فصل: فَصْلٌ: رُكْنُ الْإِجَارَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: رُكْنُ الْإِجَارَةِ:

وَأَمَّا رُكْنُ الْإِجَارَةِ، وَمَعْنَاهَا أَمَّا رُكْنُهَا فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَيْهَا وَهُوَ لَفْظُ الْإِجَارَةِ، وَالِاسْتِئْجَارِ، وَالِاكْتِرَاءِ، وَالْإِكْرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ.
وَالْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَصِفَتِهِمَا فِي الْإِجَارَةِ كَالْكَلَامِ فِيهِمَا فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سَمَّاهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْعًا وَأَرَادُوا بِهِ بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْبَدَلُ فِي هَذَا الْعَقْدِ أُجْرَةً، وَسَمَّى اللَّهُ بَدَلَ الرَّضَاعِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَالْأُجْرَةُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمَهْرُ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أَيْ مُهُورَهُنَّ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، وَسَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الدُّورِ، وَالْمَنَازِلِ، وَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ، وَالْحَمَّامَاتِ، وَالْفَسَاطِيطِ، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ، وَالدَّوَابِّ، وَالثِّيَابِ، وَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي، وَالظُّرُوفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ إلَى الصُّنَّاعِ مِنْ الْقَصَّارِ، وَالْخَيَّاطِ، وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ، وَالنَّجَّارِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوِهِمْ، وَالْأَجِيرُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِأَجِيرِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعَانِ إجَارَةٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَإِجَارَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَفَسَّرَ النَّوْعَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَا وَجَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمَنْفَعَةَ وَفِي الْآخَرِ الْعَمَلَ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهَا بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحِلِّ الْمَنْفَعَةِ فَيَخْتَلِفُ اسْتِيفَاؤُهَا بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْمَنَازِلِ بِالسُّكْنَى، وَالْأَرَاضِي بِالزِّرَاعَةِ، وَالثِّيَابِ وَالْحُلَلِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ، بِالْخَدْمَةِ وَالدَّوَابِّ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ، وَالْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَالصُّنَّاعِ بِالْعَمَلِ مِنْ الْخِيَاطَةِ، وَالْقِصَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ يُقَامُ فِيهِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مَقَامَ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَاحِد حَتَّى لَوْ سَلَّمَ نَفْسَهُ فِي الْمُدَّةِ وَلَمْ يَعْمَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَنُخَرِّجُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ: لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ لِلثَّمَرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ عَيْنٌ وَالْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّاةِ لِلَبَنِهَا أَوْ سَمْنِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوْ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا إجَارَةُ الشَّاةِ لِتُرْضِعَ جَدْيًا أَوْ صَبِيًّا لِمَا قُلْنَا، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ مَاءٍ فِي نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ قَنَاةٍ أَوْ عَيْنٍ لِأَنَّ الْمَاءَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْقَنَاةَ وَالْعَيْنَ، وَالْبِئْرَ مَعَ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَاءُ وَهُوَ عَيْنٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآجَامِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ لِلسَّمَكِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَصَبِ وَالصَّيْدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَخْبَثُ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهَا بِدُونِ الْمَاءِ فَاسِدٌ فَكَانَ مَعَ الْمَاءِ أَفْسَدَ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَرَاعِي؛ لِأَنَّ الْكَلَأَ عَيْنٌ فَلَا تُحْتَمَلُ الْإِجَارَةُ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَلَا تِبْرِهِمَا وَكَذَا تِبْرُ النُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَلَا اسْتِئْجَارُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ أَعْيَانِهَا، وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ لَا الْعَيْنُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِيُعَبِّرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ حِنْطَةً لِيُعَبِّرَ بِهَا مِكْيَالًا أَوْ زَيْتًا لِيُعَبِّرَ بِهِ أَرْطَالًا أَوْ أَمْنَانًا أَوْ وَقْتًا مَعْلُومًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَأَشْبَهَ اسْتِئْجَارَ سَنَجَاتِ الْمِيزَانِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ كَوْنُ الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودَةً وَالِانْتِفَاعُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ عَادَةً، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ النَّسْلُ وَذَلِكَ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ وَهُوَ عَيْنٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ» أَيْ كِرَائِهِ لِأَنَّ الْعَسْبَ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلضِّرَابِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ لِمَا فِي النَّهْيِ عَنْهُ مِنْ قَطْعِ النَّسْلِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ كِرَاءَ عَسْبِ الْفَحْلِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْكِرَاءَ وَأَقَامَ الْعَسْبَ مَقَامَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِيَصِيدَ بِهِ أَوْ بَازِيًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهُوَ الصَّيْدُ وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُخَرَّجُ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنَّ اسْتِئْجَارَ الظِّئْرِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهِيَ اللَّبَنُ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى خِدْمَةِ الصَّبِيِّ وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِئْجَارًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ، أَيْضًا وَاسْتِيفَاؤُهَا بِالْقِيَامِ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ مِنْ غَسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَإِلْبَاسِهَا إيَّاهُ وَطَبْخِ طَعَامِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا كَالصَّبْغِ فِي اسْتِئْجَارِ الصَّبَّاغِ وَإِذَا أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ الشَّاةِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَالصَّبَّاغِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ لَوْنًا آخَرَ غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الْمَنْفَعَةَ كَذَا هَاهُنَا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْعَيْنُ وَهِيَ اللَّبَنُ مَقْصُودًا وَالْخِدْمَةُ تَتَبُّعٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ وَلَا يَتَرَبَّى إلَّا بِاللَّبَنِ فَأُجْرِيَ اللَّبَنُ مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْأَقْطَعِ، وَالْأَشَلِّ لِلْخِيَاطَةِ بِنَفْسِهِ، وَالْقِصَارَةِ، وَالْكِتَابَةِ وَكُلِّ عَمَلٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْيَدَيْنِ، وَاسْتِئْجَارُ الْأَخْرَسِ لِتَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَالْأَعْمَى لِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَحْدُثُ عَادَةً إلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَالنَّزَّةِ لِلزِّرَاعَةِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لَهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الزِّرَاعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا مِنْهَا عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْإِجَارَةُ بِبَيْعِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَجُزْ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْمُصْحَفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُصْحَفِ النَّظَرُ فِيهِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْهُ وَالنَّظَرُ فِي مُصْحَفِ الْغَيْرِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْهُ مُبَاحٌ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ مِنْ الْحَطَبِ، وَالْحَشِيشِ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ كُتُبٍ لِيَقْرَأَ فِيهَا شِعْرًا أَوْ فِقْهًا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الدَّفَاتِرِ النَّظَرُ فِيهَا وَالنَّظَرُ فِي دَفْتَرِ الْغَيْرِ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ظِلَّ حَائِطٍ خَارِجَ دَارِهِ لِيَقْعُدَ فِيهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مِنْ الْكُتُبِ لِيَقْرَأَ فَقَرَأَ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْآجَامِ لِلسَّمَكِ وَالْقَصَبِ وَإِجَارَةُ الْمَرَاعِي لِلْكَلَأِ وَسَائِرُ الْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ إنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ أَمَّا شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَالْعَقْلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ عَاقِلًا حَتَّى لَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، كَمَا لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مِنْهُمَا.
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ وَلَا مِنْ شَرَائِطِ النَّفَاذِ عِنْدَنَا، حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ لَوْ أَجَرَ مَالَهُ أَوْ نَفْسَهُ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا يَنْفُذُ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ.
وَلَوْ أَجَّرَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ نَفْسَهُ وَعَمِلَ وَسَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَيَكُونُ الْأَجْرُ لَهُ، أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ كَانَ نَظَرًا لَهُ وَالنَّظَرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ سَلِيمًا فِي النَّفَاذِ فَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَا يُهْدَرُ سَعْيُهُ فَيَتَضَرَّرَ بِهِ، وَكَانَ الْوَلِيُّ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ مِنْ الْغَيْرِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لَهُ فَلِأَنَّهَا بَدَلُ مَنَافِعَ وَهِيَ حَقُّهُ، وَكَذَا حُرِّيَّةُ الْعَاقِدِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَا لِنَفَاذِهِ عِنْدَنَا، فَيَنْفُذُ عَقْدُ الْمَمْلُوكِ إنْ كَانَ مَأْذُونًا وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ مَوْلَاهُ إنْ كَانَ مَحْجُورًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَقِفُ بَلْ يَبْطُلُ، وَإِذَا سَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ فِي إجَارَةِ نَفْسِهِ أَوْ إجَارَةِ مَالِ الْمَوْلَى وَجَبَ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّبِيِّ إلَّا أَنَّ الْأَجْرَ هُنَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَالْأَجْرُ كَسْبُهُ، وَكَسْبُ الْمَمْلُوكِ لِلْمَالِكِ، وَلَوْ هَلَكَ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمُدَّةِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا حَيْثُ اسْتَعْمَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ أَوْ الصَّبِيُّ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ أَوْ الْقِيمَةُ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْأُجْرَةِ هاهنا لَا يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ لِاخْتِلَافِ مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ، وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيَسْتَأْجِرَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْعَاقِدِ طَائِعًا جَادًّا عَامِدًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَا لِنَفَاذِهِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَإِسْلَامُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلًا فَتَجُوزَ الْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ، وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ جَمِيعًا كَالْبِيَاعَاتِ، غَيْرَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ فِي الْمِصْرِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ وَيَضْرِبَ فِيهَا بِالنَّاقُوسِ لَهُ ذَلِكَ، وَلِرَبِّ الدَّارِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْحِسْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْدَاثِ شَعَائِرَ لَهُمْ وَفِيهِ تَهَاوُنٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِخْفَافٌ بِهِمْ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي دَارِ نَفْسِهِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» أَيْ لَا يَجُوزُ إخْصَاءُ الْإِنْسَانِ وَلَا إحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَمْصَارِ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ نَفْسِهِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ بِالسَّوَادِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ قِيلَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ السَّوَادِ فِي زَمَانِهِ كَانُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ الْمَجُوسِ فَكَانَ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْإِهَانَةِ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْيَوْمَ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ صَارَ السَّوَادُ كَالْمِصْرِ فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمِصْرِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُشْرَطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا شُرِطَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَلَا بَأْسَ بِاسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ كَافِرَةٍ، وَاَلَّتِي وَلَدَتْ مِنْ فُجُورٍ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْفُجُورَ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّبَنِ؛ لِأَنَّ لَبَنَهُمَا لَا يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ، وَيُكْرَهُ اسْتِئْجَارُ الْحَمْقَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُرْضِعُ لَكُمْ الْحَمْقَاءُ فَإِنَّ اللَّبَنَ يُفْسِدُ» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ غَيْرُ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ أَبْلَغُ مِنْ الرَّضَاعِ، نَهَى وَعَلَّلَ بِالْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ حُمْقَهَا لِمَرَضٍ بِهَا عَادَةً وَلَبَنُ الْمَرِيضَةِ يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَعَوَّدَ الصَّبِيُّ بِعَادَةِ الْحَمْقَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَعَوَّدُ بِعَادَةِ ظِئْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، وَمَكَانِهِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَأَمَّا شَرْطُ النَّفَاذِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا خُلُوُّ الْعَاقِدِ عَنْ الرِّدَّةِ إذَا كَانَ ذَكَرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ، وَتَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ السِّيَرِ.
وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ فَلَا تَنْفُذُ إجَارَةُ الْفُضُولِيِّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَالْوِلَايَةِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَالْبَيْعِ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
ثُمَّ الْإِجَازَةُ إنَّمَا تَلْحَقُ الْإِجَارَةَ الْمَوْقُوفَةَ بِشَرَائِطَ ذَكَرْنَاهَا فِي الْبُيُوعِ مِنْهَا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَجَرَ الْفُضُولِيُّ فَأَجَازَ الْمَالِكُ الْعَقْدَ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ جَازَتْ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فَاتَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِأَمْرِهِ جَازَ فَإِذَا كَانَ مَحَلًّا لِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ كَانَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ، إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ أَجَازَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَمْ تَجُزْ إجَازَتُهُ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلْعَاقِدِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا قَدْ انْعَدَمَتْ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَلَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ.
وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَجَّرَهُ سَنَةً لِلْخِدْمَةِ وَفِي رَجُلٍ آخَرَ غَصَبَ غُلَامًا أَوْ دَارًا فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رَجُلٌ أَنَّهُ لَهُ فَقَالَ الْمَالِكُ: قَدْ أَجَزْت مَا أَجَرْت إنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ إنْ كَانَتْ قَدْ انْقَضَتْ فَلِلْغَاصِبِ الْأَجْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ انْعَدَمَ، وَالْإِجَازَةُ لَا تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَالْأَجْرُ الْمَاضِي وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْغُلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَجْرُ مَا مَضَى لِلْغَاصِبِ، وَأَجْرُ مَا بَقِيَ لِلْمَالِكِ، فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى الْمُدَّةِ فَقَالَ: إذَا بَقِيَ بَعْضُ الْمُدَّةِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ فَبَقِيَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ، وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَقَالَ: كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِحِيَالِهِ كَأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهِ عَقْدًا مُبْتَدَأً بِالْمَنَافِعِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَانْعَدَمَتْ فَانْعَدَمَ شَرْطُ لُحُوقِ الْإِجَازَةِ الْعَقْدَ فَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَأَجَّرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَأَجَازَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْإِجَارَةَ: إنَّ أُجْرَةَ مَا مَضَى لِلْغَاصِبِ، وَأُجْرَةَ مَا بَقِيَ لِلْمَالِكِ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ قَالَ: فَإِنْ أَعْطَاهَا مُزَارَعَةً فَأَجَازَهَا صَاحِبُ الْأَرْضِ جَازَتْ وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ سَنْبَلَ مَا لَمْ يَسْمُنْ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ مِنْ الزَّرْعِ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يُفْرَدُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ إجَازَةُ الْعَقْدِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا إذَا سَمُنَ الزَّرْعُ فَقَدْ انْقَضَى عَمَلُ الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَلْحَقُ الْعَقْدُ الْإِجَازَةَ.
وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَهُوَ كَشِرَائِهِ فَإِنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ لَهُ يُنْظَرُ إنْ وَقَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ جَمِيعًا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى الْعَاقِدِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالِاسْتِئْجَارِ أَنَّهُ يَقَعُ اسْتِئْجَارُهُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْوَكِيلِ أَنَّهَا نَافِذَةٌ لِوُجُودِ الْوِلَايَةِ بِإِنَابَةِ الْمَالِكِ إيَّاهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ ابْنِ الْمُوَكِّلِ وَأَبِيهِ؛ لِأَنَّ لِلْمُوَكِّلِ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مِلْكَيْهِمَا، كَذَا لِلْوَكِيلِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ فَكَذَا لِوَكِيلِهِ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُهُ فَكَذَا الْوَكِيلُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ ذَلِكَ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَيَجُوزُ لِوَكِيلِهِ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْهُ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَكَسْبُهُ وَإِنْ كَانَ مِلْكَ الْمَوْلَى لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَجُعِلَ الْمَالِكُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَكُلِّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَهُوَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ بِمِثْلِ أَجْرِ الدَّارِ وَبِأَقَلّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ بِالْأَقَلِّ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ آجَرَ إجَارَةً فَاسِدَةً نَفَذَتْ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ الْمِثْلِ إذَا انْتَفَعَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَاجِرْ الْمُوَكِّلُ الدَّارَ لَكِنَّهُ وَهَبَهَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ أَعَارَهَا إيَّاهُ فَسَكَنَهَا سِنِينَ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى السَّاكِنِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تُضْمَنُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي وَأَمِينِهِ نَافِذَةٌ لِوُجُودِ الْإِنَابَةِ مِنْ الشَّرْع، فَلِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ فِي عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الصَّغِيرِ كَوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَيْهِ كَشَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ فَكَذَا؛ ابْنُهُ وَلِأَنَّ فِيهَا نَظَرًا لِلصَّغِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ بِمَالٍ خُصُوصًا مَنَافِعُ الْحُرِّ وَبِالْإِجَارَةِ تَصِيرُ مَالًا، وَجَعْلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا مِنْ بَابِ النَّظَرِ، وَالثَّانِي: أَنَّ إيجَارَهُ فِي الصَّنَائِعِ مِنْ بَابِ التَّهْذِيبِ وَالتَّأْدِيبِ وَالرِّيَاضَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلصَّبِيِّ فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ، وَكَذَا وَصِيُّ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّ الْأَبِ، وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَوَصِيُّهُ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّهُ، وَالْقَاضِي لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا، وَأَمِينُهُ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّهُ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ غَيْرِ الْأَبِ، وَوَصِيِّهِ، وَالْجَدِّ، وَوَصِيِّهِ مِنْ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إذَا كَانَ لَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الصَّغِيرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ فَفِي نَفْسِهِ أَوْلَى، إلَّا إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ فَتَجُوزُ إجَارَتُهُ إيَّاهُ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مِنْ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ يُرَبِّيهِ وَيُؤَدِّبُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الصَّنَائِعِ نَوْعٌ مِنْ التَّأْدِيبِ فَيَمْلِكُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَأْدِيبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَأَجَرَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ آخَرَ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الَّذِي هُوَ فِي حِجْرِهِ بِأَنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِ عَمِّهِ وَلَهُ أُمٌّ فَأَجَّرَتْهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ إجَارَتُهَا إيَّاهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَجُوزُ،.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْلًا وَمَقْصُودًا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُونَ الْإِجَارَةَ ضِمْنًا لِوِلَايَةِ التَّرْبِيَةِ وَأَنَّهَا تَثْبُتُ لِمَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي حِجْرِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ إنَّ ذَا الرَّحِمِ إنَّمَا يَلِي عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْوِلَايَةِ بِسَبَبِ الرَّحِمِ فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي الرَّحِمِ كَانَ أَوْلَى كَالْأَبِ مَعَ الْجَدِّ، وَلِلَّذِي فِي حِجْرِهِ أَنْ يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأُجْرَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْعَاقِدُ فَكَانَ وِلَايَةُ الْقَبْضِ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَالُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَكَذَا إذَا وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ مَنْفَعَةٌ مَحْضٌ لِلصَّغِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَمْلِكُ قَبْضَهَا بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي هَذَا كُلِّهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْإِجَارَةَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ إضْرَارًا بِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَلْحَقُهُ الْأَنَفَةُ مِنْ خِدْمَةِ النَّاسِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَفَقَّهَ فَوَلِيَ الْقَضَاءَ أَكُنْت أَتْرُكُهُ يَخْدُمُ النَّاسَ وَقَدْ أَجَرَهُ أَبُوهُ هَذَا قَبِيحٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ فَإِذَا بَلَغَ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْأَبَ عَقَدَ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَارَةِ كَمَا إذَا عَقَدَ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَذَا الْأَبُ وَالْجَدُّ وَوَصِيُّهُمَا وَالْقَاضِي وَوَصِيُّهُ فِي إجَارَةِ عَبْدِ الصَّغِيرِ وَعَقَارِهِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ كَذَا بِالْإِجَارَةِ؛ وَلَوْ بَلَغَ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ بِخِلَافِ إجَارَةِ النَّفْسِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ وَمَنْ يَمْلِكُ إجَارَةَ مَالِ الصَّبِيِّ وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ أَنْ يُؤْجِرَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً، وَلَوْ فَعَلَ لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ فِي حَقِّهِ وَهَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الضَّرَرِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ هُوَ فِي حِجْرِهِ أَنْ يُؤَاجِرَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ كَبَيْعِ الْمَالِ، وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يُؤَاجِرُوا عَبْدَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ إجَارَةَ نَفْسِهِ فَإِجَارَةُ مَالِهِ أَوْلَى، وَكَذَا أَسْتَحْسِنُ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ مَا لابد مِنْهُ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْيَتِيمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُؤَاجِرُ عَبْدَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤَاجِرُ عَبْدَهُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصِيَّيْنِ التَّصَرُّفَ فِيمَا يُخَافُ الضَّرَرُ بِتَأْخِيرِهِ، وَفِي تَرْكِ إجَارَةِ الصَّبِيِّ ضَرَرٌ مِنْهُ بِتَرْكِ تَأْدِيبِهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي تَرْكِ إجَارَةِ الْعَبْدِ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَصِيِّ نَفْسَهُ مِنْهُ لِلصَّبِيِّ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْ الصَّبِيِّ أَصْلًا فَلَا يَمْلِكُ إجَارَةَ نَفْسِهِ مِنْهُ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ حَيْثُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِلصَّغِيرِ، وَلَا نَظَرَ لِلصَّغِيرِ فِي إجَارَةِ نَفْسِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهَا جَعْلَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا فَلَمْ يَجُزْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ مُضَارَبَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ أَنَّ الْوَصِيَّ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لَا يُوجِبُ حَقًّا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ حَقًّا فِي الرِّبْحِ وَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَا يَلْحَقُهُ تُهْمَةٌ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حَقًّا فِي مَالِ الصَّبِيِّ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا.
(وَأَمَّا) اسْتِئْجَارُ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ بِأُجْرَةٍ لَا يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْ نَفْسه إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لَهُ، وَفِي اسْتِئْجَارِهِ إيَّاهُ لِنَفْسِهِ نَظَرٌ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلصَّغِيرِ أَوْ يَسْتَأْجِرَ الصَّغِيرَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَالِ الْأَبِ مِنْ الصَّغِيرِ وَشِرَاءَ مَالِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ النَّظَرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَهُ مِنْهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجُوزُ، فَكَذَا الْإِجَارَةُ.
وَمِنْهَا تَسْلِيمُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي إجَارَةِ الْمَنَازِلِ، وَنَحْوِهَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ بِأَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّعْجِيلُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ يَنْعَقِدُ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى حِينِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً فِي الْحَالِ تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا عَيْنٌ قَائِمَةٌ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَهَذَا أَصْلٌ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ انْعِقَادِهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ التَّخْلِيَةَ وَالتَّمْكِينَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ فِي إجَارَةِ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَأَجِيرِ الْوَحْدِ، حَتَّى لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَا يَمْلِكُ هُوَ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَلَوْ مَضَى بَعْدَ الْعَقْدِ مُدَّةٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِيمَا مَضَى لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ فِيهِ، وَلَوْ أَجَرَ الْمَنْزِلَ فَارِغًا وَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ يُفْتَحْ الْبَابُ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَهُ كُلُّ الْأَجْرِ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَحَدَثَتْ الْمَنَافِعُ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَكَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَجْرُ، كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ، كَذَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ لَكِنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِفَتْحِ الْبَابِ فَقَالَ: مُرَّ، وَافْتَحْ الْبَابَ فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِ الْبَابِ بِالْمُعَالَجَةِ لَزِمَهُ الْكِرَاءُ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَا يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا شَهْرًا أَوْ عَبْدًا يَسْتَخْدِمُهُ شَهْرًا أَوْ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى الْكُوفَةِ فَسَكَنَ وَاسْتَخْدَمَ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ وَرَكِبَ فِي بَعْضِ الْمَسَافَةِ ثُمَّ حَدَثَ بِهَا مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ إبَاقٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ كَانَ زَرْعًا فَقَطَعَ شُرْبَهُ أَوْ رَحًى فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ لَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَا تَصِيرُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ مُسَلَّمَةً بِتَسْلِيمِ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُهَا عَلَى حَسَبِ وُجُودِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا اعْتَرَضَ مَنْعٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ الْبَدَلُ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْهَلَاكِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ لَا يَنْفُذُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَا دَامَ الْخِيَارُ قَائِمًا، لِحَاجَةِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ إلَى دَفْعِ الْعَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ لِمَا مَرَّ لَكِنْ تَرَكْنَا اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَلِهَذَا جَازَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ كَذَا فِي الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَلِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ شَرَائِطُ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَا يُقَابِلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ أَعْنِي الرُّكْنَ.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَرِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالْإِجَارَةُ تِجَارَةٌ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ تَبَادُلُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْإِجَارَةُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تِجَارَةٌ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ» فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تُنَافِي الرِّضَا فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ؛ وَلِهَذَا مَنَعَتْ صِحَّةَ الْبَيْعِ.
وَأَمَّا إسْلَامُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ كَمَا يَصِحُّ الْبَيْعُ مِنْهُمْ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ، فَيَصِحُّ مِنْ الْمَمْلُوكِ الْمَأْذُونِ، وَيَنْفُذُ مِنْ الْمَحْجُورِ، وَيَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَضُرُوبٌ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومًا عِلْمًا يَمْنَعُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ فَكَانَ الْعَقْدُ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ.
وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ يُوجَدُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ الْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ يَكُونُ بِبَيَانِ أَشْيَاءَ مِنْهَا: بَيَانُ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَجَرْتُك إحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ أَوْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، أَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْت أَحَدَ هَذَيْنِ الصَّانِعَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا بَاعَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ دَارٍ غَيْرِ مُسَمًّى وَلَا يَعْرِفُهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِجَهَالَةِ النَّصِيبِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إذَا عَلِمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَرَفَهُ الْمُشْتَرِي وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ عَرَفَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ يَعْرِفُهُ، أَوْ لَا يَعْرِفُهُ بَعْدَ أَنْ صُدِّقَ الْمُشْتَرِي فِيمَا قَالَ: وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَ النَّصِيبِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ إجَارَةَ الْمَشَاعِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ مَعْلُومًا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالْمَجْهُولُ أَوْلَى، وَعِنْدَهُمَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ جَائِزَةٌ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ حَيْثُ جَوَّزَ إجَارَةَ النَّصِيبِ وَلَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَ النَّصِيبِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَالنَّصِيبُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْبَدَلَ فِيهِ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ الْعَقْدِ النَّصِيبُ مَجْهُولٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ عَقَارٍ مِائَةَ ذِرَاعٍ أَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ أَرْضٍ جَرِيبًا أَوْ جَرِيبَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الذِّرَاعِ عِنْدَهُ يَقَعُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَحُلُّهُ الذِّرَاعُ مِنْ الْبُقْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَذَلِكَ لِلْحَالِ مَجْهُولٌ، وَكَذَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَالْمَجْهُولُ أَوْلَى، وَعِنْدَهُمَا الذِّرَاعُ كَالسَّهْمِ وَتَجُوزُ إجَارَةُ السَّهْمِ كَذَا إجَارَةُ الذِّرَاعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْمَشَاعِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ، إذْ الشَّائِعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ غَيْرُ عَيْنٍ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ إجَارَةَ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ كَبَيْعِ الشَّائِعِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّخْرِيجِ عَلَيْهِ وَنَذْكُرُ الدَّلَائِلَ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا مِنْ دَارٍ لِيَمُرَّ فِيهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَمْ يَجُزْ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ مِنْ بَقِيَّةِ الدَّارِ فَكَانَ إجَارَةَ الْمَشَاعِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ظَهْرَ بَيْتٍ لِيَبِيتَ عَلَيْهِ شَهْرًا أَوْ لِيَضَعَ مَتَاعَهُ عَلَيْهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ نُسَخِ الْأَصْلِ ذَكَرَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ يَخْتَلِفُ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْعُلُوِّ، وَالضَّرَرُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَرْضَى بِهِ فَكَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَا ضَابِطَ لَهُ فَصَارَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَتَأَثَّرُ لِثِقَلِ الْبِنَاءِ وَخِفَّتِهِ، وَيَجُوزُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ شِرْبًا مِنْ نَهْرٍ أَوْ مَسِيلِ مَاءٍ فِي أَرْضٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَشْغَلُ الْمَاءُ مِنْ النَّهْرِ وَالْأَرْضِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ نَهْرًا لِيَسُوقَ مِنْهُ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ لَهُ فَيَسْقِيهَا لَمْ يَجُزْ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا يُجْرِي فِيهِ الْمَاءَ إلَى أَرْضِهِ أَوْ رَحًى لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيَسِيلَ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرُ عَلَى سَطْحِ الْمُؤَاجِرِ أَلَمْ يَكُنْ هَذَا فَاسِدًا؟، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا مِنْ أَرْضٍ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُسِيلُ فِيهِ مَاءَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ، فَصَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَانِعَ جَهَالَةُ الْبُقْعَةِ وَقَدْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ بِالتَّعْيِينِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِقْدَارَ مَا يَسِيلُ مِنْ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ وَالْمَسِيلِ مُخْتَلِفٌ وَالْكَثِيرُ مِنْهُ مُضِرٌّ بِالنَّهْرِ وَالسَّطْحِ، وَالْمُضِرُّ مِنْهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً، وَغَيْرُ الْمُضِرِّ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، فَصَارَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيُرَكَّبَهُ فِي دَارِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى جَازَ؛ لِأَنَّ الْمِيزَابَ الْمُرَكَّبَ فِي دَارِهِ لَا تَخْتَلِفُ مَنْفَعَتُهُ بِكَثْرَةِ مَا يَسِيلُ فِيهِ وَقِلَّتِهِ، فَكَانَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعْلُومًا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فِيهَا وَضُوءًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يُصَبُّ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولٌ، وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ فِيهِ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، فَكَانَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعًا أَوْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ سُتْرَةً أَوْ يَضَعَ فِيهِ مِيزَابًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ فَيَصِيرَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ الْحَائِطِ مَوْضِعَ كُوَّةٍ لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ الضَّوْءُ، أَوْ مَوْضِعًا مِنْ الْحَائِطِ لِيَتِدَ فِيهِ وَتَدًا لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ؟ فَالْجَوَابُ: إنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا فَرُبَّمَا تَمُوتُ الدَّابَّةُ فِي الطَّرِيقِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُطَالَبَةُ بِدَابَّةٍ أُخْرَى، فَيَبْقَى فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ حَمُولَةٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْجَوَازِ وَإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لِحَالَةِ النَّاسِ، فَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الْمُدَّةِ وَقَدْرِ الْمَاءِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَمَّامِ، وَقَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ بِأَنْ قَالَ: أُطْلِيك بِدَانِقٍ وَلَا يَعْلَمُ بِمَا يَطْلِيه مِنْ غِلَظِهِ وَنَحَافَتِهِ، قَالَ: هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْبَدَنِ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ يَسِيرٌ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَعَامَلُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ بِتَعَامُلِ النَّاسِ.
وَمِنْهَا: بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي إجَارَةِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ، وَالْبُيُوتِ، وَالْحَوَانِيتِ، وَفِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِدُونِهِ، فَتَرْكُ بَيَانِهِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَسَوَاءٌ قَصُرَتْ الْمُدَّةُ أَوْ طَالَتْ مِنْ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَالْقَوْلَانِ لَا مَعْنَى لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إنْ كَانَ هُوَ الْجَهَالَةَ فَلَا جَهَالَةَ، وَإِنْ كَانَ عَدَمَ الْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عَيَّنَ الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ.
وَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَا لَمْ يُعَيَّنْ الْوَقْتُ الَّذِي يَلِي الْعَقْدَ نَصًّا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ قَوْلَهُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِوَقْتٍ مُنَكَّرٍ، وَجَهَالَةُ الْوَقْتِ تُوجِبُ جَهَالَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ مَا يُوجِبُ تَعْيِينَ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَيَبْقَى مَجْهُولًا، فلابد مِنْ التَّعْيِينِ، وَلَنَا إنَّ التَّعْيِينَ قَدْ يَكُونُ نَصًّا وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، وَقَدْ وُجِدَ هاهنا دَلَالَةُ التَّعْيِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَعْقِدُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ عَقِيبَ الْعَقْدِ قَائِمَةٌ، وَالثَّانِي: إنَّ الْعَاقِدَ يَقْصِدُ بِعَقْدِهِ الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ لِهَذَا الْعَقْدِ إلَّا بِالصَّرْفِ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ، فَيَتَعَيَّنُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا أَوْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيَعْتَكِفَ أَيَّ شَهْرٍ أَحَبَّ وَلَا يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي النَّذْرَ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ النَّذْرِ فَوَجَبَ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي شَهْرٍ مُنَكَّرٍ، فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ شَهْرٍ شَاءَ، وَلَوْ آجَرَ دَارِهِ شَهْرًا أَوْ شُهُورًا مَعْلُومَةً فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى الْأَهِلَّةِ، بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَوْ نَقَصَ الشَّهْرُ يَوْمًا كَانَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِلْهِلَالِ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ مَا مَضَى بَعْضُ الشَّهْرِ فَفِي إجَارَةِ الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِالْإِجْمَاعِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَهِلَّةِ فَتُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ.
وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الشَّهْرِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ الشُّهُورَ كُلَّهَا بِالْأَيَّامِ، وَفِي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ تَكْمِيلَ هَذَا الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ وَالْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: إذَا اسْتَأْجَرَ سَنَةً أَوَّلُهَا هَذَا الْيَوْمُ وَهَذَا الْيَوْمُ لِأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ بَقِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا قَدْ سَكَنَ فَلَمْ يَبْقَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ إلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَإِنَّمَا يَسْكُنُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا إذَا كَانَ سَكَنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ،، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشُّهُورِ لِلْأَهِلَّةِ إذْ الشَّهْرُ اسْمٌ لِلْهِلَالِ لُغَةً، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْأَيَّامُ وَيُمْكِنُ فِيمَا بَعْدَهُ فَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَصِيرُ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ عَقَدَ الْإِجَارَةَ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْأَيَّامُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِدَّةِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْتُبِرَ فِيهَا زِيَادَةُ الْعَدَدِ احْتِيَاطًا، وَالْإِجَارَةُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَدْخُلُهُ الِاحْتِيَاطُ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ يَكْمُلُ بِالْأَيَّامِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرُ الثَّانِي فَإِذَا كَمُلَ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرُ الثَّانِي يَصِير أَوَّلُ الشَّهْرِ الثَّانِي بِالْأَيَّامِ، فَيُكْمَلُ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ وَهَكَذَا إلَى آخَرِ الشُّهُورِ، وَلَوْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ وَالْأُجْرَةَ مَعْلُومَةٌ فَلَا يَجُوزُ- وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا- الْفَسْخُ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ السَّنَةَ فَقَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِأَنْ قَالَ: بِعْت مِنْك هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الشُّهُورِ مَجْهُولَةٌ، فَأَمَّا الشَّهْرُ الْأَوَّلُ فَمَعْلُومٌ وَهُوَ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا، وَفَرَّقَا بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَبَيْعِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ شَهْرٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْجُمْلَةِ بِالْكَيْلِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا تَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ عَلَى قَوْلِهِمَا كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ كَمَا فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَفِي بَيْعِ الْمَذْرُوعِ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَذْرُوعِ فِي الْكُلِّ لَا فِي ذِرَاعٍ وَاحِدٍ وَلَا فِي الْبَاقِي، وَفِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَجُوزُ فِي وَاحِدٍ وَلَا يَجُوزُ فِي الْبَاقِي فِي الْحَالِ، إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَتَهُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قَفِيزٍ وَقَفِيزٍ فَأَمَّا بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ فَلَا يَجُوزُ لِتَفَاوُتٍ فِي أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذِهِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَاعْتَبَرَهَا بِبَيْعِ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَابِ بِدِرْهَمٍ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الثِّيَابَ تَخْتَلِفُ فِي أَنْفُسِهَا اخْتِلَافًا فَاحِشًا، وَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنْهَا لِاخْتِلَافِهَا، فَأَمَّا الشُّهُورُ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ فَيَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا لِلْإِجَارَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِذَا جَازَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الثَّانِي وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى الشَّهْرُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا فَقَدْ تَرَاضَيَا عَلَى انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فَصَارَا كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا الْعَقْدَ، وَكَذَا هَذَا عِنْدَ مُضِيِّ كُلِّ شَهْرٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَرَ شَهْرًا، وَسَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ كُلَّ شَهْرٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ شَيْءٌ يُبْنَى عَلَيْهِ الْعَقْدُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي وَقْتِ الْفَسْخِ وَكَيْفِيَّتِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ يَقُولُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَوْرِ: فَسَخْتُ الْإِجَارَةَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ انْعَقَدَتْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسَخُ أَحَدُهُمَا الْإِجَارَةَ فِي الْحَالِ، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ عَمِلَ ذَلِكَ الْفَسْخُ السَّابِقُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسَخُ أَحَدُهُمَا لَيْلَةَ الْهِلَالِ أَوْ يَوْمَهَا وَإِنْ سَكَتَا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ، وَمَعْنَى الْفَسْخُ هاهنا هُوَ مَنْعُ انْعِقَادِ الْإِجَارَةِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ الْعَقْدِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَصْلِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَلْوًا وَبَكَرَةً لِيَسْقِيَ غَنَمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُدَّةَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الزَّمَانِ الَّذِي يَسْقِي فِيهِ الْغَنَمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ قَدْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَإِنْ بَيَّنَ الْمُدَّةَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَأْجَرُ لَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِجَارَةِ أَعْنِي إجَارَةَ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَعْمَلُ فِيهِ جَازَ، وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ نَفْسُهُ وَمَعَ غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ فِيهِ غَيْرَهُ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ مَتَاعًا، وَغَيْرَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ فِيهِ حَدَّادًا، وَلَا قَصَّارًا، وَلَا طَحَّانًا، وَلَا مَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَيُوهِنُهُ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ شُرِعَتْ لِلِانْتِفَاعِ، وَالدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَالْبُيُوتُ وَنَحْوُهَا مُعَدَّةٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِالسُّكْنَى، وَمَنَافِعُ الْعَقَارِ الْمُعَدَّةُ لِلسُّكْنَى مُتَقَارِبَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي السُّكْنَى، فَكَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَكَذَا الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ السُّكَّانِ وَقِلَّتِهِمْ إلَّا تَفَاوُتًا يَسِيرًا، وَأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَوَضْعُ الْمَتَاعِ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْبِطَ فِي الدَّارِ دَابَّتَهُ، وَبَعِيرَهُ، وَشَاتَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى، وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَالْجَوَابُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِيهِ مَنْ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَيُوهِنُهُ مِنْ الْقَصَّارِ وَالْحَدَّادِ وَالطَّحَّانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إتْلَافُ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ، إذْ الْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُعْتَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَانُوتَ الَّذِي يَكُونُ فِي صَفِّ الْبَزَّازِينَ أَنَّهُ لَا يُؤَاجَرُ لِعَمَلِ الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ وَالطَّحَّانِ؛ فَلَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ، إذْ الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالرِّضَا، حَتَّى لَوْ آجَرَ حَانُوتًا فِي صَفِّ الْحَدَّادِينَ مِنْ حَدَّادٍ يَدْخُلُ عَمَلُ الْحِدَادَةِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ لِلْعَادَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ وَيُعِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ فلابد فِيهَا مِنْ بَيَانِ مَا تُسْتَأْجَرُ لَهُ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً، إلَّا إذَا جَعَلَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِمَا شَاءَ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فلابد مِنْ بَيَانِ مَا يَزْرَعُ فِيهَا أَوْ يَجْعَلُ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ، وَكَذَا الْمَزْرُوعُ يَخْتَلِفُ، مِنْهُ مَا يُفْسِدُ الْأَرْضَ، وَمِنْهُ مَا يُصْلِحُهَا، فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فلابد مِنْ الْبَيَانِ بِخِلَافِ السُّكْنَى فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الدَّوَابِّ فلابد فِيهَا مِنْ بَيَانِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ: الْمُدَّةِ أَوْ الْمَكَانِ فَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ أَحَدُهُمَا فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبَيَانِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً يُشَيِّعُ عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَتَلَقَّاهُ إنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْجَبَّانَةِ؛ لِأَنَّ الْجَبَّانَةَ تَخْتَلِفُ أَوَّلُهَا وَأَوْسَطُهَا وَآخِرُهَا؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ وَاسِعٌ تَتَبَاعَدُ أَطْرَافُهَا وَجَوَانِبُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ أَطْرَافُهَا وَجَوَانِبُهَا مُتَبَاعِدَةً؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ هُنَاكَ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وَهُوَ مَنْزِلُهُ الَّذِي بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَأْجَرَ إلَى بَلَدِهِ فَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ إلَى بَيْتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بَيْنَ الْمُكَارِينَ بِطَرْحِ الْحُمُولَاتِ عَلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْبَلَدِ؟ فَصَارَ مَنْزِلُهُ بِالْكُوفَةِ مَذْكُورًا دَلَالَةً وَالْمَذْكُورُ دَلَالَةً، كَالْمَذْكُورِ نَصًّا، وَلَا عَادَةَ فِي الْجَبَّانَةِ عَلَى مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُحْمَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْجَبَّانَةِ مَوْضِعٌ لَا يُرْكَبُ إلَّا إلَيْهِ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ كَمَا يَصِحُّ إلَى الْكُوفَةِ، وَلَوْ تَكَارَاهَا بِدِرْهَمٍ يَذْهَبُ عَلَيْهَا إلَى حَاجَةٍ لَهُ لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمَكَانَ؛ لِأَنَّ الْحَوَائِجَ تَخْتَلِفُ، مِنْهَا مَا يَنْقَضِي بِالرُّكُوبِ إلَى مَوْضِعٍ.
وَمِنْهَا مَا لَا يَنْقَضِي إلَّا بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ مَجْهُولَةً فَتَفْسُدُ الْإِجَارَةُ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا تَكَارَى دَابَّةً مِنْ الْفُرَاتِ إلَى جُعْفِيٍّ وَجُعْفِيٌّ قَبِيلَتَانِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يُسَمِّ إحْدَاهُمَا، أَوْ إلَى الْكُنَاسَةِ وَفِيهَا كُنَاسَتَانِ وَلَمْ يُسَمِّ إحْدَاهُمَا، أَوْ إلَى بَجِيلَةَ وَبِهَا بَجِيلَتَانِ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ وَلَمْ يُسَمِّ إحْدَاهُمَا، إنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ مَجْهُولٌ ولابد فِيهَا مِنْ بَيَانِ مَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ فِي الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ؛ لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَبَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ لابد مِنْ بَيَانِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَمَنْ يَرْكَبُهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْمَحْمُولِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَتَرْكُ الْبَيَانِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ بَعِيرَيْنِ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ فَحَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَحْمَلًا فِيهِ رَجُلَانِ وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا مِنْ الْوِطَاءِ وَالدُّثُرِ وَقَدْ رَأَى الرَّجُلَيْنِ وَلَمْ يَرَ الْوِطَاءَ وَالدُّثُرَ، وَأَحَدُهُمَا زَامِلَةٌ يَحْمِلُ عَلَيْهَا كَذَا كَذَا مَحْتُومًا مِنْ السَّوِيقِ، وَالدَّقِيقِ وَمَا يُصْلِحُهُمَا مِنْ الزَّيْتِ وَالْخَلِّ وَالْمَعَالِيقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَا يَكْتَفِي بِهِ مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يُبَيِّنْ، ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ شَرَطَ عَمَلًا مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْكِسْوَةِ وَالدِّثَارِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَصَارَتْ الْمَنَافِعُ مَجْهُولَةً، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ إنَّ النَّاسَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ ذَلِكَ إسْقَاطًا مِنْهُمْ اعْتِبَارَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ فَلَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مِنْ هَدَايَا مَكَّةَ مِنْ صَالِحِ مَا يَحْمِل النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْهَدَايَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ وَهَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَإِنْ بَيَّنَ وَزْنَ الْمَعَالِيقِ وَوَصَفَ ذَلِكَ، وَالْهَدَايَا أَحَبُّ إلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَذَلِكَ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْخُصُومَةِ لِذَلِكَ قَالَ: أَحَبُّ إلَيْنَا، وَلِكُلِّ مَحَلٍّ قِرْبَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ وَإِدَاوَتَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْعَادَةِ وَذِكْرُهُ أَفْضَلُ، وَكَذَا الْخَيْمَةُ وَالْقُبَّةُ وَذِكْرُهُ أَفْضَلُ لِمَا قُلْنَا، وَفِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ، وَالثَّوْبِ لِلُّبْسِ، وَالْقِدْرِ لِلطَّبْخِ لابد مِنْ بَيَانِ الْمُدَّةِ لِمَا قُلْنَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَيَانُ نَوْعِ الْخِدْمَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ تَخْتَلِفُ فَكَانَتْ مَجْهُولَةً، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُشْتَرَطُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ فلابد مِنْ بَيَانِ مَا يَلْبَسُ وَمَا يَطْبُخُ فِي الْقِدْرِ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ، وَالْقِدْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَطْبُوخِ فلابد مِنْ الْبَيَانِ لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَإِنْ اخْتَصَمَا حِينَ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ أَوْ يَبْنِيَ أَوْ يَغْرِسَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ يَرْكَبَهَا أَوْ قَبْلَ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ أَوْ يَطْبُخَ فِي الْقِدْرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فَاسِدًا، وَرَفْعُ الْفَسَادِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ، فَإِنْ زَرَعَ الْأَرْضَ وَحَمَلَ عَلَى الدَّابَّةِ وَلَبِسَ الثَّوْبَ، وَطَبَخَ فِي الْقِدْرِ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَهُ مَا سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُفْسِدَ جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ بِالزِّرَاعَةِ، وَالْحَمْلِ وَاللُّبْسِ وَالطَّبْخِ فَزَالَتْ الْجَهَالَةُ، فَقَدْ اُسْتُوْفِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ فَيَجِبُ كَمَالُ الْمُسَمَّى كَمَا لَوْ كَانَ مُتَعَيَّنًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ فَسَخَ الْقَاضِي الْإِجَارَةَ ثُمَّ زَرَعَ أَوْ حَمَلَ أَوْ لَبِسَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا نَقَضَ الْعَقْدَ فَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فَصَارَ مُسْتَعْمِلًا مَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَصَارَ غَاصِبًا، وَالْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَمِنْهَا: بَيَانُ الْعَمَلِ فِي اسْتِئْجَارِ الصُّنَّاعِ وَالْعُمَّالِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْعَمَلِ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَعْمَالِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ، الْعَقْدُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ عَامِلًا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الْعَمَلَ مِنْ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالرَّعْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ، وَكَذَا بَيَانُ الْمَعْمُولِ فِيهِ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، إمَّا بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ، أَوْ بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فِي ثَوْبِ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَبَيَانِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فِي إجَارَةِ الرَّاعِي مِنْ الْخَيْلِ أَوْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ وَعَدَدِهَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْمُولِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا أَنَّهُ لابد مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْحَفْرِ وَعُمْقِ الْبِئْرِ وَعَرْضِهَا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْحَفْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُمْقِ الْمَحْفُورِ وَعَرْضِهِ وَمَكَانِ الْحَفْرِ مِنْ الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ فَيُحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ الْمُدَّةِ؟ أَمَّا فِي اسْتِئْجَارِ الرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ فَيُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ.
وَأَمَّا فِي اسْتِئْجَارِ الْقَصَّارِ الْمُشْتَرَكِ وَالْخَيَّاطِ الْمُشْتَرَكِ فَلَا يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ أَوْ قَصَّارٍ أَثْوَابًا مَعْلُومَةً لِيَخِيطَهَا أَوْ لِيُقَصِّرَهَا جَازَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ.
وَأَمَّا فِي الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ جِنْسِ الْمَعْمُولِ فِيهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ فَقَطْ وَبَيَانُ الْمُدَّةِ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ شَرْطُ جَوَازِهِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْخِدْمَةُ، فَمَا جَازَ فِيهِ جَازَ فِي الظِّئْرِ وَمَا لَمْ يَجُزْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ فِيهَا، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فِي الظِّئْرِ أَنْ تُسْتَأْجَرَ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَبِيعَ لَهُ وَيَشْتَرِيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ لَمْ يَجُزْ لِجَهَالَةِ قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَوْ بَيَّنَ الْمُدَّةَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ شَهْرًا لِيَبِيعَ لَهُ وَيَشْتَرِيَ جَازَ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمَنْفَعَةِ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: «كُنَّا نَبِيعُ فِي أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَّانَا بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ بَيْعَكُمْ هَذَا يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» وَالسِّمْسَارُ هُوَ الَّذِي يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً، وَكَذَا إذَا قَالَ: بِعْ لِي هَذَا الثَّوْبَ وَلَكَ دِرْهَمٌ وَبَيَّنَ الْمُدَّةَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، قَالَ الْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْقَاضِي رَجُلًا مُشَاهَرَةً عَلَى أَنْ يَضْرِبَ الْحُدُودَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُشَاهَرَةٍ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُشَاهَرَةً كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فِيهَا بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ بَقِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْحُدُودِ الَّتِي سَمَّاهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَكَذَا مَحَلُّ الْإِقَامَةِ مَجْهُولٌ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا اسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ رَجُلًا لِيَقْتُلَ الْمُرْتَدِّينَ وَالْأُسَارَى لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِقَطْعِ الْيَدِ جَازَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدِي، وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِيهِمَا.
هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَصْحَابِنَا أَبَا يُوسُفَ وَأَبَا حَنِيفَةَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ رَجُلًا لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ الْقَتْلُ وَمَحَلُّهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْعُنُقُ إذْ لَا يُبَاحُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِقَطْعِ الْيَدِ وَذَبْحِ الشَّاةِ، وَلَهُمَا أَنَّ مَحَلَّهُ مِنْ الْعُنُقِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ بِخِلَافِ الْقَطْعِ فَإِنَّ مَحَلَّهُ مِنْ الْيَدِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمَفْصِلُ، وَكَذَا مَحَلُّ الذَّبْحِ الْحُلْقُومُ وَالْوَدَجَانِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ اُقْتُلْ هَذَا الذِّئْبَ أَوْ هَذَا الْأَسَدَ وَلَك دِرْهَمٌ وَهُمَا صَيْدٌ لَيْسَا لِلْمُسْتَأْجِرِ فَقَتَلَهُ: فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا أُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْأَسَدَ وَالذِّئْبَ إذَا لَمْ يَكُونَا فِي يَدِهِ فَيُحْتَاجَ فِي قَتْلِهِمَا إلَى الْمُعَالَجَةِ فَكَانَ الْعَمَلُ مَجْهُولًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ الصَّيْدُ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ سَبَبٌ لِتَمَلُّكِهِ وَعَمَلُ الْأَجِيرِ يَقَعُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: اسْتَأْجَرْتُك لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ، أَوْ لِتُقَصِّرَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ، أَوْ لِتَخْبِزَ قَفِيزَ دَقِيقٍ الْيَوْمَ، أَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك هَذَا الْيَوْمَ لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ لِتُقَصِّرَ، أَوْ لِتَخْبِزَ قَدَّمَ الْيَوْمَ أَوْ أَخَّرَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ الدَّابَّةَ إلَى الْكُوفَةِ أَيَّامًا مُسَمَّاةً فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْعَمَلُ مَعْلُومٌ، فَأَمَّا ذِكْرُ الْمُدَّةِ فَهُوَ التَّعْجِيلُ فَلَمْ تَكُنْ الْمُدَّةُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، فَذِكْرُهَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ، وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَمَلِ فَإِنْ فَرَغَ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ أَيْ الْيَوْمَ فَلَهُ كَمَالُ الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ فِي الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ، كَمَا إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيُقَطِّعَهُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا، أَوْ اكْتَرَى مِنْ رَجُلٍ إبِلًا إلَى مَكَّةَ عَلَى أَنْ يُدْخِلَهُ إلَى عِشْرِينَ لَيْلَةٍ كُلُّ بَعِيرٍ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ مَثَلًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ، ثُمَّ إنْ وَفَى بِالشَّرْطِ أَخَذَ الْمُسَمَّى وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى مَا شَرَطَهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَمْرَيْنِ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، أَعْنِي الْعَمَلَ وَالْمُدَّةَ أَمَّا الْعَمَلُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا ذَكَرَ الْمُدَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْخِبَازَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ قَدْرِ مَا يَخْبِزُ جَازَ وَكَانَ الْجَوَابُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ، وَالْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ بِالْوَقْتِ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودًا عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمُدَّةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَجِيرًا خَالِصًا، وَالْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا، فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَحَدَهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي يَوْمِي هَذَا لَيْسَ جَعْلُ الْوَقْتِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَيَانُ صِفَةِ الْعَمَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ فِي الْيَوْمِ وَعَمِلَ فِي الْغَدِ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَلَوْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ هَذِهِ الْأُخْرَى شَهْرًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي حَانُوتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا أَوْ إلَى مَكَّةَ بِكَذَا فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا، وَعَلَى هَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَإِنْ ذَكَرَ أَرْبَعَةً لَمْ يَجُزْ وَعَلَى هَذَا أَنْوَاعُ الْخِيَاطَةِ وَالصِّبْغِ أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً جَازَ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ مَا زَادَ عَلَيْهَا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إذَا أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَنَا أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مَعْلُومَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُتَقَوَّمَيْنِ بِبَدَلَيْنِ مَعْلُومَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ رَدَدْت الْآبِقَ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا، وَإِنْ رَدَدْتَهُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ خِطْتَ هَذَا الْآخَرَ فَبِدِرْهَمٍ، وَعَمَلُهُمَا سَوَاءٌ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إنْ سِرْت عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ سِرْت إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ، وَالْمَسَافَةُ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الْعَقْدَ أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ غَيْرِ عَيْنٍ فَنَعَمْ لَكِنْ فُوِّضَ خِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ قَفِيزٍ مِنْ الصُّبْرَةِ؛ وَلِهَذَا جَازَ الْبَيْعُ فَالْإِجَارَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ مِنْ الْبَيْعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَقْبَلُ مِنْ الْخَطَرِ مَا لَا يَقْبَلُهُ الْبَيْعُ؛ وَلِهَذَا جَوَّزُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَلَمْ يُجَوِّزُوا الْبَيْعَ إلَّا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَالَ لَهُ: إنْ خِطْتَهُ فَارِسِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتَهُ رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمَانِ، أَوْ قَالَ لِصَبَّاغٍ: إنْ صَبَغْت هَذَا الثَّوْبَ بِعُصْفُرٍ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ صَبَغْته بِزَعْفَرَانٍ فَلَكَ دِرْهَمَانِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ إيفَاءِ مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ فَلَا جَهَالَةَ؛ وَلِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَحِينَ يَأْخُذُ فِي أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْأَجْرُ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا عَلَى أَنَّك إنْ قَعَدْت فِيهَا حَدَّادًا فَأَجْرُهَا عَشْرَةٌ، وَإِنْ بِعْت فِيهَا الْخَزَّ فَخَمْسَةٌ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَخِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِالسُّكْنَى وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ، وَحَالَةُ التَّخْلِيَةِ لَا يَدْرِي مَا يَسْكُنُ فَكَانَ الْبَدَلُ عِنْدَهُ مَجْهُولًا بِخِلَافِ الرُّومِيِّ، وَالْفَارِسِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ يَجِبُ بِابْتِدَاءِ الْعَمَلِ، ولابد وَأَنْ يَبْتَدِئَ بِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الْبَدَلُ وَيَصِيرُ مَعْلُومًا عِنْدَ وُجُودِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي خِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ السُّكْنَى وَعَمَلَ الْحِدَادَةِ مُخْتَلِفَانِ، وَالْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ عَلَى الِانْفِرَادِ فَكَذَا عَلَى الْجَمْعِ، وَقَوْلُهُمَا بِأَنَّ الْأَجْرَ هاهنا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ عِنْدَ التَّمْكِينِ مِنْ الِانْتِفَاعِ هُوَ الْغَالِبِ فَلَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، عَلَى أَنَّ بِالتَّخْلِيَةِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَجِبُ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ، وَلَمْ تُوجَدْ زِيَادَةُ الضَّرَرِ وَأَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ مَعْلُومٌ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ، وَهَذَا جَوَابُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَا كَانَ أَجْرُهُ يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَلَا يُعْلَمُ الْوَاجِبُ بِهِ وَقْتَ التَّسْلِيمِ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَقْدُ جَائِزٌ، وَأَيُّ التَّعْيِينِ اُسْتُوْفِيَ وَجَبَ أَجْرُ ذَلِكَ كَمَا سُمِّيَ وَإِنْ أَمْسَكَ الدَّارَ وَلَمْ يَسْكُنْ فِيهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْمُسَمَّيَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ إلَّا أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَعِيرًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَبِدِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ وَإِلَى الْقَادِسِيَّةِ بِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ بَغْدَادَ إلَى الْقَصْرِ بِخَمْسَةٍ وَإِلَى الْكُوفَةِ بِعَشْرَةٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ النِّصْفَ مِنْ الطَّرِيقِ إلَى الْكُوفَةِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إذَا كَانَتْ النِّصْفَ فَحَالَ مَا يَسِيرُ يَصِيرُ الْبَدَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ أَوْ إلَى الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ خَمْسَةٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ (1) أَوْ أَكْثَرَ فَالْأُجْرَةُ حَالَ مَا يَسِيرُ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ فَالْأُجْرَةُ خَمْسَةٌ وَإِنْ سَارَ إلَى الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمَسَافَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ عِنْدَهُمَا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مَعْلُومٌ وَلَوْ أَعْطَى خَيَّاطًا ثَوْبًا فَقَالَ: إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي فَاسِدٌ، حَتَّى لَوْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ، وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ بَاطِلَانِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، فَنَتَكَلَّمُ مَعَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا خَالَفَا أَصْحَابَنَا الثَّلَاثَةَ فِيهِ، وَالْوَجْهُ لَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَلَنَا أَنَّهُ سَمَّى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا مَعْلُومًا، وَفَسَادُ الشَّرْطِ الثَّانِي لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ كَمَنْ عَقَدَ إجَارَةً صَحِيحَةً وَإِجَارَةً فَاسِدَةً.
وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُمِّيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا مَعْلُومًا كَمَا فِي الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِفَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ، كَمَا لَا يَفْسُدُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلَانِ مُتَفَاوِتَانِ فِي الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جُعِلَ مَشْرُوطًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِلْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلًا آخَرَ وَعَمِلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فِي الْأَوَّلِ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ الْمَذْكُورَ مِنْ الْبَدَلِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَشْرُوطًا فِي الثَّانِي لَمَا اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى، وَإِذَا اجْتَمَعَ بَدَلَانِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَكَ دِرْهَمٍ أَوْ نِصْفُ دِرْهَمٍ فَكَانَ الْأَجْرُ مَجْهُولًا فَوَجَبَ فَسَادُ الْعَقْدِ، فَإِذَا خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ، وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هِيَ الصَّحِيحَةُ، وَوَجْهُهَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى، وَالْمُسَمَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي نِصْفُ دِرْهَمٍ لَا دِرْهَمٌ إنَّمَا الدِّرْهَمُ مُسَمًّى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ عَقْدٌ آخَرُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى عِنْدَ مَجِيءِ الْغَدِ قَائِمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَيُعْمَلُ بِهِمَا فَتُعْتَبَرُ الْأُولَى لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ، وَالثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ، فَإِنْ خَاطَ نِصْفَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَنِصْفَهُ فِي الْغَدِ فَلَهُ نِصْفُ الْمُسَمَّى لِأَجْلِ خِيَاطَتِهِ فِي الْيَوْمِ وَأَجْرُ الْمِثْلِ لِأَجْلِ خِيَاطَتِهِ فِي الْغَدِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ عَنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ لَمْ يَرْضَ بِتَأْخِيرِهِ إلَى الْغَدِ بِأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، فَبِتَأْخِيرِهِ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَوْلَى، فَإِنْ قَالَ: إنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَا أَجْرَ لَك، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي إمْلَائِهِ أَنَّهُ إنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي وُجُوبَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَنَفْيُ التَّسْمِيَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي أَصْلَ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَقْدٌ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَوْ قَالَ: إنْ خِطْته أَنْتَ فَأَجْرُكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خَاطَهُ تِلْمِيذُكَ فَأَجْرُك نِصْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا وَالْخِيَاطَةُ الرُّومِيَّةُ، وَالْفَارِسِيَّةُ سَوَاءٌ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا شَهْرًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَنَهَا يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَعَلَيْهِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَهُوَ سُكْنَى شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَعْقُودِ بِدُونِهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآبِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَتِهِ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْمَشَاعِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّهَا جَائِزَةٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي الْمَشَاعِ، كَذَا هَذَا، فَلَوْ امْتَنَعَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ بِسَبَبِ الشِّيَاعِ، وَالْمَشَاعُ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِالْمُهَايَأَةِ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهُ، وَكَذَا يَجُوزُ مِنْ الشَّرِيكِ أَوْ مِنْ الشُّرَكَاءِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ لَا يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ فَكَذَا الْمُقَارِنُ؛ لِأَنَّ الطَّارِئَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ مُقَارِنٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ يَحْدُثُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ مُبْتَدَأً.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشَاعِ غَيْرُ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا بِتَسْلِيمِ الْمَشَاعِ وَالْمَشَاعُ غَيْرُ مَقْدُورٍ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِسَهْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ بِنَفْسِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ بِتَسْلِيمِ الْبَاقِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةِ الْمَشَاعِ بِالتَّهَايُؤِ فَنَقُولُ لَا يُمْكِنُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالنِّصْفِ فِي كُلِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ بِالزَّمَنِ انْتِفَاعٌ بِالْكُلِّ فِي نِصْفِ الْمُدَّةِ وَهَذَا لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالتَّهَايُؤُ بِالْمَكَانِ انْتِفَاعٌ بِرَفْعِ الْمُسْتَأْجَرِ فِي كُلِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ هَذَا النِّصْفِ لَهُ بِالْمِلْكِ وَنِصْفَهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ أَيْضًا فَإِذًا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيه الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا الْعَقْدِ بِالْمُهَايَأَةِ يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُهَايَأَةَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ، وَلَا عَقْدَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ فَيَتَعَلَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَبِيعِ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فَإِنَّ بَيْعَ الْمُهْرِ وَالْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا وَلِهَذَا يَدْخُلُ الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسْتَأْجِرِ مُنْتَفِعًا بِهِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِدُونِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ مِنْ الشَّرِيكِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ بِدُونِ الْمُهَايَأَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ الدَّارِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ لَكِنْ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بَعْضُهَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَبَعْضُهَا بِسَبَبِ الْإِجَارَةِ وَكَذَا الشُّيُوعُ الطَّارِئُ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ كَالْمُقَارِنِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَفْسُدُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ، وَوَجْهُهَا أَنَّ عَدَمَ الشُّيُوعِ عِنْدَهُ شَرْطُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُشْتَرَطُ لِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ كَالْخُلُوِّ عَنْ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَذَا هَذَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ كُلُّهَا لِرَجُلٍ فَأَجَرَ نِصْفَهَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبُهُ مِنْ رَجُلٍ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ نَصًّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ذَكَرَ أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ أَنَّ إجَارَةَ الْمَشَاعِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا أَجَرَ الرَّجُلُ بَعْضَ مِلْكِهِ فَأَمَّا إذَا أَجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى تَقَعُ الْمُهَايَأَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَبَيْنَ الْمُؤَاجِرِ مُدَّةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُؤَاجِرُ الْأَجْرَ مَعَ كَوْنِ الدَّارِ فِي يَدِهِ وَالْمُهَايَأَةُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا تَقَعُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُؤَاجِرِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ وَأُجْرَتُهَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَعَارَهَا ثُمَّ أَجَرَهَا وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَانِعِ يَعُمُّ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الْمَانِعَ ثَمَّةَ خَصَّ الْمُحْتَمِلَ لِلْقِسْمَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَلَوْ آجَرَ مَشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَقُسِّمَ وَسَلِمَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ كَمَا لَوْ بَاعَ الْجِذْعَ فِي السَّقْفِ ثُمَّ نَزَعَ وَسَلِمَ وَكَمَا لَوْ وَهَبَ مَشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ قُسِمَ وَسَلِمَ فَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَأَبْطَلَ الْحَاكِمُ الْإِجَارَةَ ثُمَّ قُسِمَ وَسَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ مِنْ الْأَصْلِ بِإِبْطَالِ الْحَاكِمِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ وَيَجُوزُ إجَارَةُ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَدْخُلُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ وَيَسْتَوْفِيهَا مِنْ غَيْرِ مُهَايَأَةٍ وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَاجِرَيْنِ حَتَّى انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ فِي حِصَّتِهِ لَا تُنْقَضُ فِي حِصَّةِ الْحَيِّ وَإِنْ صَارَتْ مُشَاعَةً، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالشُّيُوعِ الطَّارِئِ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا يَجُوزُ رَهْنُ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ وَهِبَةُ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ لِعَدَمِ الشُّيُوعِ عِنْدَ الْقَبْضِ، وَكَذَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَاحِدِ مِنْ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْآجِرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ شِيَاعٍ ثُمَّ ثَبَتَ الشِّيَاعُ لِضَرُورَةِ تَفَرُّقِ مِلْكَيْهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ قِسْمَةَ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّهَايُؤِ فَيَنْعَدِمُ الشُّيُوعُ وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجِرِينَ حَتَّى اُنْتُقِضَتْ الْإِجَارَةُ فِي حِصَّتِهِ بَقِيَتْ فِي حِصَّةِ الْحَيِّ كَمَا كَانَتْ، وَيَجُوزُ رَهْنُ الْوَاحِدِ مِنْ اثْنَيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ فَجَمِيعُ الرَّهْنِ يَكُونُ وَثِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُرْتَهِنِينَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ الرَّهْنِ.
وَأَمَّا هِبَةُ الْوَاحِدِ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي بَابِ الْهِبَةِ يَقَعُ بِالْقَبْضِ وَالشُّيُوعُ ثَابِتٌ عِنْدَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ الْقَبْضِ فَيَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْمِلْكِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ لِلْآجِرِ أَوْ شَجَرٌ أَوْ قَصَبٌ أَوْ كَرْمٌ أَوْ مَا يَمْنَعُ مِنْ الزِّرَاعَةِ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَالِ الْمُؤَاجِرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُهُ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَلَمْ تَجُزْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى جِذْعًا فِي سَقْفٍ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا رُطَبَةٌ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَلْعُ الرُّطَبَةِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ مَقْدُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَلَمْ تَجُزْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى جِذْعًا فِي سَقْفٍ فَإِنْ قَلَعَ رَبُّ الْأَرْضِ الرُّطَبَةَ فَقَالَ لِلْمُسْتَأْجِرِ: اقْبِضْ الْأَرْضَ فَقَبَضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ فَصَارَ كَشِرَاءِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ إذَا نَزَعَهُ الْبَائِعُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَ الْحَاكِمُ الْإِجَارَةَ ثُمَّ قَلَعَ الرُّطَبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بِإِبْطَالِ الْحَاكِمِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ فَإِنْ مَضَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا ثُمَّ قَلَعَ الرُّطَبَةَ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا عَلَى تِلْكَ الْإِجَارَةِ وَطَرَحَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْ فَرْقًا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الدَّارِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُؤَاجِرُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَكُونُ لَهُ خِيَار التَّرْك، وَوَجْه الْفَرْقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ الزِّرَاعَةُ، وَالزِّرَاعَةُ لَا تُمْكِنُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بَلْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَتَخْتَلِفُ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ فَالْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا يَقِفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَيَكُونُ الْكُلُّ كَمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا مَضَى بَعْضُهَا فَقَدْ تُغَيَّرُ عَلَيْهِ صِفَةُ الْعَقْدِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْقُودِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِخِلَافِ إجَارَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا السُّكْنَى وَسُكْنَى كُلِّ يَوْمٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِيَوْمٍ آخَرَ فَلَا يَقِفُ بَعْضُ الْمُدَّةِ فِيهَا عَلَى بَعْضٍ فَلَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْبَاقِي فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلَوْ اشْتَرَى أَطْرَافَ رُطَبَةٍ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِتَبْقِيَةِ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الرُّطَبَةِ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ فَكَانَتْ الْأَرْضُ مَشْغُولَةً بِمِلْكِ الْمُؤَاجِرِ وَاسْتِئْجَارُ بُقْعَةٍ مَشْغُولَةٍ بِمَالِ الْمُؤَاجِرِ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا مَشْغُولَةً بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ فَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَاسْتِئْجَارِ أَرْضٍ فِيهَا زَرْعُ الْمُؤَاجِرِ وَلَوْ اشْتَرَى الرُّطَبَةَ بِأَصْلِهَا لِيَقْلَعَهَا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِتَبْقِيَتِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ هاهنا مَشْغُولَةٌ بِمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْإِجَارَةَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ مَا هُوَ فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى شَجَرَةً فِيهَا ثَمَرٌ بِثَمَرِهَا عَلَى أَنْ يَقْلَعَهَا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ فَبَقَّاهَا فِيهَا جَازَ لِمَا قُلْنَا قَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِنْ اسْتَعَارَ الْأَرْضَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ بِالْإِعَارَةِ أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِهِ فَيَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ اسْتِئْجَارِ الْفَحْلِ لِلْإِنْزَاءِ وَاسْتِئْجَارِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْبَازِي الْمُعَلَّمِ لِلِاصْطِيَادِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهُ غَيْرُ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ إذْ لَا يُمْكِنُ إجْبَارُ الْفَحْلِ عَلَى الضِّرَابِ وَالْإِنْزَالِ وَلَا إجْبَارُ الْكَلْبِ وَالْبَازِي عَلَى الصَّيْدِ فَلَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي هِيَ مَعْقُودٌ عَلَيْهَا مَقْدُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ تَجُزْ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْإِنْسَانِ لِلْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ بِوَاحِدٍ بَلْ بِالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلَا يَقْدِرُ الْأَجِيرُ عَلَى إيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ خَشَبَةً بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ وَلَوْ ضَرَبَ لِذَلِكَ مُدَّةً بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ شَهْرًا لِيَبِيعَ لَهُ وَيَشْتَرِيَ جَازَ لِمَا مَرَّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالصَّنَائِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَإِنْ شِئْتَ أَفْرَدْت لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَرْطًا فَقُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْعَامِلِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ وَخُرِّجَتْ الْمَسَائِلُ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصِّنَاعَةِ فَافْهَمْ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ غَيْرِ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا كَاسْتِئْجَارِ الْإِنْسَانِ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَكَاسْتِئْجَارِ الْمُغَنِّيَةِ، وَالنَّائِحَةِ لِلْغِنَاءِ، وَالنَّوْحِ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ لِكِتَابَةِ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ أَنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ نَفْسُ الْغِنَاءِ، وَالنَّوْحِ لَا كِتَابَتُهُمَا وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْتُلَ لَهُ رَجُلًا أَوْ لِيَسْجُنَهُ أَوْ لِيَضْرِبَهُ ظُلْمًا وَكَذَا كُلُّ إجَارَةٍ وَقَعَتْ لِمَظْلَمَةٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَقٍّ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِقَطْعِ عُضْوٍ جَازَ.
لِأَنَّهُ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَعْلُومٌ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَضَعَ السِّكِّينَ عَلَيْهِ فَيَقْطَعَهُ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِقِصَاصٍ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَتَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ يَقُولُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ هُوَ حَزُّ الرَّقَبَةِ وَالرَّقَبَةُ مَعْلُومَةٌ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِذَبْحِ الشَّاةِ وَقَطْعِ الْيَدِ وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْقَتْلَ بِضَرْبِ الْعُنُقِ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَافِي عَنْ الْمَضْرُوبِ فَرُبَّمَا يُصِيبُ الْعُنُقَ وَرُبَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ أَصَابَ كَانَ مَشْرُوعًا وَإِنْ عَدَلَ كَانَ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُثْلَةً وَإِنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَشْقِيقِ الْحَطَبِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَافِي فَكُلُّهُ مُبَاحٌ وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَطْعُ وَالذَّبْحُ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَقَعُ بِوَضْعِ السِّكِّينِ عَلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْيَدِ وَهُوَ الْمِفْصَلُ وَإِمْرَارِهِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الذَّبْحُ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ بِيعَةً لِيُصَلِّيَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيِّ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ جَمَاعَةٍ أَوْ يَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا لِيَخْدُمَهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةَ الذِّمِّيِّ أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ اسْتِذْلَالٌ فَكَأَنَّ إجَارَةَ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنْهُ إذْلَالًا لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ خُصُوصًا بِخِدْمَةِ الْكَافِرِ.
وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجُوزُ كَالْبَيْعِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا الْخَلْوَةُ فَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ.
وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِنَقْلِ الْمَيْتَاتِ وَالْجِيَفِ وَالنَّجَاسَاتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ أَذِيَّتِهَا عَنْ النَّاسِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ لَتَضَرَّرَ بِهَا النَّاسُ وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأُجْرَةِ الْكَنَّاسِ أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُخْرِجَ لَهُ حِمَارًا مَيِّتًا، أَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَقْلِ الْمَيِّتِ الْكَافِرِ إلَى الْمَقْبَرَةِ؛ لِأَنَّهُ جِيفَةٌ فَيَدْفَعُ أَذِيَّتَهَا عَنْ النَّاسِ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ.
وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: اُبْتُلِينَا بِمَسْأَلَةِ مَيِّتٍ مَاتَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَاسْتَأْجَرُوا لَهُ مَنْ يَحْمِلُهُ إلَى مَوْضِعٍ فَيَدْفِنُهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَرَادَ بِذَلِكَ: إذَا اسْتَأْجَرُوا لَهُ مَنْ يَنْقُلُهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَجْرَ لَهُ وَقُلْت أَنَا: إنْ كَانَ الْحَمَّالُ الَّذِي حَمَلَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ جِيفَةٌ؛ فَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْأَجِيرَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جِيفَةٌ فَقَدْ نَقَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهُ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ غَرُّوهُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْغَرُورُ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلِأَبِي يُوسُفَ إنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ نَقْلُ الْجِيفَةِ وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِي نَقْلِهَا لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ رَفْعِ أَذِيَّتِهَا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ كَنَقْلِ الْمَيْتَةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا يَحْمِلُ لَهُ الْخَمْرَ فَلَهُ الْأَجْرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا أَجْرَ لَهُ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْخَمْرِ مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهِ إعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وَلِهَذَا لَعَنَ اللَّهُ تَعَالَى عَشْرَةً: مِنْهُمْ حَامِلُهَا وَالْمَحْمُولُ إلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ نَفْسَ الْحَمْلِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ حَمْلَهَا لِلْإِرَاقَةِ وَالتَّخْلِيلِ مُبَاحٌ وَكَذَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمَعْصِيَةِ وَهُوَ الشُّرْبُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَلَيْسَ الْحَمْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشُّرْبِ فَكَانَتْ سَبَبًا مَحْضًا فَلَا حُكْمَ لَهُ كَعَصْرِ الْعِنَبِ وَقَطْفِهِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ بِنِيَّةِ الشُّرْبِ وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، وَيُكْرَهُ أَكْلُ أُجْرَتِهِ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْإِمَاءِ لِلزِّنَا؛ لِأَنَّهَا إجَارَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: فِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ» وَهُوَ أَجْرُ الزَّانِيَةِ عَلَى الزِّنَا وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِلْحِجَامَةِ وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ أَمْرٌ مُبَاحٌ وَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ السُّحْتِ عَسْبُ التَّيْسِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ»؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِدَنَاءَةِ الْفِعْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إنَّ لِي حَجَّامًا وَنَاضِحًا فَأَعْلِفُ نَاضِحِي مِنْ كَسْبِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ».
وَرُوِيَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ دِينَارًا» وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ أَبَاهُ لِيَخْدُمَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَعْظِيمِ أَبِيهِ وَفِي الِاسْتِخْدَامِ اسْتِخْفَافٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا اسْتَأْجَرَهُ ابْنُهُ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَخْدُمَهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَبِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْأَبِ وَاجِبٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ الدِّينُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَهَذَا فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}، وَإِنْ شِئْت أَفْرَدْت لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَرْطًا وَخَرَّجْتَهَا عَلَيْهِ فَقُلْت: وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةَ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ لَكِنَّ فِي هَذَا شُبْهَةَ التَّدَاخُلِ فِي الشُّرُوطِ وَالصِّنَاعَةُ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكُهُ نَحْوُ مَا إذَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ طَعَامٌ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ وَالطَّعَامُ غَيْرُ مَقْسُومٍ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ أَوْ اسْتَأْجَرَ غُلَامَ صَاحِبِهِ أَوْ دَابَّةَ صَاحِبِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَإِذَا حَمَلَ لَا أَجْرَ لَهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هَذِهِ الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا حَمَلَ.
وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْأَجْرَ تَابِعٌ نِصْفَ مَنْفَعَةِ الْحَمْلِ الشَّائِعَةِ مِنْ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَتَصِحُّ فِي الشَّائِعِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ- وَهُوَ الْحَمْلُ- وَإِنْ صَادَفَ مَحَلًّا مُشْتَرَكًا وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ فَيَسْتَحِقُّهَا بِالْعَمَلِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ.
وَلَنَا أَنَّهُ أَجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الشَّائِعِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ حَمْلُ نِصْفِ الطَّعَامِ تَبَايُعًا وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ يَقِفُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ بَيْتًا لَهُ لِيَضَعَ فِيهِ طَعَامًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا أَوْ سَفِينَةً أَوْ جُوَالِقًا أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ ثَمَّةَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْوَضْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ السَّفِينَةَ وَالْبَيْتَ وَالْجُوَالِقَ وَلَمْ يَضَعْ وَجَبَ الْأَجْرُ وَهَاهُنَا لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعَمَلِ وَهُوَ الْحَمْلُ وَالْمَشَاعُ غَيْرُ مَقْدُورِ الْحَمْلِ بِنَفْسِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي طَعَامٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا سَفِينَةٌ وَأَرَادَا أَنْ يُخْرِجَا الطَّعَامَ مِنْ بَلَدِهِمَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ السَّفِينَةِ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَطْحَنَا الطَّعَامَ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الرَّحَى الَّذِي لِشَرِيكِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ أَنْصَافَ جُوَالِقِهِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ الطَّعَامَ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ إجَارَةَ الْمَشَاعِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْأُجْرَةَ إلَّا بِالْعَمَلِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْحَمْلِ مُشْتَرَكَةً وَمَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِيهِ لِوَضْعِ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي الْمُسْتَأْجَرِ وَفِقْهُ هَذَا الْأَصْلِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ فِيهِ إلَّا بِالْعَمَلِ فلابد مِنْ إمْكَانِ إيفَاءِ الْعَمَلِ، وَلَا تَمْكِينَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ وَمَا لَا يَقِفُ وُجُوبُ الْأُجْرَةِ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِيفَاءِ بِدُونِهِ؛ فَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا بِعَيْنِهِ إلَى مَكَان مَخْصُوصٍ بِقَفِيزٍ مِنْهُ أَوْ اسْتَأْجَرَ غُلَامَهُ أَوْ دَابَّتَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَبَطَلَ مِنْ حَيْثُ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَصِيرُ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ وَهُوَ الْحَمْلُ فَكَانَ عَمَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا وَإِذَا حَمَلَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ قَفِيزًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ فَرْضًا وَلَا وَاجِبًا عَلَى الْأَجِيرِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَمَنْ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ أَفْضَالٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَبْدِ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ وَلِحَقِّ الشُّكْرِ لِلنِّعَمِ السَّابِقَةِ.
لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمَنْ قَضَى حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ لَا يَسْتَحِقُّ قِبَلَهُ الْأَجْرَ كَمَنْ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ فِي الشَّاهِدِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ فَيَجُوزُ.
وَلَنَا أَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَفْرُوضٍ فَلَا يَجُوزُ كَالِاسْتِئْجَارِ لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْأَجِيرِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُتَعَلِّمِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِحَمْلِ خَشَبَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْرَأَ رَجُلًا فَأَعْطَاهُ قَوْسًا فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ قَالَ: لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرُدَّهُ»، وَلَا عَلَى الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ عُمُومِ النَّفِيرِ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ وَإِذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ مَنْ يَغْزُو فِي أُمَّتِي وَيَأْخُذُ الْجُعْلَ عَلَيْهِ كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعَ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا»، وَلَا عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَأَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا وَلِأَنَّ» الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالْإِمَامَةِ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَعَنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ ثِقَلَ الْأَجْرِ يَمْنَعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الرَّبُّ- جَلَّ شَأْنُهُ- فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} فَيُؤَدِّي إلَى الرَّغْبَةِ عَنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أَيْ عَلَى مَا تُبَلِّغُ إلَيْهِمْ أَجْرًا وَهُوَ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» فَكَانَ كُلُّ مُعَلِّمٍ مُبَلِّغًا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى مَا يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا؛ فَكَذَا لِمَنْ يُبَلِّغُ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبْلِيغٌ مِنْهُ مَعْنًى وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ وَكَذَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى غُسْلِ الْمَيِّتِ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَيَجُوزُ عَلَى حَفْرِ الْقُبُورِ.
وَأَمَّا عَلَى حَمْلِ الْجِنَازَةِ فَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ إنْ كَانَ يُوجَدُ غَيْرُهُمْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُمْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَيْهِمْ وَاجِبٌ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ لِيَخْدُمَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ الْحُرِّ وَاجِبَةٌ عَلَى الِابْنِ الْحُرِّ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا وَالْأَبُ حُرًّا فَاسْتَأْجَرَ ابْنَهُ مِنْ مَوْلَاهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَبْدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ خِدْمَةُ الْأَبِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ خِدْمَةُ أَبِيهِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَتَهُ لِتَخْدُمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَسَّمَ الْأَعْمَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ، وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَجَعَلَ مَا كَانَ دَاخِلَ الْبَيْتِ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَمَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى عَمَلٍ وَاجِبٍ فَلَمْ يَجُزْ وَلِأَنَّهَا تَنْتَفِعُ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى عَمَلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْأَجِيرُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الزَّوْجَةِ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِئْجَارٌ عَلَى خِدْمَةِ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا اللَّبَنُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى أَمْرٍ عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الزَّوْجَةَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَأُجْرَةُ الرَّضَاعِ تَجْرِي مَجْرَى النَّفَقَةِ فَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَتَيْنِ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ لِلْوَلَدِ مَالٌ فَاسْتَأْجَرَهَا لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ جَازَ كَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الْوَلَدِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ نَفَقَتَيْنِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لِوَلَدِهِ مِنْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ اللَّاتِي لَهُنَّ حَضَانَتُهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ خِدْمَةُ الْبَيْتِ وَلَا نَفَقَةَ لَهُنَّ عَلَى أَبُ الْوَلَدِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الزَّوْجَةِ لِتُرْضِعَ وَلَدَهُ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا خِدْمَةُ وَلَدِ غَيْرِهَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَى إرْضَاعِ وَلَدِهِ خَادِمَ أُمِّهِ فَخَادِمُهَا بِمَنْزِلَتِهَا فَمَا جَازَ فِيهَا جَازَ فِي خَادِمِهَا وَمَا لَمْ يَجُزْ فِيهَا لَمْ يَجُزْ فِي خَادِمِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِمَنْفَعَةِ خَادِمِهَا فَصَارَ كَنَفَقَتِهَا وَكَذَا مُدَبَّرَتُهَا؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ مَنَافِعَهَا فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مُكَاتَبَتَهَا جَازَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَنَافِعَ الْمُكَاتَبَةِ فَكَانَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فِي الْبَيْتِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الزَّوْجِ فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ وَاجِبٍ عَلَى الْأَجِيرِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ لِرَعْيِ غَنَمِهَا؛ لِأَنَّ رَعْيَ الْغَنَمِ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ شِئْت عَبَّرْت عَنْ هَذَا الشَّرْطِ فَقُلْت: وَمِنْهَا أَنْ لَا يَنْتَفِعَ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْإِفْضَالِ لَا الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِيمَا يَعْمَلُهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ، وَالطَّاعَاتِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَيْضًا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّاعَاتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ وَاجِبَةً أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ مَوْعُودٌ لِلْمُطِيعِ عَلَى الطَّاعَةِ فَيَنْتَفِعُ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَطْحَنَ لَهُ قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ بِرُبُعٍ مِنْ دَقِيقِهَا أَوْ لِيَعْصِرَ لَهُ قَفِيزًا مِنْ سِمْسِمٍ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ دُهْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ مِنْ الطَّحْنِ وَالْعَصْرِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» وَلَوْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَائِكَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ الْحِيَاكَةُ وَكَذَا هُوَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مَنْهِيًّا وَإِذَا حَاكَهُ فَلِلْحَائِكِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ لِاسْتِيفَائِهِ الْمَنْفَعَةَ بِأُجْرَةٍ فَاسِدَةٍ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بِبَلْخٍ جَوَّزَ هَذِهِ الْإِجَارَةَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَنَصْرُ بْنُ يَحْيَى.
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مَقْصُودَةً يُعْتَادُ اسْتِيفَاؤُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَيَجْرِي بِهَا التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَلَا حَاجَةَ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِلنَّاسِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِظْلَالِ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنْ الشَّجَرِ وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةَ شَجَرَةٍ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الشَّجَرَةَ لِتَبْقِيَةِ ذَلِكَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مِنْ الشَّجَرِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ تَبْقِيَةُ الثَّمَرِ عَلَيْهَا فَلَمْ تَكُنْ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً عَادَةً وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا ذَلِكَ الشَّجَرِ يَصِيرُ مُسْتَأْجَرًا بِاسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الشَّجَرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا اسْتَأْجَرَ ثِيَابًا لِيَبْسُطَهَا بِبَيْتٍ لِيُزَيِّنَ بِهَا وَلَا يَجْلِسُ عَلَيْهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ بَسْطَ الثِّيَابِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ لَيْسَ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً عَادَةً وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَجْنُبَهَا يَتَزَيَّنُ بِهَا: فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْدَ الدَّابَّةِ لِلتَّزَيُّنِ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيُزَيَّنَ الْحَانُوتُ، وَلَا اسْتِئْجَارُ الْمِسْكِ، وَالْعُودِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَشْمُومَاتِ لِلشَّمِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَادُ اسْتِيفَاؤُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضَ الْمُؤَاجِرِ إذَا كَانَ مَنْقُولًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَبْضِهِ فَلَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» وَالْإِجَارَةُ نَوْعُ بَيْعٍ فَتَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ لِاحْتِمَالِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ أَنَّهَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا تَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ فِي الْإِجَارَةِ لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَا يُقَابِلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ وَالْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالثَّمَنِ فِي الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَمَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ يَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ وَمَا لَا فَلَا وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَالْأَصْلُ فِي شَرْطِ الْعِلْمِ بِالْأُجْرَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَالْعِلْمُ بِالْأُجْرَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ أَوْ بِالْبَيَانِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَجْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ وَإِمَّا إنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَوْ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَيَكُونُ تَعْيِينُهَا كِنَايَةً عَنْ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالنَّوْعِ، وَالْقَدْرِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ؛ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَالثَّبَاتُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالنَّوْعِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ إلَّا أَنَّ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا نَقْدٌ وَاحِدٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى ذِكْرِ النَّوْعِ، وَالْوَزْنِ وَيُكْتَفَى بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَيَقَعُ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، وَوَزْنِ الْبَلَدِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ يَقَعُ عَلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ غَالِبَةٌ لابد مِنْ الْبَيَانِ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَسَدَ الْعَقْدُ ولابد مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْأَجَلُ؟ فَفِي الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا بِطَرِيقِ السَّلَمِ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ بَلْ بِطَرِيقِ الْقَرْضِ فَكَانَ لِثُبُوتِهَا أَجَلَانِ فَإِنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ جَازَ وَثَبَتَ الْأَجَلُ كَالسَّلَمِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جَازَ كَالْقَرْضِ.
وَأَمَّا فِي الثِّيَابِ فلابد مِنْ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا مُؤَجَّلًا فَكَانَ لِثُبُوتِهَا أَجْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ السَّلَمُ فلابد فِيهَا مِنْ الْأَجَلِ كَالسَّلَمِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ كَالْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ فَلَا يَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ بِأَنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا التَّعْجِيلُ فَحُكْمُ التَّصَرُّفِ فِيهَا نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا كَانَ مِنْهَا عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الثَّمَنِ إذَا كَانَ عَيْنًا حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْقُولًا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَبِطَعَامِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَبِعَلْفِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ أَوْ الْعَلَفَ يَصِيرُ أُجْرَةً وَهُوَ مَجْهُولٌ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً وَالْقِيَاسُ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ وَهِيَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الْوَالِدَةُ مَنْكُوحَةً أَوْ مُطَلَّقَةً وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أَيْ: الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ وَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلُودِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} نَفَى اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْجُنَاحَ عَنْ الِاسْتِرْضَاعِ مُطْلَقًا وَقَوْلُهُمَا: الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةٌ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْمُسَامَحَةِ مَعَ الْأَظْآرِ، وَالتَّوْسِيعُ عَلَيْهِنَّ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ فَأَشْبَهَتْ جَهَالَةَ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَشَرَطَ الْآجِرُ تَطْيِينَ الدَّارِ وَمَرَمَّتَهَا أَوْ تَعْلِيقَ بَابٍ عَلَيْهَا أَوْ إدْخَالَ جِذْعٍ فِي سَقْفِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ يَصِيرُ أُجْرَةً وَهُوَ مَجْهُولٌ فَتَصِيرُ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً وَكَذَا إذَا آجَرَ أَرْضًا وَشَرَطَ كَرْيَ نَهْرِهَا أَوْ حَفْرَ بِئْرِهَا أَوْ ضَرْبَ مُسَنَّاةٍ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ فَإِذَا شُرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ جَعَلَهُ أُجْرَةً وَهُوَ مَجْهُولٌ فَصَارَتْ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى، وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ، وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ بِالزِّرَاعَةِ حَتَّى لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ جَازَ كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالْخِدْمَةِ وَالْخِدْمَةِ بِالرُّكُوبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَرْعٌ فِي كَيْفِيَّةِ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ فَعِنْدَنَا يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَكُنْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَنْفَعَتَيْنِ مُعَيَّنَةً بَلْ هِيَ مَعْدُومَةٌ وَقْتَ الْعَقْدِ فَيَتَأَخَّرُ قَبْضُ أَحَدِ الْمُسْتَأْجِرِينَ فَيَتَحَقَّقُ رِبَا النَّسَاءِ، وَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا كَإِسْلَامِ الْهَرَوِيِّ فِي الْهَرَوِيِّ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِيمَا حُكِيَ أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ كَتَبَ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ: إنَّك أَطَلْتَ الْفِكْرَةَ فَأَصَابَتْكَ الْحَيْرَةُ وَجَالَسْتَ الْجُبَّائِيَّ فَكَانَتْ مِنْك زَلَّةً أَمَا عَلِمْت أَنَّ بَيْعَ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي جِنْسَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: مَنَافِعُ الْمُدَّةِ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى النِّسْبَةِ وَلَوْ تَحَقَّقَ فَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ عِنْدَهُ وَتَعْلِيلُ مَنْ عَلَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَتَيْنِ مَعْدُومَتَانِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَكَانَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ غَيْرَ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِمَوْجُودٍ فِي الذِّمَّةِ أُخِّرَ بِالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ بِتَغْيِيرِ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَأَمَّا مَا لَا وُجُودَ لَهُ وَتَأَخَّرَ وُجُودُهُ إلَى وَقْتٍ فَلَا يُسَمَّى دَيْنًا وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ هِيَ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ شُرِعَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَلَا حَاجَةَ تَقَعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالْحَاجَةُ تَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَجُوزُ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ شَهْرًا بِخِدْمَةِ أَمَةٍ كَانَ فَاسِدًا لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ثُمَّ فِي إجَارَةِ الْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ إذَا خَدَمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَخْدُمْ الْآخَرُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا قَابَلَ الْمَنْفَعَةَ بِجِنْسِهَا وَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ فَقَدْ جَعَلَ بِإِزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فَكَانَ رَاضِيًا بِبَذْلِ الْمَنْفَعَةِ بِلَا بَدَلٍ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ لِمَا نَذْكُرُ تَحْقِيقَهُ أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ بَدَلٌ رَأْسًا بِأَنْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا وَلَمْ يُسَمِّ عِوَضًا أَصْلًا فَإِذَا سَمَّى الْعِوَضَ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ أَوْلَى وَقَالُوا فِي عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ تَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ فِيهِ فَخَدَمَ أَحَدَهُمَا يَوْمًا وَلَمْ يَخْدُمْ الْآخَرَ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُبَادَلَةٍ بَلْ هُوَ إفْرَازٌ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْعَبْدَيْنِ لِعَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْخِيَاطَةِ، وَالصِّيَاغَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْ اخْتَلَفَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الْجَامِعِ إذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ يَخِيطُ مَعَهُ شَهْرًا عَلَى أَنْ يَصُوغَ نَصِيبَهُ مَعَهُ فِي الشَّهْرِ الدَّاخِلِ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الْعَمَلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ إذَا كَانَا فِي عَبْدَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا مُهَايَأَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ إجَارَةٍ وَالْمُهَايَأَةُ مِنْ شَرْطِ جَوَازِهَا أَنْ تَقَعَ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُطْلَقَةِ فَأَمَّا أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ الْمَنْفَعَةَ فَلَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى رُكْنِ الْعَقْدِ فَخُلُوُّهُ عَنْ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ حَتَّى لَوْ أَجَرَهُ دَارِهِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ، وَزِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْعَقْدِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ.
يَكُونُ رِبًا أَوْ فِيهَا شُبْهَةُ الرِّبَا وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا شَرْطُ تَطْيِينِ الدَّارِ وَإِصْلَاحِ مِيزَابِهَا وَمَا وَهَى مِنْهَا وَإِصْلَاحِ بِئْرِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَفِي إجَارَةِ الْأَرْضِ وَطَعَامِ الْعَبْدِ وَعَلْفِ الدَّابَّةِ فِي إجَارَةِ الْعَبْدِ، وَالدَّابَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا يُلَائِمُهُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ مِمَّا سُمِّيَ أَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَسْكُنَ نَفَى مُوجَبَ الْعَقْدِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا.
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْأَجْرِ رَأْسًا إنْ لَمْ يَسْكُنْ وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ إنْ سَكَنَ فَظَاهِرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ إنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ هِيَ التَّمْكِينُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْفَسَادِ لِوُجُودِ الْمَنْعِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا فَأَشْبَهَ الْمَنْعَ الْحِسِّيَّ مِنْ الْعِبَادِ وَهُوَ الْغَصْبُ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ هُنَاكَ فَتَحَقَّقَ التَّسْلِيمُ فَلَئِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا يُسْقِطُ حَقَّ الْآجِرِ فِي الْأُجْرَةِ وَإِذَا سَكَنَ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُنْتَقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى فَفِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ إذَا كَانَ الْأَجْرُ مُسَمًّى وَقَدْ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إنَّهُ لَا يُنْقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى، مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ الْمَسْأَلَةُ مُؤَوَّلَةٌ تَأْوِيلُهَا: إنَّهُ لَا يُنْقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ أَجْرُ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى وَاحِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الرِّوَايَةَ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَالَ: إنَّ الْعَاقِدَيْنِ لَمْ يَجْعَلَا الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ حَيْثُ شَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ لَا يَسْكُنَ، وَلَا بِمُقَابَلَةِ التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ فَإِذَا سَكَنَ فَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا بَدَلٌ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ كَمَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةً أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ قَالَ: لَا يُنْقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى بِدُونِ الِانْتِفَاعِ فَعِنْدَ الِانْتِفَاعِ أَوْلَى وَلَوْ آجَرَهُ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ دَابَّتَهُ وَشَرَطَ تَسْلِيمَ الْمُسْتَأْجَرِ جَازَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِدُونِ الشَّرْطِ فَكَانَ هَذَا شَرْطًا مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا مُخَالِفًا لَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَّرَهُ عَلَى أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْفَعَةَ الْمُسْتَأْجَرِ وَلَوْ آجَرَ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ أَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِالْأُجْرَةِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا جَازَ إذَا كَانَ الرَّهْنُ مَعْلُومًا وَالْكَفِيلُ حَاضِرًا؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْتَضِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ.
وَأَمَّا شَرْطُ اللُّزُومِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ انْعِقَادٍ لَازِمًا مِنْ الْأَصْلِ، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى اللُّزُومِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقُّ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ حَقًّا لِلشَّرْعِ، فَضْلًا عَنْ الْجَوَازِ.
وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمُسْتَأْجَرِ عَيْبٌ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ الْقَبْضِ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِنْ كَانَ؛ لَمْ يَلْزَمْ الْعَقْدُ حَتَّى قَالُوا فِي الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ سَارِقٌ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ دَلَالَةً فَتَكُونُ كَالْمَشْرُوطِ نَصًّا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجَرُ مَرْئِيَّ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لَمْ يَرَهَا ثُمَّ رَآهَا فَلَمْ يَرْضَ بِهَا أَنَّهُ يَرُدُّهَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنْ رَضِيَ بِهَا بَطَلَ خِيَارُهُ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: سَلَامَةُ الْمُسْتَأْجَرِ عَنْ حُدُوثِ عَيْبٍ بِهِ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِنْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لَمْ يَبْقَ الْعَقْدُ لَازِمًا حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ أَوْ دَابَّةً يَرْكَبُهَا أَوْ دَارًا يَسْكُنُهَا فَمَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ عَرَجَتْ الدَّابَّةُ أَوْ انْهَدَمَ بَعْضُ بِنَاءِ الدَّارِ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ.
لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنَافِعِ مَعْقُودًا مُبْتَدَأً فَإِذَا حَدَثَ الْعَيْبُ بِالْمُسْتَأْجَرِ كَانَ هَذَا عَيْبًا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ كَذَا فِي الْإِجَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ الْعَيْبِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فَرَضِيَ بِهِ وَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ بِأَنْ صَحَّ الْعَبْدُ، وَزَالَ الْعَرَجُ عَنْ الدَّابَّةِ، وَبَنَى الْمُؤَاجِرُ مَا سَقَطَ مِنْ الدَّارِ بَطَلَ خِيَارُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْخِيَارِ قَدْ زَالَ وَالْعَقْدُ قَائِمٌ فَيَزُولُ الْخِيَارُ هَذَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ بَقِيَ الْعَقْدُ لَازِمًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إذَا ذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْخِدْمَةِ أَوْ سَقَطَ شَعْرُهُ أَوْ سَقَطَ مِنْ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ حَائِطٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي سُكْنَاهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا عَلَى الْعَيْنِ إذْ الْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ وَلَا نُقْصَانَ فِي الْمَنْفَعَةِ بَلْ فِي الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهَا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ وَتَغَيُّرُ عَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ الْحَادِثُ مِمَّا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ فَالنُّقْصَانُ يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الْخِيَارَ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ ثُمَّ إنَّمَا يَلِي الْفَسْخَ إذَا كَانَ الْمُؤَاجِرُ حَاضِرًا فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَحَدَثَ بِالْمُسْتَأْجَرِ مَا يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً يَزْرَعُهَا شَيْئًا ذَكَرَهُ فَزَرَعَهَا فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ مِنْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ فَذَهَبَ بِهِ وَتَأَخَّرَ وَقْتُ زِرَاعَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَزْرَعَ قَالَ: إنْ أَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ شَيْئًا غَيْرَهُ مِمَّا ضَرَرُهُ عَلَى الْأَرْضِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِهِ أَوْ مِثْلُ ضَرَرِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَسَخْت عَلَيْهِ الْإِجَارَةَ وَأَلْزَمْتَهُ أَجْرَ مَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ زِرَاعَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ كَانَ اسْتِيفَاءُ الْإِجَارَةِ إضْرَارًا بِهِ قَالَ: وَإِذَا نَقَصَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى حَتَّى صَارَ يَطْحَنُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ طِحْنِهِ فَذَلِكَ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ نُقْصَانُ الِانْتِفَاعِ وَلَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ كُلُّهَا أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى أَوْ انْقَطَعَ الشُّرْبُ عَنْ الْأَرْضِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ إشَارَةُ الرِّوَايَاتِ فِيهِ ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي إجَارَةِ الْأَصْلِ إذَا سَقَطَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا فَهَذَا دَلِيلُ الِانْفِسَاخِ حَيْثُ جُوِّزَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخُرُوجُ مِنْ الدَّارِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُؤَاجِرِ وَلَوْ لَمْ تَنْفَسِخْ تَوَقَّفَ جَوَازُ الْفَسْخِ عَلَى حُضُورِهِ وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ الدَّارِ قَدْ بَطَلَتْ بِالسُّقُوطِ إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا الِانْتِفَاعُ بِالسُّكْنَى وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ لَكِنْ يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ إذَا صَالَحَ عَلَى سُكْنَى دَارٍ فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَنْفَسِخْ الصُّلْحُ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا، وَقَبَضَهُ ثُمَّ انْهَدَمَ فَبَنَاهُ الْآجِرُ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ مَا بَنَاهُ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: آخُذُهُ، وَأَبَى الْآجِرُ لَيْسَ لِلْآجِرِ ذَلِكَ وَهَذَا يُجْرَى مَجْرَى النَّصِّ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَمْ تَنْفَسِخْ وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّارَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ بَقِيَتْ مُنْتَفَعًا بِهَا مَنْفَعَةَ السُّكْنَى فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَضْرِبَ فِيهَا خَيْمَةً فَلَمْ يَفُتْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ رَأْسًا فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّهُ إنْ فَاتَ كُلُّهُ لَكِنْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ وَهَذَا يَكْفِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ بِيَقِينٍ يَبْقَى لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ كَمَا أَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يُثْبَتُ بِالشَّكِّ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ الدَّارِ قَدْ بَطَلَتْ وَضَرْبُ الْخَيْمَةِ فِي الدَّارِ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَطْلُوبَةٍ مِنْ الدَّارِ عَادَةً فَلَا يُعْتَبَرُ بَقَاؤُهُ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَقَالَ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْبَيْتِ إذَا بَنَاهُ الْمُؤَاجِرُ: إنَّهُ لَمَّا بَنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ حَقِيقَةً وَإِنْ حُكِمَ بِفَسْخِهِ ظَاهِرًا فَيُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِانْفِسَاخِ عَقْدٍ فِي الظَّاهِرِ مَعَ التَّوَقُّفِ فِي الْحَقِيقَةِ اشْتَرَى شَاةً فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَدَبَغَ جِلْدَهَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِبَقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِانْفِسَاخِهِ ظَاهِرًا بِمَوْتِ الشَّاةِ كَذَا هاهنا وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَقَبْلَ الْبِنَاءِ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ حَقِيقَةً فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السَّفِينَةِ إذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا ثُمَّ بَنَاهَا الْمُؤَاجِرُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّفِينَةِ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْدَ فِي السَّفِينَةِ قَدْ انْفَسَخَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الصِّنَاعَةُ وَهِيَ التَّرْكِيبُ وَالْأَلْوَاحُ تَابِعَةٌ لِلصِّنَاعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ غَصَبَ خَشَبَةً فَعَمِلَهَا سَفِينَةً مَلَكَهَا فَكَانَ تَرْكِيبُ الْأَلْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ اتِّخَاذِ سَفِينَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِخِلَافِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ عَرْصَةَ الدَّارِ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِلْبِنَاءِ بَلْ الْعَرْصَةُ فِيهَا أَصْلٌ فَإِذَا بَنَاهَا فَقَدْ بَنَى تِلْكَ الدَّارَ بِعَيْنِهَا فَيُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ رَحَى مَاءٍ سَنَةً فَانْقَطَعَ الْمَاءُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَمْسَكَ الرَّحَى حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَعَلَيْهِ أَجْرٌ لِلسِّتَّةِ أَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّحَى قَدْ بَطَلَتْ فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِغَيْرِ الطَّحْنِ فَعَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَهُ حِصَّةٌ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا اسْتَوْفَى لَزِمَهُ حِصَّتُهُ فَإِنْ سَلَّمَ الْمُؤَاجِرُ الدَّارَ إلَّا بَيْتًا مِنْهَا ثُمَّ مَنَعَهُ رَبُّ الدَّارِ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْتِ فَلَا أَجْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ حِصَّةٌ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ الدَّارِ بِغَيْرِ الْبَيْتِ وَأَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا حَدَثَ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ وَتَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَشْهُرًا مُسَمَّاةً فَلَمْ تُسَلَّمْ إلَيْهِ الدَّارُ حَتَّى مَضَى بَعْضُ الْمُدَّةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَسَلَّمَ الدَّارَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ طَلَبَهَا مِنْ الْمُؤَاجِرِ فَمَنَعَهُ إيَّاهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَهَا فَذَلِكَ لَهُ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحُدُوثِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ حُصُولِهَا مُجْتَمِعَةً وَالصَّفْقَةُ هاهنا حِينَمَا وَقَعَتْ وَقَعَتْ مُتَفَرِّقَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنَافِعِ كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدًا مُبْتَدَأً فَكَانَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ وَالثَّانِي مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ آخَرَ وَمَا مُلِكَ بِعَقْدَيْنِ فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَسَقَطَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ مَنَعَهُ مَانِعٌ مِنْ إحْدَاهُمَا أَوْ حَدَثَ فِي إحْدَاهُمَا عَيْبٌ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَيْهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَقَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَالثَّانِي عَدَمُ حُدُوثِ عُذْرٍ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ بِالْمُسْتَأْجَرِ فَإِنْ حَدَثَ بِأَحَدِهِمَا أَوْ بِالْمُسْتَأْجِرِ عُذْرٌ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ لَازِمًا وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ فَيَكُونُ لَازِمًا كَالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا وَلَنَا أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْفَسْخِ عِنْدَ الْعُذْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ؛ لَلَزِمَ صَاحِبَ الْعُذْرِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ لِمَا يُذْكَرُ فِي تَفْصِيلِ الْأَعْذَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسْخِ فَكَانَ الْفَسْخُ فِي الْحَقِيقَةِ امْتِنَاعًا مِنْ الْتِزَامِ الضَّرَرِ وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ هَذَا بَيْعٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَعَمْ لَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِهِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ وَكَمَا لَوْ حَدَثَ عَيْبٌ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَكَذَا عَنْ قَوْلِهِ: الْعَقْدُ انْعَقَدَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا إنَّ هَذَا هَكَذَا إذَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْمُضِيِّ عَلَى مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ وَقَدْ عَجَزَ هاهنا فَلَا يُشْتَرَطُ التَّرَاضِي عَلَى الْفَسْخِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَحُدُوثِ الْعَيْبِ بِالْمُسْتَأْجَرِ ثُمَّ إنْكَارُ الْفَسْخِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ خُرُوجٌ عَنْ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ اشْتَكَى ضِرْسَهُ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْلَعَهُ فَسَكَنَ الْوَجَعُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ وَمَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ أَكِلَةٌ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْطَعَهَا فَسَكَنَ الْوَجَعُ ثُمَّ بَرِئَتْ يَدُهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَطْعِ وَهَذَا قَبِيحٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ فلابد مِنْ بَيَانِ الْأَعْذَارِ الْمُثْبِتَةِ لِلْفَسْخِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
: إنَّ الْعُذْرَ قَدْ يَكُونُ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجَرِ أَمَّا الَّذِي فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ: فَنَحْوُ أَنْ يُفْلِسَ فَيَقُومَ مِنْ السُّوقِ أَوْ يُرِيدَ سَفَرًا أَوْ يَنْتَقِلَ مِنْ الْحِرْفَةِ إلَى الزِّرَاعَةِ أَوْ مِنْ الزِّرَاعَةِ إلَى التِّجَارَةِ أَوْ يَنْتَقِلَ مِنْ حِرْفَةٍ إلَى حِرْفَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْحَانُوتِ فَكَانَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إضْرَارٌ بِهِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ الْعَقْدُ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى عَمَلِهِ.
وَإِذَا عَزَمَ عَلَى السَّفَرِ فَفِي تَرْكِ السَّفَرِ مَعَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِهِ وَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ مَعَ خُرُوجِهِ إلَى السَّفَرِ ضَرَرٌ بِهِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ لُزُومِ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ عَمَلٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَوَّلِ وَرَغْبَتِهِ عَنْهُ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ عَنْ الِانْتِقَالِ أَضْرَرْنَا بِهِ وَإِنْ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ لَأَلْزَمْنَاهُ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ حَانُوتٍ إلَى حَانُوتٍ لِيَعْمَلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ بِعَيْنِهِ فِي الثَّانِي لَمَّا أَنَّ الثَّانِيَ أَرْخَصُ وَأَوْسَعُ عَلَيْهِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنَّمَا بَطَلَتْ زِيَادَةُ الْمَنْفَعَةِ- وَقَدْ رَضِيَ بِالْقَدْرِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا- فِي الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِمَا لَا يَصِلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ أَوْ بَدَنِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيُقَصِّرَ لَهُ ثِيَابًا أَوْ لِيُقَطِّعَهَا أَوْ يَخِيطَهَا أَوْ يَهْدِمَ دَارًا لَهُ أَوْ يَقْطَعَ شَجَرًا لَهُ أَوْ لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ أَوْ لِيَحْجُمَ أَوْ لِيَفْصِدَ أَوْ لِيَزْرَعَ أَرْضًا أَوْ يُحْدِثَ فِي مِلْكِهِ شَيْئًا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ حَفْرٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَارَةَ وَالْقَطْعَ نُقْصَانٌ عَاجِلٌ فِي الْمَالِ بِالْغُسْلِ وَالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ، وَهَدْمُ الدَّارِ وَقَطْعُ الشَّجَرِ إتْلَافُ الْمَالِ، وَالزِّرَاعَةُ إتْلَافُ الْبُذُورِ وَفِي الْبِنَاءِ إتْلَافُ الْآلَةِ، وَقَلْعُ الضِّرْسِ وَالْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لَهَا لِمَصْلَحَةٍ تَأَمَّلَهَا تَرْبُو عَلَى الْمَضَرَّةِ فَإِذَا بَدَا لَهُ؛ عُلِمَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ فَبَقِيَ الْفِعْلُ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا إلَى مَكَّةَ ثُمَّ بَدَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى السَّفَرِ؛؛ لِأَنَّهُ لِمَا بَدَا لَهُ عَلِمَ أَنَّ السَّفَرَ ضَرَرٌ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَحَمُّلِ الضَّرَرِ وَكَذَا كُلُّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ ثُمَّ قَعَدَ عَنْ السَّفَرِ فَلَهُ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ قَالُوا: إنَّ الْجَمَّالَ إذَا قَالَ لِلْحَاكِمِ: إنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَ السَّفَرَ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ قَالَ لَهُ الْحَاكِم: انْتَظِرْهُ فَإِنْ خَرَجَ ثُمَّ قَفَلَ الْجَمَّالُ مَعَهُ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ؛ فَلَكَ الْأَجْرُ فَإِنْ قَالَ صَاحِبَ الدَّارِ لِلْحَاكِمِ: إنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ سَفَرًا وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ لِيَفْسَخَ الْإِجَارَةَ اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يُرِيدُ السَّفَرَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبَ الْفَسْخِ وَهُوَ إرَادَةُ السَّفَرِ وَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا مَعَ يَمِينِهِ، وَقَالُوا: لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ فَرَاسِخَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: إنَّمَا أَظْهَرَ الْخُرُوجَ لِفَسْخِ الْإِجَارَةِ وَقَدْ عَادَ اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَقَدْ خَرَجَ قَاصِدًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَدَّعِي أَنَّ الْفَسْخَ وَقَعَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ عَزْمُ السَّفَرِ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ وَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَزْمَ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ.
وَأَمَّا الْجَمَّالُ إذَا بَدَا لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْجَمَّالِ مَعَ الْجِمَالِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ غَيْرَهُ مَعَ الْجِمَالِ فَلَا يَكُونُ قُعُودُهُ عُذْرًا بِخِلَافِ خُرُوجِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ يَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِهِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ قُعُودُهُ عُذْرًا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فَحَفَرَ بَعْضَهَا فَوَجَدَهَا صُلْبَةً أَوْ خَرَجَ حَجَرًا أَوْ وَجَدَهَا رَخْوَةً بِحَيْثُ يُخَافُ التَّلَفُ كَانَ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ فَأَبَى الْجَمَّالُ أَنْ يُقِيمَ قَالَ: هَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ طَوَافٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْزَامِ الْجَمَّالِ لِلْإِقَامَةِ مُدَّةَ النِّفَاسِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ إذْ هِيَ مُدَّةُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِقَامَةِ الْقَافِلَةِ قَدْرَهَا فَيُجْعَلُ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ نِفَاسِهَا كَمُدَّةِ الْحَيْضِ أَوْ أَقَلَّ أُجْبِرَ الْجَمَّالُ عَلَى الْمُقَامِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِمَقَامِ الْحَاجِّ فِيهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ.
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ فَنَحْوُ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ لَا يَجِدُ قَضَاءَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ ثَبَتَ قَبْلَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ أَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ ثَبَتَ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالدَّيْنُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا وَهَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُؤَاجِرِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا نَذْكُرهُ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ مَعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ جُعِلَ الدَّيْنُ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْإِجَارَةِ مَعَ لُحُوقِ الدَّيْنِ الْفَادِحِ الْعَاجِلِ إضْرَارٌ بِالْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْجَبْرُ عَلَى تَحَمُّلِ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمُؤَاجَرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْبِسَهُ الْقَاضِي فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ سِوَى الْمُؤَاجَرِ فَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ، وَفِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُ الْمُؤَاجَرِ لَكِنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْفَعَةِ لَا بِالْعَيْنِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَكُونُ مِنْ بَدَلِ الْعَيْنِ وَهُوَ الثَّمَنُ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يَبِيعَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَأَجَرَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِهِ- وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَيْبِ- وَيُجْعَلُ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَائِهَا إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُؤَاجِرُ السَّفَرَ أَوْ النُّقْلَةَ عَنْ الْبَلَدِ وَقَدْ أَجَرَ عَقَارًا لَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْعَقَارِ مَعَ غَيْبَتِهِ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ مَرِضَ الْمُؤَاجِرُ أَوْ أَصَابَ إبِلَهُ دَاءٌ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا، أَمَّا إذَا أَصَابَ الْإِبِلَ دَاءٌ فَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الدَّابَّةِ مَعَ مَا بِهَا مِنْ الدَّاءِ إجْحَافٌ بِهَا وَفِيهِ ضَرَرٌ بِصَاحِبِهَا، وَالضَّرَرُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَيَثْبُتَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ، وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَنْقُصُ بِمَرَضِ الْإِبِلِ، فَصَارَ ذَلِكَ عَيْبًا فِيهَا.
وَأَمَّا مَرَضُ الْجَمَّالِ فَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْمَرَضِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ، وَخُرُوجُ الْجَمَّالِ بِنَفْسِهِ مَعَ الْجِمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَرَضِ الْجَمَّالِ وَبَيْنَ قُعُودِهِ أَنَّ الْجَمَّالَ يَقُومُ عَلَى جِمَالِهِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا مَرِضَ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ إلَّا بِضَرَرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا بَدَا لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ، وَلَوْ أَجَرَ صَانِعٌ مِنْ الصُّنَّاعِ أَوْ عَامِلٌ مِنْ الْعُمَّالِ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ أَوْ صِنَاعَةٍ ثُمَّ قَالَ: بَدَا لِي أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْعَمَلَ وَأَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ بِأَنْ كَانَ حَجَّامًا فَقَالَ: قَدْ أَنِفْتُ مِنْ عَمَلِي وَأُرِيدُ تَرْكَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَيُقَالُ: أَوْفِ الْعَمَلَ ثُمَّ انْتَقِلْ إلَى مَا شِئْتَ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ لَزِمَهُ، وَلَا عَارَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْحِرْفَةِ، فَهُوَ بِقَوْلِهِ: أُرِيدُ أَنْ أَتْرُكَهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَيَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ، وَصَنْعَتِهِ بَلْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ فِيهَا، وَذَلِكَ مِمَّا يُعَابُ بِهِ، أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً أَجَرَتْ نَفْسَهَا ظِئْرًا وَهِيَ مِمَّنْ تُعَابُ بِذَلِكَ فَلِأَهْلِهَا أَنْ يُخْرِجُوهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَبَتْ هِيَ أَنْ تُرْضِعَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ الدَّنِيئَةِ إذَا دَخَلَ فِيهَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ، فَإِذَا أَرَادَ التَّرْكَ فَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِضَرَرٍ، وَكَذَلِكَ الظِّئْرُ إذَا لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُرْضِعُ مِثْلُهَا فَلِأَهْلِهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُمْ يُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ، وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ (تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا).
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إيفَاءُ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ فَلَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِضَرَرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْفَسْخِ، وَيَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُفْسَخُ بِالْعُذْرِ فَقَدْ لَزِمَهَا الْعَقْدُ، وَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بِالْعُذْرِ وَإِنْ وَقَعَتْ لَازِمَةً.
وَلَوْ انْهَدَمَ مَنْزِلُ الْمُؤَاجِرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْزِلٌ آخَرُ سِوَى الْمَنْزِلِ الْمُؤَاجَرِ فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ وَيَسْكُنَهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْزِلًا آخَرَ أَوْ يَشْتَرِيَ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى فَسْخِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ هَذَا الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْزِلِ فِي الْإِجَارَةِ وَيَخْرُجَ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْجِرُ مَنْزِلًا فَأَرَادَ التَّحَوُّلَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ دَارَ نَفْسِهِ، فَشِرَاؤُهُ دَارًا أُخْرَى أَوْ وُجُودُ دَارٍ أُخْرَى لَا يُوجِبُ عُذْرًا فِي الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجَرِ فَمِنْهَا عِتْقُ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ، حَتَّى لَوْ أَجَرَ رَجُلٌ عَبْدَهُ سَنَةً فَلَمَّا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَعْتَقَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ.
أَمَّا الْعِتْقُ فَلَا شَكَّ فِي نَفَاذِهِ لِصُدُورِ الْإِعْتَاقِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ الْمَمْلُوكِ الْمَرْقُوقِ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَنَفَاذُ الْعِتْقِ لَا يَقِفُ عَلَى إمْكَانِ التَّسْلِيمِ، بِدَلِيلِ أَنَّ إعْتَاقَ الْآبِقِ نَافِذٌ.
وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا، فَيَصِيرُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ كَأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْإِجَارَةِ وَالْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَسَقَطَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْرُ فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ أَجْرُ مَا مَضَى لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ اُسْتُوْفِيَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى بِعَقْدِهِ، وَإِنْ أَجَازَ وَمَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْأُجْرَةُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إلَى تَمَامِ السَّنَةِ تَكُونُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ اُسْتُوْفِيَتْ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ لَهُ، كَمَا لَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ مِنْ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي الْمُدَّةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَجَرَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْإِجَارَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِ الْإِجَارَةِ أَبْطَلَ حَقَّ الْفَسْخِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ، وَقَبْضُ الْأُجْرَةِ كُلِّهَا لِلْمَوْلَى، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ إلَّا بِوَكَالَةٍ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ هُوَ الْمَوْلَى، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَأْجِرُ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ، وَلَا شَرَطَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ التَّعْجِيلَ، فَإِنْ كَانَ عَجَّلَ أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ التَّعْجِيلَ فَأَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاخْتَارَ الْمُضِيَّ عَلَى الْإِجَارَةِ؛ فَالْأُجْرَةُ كُلُّهَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالتَّعْجِيلِ أَوْ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ؛ يَرُدُّ النِّصْفَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ إلَّا مَنْفَعَةُ نِصْفِ الْمُدَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى أَجَرَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ سَنَةً فَأَجَرَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي نِصْفِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى كَعَقْدِ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ، إلَّا إنْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْمَحْجُورِ وَقَعَتْ فَاسِدَةً، وَخِيَارُ الْإِمْضَاءِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا، فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ، وَمِنْهَا: بُلُوغُ الصَّبِيِّ الْمُسْتَأْجَرِ آجَرَهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّ أَبِيهِ أَوْ جَدُّهُ أَوْ وَصِيُّ جَدِّهِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ فَبَلَغَ فِي الْمُدَّةِ فَهُوَ عُذْرٌ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الْإِجَارَةَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ضَرَرًا بِالصَّبِيِّ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَعْجِزُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَكَانَ عُذْرًا، وَلَوْ أَجَرَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَبَلَغَ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ لَا خِيَارَ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ إجَارَةِ النَّفْسِ وَالْمَالِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنَّ إجَارَةَ مَالِهِ تَصَرُّفٌ نُظِرَ فِي حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالْبُلُوغِ، فَأَمَّا إجَارَةُ النَّفْسِ فَهُوَ فِي وَضْعِهَا إضْرَارٌ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ أَوْ الْوَصِيُّ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَأْدِيبٌ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ بِالْبُلُوغِ، فَأَمَّا غَلَاءُ أَجْرِ الْمِثْلِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ تَنْفَسِخُ بِهِ الْإِجَارَةُ إلَّا فِي إجَارَةِ الْوَقْفِ، حَتَّى لَوْ آجَرَ دَارًا هِيَ مِلْكُهُ ثُمَّ غَلَا أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ، إلَّا فِي الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ نَظَرًا لِلْوَقْفِ وَيُجَدَّدُ الْعَقْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَفِيمَا مَضَى يَجِبُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ وَقِيلَ: هَذَا إذَا ازْدَادَ أَجْرُ مِثْلِ الدُّورِ، فَأَمَّا إذَا جَاءَ وَاحِدٌ وَزَادَ فِي الْأُجْرَةِ تَعَنُّتًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، إنَّمَا تُفْسَخُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ إذَا أَمْكَنَ الْفَسْخُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ فَلَا تُفْسَخُ بِأَنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ لَمْ يُسْتَحْصَدْ؛ لِأَنَّ فِي الْقَلْعِ ضَرَرًا بِالْمُسْتَأْجِرِ فَلَا تُفْسَخُ بَلْ تُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، فَإِلَى وَقْتِ الزِّيَادَةِ يَجِبُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، هَذَا إذَا غَلَا أَجْرُ مِثْلِ الْوَقْفِ.
فَأَمَّا إذَا رَخُصَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تُفْسَخُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ رَضِيَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَزِيَادَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْفَسْخَ فِي الْوَقْفِ عِنْدَ الْغَلَاءِ لِمَعْنًى النَّظَرِ لِلْوَقْفِ، وَفِي هَذَا ضَرَرٌ فَلَا تُفْسَخُ.
وَأَمَّا الْعُذْرُ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ فَنَحْوُ أَنْ لَا يَأْخُذَ الصَّبِيُّ مِنْ لَبَنِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بَعْضُ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ أَوْ بَقِيَ مِنْ لَبَنِهَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِهِ، أَوْ تَحْبَلَ الظِّئْرُ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ، أَوْ تَكُونَ سَارِقَةً؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى مَتَاعِهِمْ، أَوْ تَكُونَ فَاجِرَةً بَيِّنَةَ الْفُجُورِ؛ لِأَنَّهَا تَتَشَاغَلُ بِالْفُجُورِ عَنْ حِفْظِ الصَّبِيِّ، أَوْ أَرَادُوا أَنْ يُسَافِرُوا بِصَبِيِّهِمْ وَأَبَتْ الظِّئْرُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِمْ تَرْكَ الْمُسَافَرَةِ إضْرَارًا بِهِمْ، وَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ السَّفَرِ إضْرَارًا أَيْضًا، أَوْ تَمْرَضَ الظِّئْرُ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِلَبَنِ الْمَرِيضَةِ، وَالْمَرْأَةُ تَتَضَرَّرُ بِالْإِرْضَاعِ فِي الْمَرَضِ أَيْضًا فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ كَانُوا يُؤْذُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ أُمِرُوا أَنْ يَكُفُّوا عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُفُّوا كَانَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ الْأَذِيَّةَ مَحْظُورَةٌ، فَعَلَيْهِمْ تَرْكُهَا، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهَا كَانَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ بِالْعَقْدِ فَكَانَ عُذْرًا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ الرَّضَاعِ إنْ لَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ بِرِضَاهُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَشِينُهُ أَنْ تُرْضِعَ زَوْجَتُهُ فَلَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ يُعَيَّرُ بِذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَشِينُهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَهُ بِالنِّكَاحِ مَنَافِعُ بُضْعِهَا لَا مَنَافِعُ ثَدْيِهَا، فَكَانَتْ هِيَ بِالْإِجَارَةِ مُتَصَرِّفَةً فِي حَقِّهَا، وَقِيلَ: لَهُ الْفَسْخُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا إنْ أَرْضَعَتْ الصَّبِيَّ فِي بَيْتِهِمْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إدْخَالِ الصَّبِيِّ إلَى بَيْتِهِ، ثُمَّ إذَا اعْتَرَضَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا فَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بِنَفْسِهَا أَوْ تَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: تَنْفَسِخُ بِنَفْسِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَنْفَسِخُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْعُذْرِ إنْ كَانَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ شَرْعًا بِأَنْ كَانَ الْمُضِيُّ فِيهِ حَرَامًا فَالْإِجَارَةُ تُنْتَقَضُ بِنَفْسِهَا، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى قَلْعِ الضِّرْسِ إذَا اشْتَكَتْ ثُمَّ سَكَنَتْ، وَعَلَى قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ إذَا بَرِئَتْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ بِحَيْثُ لَا يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَوْعَ ضَرَرٍ لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِالْفَسْخِ، وَهَلْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى فَسْخِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي؟ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بَلْ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهَا، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي، وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ هَذَا خِيَارٌ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَةِ لَا تُمْلَكُ جُمْلَةً وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكَانَ اعْتِرَاضُ الْعُذْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ عَيْبٍ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ، وَلَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ وَالرِّضَا، كَذَا هَذَا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَّلَ فِيهِ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ كَانَ الْعُذْرُ ظَاهِرًا لَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا كَالدَّيْنِ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ لِيَظْهَرَ الْعُذْرُ فِيهِ وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ، وَهَذَا حَسَنٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ الْمُسْتَأْجَرَ ثُمَّ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ.