فصل: كِتَابُ الْمُكَاتَبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْمُكَاتَبِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْمُكَاتَبَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ إيجَابِ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، وَلَيْسَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ.
فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ مَنْدُوبًا إلَيْهَا فَضْلًا عَنْ الْجَوَازِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أَيْ رَغْبَةً فِي إقَامَةِ الْفَرَائِضِ، وَقِيلَ: وَفَاءً لِأَمَانَةِ الْكِتَابَةِ، وَقِيلَ: حِرْفَةً.
وَرُوِيَ هَذَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا أَيْ حِرْفَةً» وَلَا تُرْسِلُوهُمْ كِلَابًا عَلَى النَّاسِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا كُلَّهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ رَقِيقٌ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَرُوِيَ: «أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَاتَبَتْ بَرِيرَةَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَتْرُكُونَ مَمَالِيكَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَعُلِمَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْوُجُوبَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ إنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ.
فَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْقِنِّ لَا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْقِنِّ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَكَسْبَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى مِلْكُهُمَا لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ؛ فَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ، فَأَمْكَنَ إيجَابُ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ: رُكْنُ الْمُكَاتَبَةِ:

وَأَمَّا رُكْنُ الْمُكَاتَبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْمَوْلَى وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُكَاتَبِ أَمَّا الْإِيجَابُ: فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، نَحْوَ قَوْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ: كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا.
سَوَاءٌ ذَكَرَ فِيهِ حَرْفَ التَّعْلِيقِ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَى أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَحَقَّقُ الرُّكْنُ بِدُونِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا عَلَى أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ.
بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ أَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ، وَمَعْنَى التَّعْلِيقِ فِيهَا ثَابِتٌ عِنْدَنَا، وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ الْأَدَاءُ يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ لَا مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ، وَعِنْدَهُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فِيهَا أَصْلٌ أَيْضًا، وَالْعِتْقُ ثَبَتَ مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ فلابد مِنْ حَرْفِ التَّعْلِيقِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَعْتِقُ، وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لَمَا عَتَقَ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا فَقَبِلَ أَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْت لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ كُلَّ شَهْرٍ مِنْهَا كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ.
فَقَبِلَ أَوْ قَالَ: جَعَلْت عَلَيْك أَلْفَ دِرْهَمٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا كُلَّ نَجْمٍ كَذَا، فَإِذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ، وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ وَقَبِلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ إلَى الْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَأَمَّا الْقَبُولُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: قَبِلْت أَوْ رَضِيت، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى الرُّكْنِ فِيمَنْ يَثْبُت حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهِ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا؛ كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْوَلَدِ الْمُشْتَرَى وَالْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ؛ لِأَنَّ الِاتِّبَاع كَمَا لَا يُفْرَدُ بِالشُّرُوطِ لَا يُفْرَدُ بِالْأَرْكَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ جَعْلُ التَّبَعِ مَتْبُوعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ ثُمَّ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ أَمَّا.

.الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى:

فَمِنْهَا الْعَقْلُ، وَأَنَّهُ شَرْطُ الِانْعِقَادِ، فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ.
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَهِيَ شَرْطُ النَّفَاذِ حَتَّى لَا تَنْفُذُ الْكِتَابَةُ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا أَوْ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ مِنْ قِبَلِ الْمَوْلَى أَوْ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالْمُكَاتَبَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِهَا، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ، وَالشَّرِيكُ شَرِكَةَ الْعِنَانِ لِمَا قُلْنَا.
وَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ بِإِذْنِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ لِأَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ الْعَقْدَ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ الْإِذْنَ بِهِ لِلصَّبِيِّ إذَا كَانَ عَاقِلًا.
وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ، وَهَذَا شَرْطُ نَفَاذٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّعْلِيقِ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، فَلَا تَنْفُذُ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الْفُضُولِيِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ، وَتَنْفُذُ مِنْ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمُوَكِّلِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ، وَكَذَا مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَنْفُذَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تَصَرُّفٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ، وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِعْتَاقَ لَا بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَا بِبَدَلٍ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَبَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مِنْ بَابِ اكْتِسَابِ الْمَالِ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ اكْتِسَابِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَبَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَيَبْقَى الْمَالُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، فَإِنْ أَقَرَّ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَة، فَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ مَعْرُوفَةً ظَاهِرَةً بِمَحْضَرِ الشُّهُودِ يُصَدَّقْ وَيَعْتِقْ الْمَكَاتِبُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي قَبْضِ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ مُصَدَّقًا؛ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ، وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا بِالْعِتْقِ، وَإِقْرَارُ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ بِعِتْقِ عَبْدِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ ظَاهِرَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلَوْ كَاتَبَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِالْكِتَابَةِ فَالْمُكَاتَبَةُ مَاضِيَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ وَلَا لِلْأَبِ أَنْ يَقْبِضَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِوِلَايَتِهِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْمُكَاتَبَةِ يَرْجِعُ إلَى مَنْ عُقِدَ لَهُ لَا إلَى الْعَاقِدِ، وَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِالْبُلُوغِ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ إذَا بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ أَدْرَكَ الْيَتِيمُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ وَكُلَّ عَقْدٍ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا، فَإِنْ كَانُوا كِبَارًا لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ وَلَا لِلْأَبِ؛ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِمَا بِالْبُلُوغِ سَوَاءٌ كَانُوا حُضُورًا أَوْ غُيَّبًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِزَوَالِ الْوِلَايَةِ لَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ الْكَبِيرَ إذَا كَانَ غَائِبًا أَنَّ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُولَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ ثَمَنِهِ أَيْسَرُ مِنْ حِفْظِ عَيْنِهِ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابَةِ حِفْظٌ فَلَا يَمْلِكَانِهَا، وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ صِغَارًا وَكِبَارًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ.
وَأَمَّا فِي نَصِيبِ الصِّغَارِ فَجَائِزٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ لَمْ يَكُنْ فِي جَوَازِهِ فِي نَصِيبِ الصِّغَارِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْعَقْدَ وَصَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنَّهُ يُمْنَعُ أَحَدُهُمَا عَنْ كِتَابَةِ نَصِيبِهِ إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَفْسَخَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَكَاتَبَ الْوَصِيُّ عَبْدَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لَمْ يَجُزْ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِهَا، مِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ عَلَى إطْلَاقِهِ وَقَالَ: لَا تَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَمَّا إذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَلِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهَا، وَالْمُكَاتَبَةُ تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَصَارَتْ حُقُوقُهُمْ مُنَجَّمَةً مُؤَجَّلَةً، وَحُقُوقُهُمْ مُعَجَّلَةٌ فَلَا يَمْلِكُ تَأْجِيلَهَا بِالْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحِيطٍ بِالتَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ مُطْلَقًا وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الدَّيْنِ يَتَأَجَّلُ تَسْلِيمُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغَرِيمُ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ اسْتِيفَاءَهُ مِنْ غَيْرِهَا فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِحَقِّ الْغَرِيمِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَقَدْ زَالَ حَقُّهُ فَزَالَ الْمَانِعُ بَيْنَ الْجَوَازِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ غَيْرُ الْعَبْدِ أَوْ غَيْرُ الْقَدْرِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَالٌ آخَرُ يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ فَحَقُّ الْغُرَمَاءِ لَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِيفَاءِ دِينِهِمْ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ قَلِيلُ الدَّيْنِ بِجُمْلَةِ التَّرِكَةِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ الدَّيْنِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يُكَاتِبَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هَلْ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَال الْيَتِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا وَلِوَصِيِّ الْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ مَحْجُورًا أَوْ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْهُ، فَتَنْفُذُ الْمُكَاتَبَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا الْمُكَاتَبَةَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَهُوَ بِالْمُكَاتَبَةِ أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّهِمْ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا كَمَا لَوْ بَاعَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْفُذُ لَكِنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَنْقُضُوا إلَّا إذَا كَانَ قَضَى الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ مِنْ مَالٍ آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُضُوا، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا، وَمَضَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ جَائِزَةً لِوُقُوعِهَا فِي الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ النَّقْضُ لِقِيَامِ حَقِّهِمْ فَإِذَا قَضَى دَيْنَهُمْ فَقَدْ زَالَ حَقُّهُمْ فَبَقِيَتْ جَائِزَةً، وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِمَا قَضَى مِنْ الدَّيْنِ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَصْلَحَ مُكَاتَبَتَهُ فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ أَبَى الْمَوْلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ، وَأَدَّاهُ الْغُلَامُ عَاجِلًا مَضَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَدَّى لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَخَذَ الْبَدَلَ ثُمَّ عَلِمَ الْغُرَمَاءُ بِذَلِكَ فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمَوْلَى مَا أَخَذَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمَوْلَى، وَالْعِتْقُ وَاقِعٌ إمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِسَلَامَةِ الْعِوَضِ لِلْمَوْلَى، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ شَيْءٌ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُمْ فِي قَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ حَيْثُ مَنَعَهُمْ عَنْ بَيْعِهِ بِوُقُوعِ الْعِتْقِ، وَلَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْعَبْدَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ بَطَلَتْ الرَّقَبَةُ بِالْحُرِّيَّةِ فَبَقِيَتْ الذِّمَّةُ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حِينَ كَاتَبَهُ كَانَتْ رَقَبَتُهُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ فَكَانَتْ مُكَاتَبَتُهُ إيَّاهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْغُرَمَاءَ أَحَقُّ مِنْهُ بِكَسْبِهِ دَلَالَةَ الرِّضَا بِمَا أَخَذَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا أَوْ مُؤَاجَرًا فَكَاتَبَهُ، وَقَفَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ أَجَازَا جَازَ، وَإِنْ فَسَخَا هَلْ تَنْفَسِخُ بِفَسْخِهِمَا؟ فَهُوَ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ قِنًّا أَوْ غَيْرَهُ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ، إذْ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُزِيلَانِ الْمِلْكَ وَهُمَا مِنْ بَابِ اسْتِعْجَالِ الْحُرِّيَّةِ فَإِنْ أَدَّيَا وَعَتَقَا فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْأَدَاءِ عَتَقَا؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتِقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ هَذَا إذَا كَانَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ كَانَا لَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ فَأُمُّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ وَلَا تَسْعَى.
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ سَعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، إذَا كَانَ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ سَعَى عَلَى النُّجُومِ، وَإِنْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ يَسْعَى حَالًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا خِيَارَ لَهُ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ.
وَمِنْهَا الرِّضَا وَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا تَصِحُّ الْمُكَاتَبَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيُفْسِدُهَا الْكُرْهُ وَالْهَزْلُ وَالْخَطَأُ؛ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمُكَاتَبِ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ، فَتَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُكَاتَبِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا إسْلَامُهُ فَتَجُوزُ مُكَاتَبَةُ الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ الْكَافِرَ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُكَاتِبُوا عَبِيدَهُمْ، فَكَذَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّعْلِيقِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَالذِّمِّيُّ إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا مُسْلِمًا فَكَاتَبَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا فَرْعُ أَصْلِنَا فِي شِرَاءِ الْكَافِرِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ أَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الِاسْتِذْلَالِ بِاسْتِخْدَامِ الْكَافِرِ إيَّاهُ، وَالصِّيَانَةُ تَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ لِزَوَالِ وِلَايَةِ الِاسْتِخْدَامِ بِزَوَالِ يَدِهِ عَنْهُ بِالْمُكَاتَبَةِ.
وَأَمَّا مُكَاتَبَةُ الْمُرْتَدِّ فَمَوْقُوفَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ، وَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ نَافِذَةٌ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ السِّيَرِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبَةِ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبَةِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا مِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خَطَرٌ الْعَدَمِ وَقْتَ الْمُكَاتَبَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ الِانْعِقَادِ، حَتَّى لَوْ كَاتَبَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ وَالْمُكَاتَبَةُ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، وَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ حَتَّى لَوْ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ لَا تَنْعَقِدُ مُكَاتَبَتُهُ لِأَنَّ الْقَبُولَ أَحَدُ شَطْرَيْ الرُّكْنِ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَبُولِ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ الْكَسْبُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ.
فَإِنْ كَاتَبَهُ فَأَدَّى الْبَدَلَ عَنْهُ رَجُلٌ فَقَبِلَهُ الْمَوْلَى لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَكَانَ أَدَاءُ الْأَجْنَبِيِّ أَدَاءٌ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا يَعْتِقُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ وَلَمْ يُسَلَّمْ الْعِتْقَ، وَلَوْ قَبِلَ عَنْهُ الرَّجُلُ الْكِتَابَةَ وَرَضِيَ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَبِلَ الْكِتَابَةَ مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَهَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ إذَا كَانَ لَهُ مُجِيزٌ وَقْتَ التَّصَرُّفِ، وَهَاهُنَا لَا مُجِيزَ لَهُ وَقْتَ وُجُودِهِ إذْ الصَّغِيرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا غَائِبًا فَجَاءَ رَجُلٌ وَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عَنْهُ وَرَضِيَ الْمَوْلَى، أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ وَقْتَ قَبُولِ الْفُضُولِيِّ عَنْهُ، فَكَانَ لَهُ مُجِيزًا وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَتَوَقَّفَ.
فَلَوْ أَدَّى الْقَابِلُ عَنْ الصَّغِيرِ إلَى الْمَوْلَى، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ.
وَقَالَ: وَهَذَا وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى الصَّغِيرِ لَمْ تَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ فَيَبْقَى الْأَدَاءُ بِغَيْرِ مُكَاتَبَةٍ، فَلَا يَعْتِقُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَالْمَوْلَى إنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ الْعَبْدِ الْعِوَضَ يَمْلِكُ تَعْلِيقَ عِتْقِهِ بِالشَّرْطِ، فَيَصِحُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا غَائِبًا فَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عَنْهُ فُضُولِيٌّ وَأَدَّاهَا إلَى الْمَوْلَى يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ لِلْقَابِلِ اسْتِرْدَادُ الْمُؤَدَّى، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِمَا قُلْنَا، هَذَا إذَا أَدَّى الْكُلَّ فَإِنْ أَدَّى الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى لِيُسَلَّمَ الْعِتْقَ، وَالْعِتْقُ لَا يُسَلَّمُ بِأَدَاءِ بَعْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ إلَّا إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ فَأَجَازَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْقَابِلُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْإِجَازَةِ اسْتَنَدَ جَوَابُ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ وَالْأَدَاءُ حَصَلَ عَنْ عَقْدٍ جَائِزٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ، فَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي وَرُدَّ فِي الرِّقِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ أَيْضًا، وَإِنْ رُدَّ الْعَبْدُ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ فِي الرِّقِّ بَلْ تَنْتَهِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ قَائِمًا فِي الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ، بِخِلَافِ بَابِ الْبَيْعِ بِأَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَنَّ لِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دَفَعَ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَقَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ عَنْ الزَّوْجِ ثُمَّ وَرَدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنْهَا النِّصْفَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسْخٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا كُلَّ الْمَهْرِ، وَلَا يَكُونُ الْمَهْرُ لِلزَّوْجِ بَلْ يَكُونُ لِلْمُتَبَرِّعِ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا أَدَّى الْقَابِلُ فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَابِلُ عَنْ الْأَدَاءِ لَا يُطَالَبُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا ضَمِنَ، فَحِينَئِذٍ يُؤْخَذُ بِهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ.
فَأَمَّا بُلُوغُهُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ كَاتَبَهُ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَيَكُونُ كَالْكَبِيرِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إذْنٌ فِي التِّجَارَةِ وَإِذْنُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالتِّجَارَةِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا، وَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ، لَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِهِمَا لَا يَمْلِكُ وَإِنْ قَبَضَ؟ وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِمَا الْمُكَاتَبَةُ حَتَّى لَا يَعْتِقَ، وَإِنْ أَدَّى لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا كَانَ قَالَ: عَلَيَّ أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِالشَّرْطِ، وَإِذَا عَتَقَ بِالشَّرْطِ لَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُكَاتَبَةٍ إنَّمَا هُوَ إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا، وَأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا تَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ عَلَى الْخَمْرِ أَوْ الْخِنْزِيرِ، وَلَا مُكَاتَبَةُ الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَإِنْ كَانَ مَالًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّهِمْ، فَانْعَقَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ أَدَّى يَعْتِقْ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ.
أَمَّا الذِّمِّيُّ فَتَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ عَبْدَهُ الْكَافِرَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ وَالشَّاةِ عِنْدَنَا، فَإِنْ كَاتَبَ ذِمِّيٌّ عَبْدًا لَهُ كَافِرًا عَلَى خَمْرٍ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَالْمُكَاتَبَةُ مَاضِيَةٌ وَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِكَوْنِ الْخَمْرِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ أَوْ التَّسَلُّمُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فَتَجِبُ قِيمَتُهَا، وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ مِنْ ذِمِّيٍّ شَيْئًا بِخَمْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِ الْخَمْرِ أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ، وَهَاهُنَا لَا تَبْطُلُ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ نَظَرًا لِلْعَبِيدِ إيصَالًا لَهُمْ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى أَوْ تَسَلُّمِهِ بَلْ يُصَارُ إلَى بَدَلِهِ.
فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَقْدُ مُمَاكَسَةٍ وَمُضَايَقَةٍ لَا تَجْرِي فِيهِ مِنْ السُّهُولَةِ مَا يَجْرِي فِي الْمُكَاتَبَةِ فَيَنْفَسِخُ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ عَيْنِ الْمُسَمَّى وَيَرْتَفِعُ، وَإِذَا ارْتَفَعَ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُ الْقِيمَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ سَبَبِ الْوُجُوبِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ أَوْ لَا، وَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْقَدْرِ أَوْ مَجْهُولَ النَّوْعِ لَمْ يَنْعَقِدْ.
وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَهَالَةَ مَتَى فَحَشَتْ مَنَعَتْ جَوَازَ الْمُكَاتَبَةِ، وَإِلَّا فَلَا، وَجَهَالَةُ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ، وَجَهَالَةُ الصِّفَةِ غَيْرُ فَاحِشَةٍ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى الْوُصَفَاءِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا عَلَى الْجَوَازِ.
وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْجَوَازِ إجْمَاعٌ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ: إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ دَارٍ لَمْ تَنْعَقِدْ حَتَّى لَا يَعْتِقَ، وَإِنْ أَدَّى؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَالدَّارَ وَالْحَيَوَانَ مَجْهُولُ النَّوْعِ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ كُلِّ جِنْسٍ وَأَشْخَاصِهِ اخْتِلَافًا مُتَفَاحِشًا، وَكَذَا الدُّورُ تَجْرِي مَجْرَى الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ فِي الْهَيْئَةِ وَالتَّقْطِيعِ وَفِي الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْبُلْدَانِ وَالْمَحَالِّ وَالسِّكَكِ، وَلِهَذَا مَنَعَتْ هَذِهِ الْجَهَالَةُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ وَالْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ وَالنِّكَاحَ وَالْخُلْعَ وَالصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ فِي أَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ دَارٍ فَأَدَّى طَعَامًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَعْتِقُ، وَإِنْ أَدَّى أَعْلَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالدُّورِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَةٍ فَأَدَّى الْقِيمَةَ أَنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ لَا يُلْحِقُهُمَا بِجِنْسَيْنِ فَكَانَتْ جَهَالَةُ الْقِيمَةِ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ لَا مُبْطِلَةً لَهُ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ أَوْ فَرَسٍ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هاهنا جَهَالَةُ الْوَصْفِ، أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ أَوْ وَسَطٌ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ، فَتَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ كَمَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ وَالنِّكَاحِ، وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى وَصَيْفٍ يَجُوزُ، وَيَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ، وَلَوْ جَاءَ الْعَبْدُ بِقِيمَةِ الْوَسَطِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى لُؤْلُؤَةٍ أَوْ يَاقُوتَةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُتَفَاحِشَةٌ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَلَمْ يَصِفْ يَجُوزُ وَعَلَيْهِ الْوَسَطُ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ إذَا كَانَ مَوْصُوفًا، وَيَثْبُتُ فِي مُبَادَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَالٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَالْمُكَاتَبَةُ مُعَاوَضَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَالٍ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى فَتَجُوزُ الْمُكَاتَبَةُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ الْوَسَطُ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى حُكْمِهِ أَوْ عَلَى حُكْمِ نَفْسَهُ لَمْ تَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هاهنا أَفْحَشُ مِنْ جَهَالَةِ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ مُسَمًّى، وَلَا تَسْمِيَةَ لِلْبَدَلِ هاهنا رَأْسًا فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ أَكْثَرَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ حَكَمَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا كَانَ يَلْزَمُهُ؟ أَوْ حَكَمَ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِفَلْسٍ هَلْ كَانَ يَعْتِقُ؟ فَلَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا فَلَا يَعْتِقُ بِالْحُكْمِ، وَإِنْ كَاتَبَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ أَوْ إلَى الدِّيَاسِ أَوْ إلَى الْحَصَادِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ الْأَجَلِ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْأَجَلِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ فَتَبْطُلُ الْمُكَاتَبَةُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي أَمْرٍ زَائِدٍ، ثُمَّ هِيَ غَيْرُ مُتَفَاحِشَةٍ فَلَا تُوجِبُ فَسَادَ الْمُكَاتَبَةِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، أَنَّهُ يَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِذَاتِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ قَلَّمَا تَجْرِي فِي هَذَا الْقَدْرِ فِي الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلِهَذَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَلَمْ يَجُزْ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ إلَيْهَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ إلَى مَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَفَحُشَتْ الْجَهَالَةُ.
فَإِنْ كَاتَبَهُ إلَى الْعَطَاءِ فَأَخَّرَ الْعَطَاءَ فَإِنَّ الْأَجَلَ يَحِلُّ فِي مِثْلِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ فِيهِ الْعَطَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَقْتَ الْعَطَاءِ لَا عَيْنَ الْعَطَاءِ، وَكَذَا فِي الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَ الْبَدَلُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً فَاحِشَةً، وَلِهَذَا مُنِعَتْ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ حَتَّى عُدِّلَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فَتُمْنَعُ صِحَّةُ الْمُكَاتَبَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَجُوزُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَلَا جَوَازَ لِلْمُكَاتَبَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْقِيمَةِ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا تَصِحَّ هاهنا أَوْلَى، وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ مُوجِبٌ لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَكَانَ ذِكْرُهَا نَصًّا عَلَى الْفَسَادِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْعَبْدِ جَهَالَةُ الْوَصْفِ، أَيْ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ أَوْ وَسَطٌ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَ قِيمَةَ الْوَسَطِ أَرْبَعِينَ دِينَارًا.
فَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْقِيمَةِ فَلَيْسَتْ بِمُكَاتَبَةٍ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ النَّاسِ عِنْدَ إطْلَاقِ الِاسْمِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفَيْنِ.
غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَدَّى الْقِيمَةَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَهُ حُكْمٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ، حَتَّى يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِي الْبَيْعِ، وَتَجِبَ الْعِدَّةُ وَالْعُقْرُ وَيَثْبُتَ النَّسَبُ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ الْفَاسِدَةُ، وَلَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى دَرَاهِمَ فَالْمُكَاتَبَةُ بَاطِلَةٌ وَلَوْ أَدَّى ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَلَيْسَ لِلدَّرَاهِمِ وَسَطٌ مَعْلُومٌ حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَعْتَقْتُك عَلَى دَرَاهِمَ فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ وَتَلْزَمُهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُنَاكَ وَقَعَ بِالْقَبُولِ، وَالْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةٌ فَلَزِمَهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْخِدْمَةَ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَخْدِمُهُ وَأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُهُ فِي الْحَضَرِ أَوْ فِي السَّفَرِ، وَجَهَالَةُ الْبَدَلِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْخِدْمَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْخِدْمَةِ الْمَعْهُودَةِ فَتَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْعَادَةِ، وَبِحَالِ الْمَوْلَى أَنَّهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَخْدِمُهُ وَبِحَالِ الْعَبْدِ أَنَّهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْلُحُ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَيَّنَهَا نَصًّا، وَلِهَذَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُكَاتَبَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَقْبَلُ لِلْجَهَالَةِ مِنْ الْإِجَارَةِ وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ رَجُلًا شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقِيَاسِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ قِيَاسَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقِيَاسَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ، إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الِاسْتِحْسَانِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَقِيَاسِ الْجِمَاعِ نَاسِيًا عَلَى قِيَاسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ فِي الْعُقُودِ، وَأَنَّهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الْمُدَّةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيَخْدُمَهُ أَوْ لِيَخْدُمَ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا قَدْ سَمَّى لَهُ طُولَهَا وَعُمْقَهَا وَمَكَانَهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ لَهُ دَارًا آجُرَّهَا وَجِصَّهَا وَمَا يَبْنِي بِهَا؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ؟ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ.
وَمِنْهَا أَلَّا يَكُونَ الْبَدَلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ حَتَّى لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُكَاتَبَةً بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا إذَا بَاعَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ بِعَبْدٍ هُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَا هَذَا.
وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ مِنْ الْكَسْبِ وَقْتَ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ مُكَاتَبَةً عَلَى مَالِ الْمَوْلَى فَلَمْ يَجُزْ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْبَدَلِ دَيْنًا فَهَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ كَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ الْمَوْلَى وَلَا كَسْبِ الْعَبْدِ وَلَكِنَّهُ مِلْكُ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ مُعَيَّنٌ مُشَارٌ إلَيْهِ.
ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يُذْكَرْ الْخِلَافُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَرْضٍ لِرَجُلٍ جَاوَزَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ الْخِلَافَ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: إنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ أَجَازَ أَوْ لَمْ يُجِزْ، وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّرْبِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ أَجَازَ أَوْ لَمْ يُجِزْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فَعِنْد الْإِجَازَةِ أَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَتَيْنِ الْمُبْهَمَتَيْنِ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ وَرِوَايَةُ كِتَابِ الشُّرْبِ عَلَى حَالِ الْإِجَازَةِ، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مَالٍ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ فَلَا يَجُوزُ، وَبِهِ عَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، وَشَرْحُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدٌ وُضِعَ لِإِكْسَابِ الْمَالِ، وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إكْسَابِ هَذَا الْعَيْنِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ مَالِكَ الْعَبْدِ قَدْ يَبِيعُهُ وَقَدْ لَا يَبِيعُهُ، فَلَا يَحْصُلُ مَا وُضِعَ لَهُ الْعَقْدُ، وَلِأَنَّا لَوْ قَضَيْنَا بِصِحَّةِ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ لَفَسَدَتْ مِنْ حَيْثُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ وَلَمْ يُجِزْ الْمَالِكُ فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ فَكَانَ مُوجِبُهَا وُجُوبَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَةِ عَبْدٍ فَيَفْسُدُ مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ، وَمَا كَانَ فِي تَصْحِيحِهِ إفْسَادُهُ فَيَقْضِي بِفَسَادِهِ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ يُقَالُ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ فَإِمَّا أَنْ تَجِبَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ قِيمَةِ نَفْسِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّرْبِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، ثُمَّ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ جَازَ، وَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ التَّوَقُّفِ عَلَى الْإِجَازَةِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عَيَّنَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ كَالْعَبْدِ، وَلَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفِ فُلَانٍ هَذِهِ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى مِثْلِهَا فِي الذِّمَّةِ لَا عَلَى عَيْنِهَا فَيَجُوزُ وَإِنْ أَدَّى غَيْرَهَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا، وَهُوَ عَلَى قَلْبِ الِاخْتِلَافِ فِي السَّلَمِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجُوزُ مُؤَجَّلًا وَغَيْرَ مُؤَجَّلٍ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْجَوَازِ عَلَى بَدَلٍ غَيْرِ مُؤَجَّلٍ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوز، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا بِنَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ لَا مَالَ لَهُ وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ يَرْفَعُهُ.
فَإِذَا قَارَنَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْعِقَادِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ، وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْأَجَلِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أَيْ أَجَلٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فَسُمِّيَ هَذَا عَقْدُ كِتَابَةٍ لِكَوْنِ الْبَدَلِ فِيهِ مُؤَجَّلًا وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ سُمِّيَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُكْتَبُ فِي الدِّيوَانِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْكِتَابَةِ لِلْمُؤَجَّلِ لَا لِلْحَالِ، فَكَانَ الْأَجَلُ فِيهِ شَرْطًا كَالْمُسَلَّمِ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ التَّسْلِيمِ، كَانَ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِيهِ شَرْطًا؛ لِجَوَازِ السَّلَمِ، وَكَذَا الصَّرْفُ لَمَّا كَانَ يُنْبِئُ عَنْ نَقْلِ الْبَدَلِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ شَرْطًا كَذَا هَذَا، وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحَالِ وَالْمُؤَجَّلِ، وَلِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْجِيلُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَيَحْتَمِلُ حُدُوثَ الْقُدْرَةِ بَعْدَهُ، بِأَنَّهُ يَكْتُبُ مَالًا بِقَبُولِ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ فَيُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا مَأْخَذُ الِاسْمِ فَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ يُقَالُ: كَتَبَ أَيْ أَوْجَبَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَكَتَبَ أَيْ ثَبَّتَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ} وَكَتَبَ أَيْ حَكَمَ وَقَضَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وَشَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُنْبِئُ عَنْ التَّأْجِيلِ ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ حَالَّةً فَإِنْ أَدَّى الْبَدَلَ حِينَ طَالَبَهُ الْمَوْلَى بِهَا وَإِلَّا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ سَوَاءٌ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ بِأَنْ قَالَ لَهُ: إنْ لَمْ تُؤَدِّهَا إلَيَّ حَالَّةً فَأَنْتَ رَقِيقٌ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى بَدَلٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةِ الْحُلُولِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُنَجَّمَةً بِنُجُومٍ مَعْلُومَةٍ فَعَجَزَ عَنْ أَوَّلِ نَجْمٍ مِنْهَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَرُدُّ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ.
احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُكَاتَبُ إذَا تَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ رُدَّ فِي الرِّقِّ فَقَدْ شَرَطَ حُلُولَ نَجْمَيْنِ لِلرَّدِّ فِي الرِّقِّ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ حُلُولِ نَجْمَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يُقْرِضَهُ إنْسَانٌ، أَوْ يَحْصُلَ لَهُ مَالٌ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَيُؤَدِّيَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مَالُ نَجْمَيْنِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ فَعَجَزَ عَنْ نَجْمٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهُ إلَى الرِّقِّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْمَوْلَى شَرَطَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ نَجْمٍ قَدْرًا مِنْ الْمَالِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ مُفِيدٌ مِنْ شَرَائِطِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ عِنْدَ فَوَاتِهِ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ نَجْمَيْنِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَغَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ إذَا تَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ نَجْمًا وَاحِدًا مَاذَا حُكْمُهُ؟ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا كَسَرَ نَجْمًا يُنْدَبُ مَوْلَاهُ إلَى أَنْ لَا يَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ مَا لَمْ يَتَوَالَ عَلَيْهِ نَجْمَانِ رِفْقًا بِهِ، وَنَظَرًا؛ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَجْمَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ أَوْ عَنْ نَجْمٍ عَلَى أَصْلِهِمَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ مَرْجُوٌّ حُضُورُهُ بِأَنْ قَالَ: لِي مَالٌ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ حَالٌّ يَجِيءُ فِي الْقَافِلَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْتَظِرُ فِيهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّأْخِيرِ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَوْلَى وَفِيهِ رَجَاءُ وُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى حَقِّهِ فَيَفْعَلُ الْقَاضِي ذَلِكَ عِنْدَ رَجَاءِ الْوُصُولِ.
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي قَدْرِ الْبَدَلِ أَوْ جِنْسِهِ، بِأَنْ قَالَ الْمَوْلَى: كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ أَوْ عَلَى الدَّنَانِيرِ، وَقَالَ الْعَبْدُ: كَاتَبْتنِي عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى الدَّرَاهِمِ.
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرُ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَدَّى عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْئًا أَوْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُكَاتَبَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَمَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْ جِنْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ مُطْلَقًا وَالْكِتَابَةُ بِخِلَافِهِ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.