوَةَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا، وَاجِبٍ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، وَكَلِمَةُ لَا جُنَاحَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أَبِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ فُلَانٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ» أَيْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ؛ إذْ الْكِتَابَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْفَرْضِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ}، وَ{كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ}، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وَحِجُّ الْبَيْتِ هُوَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ هُوَ الرُّكْنَ لَا غَيْرُ، إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِدَلِيلٍ، فَمَنْ ادَّعَى زِيَارَةَ السَّعْيِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ كُلَّ الرُّكْنِ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَمَنْ ادَّعَى زِيَادَةَ السَّعْيِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ مَا تَمَّ حَجُّ امْرِئٍ قَطُّ إلَّا بِالسَّعْيِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ، وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّهَا وَصَفَتْ الْحَجَّ بِدُونِهِ بِالنُّقْصَانِ لَا بِالْفَسَادِ، وَفَوْتُ الْوَاجِبِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ النُّقْصَانَ، فَأَمَّا فَوْتُ الْفَرْضِ فَيُوجِبُ الْفَسَادَ، وَالْبُطْلَانَ، وَلِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيَانَةِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا رَفْعَ الْجُنَاحِ عَلَى الطَّوَافِ بِهِمَا مُطْلَقًا بَلْ عَلَى الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَكَانِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ هُنَالِكَ، لِمَا قِيلَ إنَّهُ كَانَ بِالصَّفَا صَنَمٌ، وَبِالْمَرْوَةِ صَنَمٌ، وَقِيلَ كَانَ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ أَصْنَامٌ فَتَحَرَّجُوا عَنْ الصُّعُودِ عَلَيْهِمَا، وَالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا احْتِرَازًا عَنْ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالتَّشَبُّهِ بِأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْجُنَاحَ بِالطَّوَافِ بِهِمَا أَوْ بَيْنَهُمَا مَعَ كَوْنِ الْأَصْنَامِ هُنَالِكَ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَا صِلَةً زَائِدَةً، مَعْنَاهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ لَا قَدْ تُزَادُ فِي الْكَلَامِ صِلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ} مَعْنَاهُ أَنْ تَسْجُدَ فَكَانَ كَالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْمَعْنَى.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الشَّافِعِيِّ بِهِ عَلَى زَعْمِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: رَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ فُلَانٍ فَكَانَتْ مَجْهُولَةً لَا نَدْرِي مَنْ هِيَ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْبَى مَرَّةً قَبُولَ الْمَرَاسِيلِ لِتَوَهُّمِ الْغَلَطِ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا تُعْرَفُ، وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهَا عَلَى أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكُنْيَةَ قَدْ تُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهَا الْحُكْمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَوَّلُ تَكُونُ حُجَّةً، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّانِي لَا تَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ، بَلْ الْوُجُوبُ، وَالِانْتِدَابُ وَالْإِبَاحَةُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْ نَحْمِلُهَا عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَإِذَا كَانَ، وَاجِبًا فَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ تَرْكِ الْوَاجِبِ فِي هَذَا الْبَابِ أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ»، وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ، بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ ذَاتُهُ فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّيْءُ أَصْلًا كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ، وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ يَجِبُ فِي أَكْثَرِهِ دَمٌ، أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ أَطْعَمَ لِكُلِّ شَوْطٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ مِسْكِينًا إلَّا أَنْ يُبْلِغَهُ ذَلِكَ دَمًا فَلَهُ الْخِيَارُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ يَكُونُ فِي أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ تَرَكَ الصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصُّعُودَ عَلَيْهِمَا سُنَّةٌ فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ، وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الطَّوَافِ.

.فَصْلٌ: قَدْرُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

وَأَمَّا قَدْرُهُ فَسَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعُدُّ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ شَوْطًا، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطًا آخَرَ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطٌ وَاحِدٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ»، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ لَكَانَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا قُلْنَا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ يَبْتَدِئُ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ يَقَعُ الْخَتْمُ بِالصَّفَا لَا بِالْمَرْوَةِ فَدَلَّ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا مَا ذَكَرْنَا.

.فَصْلٌ: رُكْنُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

وَأَمَّا رُكْنُهُ فَكَيْنُونَتُهُ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ السَّعْيِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَرِيضًا فَسَعَى بِهِ مَحْمُولًا أَوْ سَعَى رَاكِبًا لِحُصُولِهِ كَائِنًا بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ بِنَفْسِهِ فَحُمِلَ أَوْ رَكِبَ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ، وَاجِبٌ فَإِذَا تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ جَوَازِهِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الطَّوَافِ أَوْ بَعْدَ أَكْثَرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا فَعَلَ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وَلِأَنَّ السَّعْيَ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ، وَتَبَعُ الشَّيْءِ كَاسْمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيمَا تَقَدَّمَهُ لَا فِيمَا يَتْبَعُهُ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ بَعْدَ وُجُودِ أَكْثَرِ الطَّوَافِ قَبْلَ تَمَامِهِ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ.
وَمِنْهَا الْبِدَايَةُ بِالصَّفَا، وَالْخَتْمُ بِالْمَرْوَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ حَتَّى لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ، وَخَتَمَ بِالصَّفَا لَزِمَهُ إعَادَةُ شَوْطٍ وَاحِدٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ السَّعْيِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ التَّرْتِيبَ فَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ وَتَرَكَ التَّرْتِيبَ.
(وَلَنَا) أَنَّ التَّرْتِيبَ هاهنا مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ فَلِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قَالُوا بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ».
وَأَمَّا فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ بَدَأَ بِالصَّفَا، وَخَتَمَ بِالْمَرْوَةِ، وَأَفْعَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ هَذَا مُوجِبَةٌ لِمَا تَبَيَّنَ، وَإِذَا لَزِمَتْ الْبِدَايَةُ بِالصَّفَا فَإِذَا بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ كَانَ هَذَا أَوَّلَ شَوْطٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ سِتَّةٍ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى يُتِمَّ سَبْعَةً.
وَأَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَجُوزُ سَعْيُ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ طَوَافُهُ بِالْبَيْتِ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا نُسُكٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَيْتِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، كَالْوُقُوفِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ وَمِنْ تَوَابِعِهِ، وَالطَّوَافُ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ حَتَّى تَجِبَ إعَادَتُهُ فَكَذَا السَّعْيُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَمُرَتَّبٌ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ طَوَافُهُ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثَيْنِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ جَوَازِهِ فَجَازَ، وَجَازَ سَعْيُ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ تَبَعًا لَهُ لِوُجُودِ شَرْطِ جَوَازِ الْأَصْلِ؛ إذْ التَّبَعُ لَا يُفْرَدُ بِالشَّرْطِ بَلْ يَكْفِيه شَرْطُ الْأَصْلِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ حُصُولَ الطَّوَافِ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ السَّعْيِ، فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا وَقْتَ الطَّوَافِ جَازَ السَّعْيُ، سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا وَقْتَ السَّعْيِ، أَوْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا، وَقْتَ الطَّوَافِ لَمْ يَجُزْ سَعْيُهُ رَأْسًا، سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: سُنَنُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

وَأَمَّا سُنَنُهُ فَالرَّمَلُ فِي بَعْضِ كُلِّ شَوْطٍ، وَالسَّعْيُ فِي الْبَعْضِ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ لَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ حَتَّى لَوْ رَمَلَ فِي الْكُلِّ أَوْ سَعَى فِي الْكُلِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: وَقْتُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُهُ الْأَصْلِيُّ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا بَعْدَ طَوَافِ اللِّقَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الْوَاجِبُ تَبَعًا لِلسُّنَّةِ '' فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَفَرْضٌ، وَالْوَاجِبُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْفَرْضِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ السَّعْيُ بَعْدَ طَوَافِ اللِّقَاءِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ، وَقْتًا لَهُ تَرْفِيهًا بِالْحَاجِّ، وَتَيْسِيرًا لَهُ لِازْدِحَامِ الِاشْتِغَالِ لَهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَمَّا وَقْتُهُ الْأَصْلِيُّ فَيَوْمُ النَّحْرِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ، وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ، وَهِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْجِعْ إلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يَسْعَى، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا، وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَا بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَلَا يَضُرُّهُ إنْ كَانَ قَدْ جَامَعَ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ إذْ السَّعْيُ لَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى يَمْنَعَ التَّحَلُّلَ، وَإِذَا صَارَ حَلَالًا بِالطَّوَافِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْعَى قَبْلَ الْجِمَاعِ أَوْ بَعْدَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَكَّةَ يَسْعَى، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ السَّعْيَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ يَعُودُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ الْأَوَّلَ قَدْ ارْتَفَعَ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ، وَإِذَا عَادَ، وَسَعَى يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ تَدَارَكَ التَّرْكَ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ: وَالدَّمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْفُقَرَاءِ، وَالنُّقْصَانُ لَيْسَ بِفَاحِشٍ فَصَارَ كَمَا إذَا طَافَ مُحْدِثًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.