فصل: كِتَابُ التَّدْبِيرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ التَّدْبِيرِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَهُوَ بَيَانُ رُكْنِ التَّدْبِيرِ، وَبَيَانُ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَبَيَانُ صِفَةِ التَّدْبِيرِ، وَبَيَانُ حُكْمِ التَّدْبِيرِ، وَوَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَبَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ رُكْنِ التَّدْبِيرِ:

أَمَّا الْأَوَّلُ، فَرُكْنُ التَّدْبِيرِ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى مَعْنَى التَّدْبِيرِ لُغَةً، وَهُوَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ، ثُمَّ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ نَوْعَانِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ.
أَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ الرَّجُلُ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ مُطْلَقًا، وَلَهُ أَلْفَاظٌ قَدْ تَكُونُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ دَبَّرْتُك، وَقَدْ تَكُونُ بِلَفْظِ التَّحْرِيرِ وَالْإِعْتَاقِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ حَرَّرْتُكَ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ أَنْتَ مُعْتَقٌ أَوْ عَتِيقٌ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ أَعْتَقْتُك بَعْدَ مَوْتِي، وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عِنْدَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِي أَوْ فِي مَوْتِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ مَوْتِي؛ لِأَنَّ (عِنْدَ) كَلِمَةُ حَضْرَةٍ فَعِنْدَ الْمَوْتِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمَوْتِ، فَيَكُونَ مَوْتُهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَجَمْعٌ لِلْمُقَارَنَةِ، وَمُقَارَنَةُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا، وَ(فِي) لِلظَّرْفِ فَإِذَا دَخَلَ مَا لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا يَجْعَلُ شَرْطًا.
كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ فِي دُخُولِكَ الدَّارَ وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الْيَمِينِ بِأَنْ يَقُولَ: إنْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ يَقُولَ: إذَا مِتُّ أَوْ مَتَى مِتُّ أَوْ مَتَى مَا مِتُّ أَوْ إنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ أَوْ مَتَى حَدَثَ بِي؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَكَانَ الْمَوْتِ الْوَفَاةَ أَوْ الْهَلَاكَ، وَلَوْ قَالَ: إنْ مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَعْلِيقُ عِتْقِ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَدْبِيرًا بَلْ كَانَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ مُطْلَقٍ، كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتُّ أَوْ قُتِلْتُ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ.
وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ إنْ عَلَّقَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ مِتّ أَوْ مَاتَ زَيْدٌ، وَلَوْ قَالَ: إنْ مِتّ وَفُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَمَوْتِ فُلَانٍ أَوْ قَالَ: بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ وَمَوْتِي لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا إلَّا أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ قَبْلَهُ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مُدَبَّرًا وَإِنَّمَا لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَمُوتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَلَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطَيْنِ: بِمَوْتِهِ، وَمَوْتِ فُلَانٍ فَلَا يُعْتَقُ بِمَوْتِهِ وَحْدَهُ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ مِيرَاثًا.
فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ مَاتَ فُلَانٌ وَوُجِدَ الشَّرْطُ الْآخَرُ، فَإِنَّمَا وُجِدَ بَعْدَمَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا وَيُعْتَقَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، فَكَانَ هَذَا كَالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ لِمَا بَيَّنَّا.
وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ صَارَ مُطْلَقًا وَصَارَ الْعَبْدُ بِحَالِهِ يُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ فِي الْأَصْلِ، فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ كَلَامِك فُلَانًا وَبَعْدَ مَوْتِي.
فَكَلَّمَ فُلَانًا، كَانَ مُدَبَّرًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إذَا كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي.
فَكَلَّمَهُ صَارَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْكَلَامِ صَارَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا فَكَذَا هَذَا، وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ لِعَبْدِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِعِتْقِهِ، أَوْ يُوصِيَهُ بِوَصِيَّةٍ يَسْتَحِقُّ مِنْ جُمْلَتِهَا رَقَبَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَوْصَيْتُك بِنَفْسِك أَوْ بِرَقَبَتِك أَوْ بِعِتْقِك، أَوْ كُلِّ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَزِيلُ مِلْكُهُ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ يَزُولُ الْمِلْكُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَزُولُ لَا إلَى أَحَدٍ، وَالْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِنَفْسِهِ إزَالَةَ الْمِلْكِ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا مَعْنَى الْإِعْتَاقِ، فَهَذَا الطَّرِيقُ جَعَلَ بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ وَهِبَتَهَا لَهُ إعْتَاقًا كَذَا هَذَا، فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ مَالِي؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَهُ فَصَارَ مُوصًى لَهُ بِثُلُثِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا إزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ الثُّلُثِ لَا إلَى أَحَدٍ فَيَكُونُ إعْتَاقًا، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مَنْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ أَنَّهُ يُعْتَقُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يُعْتَقْ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ فَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ فَقَدْ دَخَلَ سُدُسُ رَقَبَتِهِ فِي الْوَصِيَّةِ.
فَأَمَّا اسْمُ الْجُزْءِ فَلَا يَتَضَمَّنُ الْوَصِيَّةَ بِالرَّقَبَةِ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْوَرَثَةِ فَلَهُمْ التَّعْيِينُ فِيمَا شَاءَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ أَوْ بِمَوْتِهِ وَشَرْطٌ آخَرُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ.
أَوْ يَقُولُ: إنْ قُتِلْت فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ غَرِقْت فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ مِنْ سَفَرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونُ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ مَعَ مَوْتِهِ شَرْطًا آخَرَ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ، وَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إذَا مِتُّ وَدُفِنْتُ أَوْ غُسِّلْتُ أَوْ كُفِّنْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ.
فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ يُرِيدُ بِهِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّدْبِيرِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِمَعْنًى آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ اسْتَحْسَنْت أَنْ يُعْتَقَ مِنْ الثُّلُثِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعْتَقُ كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا مِتّ فَدَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ.
فَمَاتَ الْمَوْلَى فَدَخَلَ الْعَبْدُ الدَّارَ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ كَذَا هَذَا، لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِمَا هُوَ مِنْ عَلَائِقِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِمَوْتِ نِصْفِهِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إذَا مِتُّ فَدَخَلْت الدَّارَ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَوْتِ، فَلَمْ يَكُنْ تَعْلِيقًا بِمَوْتِ نِصْفِهِ، فَلَمْ يَكُنْ تَدْبِيرًا أَصْلًا، بَلْ كَانَ يَمِينًا مُطْلَقًا فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ.
ثُمَّ التَّدْبِيرُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَمَّا الْمُطْلَقُ فَمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْمُعَلَّقُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أَوْ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَحَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَذَا فِي حَقِّ التَّدْبِيرِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت.
فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَشَاءَ الْعَبْدُ فِي سَاعَتِهِ تِلْكَ صَارَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِشَرْطٍ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا، كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ وَإِنْ عَنَى بِهِ مَشِيئَتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةٌ حَتَّى يَمُوتَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطٍ يُوجَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا وُجِدَ قَبْلَهُ لَا يُعْتَبَرُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَشَاءَ عِنْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ يُعْتِقَهُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هاهنا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَوْتِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهِ وَبِأَمْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُعْتَقَ مَا لَمْ يُعْتَقْ، وَكَذَا ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ لِمَا قُلْنَا، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: إذَا مِتّ فَأَعْتِقْ عَبْدِي هَذَا إنْ شِئْت.
أَوْ قَالَ إذَا مِتّ فَأَمْرُ عَبْدِي هَذَا بِيَدِك ثُمَّ مَاتَ فَشَاءَ الرَّجُلُ عِتْقَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ بِالْإِعْتَاقِ، وَالْوَصَايَا لَا يَتَقَيَّدُ الْقَبُولُ فِيهَا بِالْمَجْلِسِ، وَكَذَا إنْ قَالَ: عَبْدِي هَذَا حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت فَشَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا يَتَقَيَّدُ قَبُولُهَا بِالْمَجْلِسِ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ حَتَّى يُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ الْقَاضِي وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْحَاكِمِ وَالْجَصَّاصِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْن الْمَسْأَلَتَيْنِ سِوَى أَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ، وَهَاهُنَا عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت بَعْدَ مَوْتِي فَمَاتَ الْمَوْلَى وَقَامَ الْعَبْدُ مِنْ مَجْلِسِهِ الَّذِي عَلِمَ فِيهِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَهُ إلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ بِالْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَالْوَصِيَّةُ لَا يَقِفُ قَبُولُهَا عَلَى الْمَجْلِسِ.
وَأَمَّا الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ صَارَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فَيَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَإِثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ وَلِهَذَا احْتَمَلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَذَا الْإِضَافَةُ وَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ.
فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يُعْتَقَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَنَى قَبْلَ الشَّهْرِ دَفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ، وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِيعَ فِيهِ، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِمُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَمَا مَاتَ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُضِيُّ الزَّمَانِ وَهُوَ الشَّهْرُ، فَلَا يُحْتَمَلُ ثُبُوتُ الْعِتْقِ بِهِ فَيَبْطُلَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَجَعَلُوهُ وَصِيَّةً بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ.
فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمَوْتِ أَصْلًا، بَلْ أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ مِنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ، وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ مِنْ وَقْت الْكَلَامِ، فَلَا يَكُونُ مُدَبَّرًا لِلْحَالِ، وَإِذَا مَضَى شَهْرٌ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَهُوَ فِي مِلْكِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ، وَعَلَّلَ الْقُدُورِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا مَضَى شَهْرٌ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ اسْمٌ لِمَنْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَهَاهُنَا مَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمَوْتِ أَصْلًا بَلْ أَضَافَهُ إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَكَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ، أَوْ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَالثَّابِتُ بِالتَّدْبِيرِ يَقْتَصِرُ عَلَى حَالَةِ الْمَوْتِ وَلَا يَسْتَنِدُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ التَّعْلِيلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ سَدِيدٍ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا مَضَى الشَّهْرُ ظَهَرَ أَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مُضِيِّهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَصَارَ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْهُمَا فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْمَوْتِ، بَلْ بِشَهْرٍ وَمُتَّصِلٍ بِالْمَوْتِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِسَاعَةٍ، وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أَمُوتُ: فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ أَمُوتُ.
فَإِنْ نَوَى بِهِ النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، إذْ الْيَوْمُ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ لُغَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ بِاللَّيْلِ لَا بِالنَّهَارِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مُدَبَّرًا مُطْلَقًا، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْوَقْتَ الْمُبْهَمَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وَمَنْ وَلَّى بِاللَّيْلِ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ: إنْ مِتّ إلَى سَنَةٍ أَوْ إلَى عَشْرِ سِنِينَ فَأَنْتَ حُرٌّ.
فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتٍ بِصِفَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، فَإِنْ قَالَ: إنْ مِتّ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي فَهُوَ مُدَبَّرٌ السَّاعَةَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّدْبِيرَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّدْبِيرُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَلْغُو قَوْلُهُ: بَعْدَ مَوْتِي فَيَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَيْ أَنْتَ حُرٌّ فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَبُولَ فِي هَذَا عَلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ، لَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَصَارَ مُدَبَّرًا، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ، وَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا إيجَابُ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ بِعِوَضٍ، إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ رَأْسَ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ فِي الْمَجْلِسِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ رَأْسَ الشَّهْرِ كَذَا هَاهُنَا، فَإِذَا قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى دَيْنٌ، وَإِذَا مَاتَ عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ وَقْتُ الْقَبُولِ فَلَا يَلْزَمُهُ وَقْتُ الْعِتْقِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ، إذْ الْقَبُولُ بَعْدَ الْإِيجَابِ يَكُونُ، وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَبُولُ الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِذَا كَانَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهَلْ يُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ، أَوْ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِإِعْتَاقِ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ أَوَالْقَاضِي، لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِير، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ وَالْمَالُ سَاقِطٌ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَبُولُ الْمَالِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا وَالْمُدَبَّرُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَيْنٌ لِمَوْلَاهُ فَسَقَطَ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ السَّاعَةَ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ.
فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقِ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إذَا قَالَ: إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُعْتَقُ بِالْقَبُولِ حَتَّى تُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَوْتِ، وَكُلُّ عِتْقٍ تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِيقَاعٍ مِنْ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً بِالْإِعْتَاقِ، فَلَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِعْتَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ أَوْ بِشَهْرٍ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ أَوْ الشَّهْرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هاهنا ثُمَّ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ يَمْلِكُ الْوَارِثُ الْإِعْتَاقَ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَدَخَلَ يُعْتَقُ كَمَا لَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ لَا التَّعْلِيقَ حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِالدُّخُولِ فَدَخَلَ لَا يُعْتَقُ، وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ وَالْوَصِيُّ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ، وَالْوَكِيلُ بِالْإِعْتَاقِ لَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ عَنْ كَفَّارَةٍ لَزِمَتْهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَالْوَلَاءُ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ مَوْتِي.
فَالْقَبُولُ فِي هَذَا فِي الْحَيَاةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْحَالَتَيْنِ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِمَا قُلْنَا فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَذَا حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَمَا فِي مِلْكِهِ صَارَ مُدَبَّرًا، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ بِغَيْرِ تَدْبِيرٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَسْتَفِيدُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْمَمْلُوكَ لِلْحَالِ مُرَادٌ مِنْ هَذَا الْإِيجَابِ، فَلَا يَكُونُ مَا يَسْتَفِيدُهُ مُرَادًا؛ لِأَنَّ الْحَالَ مَعَ الِاسْتِقْبَالِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ الْمُسْتَفَادُ فِي هَذَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ، كَذَا فِي التَّدْبِيرِ وَلَهُمَا أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، أَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، فَالْيَمِينُ إنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ إلَّا فِي الْمِلْكِ الْقَائِمِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي مِلْكِ الْمُوصِي وَبِمَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَمْلُوكُ لِلْحَالِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، وَقَوْلُهُ: اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قُلْنَا: قَدْ يَشْتَمِلُ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُمَا يَشْتَمِلَانِ عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ، فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَعُمُّ نَوْعَيْ التَّدْبِيرِ أَعْنِي الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، فَلَا يَصِحُّ التَّدْبِيرُ إلَّا بَعْدَ صُدُورِ رُكْنِهِ مُطْلَقًا عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ سَوَاءً كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِ الْمِلْكِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إثْبَاتَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِثْبَاتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ.
وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا لِلْحَالِ فَالظَّاهِرُ دَوَامُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَالظَّاهِرُ عَدَمُهُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَلَا يَحْصُلُ مَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ التَّدْبِيرِ أَيْضًا عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّدْبِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِمَوْتِ غَيْرِهِ بِأَنْ قَالَ: إنْ مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا أَصْلًا.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ لَا يَكُونُ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ مُقَيَّدًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمَوْتِهِ وَحْدَهُ، حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِمَوْتِهِ وَشَرْطٍ آخَرَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسَائِلَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا صِفَةُ التَّدْبِيرِ فَالتَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، فَيُعْتَبَرُ بِإِثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَإِثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ.
كَذَا إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ وَهُوَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ إعْتَاقًا.
فَكَانَ الْخِلَافُ فِيهِ لَازِمًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا إنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ صَارَ نَصِيبُهُ خَاصَّةً مُدَبَّرًا وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ عَلَى مِلْكِهِ؛ لِكَوْنِ التَّدْبِيرِ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا فَلِلشَّرِيكِ سِتُّ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ.
أَمَّا خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِسْعَاءِ، فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فِي حَقِّ التَّخْرِيجِ إلَى الْعَتَاقِ.
وَأَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ فَلِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ مُطْلَقًا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ التَّضْمِينِ.
وَأَمَّا خِيَارُ التَّرْكِ عَلَى حَالِهِ فَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي جُزْءٍ مِنْهُ فَجَازَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الرِّقِّ، وَإِنَّهُ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْفَعَةَ الْكَسْبِ وَالْخِدْمَةِ، فَلَا يُكَلَّفُ بِالتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ مَا لَمْ يَمُتْ الْمُدَبِّرُ فَإِنْ اخْتَارَ الْإِعْتَاقَ فَأَعْتَقَ، فَلِلْمُدَبَّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُدَبَّرٌ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا وَالْوَلَاءُ بَيْنهمَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُمَا لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُدَبِّرِ لَا يَحْتَمِل الِانْتِقَالَ إلَى الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلِلْمُعْتِقِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْإِعْتَاقِ حَصَلَتْ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ الْمُدَبِّرُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَلَيْسَ لَهُ التَّرْكُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقُ الْبَعْضِ، فَيَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلْمُدَبَّرِ ثَلَاثَةُ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ التَّدْبِيرَ فَدَبَّرَ نَصِيبَهُ حَتَّى صَارَ الْعَبْدُ مُدَبَّرًا بَيْنهمَا، وَسَاوَى شَرِيكَهُ فِي التَّصَرُّفِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ بِالتَّدْبِيرِ وَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْبَاقِي إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتِقَ الْبَعْضِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَلَيْسَ لَهُ التَّرْكُ عَلَى حَالِهِ لِمَا قُلْنَا.
فَإِنْ مَاتَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ قَبْلَ أَخْذِ السِّعَايَةِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا، وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرُ إذَا أُعْتِقَ بِمَوْتِ مَوْلَاهُ وَقِيمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، وَقِيلَ إنَّ هَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا فَلَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ بِمَوْتِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَتْ السِّعَايَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ حُرٌّ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونٍ وَجَبَتْ عَلَى الْحُرِّ فَلَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَعْتِقُ نَصِيب الشَّرِيكِ مَا لَمْ يُؤَدِّ السِّعَايَةَ إذَا اخْتَارَ السِّعَايَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ فَإِذَا مَاتَ الشَّرِيكُ فَهَذَا مُدَبَّرٌ مَاتَ مَوْلَاهُ وَقِيمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ وَكَاتَبَهُ صَحَّتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ مَضَى الْأَمْرُ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْأَدَاءِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ وَبَطَلَتْ عَنْهُ السِّعَايَةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُدَبِّرِ فَضَمِنَهُ فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ لِانْتِقَالِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فَلَمَّا ضَمِنَ الْمُدَبِّرُ قَامَ مَقَامَهُ فِيمَا كَانَ لَهُ.
فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ نِصْفُهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ قَدْ صَارَ مُدَبَّرًا فَيُعْتَقُ بِمَوْتِهِ، لَكِنْ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا وَيَسْعَى فِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَامِلًا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ كَانَ قِنًّا وَإِنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا ذَلِكَ النِّصْفَ وَإِنْ شَاءُوا دَبَّرُوا وَإِنْ شَاءُوا كَاتَبُوا وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ سَعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، فَإِذَا أَدَّى يُعْتَقُ ذَلِكَ النِّصْفُ، وَلَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ لِلْمُدَبِّرِ شَيْئًا لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِسَبَبٍ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ كَمُعْتَقِ الْبَعْضِ فَإِذَا أَدَّى يَعْتِقُ كُلُّهُ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ السِّعَايَةَ بَطَلَتْ السِّعَايَةُ وَعَتَقَ ذَلِكَ النِّصْفُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ اخْتَارَ تَرْكَ نَصِيبِهِ عَلَى حَاله فَمَاتَ يَكُون نَصِيبُهُ مَوْرُوثًا عَنْهُ فَيَنْتَقِلُ الْخِيَارُ إلَى الْوَرَثَةِ فِي الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالتَّرْكِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ وَقَدْ كَانَ لَهُ هَذِهِ الْخِيَارَاتُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ ذَلِكَ النِّصْفُ مِنْ الثُّلُثِ، وَلِغَيْرِ الْمُدَبِّرِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ، وَلَيْسَ لَهُ خِيَارُ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَقَ الْبَعْضِ فَيَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعِتْقِ لَا مَحَالَةَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنهمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلشَّرِيكِ الْخِيَارَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا إلَّا اخْتِيَارَ التَّضْمِينِ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا دَبَّرَ نَصِيبَهُ فَقَدْ صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَيَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فَقَدْ فَرَّقَا بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ إنَّ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَإِنَّمَا يَسْعَى الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ إتْلَافٍ أَوْ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ أَوْ ضَمَانُ حَبْسِ الْمَالِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، إلَّا أَنَّ السِّعَايَةَ فِي بَابِ الْإِعْتَاقِ ثَبَتَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ قَدْ زَالَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِ الْمُعْتِقِ وَصَارَ حُرًّا فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ وَهَاهُنَا الْمِلْكُ قَائِمٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَكَسْبُ الْمُدَبَّرِ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالِاسْتِسْعَاءِ.
هَذَا إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ دَبَّرَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ،.
فَإِنْ دَبَّرَاهُ مَعًا يَنْظُرْ إنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَدْ دَبَّرْتُك أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ نَصِيبِي مِنْك مُدَبَّرٌ أَوْ قَالَ إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي.
وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا صَارَ مُدَبَّرًا لَهُمَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادَفَ مِلْكَ نَفَسِهِ فَصَارَ الْعَبْدُ مُدَبَّرًا بَيْنَهُمَا فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَقَ الْبَعْضِ، فَإِذَا مَاتَ الْبَاقِي مِنْهُمَا قَبْلَ أَخْذِ السِّعَايَةِ بَطَلَتْ السِّعَايَةُ وَعَتَقَ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ قَالَا جَمِيعًا: إذَا مُتْنَا فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِنَا وَخَرَجَ كَلَامُهُمَا مَعًا، لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِأَنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتِهِ وَمَوْتِ صَاحِبِهِ، فَصَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ: إنْ مِتّ أَنَا وَفُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتّ أَنَا وَفُلَانٌ إلَّا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَيَصِيرُ نَصِيبُ الْبَاقِي مِنْهُمَا مُدَبَّرًا لِصَيْرُورَةِ عِتْقِهِ مُعَلَّقًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى مُطْلَقًا، وَصَارَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، وَلَهُمْ الْخِيَارَاتُ إنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا وَإِنْ شَاءُوا دَبَّرُوا وَإِنْ شَاءُوا كَاتَبُوا وَإِنْ شَاءُوا اسْتَسْعَوْا وَإِنْ شَاءُوا ضَمِنُوا الشَّرِيكَ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِذَا مَاتَ الْآخَرُ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ، هَذَا إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، فَإِنْ دَبَّرَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَإِمَّا إنْ خَرَجَا مَعًا.
فَإِنْ خَرَجَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَإِمَّا إنْ عُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَإِمَّا إنْ لَمْ يُعْلَمْ.
فَإِنْ عُلِمَ فَإِنْ كَانَ الْإِعْتَاقُ سَابِقًا بِأَنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ دَبَّرَهُ الْآخَرُ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَكَمَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ، وَتَدْبِيرُ الشَّرِيكِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْحُرَّ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، فَصَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، فَلَمْ يُعْتِقْ إلَّا نَصِيبَهُ لِتَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ، فَلَمَّا دَبَّرَهُ الْآخَرُ فَقَدْ صَحَّ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ دَبَّرَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَحَّ وَصَارَ مِيرَاثًا لِلْمُعْتِقِ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ بِإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ خِيَارَاتٌ مِنْهَا التَّضْمِينُ وَمِنْهَا التَّدْبِيرُ، فَإِذَا دَبَّرَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَبَرِئَ الْمُعْتِقُ عَنْ الضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّضْمِينِ بِشَرْطِ نَقْلِ نَصِيبِهِ إلَى الْمُعْتَقِ بِالضَّمَانِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِمَالِ النَّقْلِ بِالتَّدْبِيرِ فَسَقَطَ الضَّمَانُ، وَالْمُدَبِّرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ الَّذِي صَارَ مُدَبَّرًا وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَتَقَ بَعْضُهُ فَوَجَبَ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعِتْقِ بِالطُّرُقِ الَّتِي بَيَّنَّا، وَإِذَا مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ نَصِيبُهُ الَّذِي صَارَ مُدَبَّرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِمَا، النِّصْفُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَالنِّصْفُ بِالتَّدْبِيرِ، فَعَتَقَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِلْكِهِ.
وَإِنْ كَانَ التَّدْبِيرُ سَابِقًا بِأَنْ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ، فَعَلَى قَوْلِهِمَا كَمَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لَهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَيَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ قِنًّا، سَوَاءً كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لِمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمْ يَصِرْ كُلَّهُ مُدَبَّرًا، بَلْ نَصِيبُهُ خَاصَّةً لِتَجَزُّؤِ التَّدْبِيرِ عِنْدَهُ فَصَحَّ إعْتَاقُ الشَّرِيكِ فَعَتَقَ نِصْفُهُ، وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ مُدَبَّرًا إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ الَّذِي هُوَ مُدَبَّرٌ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ، وَإِنْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا لَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِضَمَانٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، فَإِذَا خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفَسِهِ لَا مُتْلِفًا مِلْكَ غَيْرِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، فَصَحَّ التَّدْبِيرُ فِي النِّصْفِ، وَالْإِعْتَاقُ فِي النِّصْفِ.
فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْفُذُ الْإِعْتَاقُ وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّآنِ، وَالْإِعْتَاقُ أَقْوَى فَيَدْفَعُ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا لَكِنْ لَا نَعْلَمُ السَّابِقَ مِنْهُمَا مِنْ اللَّاحِقِ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُعْتِقَ يَضْمَنُ رُبْعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِلْمُدَبِّرِ وَيَسْتَسْعِي الْعَبْدَ لَهُ فِي الرُّبْعِ الْآخَرِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْجَوَابُ فِيهِ وَفِيمَا إذَا خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا سَوَاءٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُمَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: فِي النَّصِّ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا وَجُهِلَ التَّارِيخُ أَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا، وَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عَلَى طَرِيقِ الْبَيَانِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ النَّصِّ الْعَامِّ مَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ، وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتِقِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي سَبَبِ وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إنْ كَانَ لَاحِقًا كَانَ الْمُدَبَّرُ بِالتَّدْبِيرِ جَبْرِيًّا لِلْمُعْتِقِ مِنْ الضَّمَانِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُعْتِقِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْوُجُوبِ، وَالْوُجُوبُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ لَهُ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ وَهُوَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى التَّدْبِيرِ فَقَدْ أَبْرَأَ الْمُدَبِّرُ الْمُعْتِقَ عَنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فَالْمُعْتِقُ ضَامِنٌ وَقَدْ سَقَطَ ضَمَانُ التَّدْبِيرِ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَهُ.
فَإِذًا لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُدَبِّرِ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا وَالْمُعْتِقُ يَضْمَنُ فِي حَالٍ وَلَا يَضْمَنُ فِي حَالٍ، وَالْمَضْمُونُ هُوَ النِّصْفُ فَيَنْتَصِفُ فَيَعْتِقُ رُبْعَ الْقِيمَةِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ لِلْمُدَبِّرِ فِي الرُّبْعِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ فِيهِ وَوَجَبَ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ، أُخْرِجَ بِالسِّعَايَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
مُدَبَّرَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُدَبَّرٌ بَيْنَهُمَا كَأُمِّهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ لِمَا نَذَرَ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّدْبِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَإِلَيْهِ مَالَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا لَمَّا دَبَّرَاهُ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْوَلَاءِ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ مُدَبَّرَتِهِمَا جَمِيعًا، وَفِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الْمُدَّعِي إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَالْوَلَاءُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ الْمُدَّعِي لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وَهُوَ الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي نَصِيبِهِ يَثْبُتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَقُّ الْوَلَاءِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ.
فَنَقُولُ نَحْنُ: يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الشَّرِيكِ الْمُدَّعِي وَيَبْقَى نِصْفُ الْوَلَاءِ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ، وَصَارَ نِصْفُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَنِصْفُهَا مُدَبَّرَةً عَلَى حَالِهَا لِلشَّرِيكِ، فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهَذَا قَوْلٌ بِالتَّجْزِئَةِ فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ فِي نَفَسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْإِعْتَاقِ إلَّا أَنَّهُ يَتَكَامَلُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِوُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ.
عَلَى أَنَّا نَقُولُ: الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يَحْتَمِلُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِيهِ.
فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ فَهُوَ مُتَجَزِّئٌ، وَهَاهُنَا لَا يَحْتَمِلُ لِمَا نَذْكُرُ وَيَغْرَمُ الْمُدَّعِي نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ وَنِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مُدَبَّرًا، وَلَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ أَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الْعُقْرِ فَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِإِقْرَارِهِ بِوَطْءِ مُدَبَّرَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ، فَيَجِبُ الْعُقْرُ، وَيَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ بِالدَّعْوَةِ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ مِلْكَهُ الثَّابِتَ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مَحَلٍّ هُوَ مِلْكُهُمَا، فَإِذَا ادَّعَاهُ فَقَدْ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ مِلْكَهُ الثَّابِتَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِهِ مَنْفَعَةَ الْكَسْبِ وَالْخِدْمَةِ، فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ نِصْفَ الْمُدَبَّرِ وَلَا يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ قَدْ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِيلَادَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ يَعْتَمِدُ تَمَلُّكَ نَصِيبِهِ، وَنَصِيبُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ لِكَوْنِهِ مُدَبَّرًا، بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَغْرَمُ نِصْفَ عُقْرِ الْجَارِيَةِ لِشَرِيكِهِ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ مُحْتَمَلُ النَّقْلِ، فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِتَمَلُّكِ نَصِيبِهِ بِبَدَلِ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ، وَالتَّمَلُّكُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَهَاهُنَا نَصِيبُ الشَّرِيكِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ فَيَقْتَصِرُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى نَصِيبِ الْمُدَّعِي وَيَنْفَرِدُ الْوَلَدُ بِالضَّمَانِ لِانْفِرَادِهِ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَلَا تَسْعَى فِي نَصِيبِهِ، وَلَا يَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ شَيْئًا لِحُصُولِ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَيَسْعَى فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ، فَإِنْ مَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ السِّعَايَةَ عَتَقَ كُلُّهَا إنْ خَرَجَتْ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ عَنْهَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا تَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْبِنَاءِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَمْ يَدَّعِ أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ لَهُ وَلَا يَسْعَى فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ عِنْدَهُ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَسْعَى لِأَنَّ رِقَّهُ مُتَقَوِّمٌ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ فَادَّعَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْءِ مُدَبَّرَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّهُمَا مَاتَ يَعْتِقْ كُلُّ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُمُّ وَلَدٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَ بَعْضُهَا عَتَقَ كُلُّهَا وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا جَمِيعًا وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ إلَى خَلَفٍ هُوَ خَيْرٌ، وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الِاسْتِيلَادِ يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَكَانَ خَيْرًا لَهَا مِنْ التَّدْبِيرِ، وَحُكْمُ الضَّمَانِ فِي الْقِنِّ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْجَارِيَةِ الْقِنَّةِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ دَبَّرَهُ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ جَازَتْ الْكِتَابَةُ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ أَيْضًا إنْ كَانَ يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ وَهُوَ مَوْتُ الْمَوْلَى.
وَخُرُوجُ الْمُدَبَّرِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ نَافِذَةٌ فَإِذَا خَرَجَ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ اسْتَسْعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ سَعَى عَلَى النُّجُومِ وَإِنْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ يَسْعَى حَالًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقَعُ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْخِيَارِ، وَالثَّانِي فِي الْمِقْدَارِ، وَالْخِلَافُ فِي الْخِيَارِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَفِي الْمِقْدَارِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ أَمَّا فَصْلُ الْخِيَارِ فَالْخِلَافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ لَمْ يَعْتِقْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى إلَّا ثُلُثُ الْعَبْدِ، وَبَقِيَ الثُّلُثَانِ مِنْهُ رَقِيقًا، وَقَدْ تَوَجَّهَ إلَى الثُّلُثَيْنِ الْعِتْقُ مِنْ جِهَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا الْكِتَابَةُ بِأَدَاءِ بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ، وَالثَّانِيَةُ التَّدْبِيرُ بِسِعَايَةِ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ مُعَجَّلًا.
فَيُخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَالَ إلَى هَذَا وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى ذَاكَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا فَإِذَا عَتَقَ ثُلُثُهُ بِالْمَوْتِ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ، وَبَطَلَ التَّأْجِيلُ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَصَارَ الْمَالَانِ جَمِيعًا حَالًا، وَعَلَيْهِ أَخْذُ الْمَالَيْنِ: إمَّا الْكِتَابَةَ، وَإِمَّا السِّعَايَةَ، وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَالْآخَرُ أَكْثَرُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ أَوْ أَقَلُّ كَانَ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنًا بِهِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا فَصْلُ الْمِقْدَارِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ كُلَّهُ قُوبِلَ بِكُلِّ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا، وَقَدْ عَتَقَ ثُلُثُ الرَّقَبَةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا كَانَ بِمُقَابَلَتِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْبَدَلِ فَيَبْقَى الثُّلُثَانِ، وَلِأَنَّ ثُلُثَ مَالِ الْمَوْلَى لَوْ كَانَ مِثْلَ كُلِّ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَسَقَطَ عَنْهُ كُلُّ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِذَا كَانَ مِثْلَ ثُلُثِ قِيمَتِهِ يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ ثُلُثُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَبْقَى الثُّلُثَانِ، فَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ، وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ لِمَا قُلْنَا، وَلَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ اسْتَحَقَّ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ ذَلِكَ كَائِنًا مَا كَانَ فَإِذَا كَاتَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْبَدَلُ لَا يُقَابِلُ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الثُّلُثَيْنِ.
فَإِذَا قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا فَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا لَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَبِمُقَابَلَةِ مَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ فَيَصْرِفُ كُلَّ الْبَدَلِ إلَى مَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ، كَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، لَزِمَهَا كُلُّ الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ مَنْ يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَبَيْنَ مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا، فَتَزَوَّجَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا بِمُقَابَلَةِ نِكَاحِ مَنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَالثُّلُثُ وَإِنْ عَتَقَ عِنْدَ الْمَوْتِ لَكِنْ لَا بَدَلَ بِمُقَابَلَتِهِ، وَإِنَّمَا الْبَدَلُ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ الثُّلُثَيْنِ فَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يُسَلَّمُ لَهُ جَمِيعُ رَقَبَتِهِ، فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْبَرَاءَةِ هَذَا إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ.
فَإِنْ كَاتَبَهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ، وَعِنْدَهُمَا يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْمِقْدَارِ هاهنا حَيْثُ قَالُوا: مِقْدَارُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ثُلُثَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَاكَ كَاتَبَهُ، وَالْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنْ رَقَبَتِهِ، فَكَانَ جَمِيعُ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ وَقَدْ عَتَقَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ ثُلُثُهُ فَيَسْقُطُ مَا كَانَ بِإِزَائِهِ مِنْ الْبَدَلِ، فَبَقِيَ الثُّلُثَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخِيَارِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الثُّلُثَيْنِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مُؤَجَّلًا، وَبَيْنَ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ مُعَجَّلًا، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ، وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.