فصل: فَصْلٌ: الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ فَأَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَقَّ الْعَبْدِ لَا حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَوَاءً كَانَ مَالًا عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا، أَوْ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ عَيْنٍ، وَلَا دَيْنٍ حَتَّى لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ بِأَنْ أَخَذَ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَنْ لَا يَرْفَعَهُ إلَى وَلِي الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ بِالصُّلْحِ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ إمَّا بِاسْتِيفَاءِ كُلِّ حَقِّهِ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ، وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي، أَوْ بِالْمُعَاوَضَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ بِأَنْ قَذَفَ رَجُلًا فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَغْلُوبُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَكَانَ فِي حُكْمِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الصُّلْحَ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ شَاهِدًا يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ فِي إقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسِبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ؛ لِأَنَّهُ فِسْقٌ إلَّا أَنْ يُحْدِثَ تَوْبَةً فَتُقْبَلُ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ التَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَكَذَا يَصِحُّ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا إلَّا إذَا كَانَ دَيْنًا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ احْتِرَازًا عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومًا، أَوْ مَجْهُولًا جَهَالَةً غَيْرَ مُتَفَاحِشَةٍ حَتَّى لَوْ صَالَحَ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى عَبْدٍ، أَوْ ثَوْبٍ هَرَوِيٌّ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ قَلَّتْ بِبَيَانِ النَّوْعِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَبْدِ يَقَعُ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ، وَمُطْلَقُ الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ يَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْهُ، فَتَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَعْطَى الْوَسَطَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى قِيمَتَهُ كَمَا فِي النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ دَارٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ وَالدَّوَابَّ أَجْنَاسٌ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَجَهَالَةُ النَّوْعِ مُتَفَاحِشَةٌ فَتَمْنَعُ الْجَوَازَ، وَكَذَا جَهَالَةُ الدُّورِ لِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ مُلْحَقَةٌ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ، وَالدَّابَّةِ فَتَمْنَعُ الْجَوَازَ كَمَا فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ، وَمَا لَا فَلَا؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَالْمَهْرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ الصِّحَّةِ لَعَيْنِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعِ وَرَدَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْهَا لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَمَبْنَى النِّكَاحِ وَالصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَالْإِنْسَانِ يُسَامِحُ بِنَفْسِهِ مَا لَا يُسَامِحُ بِمَالِهِ عَادَةً فَلَا يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنْ الْجَهَالَةِ مُفْضِيًا إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْجَوَازِ بِخِلَافِ بَابِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُعَاكَسَةِ، وَالْمُضَايَقَةِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْإِنْسَانُ يُضَايِقُ بِمَالِهِ مَا لَا يُضَايِقُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِتَفَاحُشِ جَهَالَةِ الْبَدَلِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَفِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ؛ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
(وَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْخَمْرَ إذَا لَمْ تَصْلُحْ بَدَلَ الصُّلْحِ بَطَلَتْ تَسْمِيَتُهُ، وَجُعِلَ لَفْظَةُ الصُّلْحِ كِنَايَةً عَنْ الْعَفْوِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ الْفَضْلُ، وَفِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْفَضْلِ فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ كِنَايَةً عَنْهُ، وَبَعْدَ الْعَفْوِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، فَأَمَّا لَفْظُ النِّكَاحِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ، وَلَوْ احْتَمَلَهُ فَالْعَفْوُ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ فَيَبْقَى النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا إذَا سَكَتَ عَنْ الْمَهْرِ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ قَدْرَ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} أَيْ أُعْطِي لَهُ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ فَلْيَتَّبِعْ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْوَلِيَّ بِالِاتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ، إذَا أُعْطِيَ لَهُ شَيْءٌ، وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فِي بَابِ الْخَطَإِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ عِوَضٌ عَنْ الدِّيَةِ، وَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْمُقَدَّرِ تَكُونُ رِبًا فَأَمَّا بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَعِوَضٌ عَنْ الْقِصَاصِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ الْبَدَلُ عَنْهُ زِيَادَةً عَلَى الْمَالِ الْمُقَدَّرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ مَعْلُومًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الصُّلْحِ حَتَّى إنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ حَقًّا فِي عَيْنٍ، فَأَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ أَوْ أَنْكَرَ فَصَالَحَ عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ؛ جَازَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ كَمَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ هُنَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِجَهَالَةِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ، وَالْقَبْضَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُصَالِحِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَلِّ فَمَا لَا يَكُونُ حَقًّا لَهُ، أَوْ لَا يَكُونُ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَلِّ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَتْ عَنْ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لَا حَقُّهَا فَلَا تَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ غَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ إمَّا إسْقَاطٌ أَوْ مُعَاوَضَةٌ، وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُهُمَا.
وَلَوْ صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنْ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَى شَيْءٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الدَّارَ لِلْمُشْتَرِي، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي الْمَحَلِّ إنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوِلَايَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي، فَلَا يُحْتَمَلُ الصُّلْحُ عَنْهُ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلَّ يَصِيرُ مَمْلُوكًا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا فِي الْمَحَلِّ فَمَلَكَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ بِالصُّلْحِ، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ إذَا صَالَحَ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلطَّالِبِ قَبْلَ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهَا فَأَشْبَهَ الشُّفْعَةَ، وَهَلْ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْعِوَضِ فَيَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْعِوَضَ فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ إسْقَاطٌ فَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُودَ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ ظُلَّةً عَلَى طَرِيقٍ، أَوْ كَنِيفِ شَارِعِهِ، أَوْ مِيزَابِهِ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَطْرَحَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ نَافِذًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَافِذًا فَإِذَا كَانَ نَافِذًا فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ طَرْحَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَا تَكُونُ مِلْكًا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي رَقَبَةِ الطَّرِيقِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمُرُورِ، وَإِنَّهُ صِفَةُ الْمَارِّ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ مَعَ مَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَقَطَ حَقُّ هَذَا الْوَاحِدِ بِالصُّلْحِ، فَلِلْبَاقِينَ حَقُّ الْقَلْعِ.
وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الثَّانِيَ مَعَ هَذَا الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ الطَّرْحُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الطَّرْحَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَأَخْذُ الْمَالِ عَلَيْهِ يَكُونُ رِشْوَةً هَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ نَافِذًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَافِذًا فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ عَلَى مَالٍ لِلتَّرْكِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ هُنَا مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِ السِّكَّةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا مِلْكًا فَجَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ، وَكَذَا إسْقَاطُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالصُّلْحِ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ تَحْصِيلِ رِضَا الْبَاقِينَ، وَلَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصُونَ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الثَّانِي مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَالٍ لِلتَّرْكِ؛ جَازَ، وَيَطِيبُ لَهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا نَصِيبٌ فَكَانَ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عَنْ مِلْكِهِ فَصَحَّ، فَأَمَّا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ فَلَمْ يَكُنْ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عَنْ مِلْكٍ، وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ فَبَطَلَ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَنَى عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَمَّا إذَا شَرَعَ إلَى الْهَوَاءِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْهَوَاءِ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَطَلَبَ مِنْهُ الْيَمِينَ فَصَالَحَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَسْتَحْلِفُهُ؛ جَازَ الصُّلْحُ وَبَرِئَ مِنْ الْيَمِينِ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنْ الْيَمِينِ الَّتِي وَجَبَتْ لَكَ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ افْتَدَيْتُ مِنْكَ يَمِينَكَ بِكَذَا، وَكَذَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قِصَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إذًا لَكَ يَمِينُهُ» جَعَلَ الْيَمِينَ حَقَّ الْمُدَّعِي فَكَانَ هَذَا صُلْحًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ شَرْعًا لِلْمُدَّعِي، وَكَذَا الْمِلْكُ فِي الْمُدَّعَى ثَابِتٌ فِي زَعْمِهِ، فَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَلُ الْمَالِ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ، وَالِافْتِدَاءِ عَنْ الْيَمِينِ.
وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ عَلَى كَذَا، وَقَالَ الْمُدَّعِي بِعْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ عَلَى كَذَا لَا يَصِحُّ فَقَدْ خَالَفَ الصُّلْحُ الْبَيْعَ، حَيْثُ جَازَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَالِافْتِدَاءِ، وَلَمْ يَجُزْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ فَكَانَ الصُّلْحُ فِي حَقِّهِ إعْتَاقًا عَلَى مَالٍ فَيَصِحُّ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ لَهُ لِإِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الرِّقَّ فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةً لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي حَقِّ إثْبَاتِ الْوَلَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى فَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ فِي حَقِّهِ فَأَشْبَهَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَيَجُوزُ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ.
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَجَحَدَتْهُ، فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى فَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ إذْ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ بِالْبُضْعِ، وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَ جَائِزًا، وَفِي حَقِّهَا بَدَلُ مَالٍ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا لِلنَّصِّ.
وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ ثَابِتًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا كَانَ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهَا مِنْ الرَّجُلِ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِهَذَا الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ لَا الزَّوْجُ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ الَّذِي تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ؛ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَتَصَالَحَا عَلَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَخَذَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهُوَ بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّمْلِيكِ أَنْ لَا يَحْتَمِلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ؛ فَهُوَ عَلَى، وَجْهَيْنِ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَلِفُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي؛ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عِنْدَ الْقَاضِي مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْيَمِينَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَا تَنْقَطِعُ بِهَا خُصُومَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهَا، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عِنْدَ الْقَاضِي مُعْتَدٌّ بِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ الْإِيفَاءُ ثَانِيًا.
وَلَوْ تَصَالَحَا عَلَى أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِذَا حَلَفَ فَالْمَالُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ وُجُوبِ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِكَوْنِهِ قِمَارًا.
وَلَوْ أُودَعَ إنْسَانًا وَدِيعَةً، ثُمَّ طَلَبَهَا مِنْهُ، فَقَالَ الْمُودَعُ: هَلَكَتْ، أَوْ قَالَ: رَدَدْتُهَا، وَكَذَّبَهُ الْمُودِعُ، وَقَالَ: اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ صَحِيحٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا صُلْحٌ وَقَعَ عَنْ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَيَمِينٍ مُتَوَجِّهَةٍ، فَيَصِحُّ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُدَّعِي مُنَاقَضٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ أَمِينُ الْمَالِكِ، وَقَوْلُ الْأَمِينِ قَوْلُ الْمُؤْتَمَنِ، فَكَانَ إخْبَارُهُ بِالرَّدِّ، وَالْهَلَاكِ إقْرَارًا مِنْ الْمُودِعِ، فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ، وَالتَّنَاقُضُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ لَكِنْ لَا لِدَفْعِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهَا مُنْدَفِعَةٌ لِبُطْلَانِهَا بَلْ لِلتُّهْمَةِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ.
وَلَوْ ادَّعَى الْمُودِعُ الِاسْتِهْلَاكَ وَلَمْ يَقُلْ الْمُودَعُ إنَّهَا هَلَكَتْ، أَوْ رَدَدْتُهَا فَتَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ جَازَ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحَةٌ، وَالْيَمِينُ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَيْهِ فَصَحَّ الصُّلْحُ.
وَلَوْ طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ فَجَحَدَهَا الْمُودَعُ، وَقَالَ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: هَلَكَتْ، أَوْ رَدَدْتُهَا، وَقَالَ الْمُودِعُ: بَلْ اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِالْجُحُودِ إذْ هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَمَانَةٌ.
وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا فَطَعَنَ فِيهِ بِعَيْبٍ، وَخَاصَمَهُ فِيهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ حَطَّ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مِمَّا يَجُوزُ رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ دُونَ الرَّدِّ، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْعَيْبِ صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ صِفَةُ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ عَنْ عَيْبٍ، وَأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْوَالِ، فَكَانَ عَنْ الْعَيْبِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ، فَصَحَّ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَنْ الْأَرْشِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِذَا صَارَ الْمَبِيعُ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا الْمُطَالَبَةَ بِأَرْشِهِ بِأَنْ بَاعَ الْعَبْدَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الدَّعْوَى، وَالْخُصُومَةِ فِيهِمَا قَبْلَ الْبَيْعِ قَدْ بَطَلَ بِالْبَيْعِ، فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ.
وَلَوْ صَالَحَ مِنْ الْعَيْبِ، ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ بِأَنْ كَانَ بَيَاضًا فِي عَيْنِ الْعَبْدِ، فَانْجَلَى بَطَلَ الصُّلْحُ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّضَ، وَهِيَ صِفَةُ السَّلَامَةِ قَدْ عَادَتْ فَيَعُودُ الْعِوَضُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ.
وَلَوْ طَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ، فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ، وَمِنْ كُلِّ عَيْبٍ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْعَيْبِ إبْرَاءٌ عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ، وَإِسْقَاطٍ لَهَا، وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْبَائِعِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهَا، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ إبْرَاءً عَنْ الْمَجْهُولِ لَكِنَّ جَهَالَةَ الْمُصَالِحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ لِلْفِقْهِ الَّذِي مَرَّ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْجَهَالَةَ لَعَيْنِهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَاَلَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ، فَلَا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَطْعَنْ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ، فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ بِعَيْبٍ، فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَيُصَالِحُهُ لِإِبْطَالِ هَذَا الْحَقِّ.
وَلَوْ خَاصَمَهُ فِي ضَرْبٍ مِنْ الْعُيُوبِ نَحْوَ الشِّجَاجِ وَالْقُرُوحِ، فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَيْبٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي غَيْرِهِ.
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ امْرَأَةٍ فَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ، فَصَالَحَتْهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَرْشُ الْعَيْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَهُوَ مَهْرُهَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ يُكَمَّلُ لَهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ لَمَّا صَارَ مَهْرُهَا، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فَإِذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا، فَقَدْ أَقَرَّتْ بِالْعَيْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَرْشِ عَيْبٍ كَانَ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مُعَاوَضَةٌ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ حَيْثُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَرَّةً يَصِحُّ مُعَاوَضَةً، وَمَرَّةً يَصِحُّ إسْقَاطًا، فَلَا يَصِحُّ دَلِيلًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ.
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَشَرَةٍ، فَقَبَضَهُمَا، ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا، فَصَالَحَ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِي ثَمَنِ الْآخَرِ دِرْهَمًا، فَالرَّدُّ جَائِزٌ، وَزِيَادَةُ الدِّرْهَمِ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ، وَالْفَسْخَ بَيْعٌ جَدِيدٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَالْبَيْعُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَأَصْلُ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ فَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فَأَمَّا الرَّدُّ فَفَسْخُ الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الشَّرْطَ فَجَائِزٌ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا، فَجَحَدَتْ فَصَالَحَهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُقِرَّ لَهُ بِالنِّكَاحِ، فَأَقَرَّتْ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَتُجْعَلُ الْمِائَةُ مِنْ الزَّوْجِ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالنِّكَاحِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ أَلْفًا، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِالْأَلْفِ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ الْأَلْفَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهَا فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيهَا فَالْأَلْفُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَكُونُ أَخْذُ الْعِوَضُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ، فَإِقْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ الْتِزَامُ الْمَالِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: أَعْطَيْتُكِ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَكُونِي امْرَأَتِي فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ وَيُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ إنْشَاءِ النِّكَاحِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَجَحَدَتْ، فَقَالَ: أَزِيدُكِ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُقْرِي لِي بِالنِّكَاحِ، فَأَقَرَّتْ؛ جَازَ، وَلَهَا أَلْفٌ وَمِائَةٌ، وَيُحْمَلُ إقْرَارُهَا عَلَى الصِّحَّةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
(وَأَمَّا) إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي، وَالْأَجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ، أَوْ الْمُتَبَرِّعِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ، وَالصُّلْحُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّوْكِيلَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَهُوَ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ، وَإِنَّهُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُضِيفَ الضَّمَانَ إلَى نَفْسِهِ: بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: صَالَحْتُكَ، أَوْ أُصَالِحُكَ مِنْ دَعْوَاكِ هَذِهِ عَلَى فُلَانٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَكِ الْأَلْفَ، أَوْ عَلَى أَنَّ عَلَيَّ الْأَلْفَ، وَالثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ عَلَى أَلْفِي هَذِهِ، أَوْ عَلَى عَبْدِي هَذَا، وَالثَّالِثُ أَنْ يُعَيِّنَ الْبَدَلَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْسُبُهُ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ، أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ، وَالرَّابِعُ: أَنْ يُسَلِّمَ الْبَدَلَ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَلَمْ يُنْسِبْ بِأَنْ قَالَ: صَالَحْتُكَ عَلَى أَلْفٍ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ صَالَحْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى عَبْدٍ، وَسَطٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَفِي الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ: يَصِحُّ الصُّلْحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وَهَذَا خَاصٌّ فِي صُلْحِ الْمُتَوَسِّطِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى الصُّلْحِ، وَأَنَّهُمَا لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ؛ وَلِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَصَرِّفٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّبَرُّعِ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَيْرِ بِالْقَضَاءِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ بِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ فَيَصِحُّ تَبَرُّعُهُ كَمَا إذَا تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً، وَمَتَى صَحَّ صُلْحُهُ يُجِبْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ فِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يُطْلِقُ الرُّجُوعَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ فَمَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الضَّمَانِ وَالنِّسْبَةِ، وَتَعْيِينِ الْبَدَلِ، وَالتَّمْكِينِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّبَرُّعِ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُنْ مُتَصَرِّفًا عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ، وَيَجِبُ الْبَدَلُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُصَالِحِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ.
وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ الِابْتِدَاءِ لَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَحَقَ التَّوْكِيلُ بِالْإِجَازَةِ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَإِجَازَتِهِ، ثُمَّ إنَّمَا يَصِحُّ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ إذَا كَانَ حُرًّا بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ صُلْحُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالصَّبِيّ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَكَذَا الْخُلْعُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى هَذِهِ الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا بِأَنْ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ الْمَرْأَةِ يَصِيرُ وَكِيلًا، وَيَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا؛ فَهُوَ عَلَى الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي الصُّلْحِ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ وَكِيلًا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفُصُولِ، وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى هَذِهِ الْفُصُولِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمَفْرُوضِ بِمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ صُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ مَا يَجُوزُ مِنْ صُلْحِ الْقَاتِلِ وَمَا لَا فَلَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا صَالَحَ الْفُضُولِيَّ عَلَى خَمْسَةِ عَشَرَ أَلْفًا، أَوْ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ، وَضَمِنَ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ جَازَ الصُّلْحُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفُضُولِيَّ بِالصُّلْحِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُتَبَرِّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ، فَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ كَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَقَضَى عَنْهُ أَلْفَيْنِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الزِّيَادَةَ هَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الرِّبَا، وَلَا يَجْرِي فِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى مِائَتَيْ بَعِيرٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ جَازَ صُلْحُهُ عَلَى الْمِائَةِ لِمَا أَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمَا جَازَ إلَّا عَلَى الْمِائَةِ فَكَذَا الْفُضُولِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا؛ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى الْأَسْنَانِ الْوَاجِبَةِ فِي بَابِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِبِلِ فِي هَذَا الْبَابِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَتْ بِأَعْيَانِهَا، فَالْوَاجِبُ مِائَةٌ مِنْهَا، وَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُلِّ يَكُونُ رِضًا بِالْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ نُقْصَانٌ عَنْ أَسْنَانِ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ فِي بَابِ الدِّيَةِ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَرُدَّ الصُّلْحَ؛ لِأَنَّ صُلْحَ الطَّالِبِ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَفْرُوضِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ نُقْصَانٌ فِي السِّنِّ لَا يُجْبَرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الزِّيَادَةُ لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ فَاخْتَلَّ رِضَاهُ بِالنُّقْصَانِ فَأَوْجَبَ حَقَّ النَّقْصِ.
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى مِائَةٍ عَلَى أَسْنَانِ الدِّيَةِ، وَضَمِنَهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا خِيَارَ لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مِائَةٍ عَلَى أَسْنَانِ الدِّيَةِ اسْتِيفَاءُ عَيْنِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَيَّنَ الْوَاجِبَ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمَ، فَصَالَحَ الْمُتَوَسِّطَ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ؛ جَازَ، ولابد مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ الْقَاتِلُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ، فَيُرَاعَى لَهُ شَرَائِطُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.