فصل: أَقْسَامِ الْأَسْفَارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.أَقْسَامِ الْأَسْفَارِ:

.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: السَّفَرُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ:

وَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا نَفْلٌ وَذَلِكَ بِحَسَبِ كَوْنِ الْعِلْمِ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا، وَذَلِكَ الْعِلْمُ إِمَّا عِلْمٌ بِأُمُورٍ دِينِيَّةٍ أَوْ بِأَخْلَاقِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ»، وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ الْمَدِينَةِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ عَنْ عبد الله بن أنيس، حَتَّى سَمِعَهُ عَنْهُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ سَافَرَ رَجُلٌ مِنَ الشَّامِ إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فِي كَلِمَةٍ تَدُلُّهُ عَلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى مَا كَانَ سَفَرُهُ ضَائِعًا.
وَأَمَّا عِلْمُهُ بِنَفْسِهِ وَأَخْلَاقِهِ فَذَلِكَ مُهِمٌّ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى خَبَائِثِ صِفَاتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنْهَا، وَالنَّفْسُ فِي الْوَطَنِ مَعَ مُوَاتَاةِ الْأَسْبَابِ لَا تَظْهَرُ خَبَائِثُ أَخْلَاقِهَا لِاسْتِئْنَاسِهَا بِمَا يُوَافِقُ طَبْعَهَا مِنَ الْمَأْلُوفَاتِ، فَإِذَا امْتُحِنَتْ بِمَشَاقِّ الْغُرْبَةِ وَقَعَ الْوُقُوفُ عَلَى عُيُوبِهَا فَيُمْكِنُ الِاشْتِغَالُ بِعُيُوبِهَا. وَأَمَّا آيَاتُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَفِي مُشَاهَدَتِهَا فَوَائِدُ لِلْمُسْتَبْصِرِ، فَفِيهَا قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، وَفِيهَا الْجِبَالُ وَالْبَرَارِي وَالْبِحَارُ، وَأَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ.

.الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُسَافِرَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ مِنْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ:

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى».

.الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ لِلْهَرَبِ مِنْ سَبَبٍ مُشَوِّشٍ لِلدِّينِ:

وَذَلِكَ أَيْضًا حَسَنٌ، فَالْفِرَارُ مِمَّا لَا يُطَاقُ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ خِيفَةً مِنَ الْفِتَنِ.
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قِيلَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ قَرْيَةٍ فِيهَا رُخْصٌ أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: وَتَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا بَلَغَكَ أَنَّ قَرْيَةً فِيهَا رُخْصٌ فَأَقِمْ بِهَا فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لِدِينِكَ وَأَقَلُّ لِهَمِّكَ. وَهَذَا هَرَبٌ مِنْ غَلَاءِ السِّعْرِ.

.الْقِسْمُ الرَّابِعُ: السَّفَرُ هَرَبًا مِمَّا يَقْدَحُ فِي الْبَدَنِ كَالطَّاعُونِ، أَوْ فِي الْمَالِ كَغَلَاءِ السِّعْرِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ:

وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، بَلْ رُبَّمَا يَجِبُ الْفِرَارُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَرُبَّمَا يُسْتَحَبُّ فِي بَعْضٍ بِحَسَبِ وُجُوبِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَوِ اسْتِحْبَابُهُ، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى الطَّاعُونُ مِنْهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ مِنْهُ لِوُرُودِ النَّهْيِ فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّفَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَذْمُومٍ وَمَحْمُودٍ وَمُبَاحٍ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ حَرَامٌ كَالسَّفَرِ لِلْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ، وَمِنْهُ مَكْرُوهٌ كَالْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِ الطَّاعُونِ، وَالْمَحْمُودُ مِنْهُ وَاجِبٌ كَالْحَجِّ وَطَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَمِنْهُ مَنْدُوبٌ كَزِيَارَةِ الْعُلَمَاءِ لِلتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَتَحْرِيكِ الرَّغْبَةِ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَاقْتِبَاسِ الْفَوَائِدِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَمَرْجِعُهُ إِلَى النِّيَّةِ، فَمَهْمَا كَانَ قَصْدُهُ بِطَلَبِ الْمَالِ مَثَلًا التَّعَفُّفُ عَنِ السُّؤَالِ. وَرِعَايَةُ سَتْرِ الْمُرُوءَةِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ، وَالتَّصَدُّقُ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ مَبْلَغِ الْحَاجَةِ صَارَ هَذَا الْمُبَاحُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ وَبَاعِثُهُ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».

.آدَابُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَوَّلِ نُهُوضِهِ إِلَى آخِرِ رُجُوعِهِ:

الْأَدَبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَبْدَأَ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَإِعْدَادِ النَّفَقَةِ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَبِرَدِّ الْوَدَائِعِ إِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ، وَلَا يَأْخُذُ لِزَادِهِ إِلَّا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ، وَلْيَأْخُذْ قَدْرًا يُوَسِّعُ بِهِ عَلَى رُفَقَائِهِ. وَلَابُدَّ فِي السَّفَرِ مِنْ طِيبِ الْكَلَامِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَمِنْ إِظْهَارِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالسَّفَرُ مِنْ أَسْبَابِ الضَّجَرِ، وَمَنْ أَحْسَنَ خُلُقَهُ فِي الضَّجَرِ فَهُوَ الْحَسَنُ الْخُلُقِ، وَتَمَامُ حُسْنِ خُلُقِ الْمُسَافِرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَكَارِي، وَمُعَاوَنَةِ الرُّفْقَةِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَإِعَانَةِ الْمُنْقَطِعِ بِمَرْكُوبٍ أَوْ زَادٍ، وَتَمَامُ ذَلِكَ مَعَ الرُّفَقَاءِ بِمِزَاحٍ وَمُطَايَبَةٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ فُحْشٍ وَمَعْصِيَةٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ شِفَاءً لِضَجَرِ السَّفَرِ وَمَشَاقِّهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَخْتَارَ رَفِيقًا فَلَا يَخْرُجُ وَحْدَهُ، فَالرَّفِيقُ ثُمَّ الطَّرِيقُ، وَلْيَكُنْ رَفِيقُهُ مِمَّنْ يُعِينُهُ عَلَى الدِّينِ فَيُذَكِّرُهُ إِذَا نَسِيَ وَيُعِينُهُ وَيُسَاعِدُهُ إِذَا ذَكَرَ، فَإِنَّ الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، وَلَا يُعْرَفُ الرَّجُلُ إِلَّا بِرَفِيقِهِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَقَالَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فِي السَّفَرِ فَأَمِّرُوا أَحَدَكُمْ» وَلْيُؤَمِّرُوا أَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا وَأَرْفَقَهُمْ بِالْأَصْحَابِ وَأَسْرَعَهُمْ إِلَى الْإِيثَارِ وَطَلَبِ الْمُوَافَقَةِ. وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الْأَمِيرِ لِأَنَّ الْآرَاءَ تَخْتَلِفُ فِي مَصَالِحِ السَّفَرِ، وَلَا نِظَامَ إِلَّا فِي الْوَحْدَةِ وَلَا فَسَادَ إِلَّا مِنَ الْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا انْتَظَمَ أَمْرُ الْعَالَمِ لِأَنَّ مُدَبِّرَ الْكُلِّ وَاحِدٌ وَ{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 22].
الثَّالِثُ: أَنْ يُودِّعَ رُفَقَاءَ الْحَضَرِ وَالْأَهْلَ وَالْأَصْدِقَاءَ، وَلْيَدْعُ عِنْدَ الْوَدَاعِ بِقَوْلِهِ لِمُوَدِّعِهِ: «أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ» وَلْيَدْعُ الْمُقِيمُ لَهُ بِقَوْلِهِ: زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى وَغَفَرَ ذَنْبَكَ وَوَجَّهَكَ لِلْخَيْرِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ.
وَلْيُصَلِّ الْمُسَافِرُ قَبْلَ سَفَرِهِ رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ. وَإِذَا حَصَلَ عَلَى بَابِ الدَّارِ فَلْيَقُلْ: «بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» فَإِذَا رَكِبَ فَلْيَقُلْ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزُّخْرُفِ: 13- 14].
الرَّابِعُ: أَنْ يَرْفُقَ بِالدَّابَّةِ إِنْ كَانَ رَاكِبًا فَلَا يُحَمِّلُهَا مَا لَا تُطِيقُ وَلَا يَضْرِبُهَا فِي وَجْهِهَا فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الدَّابَّةِ أَحْيَانًا يُرَوِّحُهَا بِذَلِكَ وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى الْمَكَارِي وَيُرَوِّضُ بَدَنَهُ حَذَرًا مِنْ خَدَرِ الْأَعْضَاءِ بِطُولِ الرُّكُوبِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَحْمِلَ فَوْقَ الْمَشْرُوطِ شَيْئًا وَإِنْ خَفَّ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ يَجُرُّ إِلَى الْكَثِيرِ، قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَهُوَ عَلَى دَابَّةٍ: احْمِلْ لِي هَذِهِ الرُّقْعَةَ إِلَى فُلَانٍ فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْذِنَ الْمَكَارِي فَإِنِّي لَمْ أُشَارِطْهُ عَلَى هَذِهِ الرُّقْعَةِ فَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ هَذَا مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيهِ وَلَكِنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْوَرَعِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَحْتَاطَ إِنْ كَانَ فِي قَافِلَةٍ فَلَا يَمْشِي مُنْفَرِدًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُغْتَالُ أَوْ يَنْقَطِعُ، وَيَكُونُ بِاللَّيْلِ مُتَحَفِّظًا عِنْدَ النَّوْمِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَاوَبَ الرُّفَقَاءُ فِي الْحِرَاسَةِ بِاللَّيْلِ، وَأَنْ يَسْتَصْحِبَ مِرْآةً وَمِقْرَاضًا وَمِسْوَاكًا وَمُشْطًا. وَلْيَحْذَرِ التَّنَطُّعَ فِي الطَّهَارَةِ، فَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُونَ يَكْتَفُونَ بِالتَّيَمُّمِ وَيُغْنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ نَقْلِ الْمَاءِ وَلَا يُبَالُونَ بِالْوُضُوءِ مِنَ الْغُدْرَانِ وَمِنَ الْمِيَاهِ كُلِّهَا مَا لَمْ يَتَيَقَّنُوا نَجَاسَتَهَا، حَتَّى تَوَضَّأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَاءٍ فِي جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.
السَّادِسُ: فِي آدَابِ الرُّجُوعِ مِنَ السَّفَرِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ وَيَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يُبَشِّرُ بِقُدُومِهِ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى أَنْ يَطْرُقَ الْمَرْءُ أَهْلَهُ لَيْلًا فَيَقْدَمَ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً فَيَرَى مَا يَكْرَهُهُ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَوَّلًا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ تُحْفَةً مِنْ مَطْعُومٍ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى قَدْرِ إِمْكَانِهِ، فَإِنَّ الْأَعْيُنَ تَمْتَدُّ إِلَى الْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ، وَالْقُلُوبُ تَفْرَحُ بِهِ فَيَتَأَكَّدُ الِاسْتِحْبَابُ فِي تَأْكِيدِ فَرَحِهِمْ وَإِظْهَارِ الْتِفَاتِ الْقَلْبِ فِي السَّفَرِ إِلَى ذِكْرِهِمْ بِمَا يَسْتَصْحِبُ فِي الطَّرِيقِ لَهُمْ.
هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْآدَابِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا الْآدَابُ الْبَاطِنَةُ: فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بَيَانُ جُمْلَةٍ مِنْهَا، وَجُمْلَتُهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ إِلَّا إِذَا كَانَ زِيَادَةً فِي عِلْمِهِ فِي السَّفَرِ، وَيَنْوِي فِي دُخُولِ كُلِّ بَلْدَةٍ أَنْ يَرَى شُيُوخَهَا الْحُكَمَاءَ وَيَجْتَهِدَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ أَدَبًا أَوْ كَلِمَةً لِيَنْتَفِعَ بِهَا وَيَنْفَعَ بِهَا. وَإِذَا قَصَدَ زِيَارَةَ أَخٍ لَهُ فَلَا يُقِمْ عِنْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ حَدُّ الضِّيَافَةِ إِلَّا إِذَا شَقَّ عَلَى أَخِيهِ مُفَارَقَتُهُ، وَلَا يَشْغَلُ نَفْسَهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ بَرَكَةَ سَفَرِهِ.

.مَا لَابُدَّ لِلْمُسَافِرِ مِنْ تَعَلُّمِهِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ فِي أَوَّلِ سَفَرِهِ إِلَى أَنْ يَتَزَوَّدَ لِدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَأَمَّا زَادُ الدُّنْيَا: فَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نَفَقَةٍ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ زَادٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ فِي قَافِلَةٍ أَوْ بَيْنَ قُرًى مُتَّصِلَةٍ، وَإِنْ رَكِبَ الْبَادِيَةَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ قَوْمٍ لَا طَعَامَ مَعَهُمْ وَلَا شَرَابَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصْبِرُ عَلَى الْجُوعِ أُسْبُوعًا أَوْ عَشْرًا مَثَلًا أَوْ يَكْتَفِي بِالْحَشِيشِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةُ الصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ وَلَا الِاجْتِزَاءُ بِالْحَشِيشِ فَخُرُوجُهُ مِنْ غَيْرِ زَادٍ مَعْصِيَةٌ، فَإِنَّهُ أَلْقَى نَفْسَهُ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ التَّبَاعُدُ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُسَخِّرَ اللَّهُ لَهُ مَلَكًا أَوْ شَخْصًا آخَرَ حَتَّى يَصُبَّ الْمَاءَ فِي فِيهِ.
وَأَمَّا زَادُ الْآخِرَةِ فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي طَهَارَتِهِ وَصَوْمِهِ وَصَلَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَرَ يُفِيدُ فِي الطَّهَارَةِ رُخْصَتَيْنِ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ وَالتَّيَمُّمَ، وَفِي صَلَاةِ الْفَرْضِ رُخْصَتَيْنِ الْقَصْرَ وَالْجَمْعَ، وَفِي النَّفْلِ رُخْصَتَيْنِ أَدَاءَهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَأَدَاءَهُ مَاشِيًا، وَفِي الصَّوْمِ رُخْصَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْفِطَرُ.
فَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ: فَقَالَ صفوان بن عسال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامِ وَلَيَالِيهِنَّ.
فَكُلُّ مَنْ لَبِسَ الْخُفَّ عَلَى طَهَارَةٍ مُبِيحَةٍ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفِّهِ مِنْ وَقْتِ حَدَثِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، أَوْ يَوْمًا وَلَيْلَةً إِنْ كَانَ مُقِيمًا.
وَأَمَّا التَّيَمُّمُ: فَالتُّرَابُ بَدَلٌ عَنِ الْمَاءِ عِنْدَ الْعُذْرِ كَبُعْدِهِ عَنْ مَنْزِلِهِ بِحَيْثُ لَوْ مَشَى إِلَيْهِ لَمْ يَلْحَقْهُ غَوْثُ الْقَافِلَةِ إِنْ صَاحَ أَوِ اسْتَغَاثَ، أَوْ نَزَلَ عَلَى الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ، أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِعَطَشِهِ أَوْ عَطِشِ أَحَدِ رُفَقَائِهِ، فَيَتَيَمَّمُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَإِنْ بِيعَ الْمَاءُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَزِمَهُ الشِّرَاءُ أَوْ بِغَبْنٍ لَمْ يَلْزَمْهُ.
وَأَمَّا الْقَصْرُ: فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا إِلَّا بِمُفَارَقَةِ عُمْرَانِ الْبَلَدِ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ: بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتَيْهِمَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتَيْهِمَا فَذَلِكَ أَيْضًا فِي كُلِّ سَفَرٍ طَوِيلٍ مُبَاحٌ، وَفِي جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ قَوْلٌ: ثُمَّ إِنْ قَدَّمَ الْعَصْرَ إِلَى الظُّهْرِ فَلْيَنْوِ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتَيْهِمَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الظُّهْرِ، وَلْيُؤَذِّنْ لِلظُّهْرِ وَلْيُقِمْ، وَعِنْدَ الْفَرَاغِ يُقِيمُ لِلْعَصْرِ، وَإِنْ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ فَيَجْرِي عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ.
وَأَمَّا النَّافِلَةُ: فَقَدَ جُوِّزَ أَدَاؤُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ كَيْ لَا يَتَعَوَّقَ عَنِ الرُّفْقَةِ بِسَبَبِهَا، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ دَابَّتُهُ، وَأَوْتَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَنَفِّلِ الرَّاكِبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِلَّا الْإِيمَاءُ. وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ.
وَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ: فَلَا يَجِبُ لَا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَلَا فِي دَوَامِهَا، وَلَكِنْ صَوْبُ الطَّرِيقِ بَدَلٌ عَنِ الْقِبْلَةِ، فَلْيَكُنْ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ إِمَّا مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ أَوْ مُتَوَجِّهًا فِي صَوْبِ الطَّرِيقِ لِتَكُونَ لَهُ جِهَةٌ يَثْبُتُ فِيهَا. وَجُوِّزَ لِلْمُسَافِرِ أَيْضًا التَّنَفُّلُ لَهُ مَاشِيًا، فَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَا يَقْعُدُ لِلتَّشَهُّدِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الرَّاكِبِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّمَ بِالصَّلَاةِ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ. وَكُلُّ هَارِبٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَيْلٍ أَوْ سَبُعٍ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّنَفُّلِ.
وَأَمَّا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ: فَهُوَ مُرَخَّصٌ لَهُ، وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ لَهُ إِلَّا إِنْ كَانَ يَضُرُّهُ فَالْإِفْطَارُ لَهُ أَفْضَلُ.

.كِتَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ الْقُطْبُ الْأَعْظَمُ فِي الدِّينِ وَالْمُهِمُّ الَّذِي ابْتَعَثَ اللَّهُ لَهُ النَّبِيِّينَ أَجْمَعِينَ، لَوْ طُوِيَ بِسَاطُهُ وَأُهْمِلَ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ لَفَشَتِ الضَّلَالَةُ وَشَاعَتِ الْجَهَالَةُ وَخُرِّبَتِ الْبِلَادُ وَهَلَكَ الْعِبَادُ، فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ أَنْ يَنْدَسَّ مِنْ هَذَا الْقُطْبِ عَمَلُهُ وَعِلْمُهُ، وَأَنْ يَنْمَحِيَ بِالْكُلِّيَّةِ حَقِيقَتُهُ وَرَسْمُهُ، وَأَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلَى الْقُلُوبِ مُدَاهَنَةُ الْخَلْقِ، وَتَنْمَحِيَ عَنْهَا مُرَاقَبَةُ الْخَالِقِ، وَأَنْ يَسْتَرْسِلَ النَّاسُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ اسْتِرْسَالَ الْبَهَائِمِ، وَأَنْ يَعِزَّ عَلَى بِسَاطِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَلَا مَعَاذَ إِلَّا بِهِ وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَيْهِ.
يَنْحَصِرُ هَذَا الْكِتَابُ فِي مَقَاصِدَ:

.وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَفَضِيلَتُهُ وَالْمَذَمَّةُ فِي إِهْمَالِهِ:

دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 104] فَفِي الْآيَةِ بَيَانُ الْإِيجَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ} أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْإِيجَابُ، وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْفَلَاحَ مَنُوطٌ بِهِ إِذْ حُصِرَ بِقَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَأَنَّهُ إِذَا قَامَ بِهِ أُمَّةٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْآخَرِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [التَّوْبَةِ: 71] فَقَدْ نَعَتَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، فَالَّذِي هَجَرَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ خَارِجٌ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْعُوتِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الْمَائِدَةِ: 78- 79] وَهَذَا غَايَةُ التَّشْدِيدِ إِذْ عَلَّلَ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِلَّعْنَةِ بِتَرْكِهِمُ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِذْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الْأَعْرَافِ: 165] فَبَيَّنَ أَنَّهُمُ اسْتَفَادُوا النَّجَاةَ بِالنَّهْيِ عَنِ السُّوءِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [الْمَائِدَةِ: 2] وَهُوَ أَمْرُ جَزْمٍ، وَمَعْنَى التَّعَاوُنِ الْحَثُّ عَلَيْهِ وَتَسْهِيلُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَسَدُّ سُبُلِ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [الْمَائِدَةِ: 63] فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَثِمُوا بِتَرْكِ النَّهْيِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هُودٍ: 116] الْآيَةَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَ جَمِيعَهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النِّسَاءِ: 135] وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 114].
وَمِنَ الْأَخْبَارِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ عَمِلُوا بِالْمَعَاصِي وَفِيهِمْ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ» وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا لَا يُحْصَى. وَبِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَظْهَرُ كَوْنُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبًا، وَأَنَّ فَرْضَهُ لَا يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ إِلَّا بِقِيَامٍ قَائِمٍ بِهِ.