فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا:

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا فَنَقُولُ- وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى: الْمَقْذُوفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَلَا خُصُومَةَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ كَانَ هُوَ الْمَقْذُوفُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ، فَكَانَ حَقُّ الْخُصُومَةِ لَهُ، وَهَلْ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ وَهُوَ التَّوْكِيلُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَجُوزُ- وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ- وَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ حَضْرَةَ الْمَقْذُوفِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَتَقُومُ حَضْرَةُ الْوَكِيلِ مَقَامَ حَضْرَتِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ عِنْدَهُ حَدُّ الْمَقْذُوفِ عَلَى الْخُلُوصِ، فَتَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ جَمِيعًا.
(وَلَنَا) أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَصَدَّقَ الْقَاذِفَ فِي قَذْفِهِ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا- سَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُورَثُ- وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا- هَذَا إذَا كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ.
(وَأَمَّا) إذَا كَانَ مَيِّتًا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِوَلَدِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلِابْنِ ابْنِهِ، وَبِنْتِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلِوَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا، أَنْ يُخَاصِمَ الْقَاذِفَ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ: هُوَ إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْقَذْفِ رَاجِعًا إلَيْهِ بَلْ إلَى فُرُوعِهِ وَأُصُولِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ؛ لِوُجُودِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَقَذْفُ الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَذْفًا لِأَجْزَائِهِ فَكَانَ الْقَذْفُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْخُصُومَةِ؛ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ، ثُمَّ مَاتَ- أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ بَلْ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ وَهُوَ كَانَ مَحِلًّا قَابِلًا لِلْقَذْفِ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ؛ فَانْعَقَدَ الْقَذْفُ مُوجِبًا حَقَّ الْخُصُومَةِ لَهُ خَاصَّةً، فَلَوْ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ لَانْتَقَلَ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَهَذَا الْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ- لِمَا نَذْكُرُ- فَسَقَطَ ضَرُورَةً، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ لَا يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُهُمْ؛ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ فَالْقَذْفُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَكَذَا لَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ أَنَّهُمْ هَلْ يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ؟ عِنْدَهُمَا يَمْلِكُونَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْلِكُونَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ لَا إلَى جَدِّهِ فَلَمْ يَكُنْ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِقَذْفِ جَدِّهِ.
(وَلَهُمَا) أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادِ مَوْجُودٌ وَالنِّسْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَابِتَةٌ بِوَاسِطَةِ أُمِّهِ؛ فَصَارَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَيَمْلِكُ الْخُصُومَةَ.
وَهَلْ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ بِتَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ عَلَى الْأَبْعَدِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يُرَاعَى وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ سَوَاءٌ فِيهِ، حَتَّى كَانَ لِابْنِ الِابْنِ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ الِابْنِ الصُّلْبِيِّ.
وَعِنْدَ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ وَتَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْقَذْفِ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِالْمُخَاصِمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الْأَقْرَبِ يَزِيدُ عَلَى الْأَبْعَدِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْخُصُومَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَيْسَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ بَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَيِّتِ إلَيْهِمْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَيِّتَ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ لُحُوقِ الْعَارِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحَقِّ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَلَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ، وَكَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ، بَلْ الشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْوَلَدُ أَوْ الْوَالِدُ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا- فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ: إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ شَرْطٌ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَلَا الْكَافِرِ أَنْ يُخَاصِمَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ إثْبَاتَ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِإِضَافَةِ الْقَذْفِ إلَى الْمَيِّتِ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَيْهِ الْقَذْفُ ابْتِدَاءً- لَا يَجِبُ الْحَدُّ فَهاَهُنَا أَوْلَى.
(وَلَنَا) أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لَعَيْنِ الْقَذْفِ بَلْ لِلُحُوقِ عَارٍ كَامِلٍ بِالْمَقْذُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا فَقَدْ لَحِقَ الْوَلَدَ عَارٌ كَامِلٌ فَلَا يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِلُحُوقِ عَارٍ كَامِلٍ بِهِ، وَقَدْ لَحِقَهُ بِدُونِهِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ قَتَلَهُ حَتَّى حُرِمَ الْمِيرَاثَ- فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ أُمَّ ابْنِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ- فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ قَذَفَ وَلَدَهُ وَهُوَ حَيٌّ مُحْصَنٌ- لَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، فَفِي قَذْفِ الْأُمِّ الْمَيِّتَةِ أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا قَذَفَ أُمَّ عَبْدِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ مَيِّتَةٌ- فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُخَاصِمَ مَوْلَاهُ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: صِفَاتُ الْحُدُودِ:

وَأَمَّا صِفَاتُ الْحُدُودِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا خِلَافَ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ بَعْدَ مَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ، وَكَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ؛ حَتَّى لَوْ زَنَى مِرَارًا أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ مِرَارًا أَوْ سَكِرَ مِرَارًا- لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ، فَكَانَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ احْتِمَالُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، فَكَانَ فِيهِ احْتِمَالُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلَوْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ سَكِرَ أَوْ سَرَقَ فَحُدَّ، ثُمَّ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ سَرَقَ يُحَدُّ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَحْصُلْ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ سَرِقَاتٍ مِنْ أُنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَخَاصَمُوا جَمِيعًا فَقُطِعَ لَهُمْ- كَانَ الْقَطْعُ عَنْ السَّرِقَاتِ كُلِّهَا، وَالْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) حَدُّ الْقَذْفِ إذَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْإِبْرَاءُ وَالصُّلْحُ، وَكَذَلِكَ إذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ، أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ- فَذَلِكَ بَاطِلٌ وَيُرَدُّ بِهِ الصُّلْحُ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَصِحُّ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَكَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا بِكَلِمَةٍ، أَوْ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ عَلَى حِدَةٍ- لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ سَوَاءٌ حَضَرُوا جَمِيعًا أَوْ حَضَرَ وَاحِدٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ عَلَى حِدَةٍ- فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ عَلَى حِدَةٍ، وَلَوْ ضُرِبَ الْقَاذِفُ تِسْعَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ ضُرِبَ السَّوْطَ الْأَخِيرَ فَقَطْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُضْرَبُ السَّوْطَ الْأَخِيرَ لِلْأَوَّلِ وَثَمَانِينَ سَوْطًا أُخَرَ لِلثَّانِي، وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَحُدَّ، ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ- يُحَدُّ لِلثَّانِي بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا هَذَا الْحَدُّ لَا يُورَثُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعِنْدَهُمْ يُورَثُ، وَيُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ يُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَرْعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَوْ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّهُ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مَغْلُوبٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ أَوْ الْمُغَلَّبُ حَقُّ الْعَبْدِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الْحَدِّ؛ هُوَ الْقَذْفُ، وَالْقَذْفُ جِنَايَةٌ عَلَى عِرْضِ الْمَقْذُوفِ بِالتَّعَرُّضِ، وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ أَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ حَقُّهُ وَهُوَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، أَوْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ، فَكَانَ الْبَدَلُ حَقَّهُ، وَالْجَزَاءُ الْوَاجِبُ عَلَى حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ كَالْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى، وَالدَّعْوَى لَا تُشْتَرَطُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُفَوَّضْ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْمَقْذُوفِ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ ضَرْبَ الْقَذْفِ أَخَفُّ الضَّرَبَاتِ فِي الشَّرْعِ، فَلَوْ فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ هَذَا الْحَدِّ- فَرُبَّمَا يُقِيمُهُ عَلَى وَجْهِ الشِّدَّةِ؛ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْغَيْظِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ فَفُوِّضَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْإِمَامِ؛ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ لَا لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ.
(وَلَنَا) أَنَّ سَائِرَ الْحُدُودِ إنَّمَا كَانَتْ حُقُوقَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَهِيَ دَفْعُ فَسَادٍ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَيَقَعُ حُصُولُ الصِّيَانَةِ لَهُمْ، فَحَدُّ الزِّنَا وَجَبَ؛ لِصِيَانَةِ الْأَبْضَاعِ عَنْ التَّعَرُّضِ، وَحَدُّ السَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَجَبَ؛ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ عَنْ الْقَاصِدِينَ، وَحَدُّ الشُّرْبِ وَجَبَ؛ لِصِيَانَةِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ فِي الْحَقِيقَةِ بِوَاسِطَةِ صِيَانَةِ الْعُقُولِ عَنْ الزَّوَالِ وَالِاسْتِتَارِ بِالسُّكْرِ، وَكُلُّ جِنَايَةٍ يَرْجِعُ فَسَادُهَا إلَى الْعَامَّةِ وَمَنْفَعَةُ جَزَائِهَا يَعُودُ إلَى الْعَامَّةِ، كَانَ الْجَزَاءُ الْوَاجِبُ بِهَا حَقَّ اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- عَلَى الْخُلُوصِ تَأْكِيدًا لِلنَّفْعِ وَالدَّفْعِ؛ كَيْ لَا يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وَهُوَ مَعْنَى نِسْبَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ إلَى اللَّهِ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الصِّيَانَةِ وَدَفْعَ الْفَسَادِ يَحْصُلُ لِلْعَامَّةِ بِإِقَامَةِ هَذَا الْحَدِّ، فَكَانَ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَى الْخُلُوصِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ شَرَطَ فِيهِ الدَّعْوَى مِنْ الْمَقْذُوفِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَهُ حَقًّا لِلَّهِ- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ- عَلَى الْخُلُوصِ، كَحَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ شَرْطًا.
ثُمَّ نَقُولُ: إنَّمَا شُرِطَ فِيهِ الدَّعْوَى وَإِنْ كَانَ خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ- تَعَالَى عَزَّ اسْمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ يُطَالِبُ الْقَاذِفَ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا؛ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ فَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحَدِّ كَمَا فِي السَّرِقَةِ؛ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى، وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ جَبْرًا، وَالْجَبْرُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمِثْلِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقَذْفِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ فَلَا يَكُونُ حَقَّهُ.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ.
(وَلَنَا) أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْإِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ حَقَّ الْمَقْذُوفِ لَكَانَ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ كَمَا فِي الْقِصَاصِ.
(وَالثَّانِي)- أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْقَاذِفِ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ لَا حَقَّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ، وَالْجَزَاءُ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا، وَالْجِنَايَةُ تَتَكَامَلُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ، فَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْجَانِي، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا أَوْ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّهُ فَنَقُولُ: لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَالِاعْتِيَاضُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يَجْرِي فِي الْمَتْرُوكِ مِنْ مِلْكٍ أَوْ حَقٍّ لِلْمُوَرَّثِ عَلَى مَا قَالَ: «عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُوَرَّثُ وَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا:

وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي حَدِّ الزِّنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الزَّانِي مُحْصَنًا- مِائَةُ جَلْدَةٍ إنْ كَانَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا- فَخَمْسُونَ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ}؛ وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ تَزْدَادُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ، وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا مِنْ الْحُرِّ؛ لِاخْتِصَاصِ الْحُرِّ بِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ، فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَنْقَصَ، وَنُقْصَانُ الْجِنَايَةِ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ، هَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ إلَّا أَنَّ التَّنْقِيصَ بِالتَّنْصِيفِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَقَادِيرِ ثَبَتَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ}، وَفِي حَدِّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالْقَذْفِ ثَمَانُونَ فِي الْحُرِّ وَأَرْبَعُونَ فِي الْعَبْدِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَفِي حَدِّ السَّرِقَةِ لَا يَخْتَلِفُ قَدْرُ الْوَاجِبِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَةِ الْحُدُودِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَتِهَا فَمِنْهَا مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَهُوَ الْإِمَامَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لِلْحَدِّ هُوَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ- إذَا ظَهَرَ الْحَدُّ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعًا عِنْدَنَا، وَمَرَّةً عِنْدَهُ وَبِالْمُعَايَنَةِ بِأَنْ رَأَى عَبْدَهُ زَنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَهُ بِالشُّهُودِ بِأَنْ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ- فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، وَكَذَا فِي إقَامَةِ الْمَرْأَةِ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهَا، وَإِقَامَةِ الْمُكَاتَبِ الْحَدَّ عَلَى عَبْدٍ مِنْ أَكْسَابِهِ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وَهَذَا نَصٌّ.
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ عَادَتْ- فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ عَادَتْ- فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ عَادَتْ- فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» أَيْ بِحَبْلٍ، وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ السُّلْطَانَ إنَّمَا مَلَكَ الْإِقَامَةَ؛ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَتَسَلُّطُ الْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ فَوْقَ تَسَلُّطِ السُّلْطَانِ عَلَى رَعِيَّتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، وَيَمْلِكُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: فَلَمَّا ثَبَتَ الْجَوَازُ لِلسُّلْطَانِ فَالْمَوْلَى أَوْلَى؛ وَلِهَذَا مَلَكَ إقَامَةَ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِ، كَذَا الْحَدُّ.
(وَلَنَا) أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحُدُودِ ثَابِتَةٌ لِلْإِمَامِ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ، وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ اسْتِدْلَالًا بِوِلَايَةِ إنْكَاحِ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا ثَبَتَتْ لِلْأَقْرَبِ- لَمْ تَثْبُتْ لِمَنْ لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَهُوَ الْأَبْعَدُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحَدِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْإِمَامِ؛ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَهِيَ صِيَانَةُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقُضَاةَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ التَّعَرُّضِ خَوْفًا مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْإِمَامَةِ، وَالْإِمَامُ قَادِرٌ عَلَى الْإِقَامَةِ؛ لِشَوْكَتِهِ وَمَنَعَتِهِ وَانْقِيَادِ الرَّعِيَّةِ لَهُ قَهْرًا وَجَبْرًا، وَلَا يَخَافُ تَبِعَةَ الْجُنَاةِ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ لِانْعِدَامِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ، وَتُهْمَةُ الْمَيْلِ وَالْمُحَابَاةِ وَالْتَوَانِي عَنْ الْإِقَامَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّهِ فَيُقِيمُ عَلَى وَجْهِهَا فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ الْمَشْرُوعُ لَهُ الْوِلَايَةُ بِيَقِينٍ.
وَأَمَّا الْمَوْلَى فَرُبَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ نَفْسِهَا وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ؛ لِمُعَارَضَةِ الْعَبْدِ إيَّاهُ؛ وَلِأَنَّهُ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ يُعَارِضُهُ فَيَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقَامَةِ- خُصُوصًا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى نَفْسِهِ- فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَكَذَا الْمَوْلَى يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ الْعَبْدِ الشِّرِّيرِ، وَلَوْ قَصَدَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ أَمْوَالِهِ وَيَقْصِدَ إهْلَاكَهُ، وَيَهْرُبَ مِنْهُ فَيَمْتَنِعُ عَنْ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ فَقَدْ يُقِيمُ وَقَدْ لَا يُقِيمُ؛ لِمَا فِي الْإِقَامَةِ مِنْ نُقْصَانِ قِيمَتِهِ بِسَبَبِ عَيْبِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، أَوْ يَخَافُ سِرَايَةَ الْجَلَدَاتِ إلَى الْهَلَاكِ.
وَالْمَرْءُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، وَلَوْ أَقَامَ- فَقَدْ يُقِيمُ عَلَى الْوَجْهِ وَقَدْ لَا يُقِيمُ عَلَى الْوَجْهِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي تَحْصِيلِ مَا شُرِعَ لَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ، فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ التَّعْزِيرَ: هُوَ التَّغْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَقَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَتَعْبِيسِ الْوَجْهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِضَرْبِ أَسْوَاطٍ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ وَحَالِ الْجَانِي؛ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَوْلَى يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّأْدِيبِ فَلَهُ قُدْرَةُ التَّأْدِيبِ، وَالْعَبْدُ يَنْقَادُ لِمِثْلِهِ لِلْمَوْلَى وَلَا يُعَارِضُهُ، فَالْمَوْلَى أَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِيلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَلَا تَعْيِيبًا فِيهِ، بِخِلَافِ الْحَدِّ.
وَالثَّانِي- أَنَّ فِي التَّعْزِيرِ ضَرُورَةً لَيْسَتْ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْزِيرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهَا، فَيَحْتَاجُ الْمَوْلَى إلَى أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَفِي الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ حَرَجٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمَوَالِي؛ فَفُوِّضَتْ إقَامَةُ الْحَدِّ إلَى الْمَوَالِي شَرْعًا، أَوْ صَارَ الْمَوْلَى مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ دَلَالَةً، وَصَارَ نَائِبًا عَنْ الْإِمَامِ فِيهِ، وَلَا حَرَجَ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ؛ لِانْعِدَامِ كَثْرَةِ أَسْبَابِ وُجُوبِهِ وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِقَوْمٍ مَعْلُومِينَ، عُلِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْحُدُودَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالسُّلْطَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْأَئِمَّةِ فِي حَقِّ عَبِيدِهِمْ، وَالتَّخْصِيصُ لِلتَّرْغِيبِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ وَالسَّلَاطِينَ لَا يُبَاشِرُونَ الْإِقَامَةَ بِأَنْفُسِهِمْ عَادَةً بَلْ يُفَوِّضُونَهَا إلَى الْحُكَّامِ وَالْمُحْتَسَبِينَ، وَقَدْ يَجِيءُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَقْصِيرٌ، وَيُحْتَمَلُ الْإِقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِالسَّعْيِ لِرَفْعِ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ، وَتَخْصِيصُ الْمَوْلَى لِلتَّرْغِيبِ لَهُمْ فِي الْإِقَامَةِ؛ لِاحْتِمَالِ الْمَيْلِ وَالتَّقْصِيرِ فِي ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ التَّعْزِيرَ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَدِّ فِيهِ- وَهُوَ الْمَنْعُ- فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِهَا تُوجَدُ فِي أَقْطَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَيْهَا، وَفِي الْإِحْضَارِ إلَى مَكَانِ الْإِمَامِ حَرَجٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِخْلَافُ- لَتَعَطَّلَتْ الْحُدُودُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِهَذَا «كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَجْعَلُ إلَى الْخُلَفَاءِ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ»، ثُمَّ الِاسْتِخْلَافُ نَوْعَانِ: تَنْصِيصٌ، وَتَوْلِيَةٌ، أَمَّا التَّنْصِيصُ: فَهُوَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ؛ فَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ إقَامَتُهَا بِلَا شَكٍّ.
وَأَمَّا التَّوْلِيَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ فَالْعَامَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً عَامَّةً، مِثْلَ إمَارَةِ إقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ عَظِيمٍ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى إقَامَةَ الْحُدُودِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَلَّدَهُ إمَارَةَ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهِ الْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ- وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ مُعْظَمُ مَصَالِحِهِمْ- فَيَمْلِكُهَا، وَالْخَاصَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً خَاصَّةً، مِثْلَ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّوْلِيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إقَامَةَ الْحُدُودِ، وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ أَمِيرٌ عَلَى الْجَيْشِ الْكَبِيرِ فَإِنْ كَانَ أَمِيرَ مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَغَزَا بِجُنْدِهِ- فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ فِي مُعَسْكَرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدِهِ، فَإِذَا خَرَجَ بِأَهْلِهِ أَوْ بِبَعْضِهِمْ مَلَكَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَمْلِكُ فِيهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ.
وَأَمَّا مَنْ أَخْرَجَهُ أَمِيرُ الْبَلَدِ غَازِيًا فَمَا كَانَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَبَعْدَ الْخُرُوجِ، لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ الْإِقَامَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ، وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَيُنْفِذَ الْقَضَاءَ فِي مُعَسْكَرِهِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى جَمِيعِ دَارِ الْإِسْلَامِ ثَابِتَةً، وَكَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ قَاضِيًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُعَسْكَرِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا الْبِدَايَةُ مِنْ الشُّهُودِ فِي حَدِّ الرَّجْمِ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ عَنْ الْبِدَايَةِ أَوْ مَاتُوا أَوْ غَابُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ- لَا يُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الشُّهُودَ فِيمَا وَرَاءَ الشَّهَادَةِ وَسَائِرَ النَّاسِ سَوَاءٌ، ثُمَّ لَا تُشْتَرَطُ الْبِدَايَةُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَكَذَا مِنْ الشُّهُودِ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحَدِّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْجَلْدُ، وَالْبِدَايَةُ مِنْ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ كَذَا فِي الرَّجْمِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَرْجُمُ الشُّهُودُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ وَكَلِمَةُ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؛ فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْطِ احْتِيَاطًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إذَا بَدَءُوا بِالرَّجْمِ- رُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا الْبِدَايَةَ شَرْطًا اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ- فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي الرَّجْمِ خَاصَّةً فَيَبْقَى أَمْرُ الْجَلْدِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ الْجَلْدَ لَا يُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَفُوِّضَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْأَئِمَّةِ- بِخِلَافِ الرَّجْمِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِلشُّهُودِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا، حَتَّى لَوْ بَطَلَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالْفِسْقِ أَوْ الرِّدَّةِ أَوْ الْجُنُونِ أَوْ الْعَمَى أَوْ الْخَرَسِ أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ، بِأَنْ فَسَقَ الشُّهُودُ أَوْ ارْتَدُّوا أَوْ جُنُّوا أَوْ عَمُوا أَوْ خَرِسُوا أَوْ ضُرِبُوا حَدَّ الْقَذْفِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ أَسْبَابِ الْجَرْحِ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَ إمْضَاءِ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَاضِهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِهِ، وَاعْتِرَاضُهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ فَكَذَا عِنْدَ الْإِمْضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ عَنْ الْقَضَاءِ.
وَأَمَّا مَوْتُ الشُّهُودِ وَغِيبَتُهُمْ عِنْدَ الْإِقَامَةِ فَلَا يَمْنَعَانِ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ إلَّا الرَّجْمُ، حَتَّى لَوْ مَاتُوا كُلُّهُمْ أَوْ غَابُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ- يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إلَّا الرَّجْمَ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ لَا تُبْطَلُ بِالْمَوْتِ وَالْغَيْبَةِ بَلْ تَتَنَاهَى وَتَتَقَرَّرُ وَتُخْتَمُ بِهَا الْعَدَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْجَرْحَ، وَفِي حَدِّ الرَّجْمِ إنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِقَامَةَ لَا لِأَنَّهُمَا يُجَرِّحَانِ فِي الشَّهَادَةِ بَلْ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ مِنْ الشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ- وَلَمْ تُوجَدْ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الشُّهُودِ إذَا كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي أَوْ بِهِمْ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ الرَّمْيَ- أَنَّ الْإِمَامَ يَرْمِي، ثُمَّ النَّاسُ، وَجَعَلَ قَطْعَ الْيَدِ أَوْ الْمَرَضَ عُذْرًا فِي فَوَاتِ الْبِدَايَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَوْتَ عُذْرًا فِيهِ، وَإِنْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالْإِقْرَارِ يَبْدَأُ بِهِ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ خَوْفُ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، فَلَا يَجُوزُ الْإِقَامَةُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ؛ لِمَا فِي الْإِقَامَةِ فِيهِمَا مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ، وَلَا يُقَامُ عَلَى مَرِيضٍ حَتَّى يَبْرَأَ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَجَعُ الْمَرَضِ وَأَلَمُ الضَّرْبِ؛ فَيُخَافُ الْهَلَاكُ، وَلَا يُقَامُ عَلَى النُّفَسَاءِ حَتَّى يَنْقَضِيَ النِّفَاسُ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ وَيُقَامُ عَلَى الْحَائِضِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَيْسَ بِمَرَضٍ، وَلَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ وَتَطْهُرَ مِنْ النِّفَاسِ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ هَلَاكِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَةِ، وَيُقَامُ الرَّجْمُ فِي هَذَا كُلِّهِ إلَّا عَلَى الْحَامِلِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْهَلَاكِ وَالرَّجْمُ حَدٌّ مُهْلِكٌ، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْهَلَاكِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إهْلَاكَ الْوَلَدِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَلَا يُجْمَعُ الضَّرْبُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، أَوْ إلَى تَمْزِيقِ جِلْدِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، بَلْ يُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْكَتِفَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ وَالرَّأْسَ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَى الْفَرْجِ مُهْلِكٌ عَادَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقِ وَجْهَهُ وَمَذَاكِيرَهُ» وَالضَّرْبُ عَلَى الْوَجْهِ يُوجِبُ الْمُثْلَةَ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ»، وَالرَّأْسُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ وَفِيهِ الْعَقْلُ فَيُخَافُ مِنْ الضَّرْبِ عَلَيْهِ فَوَاتُ الْعَقْلِ أَوْ فَوَاتُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ.
وَفِيهِ إهْلَاكُ الذَّاتِ مِنْ وَجْهٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَيْضًا: لَا يُضْرَبُ الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ، وَيُضْرَبُ الرَّأْسُ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ أَمَّا الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ؛ فَلِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ الْهَلَاكِ.
وَأَمَّا الرَّأْسُ؛ فَلِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي قَتْلِ أَهْلِ الْحَرْبِ خُصُوصًا قَوْمًا كَانُوا بِالشَّامِ يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ تَفْرِيقُ الضَّرْبِ عَلَى الْأَعْضَاءِ مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: يُضْرَبُ كُلُّهُ عَلَى الظَّهْرِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْجَلْدُ وَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ ضَرْبِ الْجِلْدِ، وَالضَّرْبُ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ مُمَزِّقٌ لِلْجِلْدِ، وَبَعْدَ تَمْزِيقِ الْجِلْدِ لَا يُمْكِنُ الضَّرْبُ عَلَى الْجِلْدِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ فِي الْجَمْعِ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ خَوْفَ الْهَلَاكِ، وَهَذَا الْحَدُّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إقَامَةِ الْحُدُودِ فَأَمَّا حَدُّ الرَّجْمِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْبَطَ الْمَرْجُومُ بِشَيْءٍ، وَلَا أَنْ يُمْسَكَ، وَلَا أَنْ يُحْفَرَ لَهُ إذَا كَانَ رَجُلًا بَلْ يُقَامُ قَائِمًا؛ لِأَنَّ مَاعِزًا لَمْ يُرْبَطْ وَلَمْ يُمْسَكْ وَلَا حُفِرَ لَهُ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ هَرَبَ مِنْ أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ وَلَوْ رُبِطَ أَوْ مُسِكَ أَوْ حُفِرَ لَهُ لَمَا قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرْجُومُ امْرَأَةً فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ حَفَرَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْفِرْ، أَمَّا الْحَفْرُ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَفَرَ لِلْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ إلَى ثَنْدُوَتِهَا، وَأَخَذَ حَصَاةً مِثْلَ الْحِمَّصَةِ وَرَمَاهَا بِهَا».
وَحَفَرَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِشُرَاحَة الْهَمْذَانِيَّةِ إلَى سُرَّتِهَا وَأَمَّا تَرْكُ الْحَفْرِ؛ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ لِلسَّتْرِ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُجَرَّدُ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا بَأْسَ لِكُلِّ مَنْ رَمَى أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ مُهْلِكٌ فَمَا كَانَ أَسْرَعُ إلَى الْهَلَاكِ كَانَ أَوْلَى، إلَّا إذَا كَانَ الرَّامِي ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَرْجُومِ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ الرَّحِمِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ وَيُغْنِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ حَنْظَلَةَ- غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ- اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ أَبِي عَامِرٍ- وَكَانَ مُشْرِكًا- فَنَهَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: دَعْهُ يَكْفِيكَ غَيْرُكَ».
وَأَمَّا حَدُّ الْجَلْدِ: فَأَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ، أَمَّا مِنْ جِنَايَةِ الْقَذْفِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا فَكَانَتْ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا.
وَأَمَّا مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ؛ فَلِأَنَّ قُبْحَ الزِّنَا ثَبَتَ شَرْعًا وَعَقْلًا وَحُرْمَةُ نَفْسِ الشُّرْبِ ثَبَتَتْ شَرْعًا لَا عَقْلًا؛ وَلِهَذَا كَانَ الزِّنَا حَرَامًا فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِخِلَافِ الشُّرْبِ، وَكَذَا الْخَمْرُ يُبَاحُ عِنْدَ ضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَغَلَبَةِ الشَّبَقِ، وَكَذَا وُجُوبُ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمَكْنُونِ وَلَا نَصَّ فِي الشُّرْبِ وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْقَذْفِ فَقَالُوا: إذَا سَكِرَ- هَذَى، وَإِذَا هَذَى- افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جَلَّ شَأْنُهُ- فِي حَدِّ الزِّنَا فِي حَدِّ الزِّنَا: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ: أَيْ بِتَخْفِيفِ الْجَلَدَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ الْقَذْفِ أَخَفَّ الضَّرْبَيْنِ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ وُجُودَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي- أَنَّهُ انْضَافَ إلَيْهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ فَجَرَى فِيهِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ وَيُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ عَلَى الْعِقَابَيْنِ وَلَا عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، بَلْ يُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ السَّوْطَ بَعْدَ الضَّرْبِ بَلْ يُرْفَعُ؛ لِأَنَّ الْمَدَّ بَعْدَ الضَّرْبِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى؛ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْحَدِّ، وَلَا يَمُدُّ الْجَلَّادُ يَدَهُ إلَى مَا فَوْقَ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ فِيهِ الْهَلَاكُ أَوْ تَمْزِيقُ الْجِلْدِ، وَلَا يَضْرِبُ بِسَوْطٍ لَهُ ثَمَرَةٌ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الثَّمَرَةِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى، فَيَصِيرُ كُلُّ ضَرْبَةٍ بِضَرْبَتَيْنِ؛ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَلَّادُ عَاقِلًا بَصِيرًا بِأَمْرِ الضَّرْبِ، فَيَضْرِبُ ضَرْبَةً بَيْنَ ضَرْبَتَيْنِ لَيْسَ بِالْمُبَرِّحِ وَلَا بِاَلَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ مَسٌّ، وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَيُضْرَبُ عَلَى إزَارٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا، وَمَعْنَى الشِّدَّةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّجْرِيدِ، وَفِي حَدِّ الشُّرْبِ يُجَرَّدُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ضَرْبَ الشُّرْبِ أَخَفُّ مِنْ ضَرْبِ الزِّنَا، فلابد مِنْ إظْهَارِ آيَةِ التَّخْفِيفِ وَذَلِكَ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مَرَّةً فِي الضَّرْبِ، فَلَوْ خَفَّفَ فِيهِ ثَانِيًا بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ- لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ وَهُوَ الزَّجْرُ، وَلَا يُجَرَّدُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ مُحْتَمَلٌ فَيُرَاعَى فِيهِ التَّخْفِيفُ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ، كَمَا رُوعِيَ فِي أَصْلِ الضَّرْبِ، بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُنْزَعُ عَنْهَا ثِيَابُهَا إلَّا الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَتُضْرَبُ قَاعِدَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ فِي الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ يَقَعُ إهْلَاكًا لِلْعُضْوِ أَوْ تَمْزِيقًا أَوْ تَخْرِيقًا لِلْجِلْدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، فَيُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ وَالرَّأْسَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَلَا يُقَامُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ، وَفِي إقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِ تَرْكُ تَعْظِيمِهِ، يُؤَيِّدُهُ أَنَّا نُهِينَا عَنْ سَلِّ السُّيُوفِ فِي الْمَسَاجِدِ، قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبِيَاعَاتِكُمْ وَأَشْرِيَتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَّ السَّيْفِ فِي تَرْكِ التَّعْظِيمِ دُونَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَلَمَّا كُرِهَ ذَلِكَ؛ فَلَأَنْ يُكْرَهَ هَذَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ فِي الْمَسْجِدِ لَا تَخْلُو عَنْ تَلْوِيثِهِ؛ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عَنْ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ كُلُّهَا فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزَّ اسْمُهُ- {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَا، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَكُونُ وَارِدًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ وَالْغُيَّبَ يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ، وَكَذَا فِيهِ مَنْعُ الْجَلَّادِ مِنْ الْمُجَاوَزَةِ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ لَمَنَعَهُ النَّاسُ عَنْ الْمُجَاوَزَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَفْعُ التُّهْمَةِ وَالْمَيْلِ فَلَا يَتَّهِمُهُ النَّاسُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ بِلَا جُرْمٍ سَبَقَ مِنْهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.