فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ لَكِنَّ بَعْضَهَا يَعُمُّ الْأَقَارِيرَ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمَأْذُونِ لِلضَّرُورَةِ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَكَذَا بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ حَتَّى لَا تُبَاعَ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ إنَّمَا صَحَّ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَالْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لِوُجُودِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِحَقِّهِ فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ وَكَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالْخَارِجِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ.
وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْمَرَضُ لَيْسَ بِمَانِعٍ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الصَّحِيحِ بِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَحَالُ الْمَرِيضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ فَكَانَ إقْرَارُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تُخِلُّ بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَالشَّهَادَةُ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ دَلَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةٌ وَأَنَّهَا تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ.
وَفُرُوعُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَأْتِي فِي خِلَالِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا الطَّوْعُ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمُكْرَهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مَعْلُومًا حَتَّى لَوْ قَالَ: رَجُلَانِ لِفُلَانٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ، لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فَائِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: غَصَبَ وَاحِدٌ مِنَّا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: وَاحِدٌ مِنَّا زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَ الْأَقَارِيرِ دُونَ الْبَعْضِ فَمَعْرِفَتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَقُولُ- وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى- إنَّ الْمُقَرَّ بِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى- عَزَّ شَأْنُهُ- وَالثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ أَمَّا حَقُّ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ، وَلِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا شَرَائِطُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.

.فَصْلٌ: حَقُّ الْعَبْدِ:

وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَالُ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالْقِصَاصِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعَدَدِ وَمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْعِبَارَةِ حَتَّى إنَّ الْأَخْرَسَ إذَا كَتَبَ الْإِقْرَارَ بِيَدِهِ أَوْ أَوْمَأَ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَجُوزُ بِخِلَافِ الَّذِي اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ لِأَنَّ لِلْأَخْرَسِ إشَارَةً مَعْهُودَةً فَإِذَا أَتَى بِهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْخَرَسُ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ أَصْلِيٌّ (فَأَمَّا) اعْتِقَالُ اللِّسَانِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْحُدُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى صَرِيحِ الْبَيَانِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيِّ عَلَى صَرِيحِ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّعَمُّدِ بِذِكْرِ آلَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ، وَهِيَ السَّيْفُ وَنَحْوُهُ يُسْتَوْفَى بِمِثْلِهِ الْقِصَاصُ وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا الصَّحْوُ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ صَاحٍ أَوْ لِأَنَّهُ يُنَزَّلُ عَقْلُهُ قَائِمًا فِي حَقِّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَيُلْحَقُ فِيهَا بِالصَّاحِي مَعَ زَوَالِهِ حَقِيقَةً عُقُوبَةً عَلَيْهِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
لَكِنْ الشَّرَائِطُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَاد نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مَوْجُودًا كَانَ أَوْ حَمْلًا حَتَّى لَوْ كَانَ مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ عَلَيَّ أَوْ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يُفِيدُ الْإِقْرَارُ حَتَّى لَوْ عَيَّنَ وَاحِدًا بِأَنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ فُلَانًا يَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنْ بَيَّنَ جِهَةً يَصِحُّ وُجُوبُ الْحَقِّ لِلْحَمْلِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِأَنْ قَالَ الْمُقِرُّ: أَوْصَى بِهَا فُلَانٌ لَهُ أَوْ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ صَحَّ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ فَيَصِحُّ.
وَإِنْ أَجْمَلَ الْإِقْرَارَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ إقْرَارَ الْعَاقِلِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى إقْرَارِهِ عَلَى جِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ لَهُ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُبْهَمَ لَهُ جِهَةُ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَصِحُّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَالْإِرْثُ يَفْسُدُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ مَعَ مَا أَنَّ الْحَمْلَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَالشَّكُّ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا أَقَرَّ لِلْحَمْلِ.
(أَمَّا) إذَا أَقَرَّ بِالْحَمْلِ بِأَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ بِحَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ مَالِكُ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ فَأَقَرَّ بِهِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَشَرْطُ صِحَّةِ الْفَرَاغِ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ وَمَعْرِفَةِ مَحَلِّ التَّعَلُّقِ.
(أَمَّا) وَقْتُ التَّعَلُّقِ فَهُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ، فَمَا دَامَ الْمَدْيُونُ صَحِيحًا فَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ أَيْ يَتَعَيَّنُ فِيهَا وَيَتَحَوَّلُ مِنْ الذِّمَّةِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا بِالْمَوْتِ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرَضَ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّعَلُّقَ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَيَانُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِبَيَانِ حُكْمِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَمَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَمَا يَسْتَوِيَانِ فِيهِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ- إقْرَارُ الْمَرِيضِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِهِ (فَأَمَّا) إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ.
(أَمَّا) إنْ أَقَرَّ بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِوَارِثٍ: فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِوَارِثٍ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ جِهَةَ الصِّحَّةِ لِلْإِقْرَارِ هِيَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَهَذَا فِي الْوَارِثِ مِثْلُ مَا فِي الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ يُقْبَلُ إقْرَارُ الْأَجْنَبِيِّ كَذَا الْوَارِثِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَابْنِهِ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِجَوَازِ أَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ بِمَيْلِ الطَّبْعِ أَوْ بِقَضَاءِ حَقٍّ مُوجِبٍ لِلْبَعْثِ عَلَى الْإِحْسَانِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ فَأَرَادَ تَنْفِيذَ غَرَضِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوَارِثِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ فَيُرَدُّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الثُّلُثِ مَعَ مَا أَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَجْنَبِيٍّ فِيهِ فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْبَعْضِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْبَاقِينَ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَجُزْ لِوَارِثٍ فَالْإِقْرَارُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْإِقْرَارُ لَارْتَفَعَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يَمِيلُ إلَى الْإِقْرَارِ اخْتِيَارًا لِلْإِيثَارِ بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ بِالْوَصِيَّةِ إلَّا الثُّلُثُ، وَبِالْإِقْرَارِ يَذْهَبُ جَمِيعُ الْمَالِ فَكَانَ إبْطَالُ الْإِقْرَارِ إبْطَالَ الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِوَارِثٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَوَانِعِ مُنْعَدِمَةٌ فِي إقْرَارِهِ هَذَا إذَا أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا فِي الثُّلُثِ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مُتَعَلِّقٌ وَلِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ التَّبَرُّعَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُخَالِفٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَيَصِحُّ، وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِانْعِدَامِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بَلْ الدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ حَالَةَ الْمَرَضِ وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ الصَّحِيحُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ جَازَ عَلَيْهِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ حَالَ الصِّحَّةِ حَالُ الْإِطْلَاقِ لِوُجُودِ الْمُوجِبِ لِلْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِعَارِضِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ أَوْ لِلتُّهْمَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ هاهنا مُنْعَدِمٌ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ لِحُصُولِ الْكُلِّ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَاسْتَوَى فِيهِ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ اسْتِوَاءَ الْكُلِّ فِي التَّعَلُّقِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي زَمَانِ التَّعَلُّقِ وَهُوَ زَمَانُ الْمَرَضِ إذْ زَمَنُ الْمَرَضِ مَعَ امْتِدَادِهِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ حَقِيقَةً بِمَنْزِلَةِ زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَلَوْ أَقَرَّ وَهُوَ مَرِيضٌ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِعَيْنٍ بِأَنْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ الَّذِي فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ فَهُمَا دَيْنَانِ وَلَا تُقَدَّمُ الْوَدِيعَةُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ قَدْ صَحَّ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَيْنِ لِكَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، وَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ لَا يُبْطِلُ التَّعَلُّقَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ يُصَانُ عَنْ الْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَارَ مُقِرًّا بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ فَالْإِقْرَارُ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِذَلِكَ كَانَا دَيْنَيْنِ وَلَوْ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ لَمَّا صَحَّ خَرَجَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّعَلُّقِ لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يَثْبُتُ التَّعَلُّقُ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَرِيضِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ لَا بِغَيْرِهَا وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِمَالٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْوَدِيعَةِ سَوَاءٌ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
هَذَا إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ آخَرَ نُظِرَ فِي ذَلِكَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الظَّاهِرَةُ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي الْقَضَاءِ فَتُقْضَى دُيُونُهُمْ أَوَّلًا مِنْ التَّرِكَةِ فَمَا فَضَلَ يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَسْتَوِيَانِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ غَرِيمَ الْمَرَضِ مَعَ غَرِيمِ الصِّحَّةِ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَحَالَةُ الْمَرَضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَتَدَارَكُ الْإِنْسَانُ فِيهَا مَا فَرَّطَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الصِّدْقَ فِيهَا أَغْلَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.
(وَلَنَا) أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ لَمْ يُوجَدْ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ فَرَاغُ الْمَالِ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لَنَفَذَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ التَّبَرُّعُ تَصَرُّفًا مِنْ الْأَصْلِ فِي مَحَلٍّ هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ وَحُكْمُ الشَّرْعِ فِي مِثْلِهِ النَّفَاذُ فَدَلَّ عَدَمُ النَّفَاذِ عَلَى تَعَلُّقِ النَّفَاذِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَلُّقُ فَقَدْ انْعَدَمَ الْفَرَاغُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ سِوَى إقْرَارِهِ كَانَ مُتَّهَمًا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضَرْبُ عِنَايَةٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ أَوْ بَيْنَهُمَا حُقُوقٌ تَبْعَثُهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ وَالصِّلَةِ فِي حَقِّهِ وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَيُرِيدُ بِهِ تَحْصِيلَ مُرَادِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُرَدُّ إقْرَارُهُ بِالتُّهْمَةِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِعَبْدِهِ فِي يَدِهِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَكَانُوا أَحَقَّ بِالْغُرَمَاءِ مِنْ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا وَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْعَبْدِ لِفُلَانٍ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِمْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ.
(فَأَمَّا) إذَا كَانَ بِأَنْ كَانَ بَدَلًا عَنْ مَالٍ مَلَكَهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ بَدَلًا عَنْ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَيُقَدَّمَانِ جَمِيعًا عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَمْ يَحْتَمِلْ الرَّدَّ فَيَظْهَرُ وُجُوبُهُ بِإِقْرَارِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ وَكَذَا إذَا كَانَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَا يُتَّهَمُ فِي إقْرَارِهِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَرَضِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى غُرَمَاءِ الصِّحَّة وَالْمَرْأَةُ تُخَاصِمُهُمْ بِمَهْرِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ النِّكَاحُ- وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِوُجُوبِ الْمَهْرِ- كَانَ وُجُوبُهُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا لِظُهُورِ سَبَبِ وُجُوبِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ فَيَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ ضَرُورَةً يُحَقِّقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا لَمْ يَجُزْ بِدُونِ وُجُوبِ الْمَهْرِ، وَالنِّكَاحُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ، فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ شَرْعًا وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ صَرْفِ مَالِهِ إلَى حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ، وَلِلصَّحِيحِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمْ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْبَاقُونَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّيْنَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ بَلْ هُوَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ فِي إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فَمَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا مُشْتَرَكًا فَكَانَ الْمَقْبُوضُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ عَلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ كَانُوا غُرَمَاءَ الْمَرَضِ أَوْ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمْ شَارَكَهُ الْبَاقُونَ فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالتَّرِكَةِ، وَحُقُوقُهُمْ فِي التَّعَلُّقِ عَلَى السَّوَاءِ فَكَانَ فِي إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَدَلَ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْقَرْضَ وَيَنْقُدَ الثَّمَنَ وَلَا يُشَارِكَهُ الْغُرَمَاءُ فِي الْمَقْبُوضِ وَالْمَنْقُودِ لِأَنَّ الْإِيثَارَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ إبْطَالًا لِحَقِّ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ لَا بِصُورَتِهَا وَالتَّرِكَةُ قَائِمَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِقِيَامِ بَدَلِهَا لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ يَقُومُ مُقَامَةَ كَأَنَّهُ هُوَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إبْطَالًا مَعْنًى وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَنَقَدَهُمَا الْمَهْرَ وَالْأُجْرَةَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمَا الْمَنْقُودَ بَلْ الْغُرَمَاءُ يَتْبَعُونَهُمَا وَيُخَاصِمُونَهُمَا بِدُيُونِهِمْ وَكَانُوا أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ أَعْنِي جَعْلَ الْمَنْقُودِ سَالِمًا لَهُمَا إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ بَدَلٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ وَهِيَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِهِ لِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْقِسْمَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ تَقْدِيمُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ حَقٌّ وُضِعَ فِي الْمَالِ الْفَارِغِ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَإِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِلتَّرِكَةِ وَالتَّرِكَةُ مَشْغُولَةٌ بِحَاجَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَرَيَانِ الْإِرْثِ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى- عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَقَدْ قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَسَوَاءٌ كَانَ دَيْنَ الصِّحَّةِ أَوْ دَيْنَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ الدُّيُونُ فَالْغُرَمَاءُ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ بِالْحِصَصِ وَلَوْ تَوَى شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ اقْتَسَمُوا الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وَيُجْعَلُ التَّاوِي كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فَمَحَلُّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ هُوَ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى مِنْ الْمَالِ لَا مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِكُلِّ مَتْرُوكٍ وَهُوَ مَالٌ مِنْ الْعَيْنِ، وَالدَّيْنُ، وَدِيَةُ الْمَدْيُونِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَاتِ الْوَاجِبَةُ لَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا حَتَّى لَا يَصِحَّ عَفْوُهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَنْ الْقِصَاصِ حَتَّى انْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَيُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُمْ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَكَانَ حَقَّهُ فَيُصْرَفُ إلَى دُيُونِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ.
وَكَذَلِكَ الْمَدْيُونُ إذَا كَانَتْ امْرَأَةً يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَهْرِهَا وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَمَا عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَقَارِيرِ وَتَفَاصِيلِهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي إقْرَارِ الْحُرِّ فَهُوَ الْحُكْمُ فِي إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ هُوَ فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ وَالْحُرُّ سَوَاءً وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ فِي مَرَضِهِ جَازَتْ مُحَابَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَمُحَابَاةُ الْحُرِّ الْمَرِيضِ لَا تَجُوزُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْحُرِّ عَنْ الْمُحَابَاةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَالْعَبْدُ لَا وَارِثَ لَهُ وَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَحَابَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُحَابَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَفِي يَدِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ أَخَذَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَجَازَتْ الْمُحَابَاةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا فِي يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْت فَأَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْمَبِيعَ، كَالْحُرِّ الْمَرِيضِ إذَا حَابَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ:

وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثٍ، وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ: فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ وَيُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ حَتَّى يَبْرَأَ الْغَرِيمُ عَنْ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ نَحْوَ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ بَدَلِ صُلْحٍ عَنْ عَمْدٍ أَوْ كَانَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ نَحْوَ بَدَلِ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، وَسَوَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ.
أَمَّا إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالُ فُلَانٍ الْمَرِيضِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ اسْتَحَقَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الدَّيْنِ بِالْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ حَالَةَ الصِّحَّةِ كَمَا اسْتَحَقَّهَا بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَالِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالْعَارِضُ هُوَ الْمَرَضُ وَأَثَرُهُ فِي حَجْرِ الْمَرِيضِ عَمَّا كَانَ لَهُ لَا فِي حَجْرِهِ عَمَّا كَانَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ ثَبَتَ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِذْنِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَجْرَ الْعَبْدِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْمَرِيضُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ثُمَّ أَثَرُ الْحَجْرِ هُنَاكَ ظَهَرَ فِيمَا لَهُ لَا فِيمَا عَلَيْهِ فَهاَهُنَا أَوْلَى.
(وَأَمَّا) إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَلِأَنَّ بِالْمَرَضِ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ وَهُوَ النَّفْسُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِهِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيَصِحُّ وَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ الْوَاقِعَةِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يُصَدَّقُ وَيَبْرَأُ الْمُكَاتَبُ لِمَا قُلْنَا: هَذَا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ فَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ مَالٌ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ عَنْ الْمُبْدَلِ إلَّا أَنْ يَصِلَ الْبَدَلُ إلَيْهِمْ فَيَكُونُ بَدَلًا مَعْنًى لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا وُصُولَ لِلْبَدَلِ إلَيْهِمْ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّهِمْ فَبَقِيَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَوْفَى دَيْنًا مِنْ غَيْرِهِ يَصِيرُ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ- وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ- لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ رَجُلٌ عَلَى الْمَرِيضِ شَيْئًا فِي مَرَضِهِ فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِقَبْضِ الْقِيمَةِ مِنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمُبْدَلِ حَالَةَ الْمَرَضِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ وَلَوْ أَتْلَفَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ دَيْنِ الصِّحَّةِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ بِالْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ بِالْمَرَضِ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ فَصَارَ الْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَائِهِ وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَكَذَا هَذَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ لِلْمَرِيضِ أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَزِمَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَبْدِ بَدَلُ النَّفْسِ عِنْدَنَا لَا بَدَلُ الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ مُقَدَّرًا كَأَرْشِ الْأَحْرَارِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَيُنْقِصُ عَشَرَةً عَنْ عَشْرَةِ آلَافٍ لِئَلَّا يَبْلُغَ دِيَةَ الْحُرِّ وَيُنْقِصُ الدِّرْهَمُ الْحَادِيَ عَشَرَ لِئَلَّا تَبْلُغَ بَدَلُ يَدِهِ بَدَلَ نَفْسِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَجِبُ بِقَطْعِ يَدِ هَذَا الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دَلَّ أَنَّ أَرْشَ يَدِ الْعَبْدِ وَجَبَ مُقَدَّرًا فَكَانَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَأَرْشِ الْحُرِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْجَانِي قَتَلَ الْعَبْدَ مُتَعَمِّدًا فَصَالَحَهُ الْمَرِيضُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَدَلَ الصُّلْحِ جَازَ وَكَانَ مُصَدَّقًا؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.