فصل: الْبَابُ الثَّانِي فِي الْوُضُوءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ فِي مُوجِبَاتٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا:

وَهِيَ نَحْوُ عَشْرَةٍ:
الْأَوَّلُ:
مَسُّ الدُّبُرِ وَيُسَمَّى الشَّرَجَ بِفَتْحِ الشِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ تَشْبِيهًا لَهُ بِشَرَجِ السُّفْرَةِ الَّتِي يُؤْكَلُ عَلَيْهَا وَهُوَ مُجْتَمَعُهَا وَكَذَلِكَ تُسَمَّى الْمَجَرَّةُ شَرَجَ السَّمَاءِ عَلَى أَنَّهَا بَابُهَا وَمُجْتَمَعُهَا وَمَسُّهُ لَا يُوجب الْوضُوء خلافًا ش وَحمد يس مِنْ أَصْحَابِنَا.
الثَّانِي:
الْأُنْثَيَانِ لَا يُوجِبُ مَسُّهُمَا وضُوءًا خلافًا لعروة بن الزبير لاندارجهما فِي مَعْنَى الْفَرْجِ عِنْدَهُ.
الثَّالِثُ:
الْأَرْفَاغُ وَاحِدُهَا رُفْغٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ طَيُّ أَصْلَيِ الْعَجُزِ مِمَّا يَلِي الْجَوْفَ وَيُقَالُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَقِيلَ هُوَ الْعَصَبُ الَّذِي بَيْنَ الشَّرَجِ وَالذَّكَرِ قَالَ الْقَاضِيَ فِي التَّنْبِيهَاتِ وَمَسُّهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يُوجِبُ وُضُوءًا خِلَافًا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» خَصَّهُ دُونَ سَائِرِ الْجَسَدِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ غَيْرِهِ مِنَ الْجَسَدِ فَإِنْ عَارَضُوا الْمَفْهُومَ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ فَرَّقْنَا بِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَذْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
الرَّابِعُ:
مَسُّ ذَكَرِ الصَّبِيِّ وَفَرْجِ الصَّبِيَّةِ لَا يُوجِبُ وُضُوءًا خِلَافًا ش لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مَظِنَّةَ اللَّذَّةِ.
الْخَامِسُ:
فَرْجُ الْبَهِيمَةِ لَا يُوجِبُ وُضُوءًا خِلَافًا لِلَّيْثِ لِأَنَّه لَيْسَ مَظِنَّةَ اللَّذَّةِ.
السَّادِسُ:
الدَّمُ يَخْرُجُ مِنَ الدُّبُرِ أَوِ الْحَصَا أَوِ الدُّود لَا يُوجب وضُوءًا خلافًا ش وح لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم من الْغَائِط} وَخِطَابُ الشَّارِعِ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ مُعْتَادَةً قَالَ صَاحِبُ الطَّرَّازِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُخَالِطْهُ أَذًى قَالَ التُّونِسِيُّ وَلَوْ خَالَطَهُ الْأَذَى لَكَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّه غَيْرُ مُعْتَادٍ.
وَحَصَى الْإِحْلِيلِ إِنْ خَرَجَ عُقَيْبَهُ بَوْلٌ تَوَضَّأَ وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مَنْ خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ دَمٌ صَافٍ أَوْ دُودٌ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ.
السَّابِعُ:
أَكْلُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ شُرْبُهُ لَا يُوجِبُ وُضُوءًا خِلَافًا لِأَحْمَدَ فِي لُحُومِ الْإِبِلِ وَلِعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ لِمَا فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْوُضُوءِ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
الثَّامِنُ:
الْقَهْقَهَةُ لَا تُوجِبُ الْوُضُوءَ خِلَافًا ح لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَا تُوجِبُهُ دَاخِلَهَا قِيَاسًا عَلَى الْعُطَاسِ وَالسُّعَالِ أَوْ نَقُولُ لَوْ أَوْجَبَتْهُ دَاخِلَ الصَّلَاةِ لَأَوْجَبَتْهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى الرِّيحِ وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ فَدَخَلَ رَجُلٌ فِي بَصَرِهِ ضُرٌّ فَتَرَدَّى فِي حُفَيْرَةٍ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَضَحِكَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ فَلَمَّا قَضَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ضَحِكَ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ فَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ لَا يَصِحُّ مِنْ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ فَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ فَأَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَتْرَهُ بِذَلِكَ.
التَّاسِعُ:
الْقَيْءُ وَالْقَلْسُ وَالْحِجَامَةُ وَالْفَصَادَةُ وَالْخَارِجُ مِنَ الْجَسَدِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا تُوجِبُ وُضُوءًا خِلَافًا ح لِأَنَّ مَا يُرْوَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» وَمِنْ قَوْلِهِ «إِذَا رَعَفَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَغْسِلْ عَنْهُ الدَّمَ ثُمَّ لْيُعِدْ وُضُوءَهُ وَلْيَسْتَقْبِلْ صَلَاتَهُ» وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «إِذَا قَاءَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ» أَوْ قَلَسَ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ لَا يَثْبُتُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَالْقِيَاسُ عَلَى الْإِحْدَاثِ بِجَامِعِ النَّجَاسَةِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ تَعَبُّدٌ لِإِيجَابِ الْغَسْلِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لِغَيْرِ الْمُتَنَجِّسِ وَالْقِيَاسُ فِي التَّعَبُّدِ مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ.
الْعَاشِرُ:
ذَبْحُ الْبَهَائِمِ وَمَسُّ الصُّلْبِ وَالْأَوْتَانِ وَالْكَلِمَةُ الْقَبِيحَةُ وَالنَّظَرُ لِلشَّهْوَةِ وَقَلْعُ الضِّرْسِ وَإِنْشَادُ الشِّعْرِ وَالتَّقْطِيرُ فِي الْمَخْرَجَيْنِ أَوْ إِدْخَالُ شَيْءٍ فِيهِمَا أَوْ أَذَى مُسْلِمٍ أَوْ حَمْلُ مَيِّتٍ أَوْ وَطْءُ نَجَاسَةٍ رَطْبَةٍ لَا تُوجِبُ وُضُوءًا خِلَافًا لِقَوْمٍ عَمَلًا بِالْأَصْلِ حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ. تَنْقِيحٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوُضُوءِ مِمَّا يَحْصُلُ فِي الْغَائِطِ بِقَوْلِهِ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِط} قَالَ أَبُو حنيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْخَارِجُ النَّجِسُ الْمُوجِبُ لِاسْتِخْبَاثِ جُمْلَةِ الْجَسَدِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ كَانَ بِهِ بَرَصٌ أَوْ جُذَامٌ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ كُرِهَتْ جُمْلَتُهُ عُرْفًا فَكَذَلِكَ يُسْتَخْبَثُ شَرْعًا فَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ خَارِجٍ نَجِسٍ كَالْحِجَامَةِ وَنَحْوهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْمُعْتَبَرُ الْمَخْرَجُ لِأَنَّه هُوَ الْمَفْهُومُ الْمُطَّرِدُ عِنْدَ قَوْلِهِ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم من الْغَائِط} أَيْ مَا خَرَجَ مِنْ هَذَيْنِ الْمَخْرَجَيْنِ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ كَانَ طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا مُعْتَادًا أَوْ نَادرا.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْمُعْتَبَرُ الْخَارِجُ وَالْمَخْرَجُ الْمُعْتَادَانِ اللَّذَانِ يُفْهَمَانِ مِنَ الْآيَةِ وَهُمَا تَعَبُّدَانِ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ أَخْذِ مَحَلِّ الْحُكْمِ قَيْدًا فِي الْعِلَّةِ الَّذِي هُوَ مُنْكَرٌ بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَحَلِّ الْحُكْمِ لِتَعَذُّرِ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالنَّقْلِ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. تَفْرِيعٌ فِي الْجَوَاهِرِ كُلُّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَبَرَةِ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسُجُودِ السَّهْوِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ أَوْ جِلْدِهِ أَوْ حَوَاشِيهِ أَوْ بِقَضِيبٍ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اللَّمْسِ عُرْفًا لِلِاتِّصَالِ وَكَذَلِكَ حَمْلُهُ فِي خَرِيطَةٍ أَوْ بِعَلَاقَةٍ أَوْ صُنْدُوقٍ مَقْصُودٍ لَهُ. وَلَا بَأْسَ بِحَمْلِهِ فِي وِعَاءٍ مَقْصُودٍ لِغَيْرِهِ أَوْ مَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَوِ الْفِقْهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لَهُ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ دُونَهُ وَكَذَلِكَ الدِّرْهَمُ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ تَعْظِيمًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ فَلَا يُكَلَّفُ الطَّهَارَةَ لِمَسِّ الْأَلْوَاحِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَمْ يَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَاسْتَحَبَّ أَيْضًا لِلصِّبْيَانِ مَسَّ الْأَجْزَاءِ أَوِ اللَّوْحِ عَلَى وُضُوءٍ وَكَرِهَ لَهُمْ مَسَّ جُمْلَةِ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَلِمَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ يُعَلَّقُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَالصَّبِيِّ فِي الْعُنُقِ إِذَا احْتُرِزَ عَلَيْهِ أَوْ جُعِلَ فِي شَيْءٍ يُكِنُّهُ وَلَا يُعَلَّقُ بِغَيْرِ مَا يُكِنُّهُ. وَكَذَلِكَ يُكْتَبُ لِلْحُمَّى قَالَ صَاحِبُ الطَّرَّازِ لِأَنَّه خَرَجَ عَنْ هَيْئَةِ الْمُصْحَفِ وَصَارَ كَكُتُبِ التَّفْسِيرِ يَحْمِلُهَا الْمُحْدِثُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {إِنَّه لقرآن كريم فِي كتاب مَكْنُون لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ مُلَامَسَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّهِ لِغَيْرِ الطَّاهِرَيْنِ إِجْلَالًا وَالْمُحْدِثُ لَيْسَ بِطَاهِرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مَسِّهِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهَا صِيغَةُ حَصْرٍ تَقْتَضِي حَصْرَ الْجَوَازِ فِي الْمُتَطَهِّرِينَ وَعُمُومَ سَلْبِهِ فِي غَيْرِهِمْ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّخْصِيصِ فَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ نَهْيٌ وَإِلَّا لَكَانَتْ مَجْزُومَةَ الْأَجْزَاءِ وَمُؤَكَّدَةً بِنُونِ التَّأْكِيدِ. سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُطَهَّرِينَ أَهْلُ الْأَرْضِ بَلْ أَهْلُ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي عبس {بأيدي سفرة كرام بررة} سُورَة عبس 15 16. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ الْأَرْضِ لَكِنِ الْمُطَهَّرُونَ عَامٌّ فِي الْمُطَهَّرِ مُطْلَقٌ فِي التَّطْهِيرِ فَلِمَ لَا تَكْفِي الطَّهَارَةُ الْكُبْرَى وَلَا تَنْدَرِجُ الصُّغْرَى لِخِفَّتِهَا؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الصِّيغَةَ لَوْ كَانَتْ خَبَرًا لَلَزِمَ الْخُلْفُ فِيهِ لِأَنَّا نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ الطَّاهِرَيْنِ يَمَسُّهُ وَالْخُلْفُ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ نَهْيًا وَقَدْ حَكَى النُّحَاةُ فِي الْفِعْلِ الْمُشَدَّدِ الْآخِرِ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَحْكِيهِ حَالَةَ النَّهْيِ عَلَى الرَّفْعِ الثَّانِي سلمنَا أَنه خبر لفظا وَنهي مَعْنًى كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} وَالْمرَاد الْأَمر كَذَلِك هَهُنَا يَكُونُ الْمُرَادُ النَّهْيَ وَعَنِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَهْلَ السَّمَاءِ لَكَانَ يَقْضِي أَنَّ فِي السَّمَاءِ مَنْ لَيْسَ بِمُتَطَهِّرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى أهل الأَرْض.
وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعُمُومِ فَيَشْمَلُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّخْصِيصِ فَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ. وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُتَطَهِّرُ عَلَى أَعْلَى مَرَاتِبِهِ تَعْظِيمًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ بِالْيَمِينِ «أَلَّا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» وَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤَكِّدُ التَّمَسُّكَ بِالْآيَةِ لِأَنَّه عَلَى صِيغَتِهَا. تَحْقِيقٌ قَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ لَا تَتَنَاوَلُ الصِّبْيَانَ كَسَائِرِ التَّكَالِيفِ فَكَمَا لَا يكون تَركهم لتِلْك التكاليف رخصَة فَكَذَلِك هَهُنَا وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ مُلَامَسَةِ الْقُرْآنِ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ كَالنَّهْيِ عَنْ مُلَامَسَتِهِ لِغَيْرِ الطَّاهِرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَشْعُرُ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْ مُلَامَسَتِهِ مَوْصُوفٌ بِالتَّكْلِيفِ أَوْ غَيْرُ مَوْصُوفٍ فَيَكُونُ الْجَوَازُ فِي الصّبيان رخصَة.

.الْبَابُ الثَّانِي فِي الْوُضُوءِ

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي فَرَائِضه:

وَهِي سَبْعَة:
وَالْوَضُوءُ بِفَتْحِ الْوَاوِ الْمَاءُ وَبِضَمِّهَا الْفِعْلُ وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ الْفَتْحُ فِيهِمَا وَالْأَوَّلُ الْأَشْهَرُ وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ وَالْغَسْلُ وَالطُّهُورُ وَالطَّهُورُ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْوَضَاءَةِ وَهِيَ النَّظَافَةُ وَالْحُسْنُ وَيُقَالُ وَجْهٌ وَضِيءٌ أَيْ سَالِمٌ مِمَّا يَشِينُهُ وَلَمَّا كَانَ الْوُضُوءُ يُزِيلُ الْحَدَثَ الَّذِي هُوَ مَانِعٌ لِلصَّلَاةِ سُمِّيَ وُضُوءًا وَفِيه ثَلَاثَة فُصُول:

.الْأَوَّلُ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ:

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ.

.الثَّانِي النِّيَّةُ:

وَفِيهَا تِسْعَةُ أَبْحَاثٍ:

.الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَتِهَا:

وَهِيَ قَصْدُ الْإِنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا يُرِيدُهُ بِفِعْلِهِ فَهِيَ مِنْ بَابِ الْعُزُومِ وَالْإِرَادَاتِ لَا مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ الْمُطْلَقَةِ أَنَّ الْإِرَادَةَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْغَيْرِ بِخِلَافِهَا كَمَا نُرِيدُ مَغْفِرَةَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَتُسَمَّى شَهْوَةً وَلَا تُسَمَّى نِيَّةً وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَزْمِ أَنَّ الْعَزْمَ تَصْمِيمٌ عَلَى إِيقَاعِ الْفِعْلِ وَالنِّيَّةُ تَمْيِيزٌ لَهُ فَهِيَ أَخْفَضُ مِنْهُ رُتْبَةً وَسَابِقَةٌ عَلَيْهِ.

.الْبَحْثُ الثَّانِي فِي مَحَلِّهَا:

وَهُوَ الْقَلْبُ لِأَنَّه مَحَلُّ الْعَقْلِ وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْمَيْلُ وَالنَّفْرَةُ وَالِاعْتِقَادُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ لَا فِي الْقَلْبِ فَيَلْزَمُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الدِّمَاغِ لَا فِي الْقَلْبِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْرَاضَ كُلَّهَا أَعْرَاضُ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ فَحَيْثُ وُجِدَتِ النَّفْسُ وُجِدَ الْجَمِيعُ قَائِمًا بِهَا فَالْعَقْلُ سَجِيَّتُهَا وَالْعُلُومُ وَالْإِرَادَاتُ صِفَاتُهَا وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا} {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى} {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قلب} {وَختم الله على قُلُوبهم} وَلَمْ يَصِفِ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالدِّمَاغِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّهَا الْقَلْبُ وَلِذَلِكَ قَالَ الْمَازِرِيُّ أَكْثَرُ الْمُتَشَرِّعِينَ وَأَقَلُّ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْقَلْبِ وَأَقَلُّ الْمُتَشَرِّعِينَ وَأَكْثَرُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَنَّهَا فِي الدِّمَاغِ.

.الْبَحْثُ الثَّالِثُ فِي دَلِيلِ وُجُوبِهَا:

وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّين} لأي يُخْلِصُونَهُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فَوَجَبَ أَلَّا يُبَرِّئَ الذِّمَّةَ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُسْلِمٍ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَعْمَالَ مُعْتَبَرَةٌ بِالنِّيَّاتِ فَإِنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفٌ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قُرِّرَ بِهِ فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَا لَا نِيَّةَ فِيهِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْأَعْمَالِ لِعُمُومِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَأَمَّا آخِرُ الْحَدِيثِ فَمُشْكِلٌ لِأَجْلِ أَنَّ الشَّرْطَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَشْرُوطِ وَهُنَا اتَّحَدَ الشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ لِأَنَّه إِعَادَةُ اللَّفْظ بِعَيْنِه.
وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يَقُولَ مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ مُضَافَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْقَصْدِ فَهِجْرَتُهُ مَوْكُولَةٌ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الثَّوَابِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ مُضَافَةً إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ مَوْكُولَةٌ إِلَيْهَا وَمَنْ وُكِلَ عَمَلُهُ إِلَى مَا لَا يَصْلُحُ لِلْجَزَاءِ عَلَيْهِ فَقَدْ خَابَ سَعْيُهُ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ كُلِّ مُوبِقَةٍ. وَإِنَّمَا قُدِّرَ مَوْكُولَةٌ لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ إِذَا كَانَ مَجْرُورًا لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ عَامِلٍ فِيهِ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قُدِّرَ فَبَايَنَ الشَّرْطُ الْمَشْرُوطَ. إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْوُضُوءِ وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ عَدَمَ وُجُوبِهَا عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَخَرَّجَ عَلَى ذَلِكَ الْغُسْلَ.

.الْبَحْثُ الرَّابِعُ فِي حِكْمَةِ إِيجَابِهَا:

وَهِيَ تَمْيِيزُ الْعِبَادَات عَن الْعَادَات ليتميز مَا لله عَن مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ تَمْيِيزُ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ فِي أَنْفُسِهَا لِتَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ وَيَظْهَرُ قَدْرُ تَعْظِيمِهِ لِرَبِّهِ.
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: الْغُسْلُ يَكُونُ تَبَرُّدًا وَعِبَادَةً وَدَفْعُ الْأَمْوَالِ يَكُونُ صَدَقَةً شَرْعِيَّةً وَمُوَاصَلَةً عُرْفِيَّةً وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ يَكُونُ عِبَادَةً وَحَاجَةً وَحُضُورُ الْمَسَاجِدِ يَكُونُ مَقْصُودًا لِلصَّلَاةِ وَتَفَرُّجًا يَجْرِي مَجْرَى اللَّذَّاتِ.
وَمِثَالُ الْقِسْمِ الثَّانِي: الصَّلَاةُ تَنْقَسِم إِلَى فرص وَمَنْدُوبٍ وَالْفَرْضُ يَنْقَسِمُ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً وَالْمَنْدُوبُ يَنْقَسِمُ إِلَى رَاتِبٍ كَالْعِيدَيْنِ وَالْوِتْرِ وَغَيْرِ رَاتِبٍ كَالنَّوَافِلِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قُرُبَاتِ الْمَالِ وَالصَّوْمِ وَالنُّسُكِ فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ هَذِهِ الرُّتَبِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ تُضَافُ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْعِيدَيْنِ إِلَى أَسْبَابِهَا لِتَمْيِيزِ رُتْبَتِهَا وَكَذَلِكَ تَتَعَيَّنُ إِضَافَةُ الْفَرَائِضِ إِلَى أَسْبَابِهَا لِتَتَمَيَّزَ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ قُرَبٌ فِي نَفْسِهَا بِخِلَافِ أَسْبَابِ الْكَفَّارَاتِ لَا تُضَافُ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا مُسْتَوِيَةٌ.
وَسوى أَبُو حنيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي عَدَمِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْأَسْبَابِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ لَا سِيَّمَا وَمُعْظَمُ أَسْبَابِ الْكَفَّارَاتِ جِنَايَاتٌ لَا قُرُبَاتٌ وَاسْتِحْضَارُهَا حَالَةَ التَّقَرُّبِ لَيْسَ بِحَسَنٍ وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ فَكُلُّهَا مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِقَصْرِ الْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ وَطُولِهَا فِي الظُّهْرِ.
وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ قَدِ اعْتُبِرَتْ فِي سِتِّ قَوَاعِدَ فِي الشَّرِيعَةِ فَنَذْكُرُهَا لِيَتَّضِحَ لِلْفَقِيهِ سِرُّ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ:
وَهِيَ الْقُرُبَاتُ وَالْأَلْفَاظُ وَالْمَقَاصِدُ وَالنُّقُودُ وَالْحُقُوقُ وَالتَّصَرُّفَاتُ.
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى:
الْقُرُبَاتُ فَالَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالْخَوْفِ مِنْ نِقَمِهِ وَالرَّجَاءِ لِنِعَمِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى كَرَمِهِ وَالْحَيَاءِ مِنْ جَلَالِهِ وَالْمَحَبَّةِ لِجَمَالِهِ وَالْمَهَابَةِ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَسَائِرُ الْأَذْكَارِ فَإِنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ لِجَنَابِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَذَلِكَ النِّيَّةُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصُورَتِهَا فَلَا جَرَمَ لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ أُخْرَى وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّعْلِيلِ بِأَنَّهَا لَوِ افْتَقَرَتْ إِلَى نِيَّةٍ لَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَلِذَلِكَ يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى نِيَّةٍ مُفْرَدَةٍ وَلَا يُثَابُ عَلَى الْفِعْلِ مُفْرَدًا لِانْصِرَافِهَا بِصُورَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْفِعْلُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا لِلَّهِ وَمَا لِغَيْرِهِ وَأَمَّا كَوْنُ الْإِنْسَانِ يُثَابُ عَلَى نِيَّةٍ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَلَى الْفِعْلِ عَشْرًا إِذَا نَوَى فَإِنَّ الْأَفْعَالَ مَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتِ وَسَائِلُ وَالْوَسَائِلَ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنَ الْمَقَاصِدِ. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ:
الْأَلْفَاظُ إِذَا كَانَتْ نُصُوصًا فِي شَيْءٍ غَيْرِ مُتَرَدِّدَةٍ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى نِيَّةٍ لِانْصِرَافِهَا بِصَرَاحَتِهَا لِمَدْلُولَاتِهَا فَإِنْ كَانَتْ كِنَايَةً أَوْ مُشْتَرِكَةً مُتَرَدِّدَةً افْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ.
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ:
الْمَقَاصِدُ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي الْعُقُودِ إِنْ كَانَتْ مُتَعَيِّنَةً اسْتَغْنَتْ عَمَّا يُعَيِّنُهَا كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بِسَاطًا أَوْ قَدُومًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ عِمَامَةً لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَعْيِينِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعَقْدِ لِانْصِرَافِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِصُوَرِهَا إِلَى مَقَاصِدِهَا عَادَةً.
وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ مُتَرَدِّدَةً كَالدَّابَّةِ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالْأَرْضِ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ افْتَقَرَتْ إِلَى التَّعْيِينِ.
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ:
النُّقُودُ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا غَالِبًا لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ احْتَاجَ إِلَى التَّعْيِينِ.
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ:
الْحُقُوقُ إِذَا تَعَيَّنَتْ لِمُسْتَحِقِّهَا كَالدَّيْنِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ مُعَيَّنٌ لِرَبِّهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ مِثْلَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَعَيَّنَتْ لَهُ كَالْإِيمَانِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ. وَإِنْ تَرَدَّدَ الْحَقُّ بَيْنَ دَيْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ فَإِنَّ الدَّفْعَ يَفْتَقِرُ فِي تَعْيِينِ الْمَدْفُوعِ لِأَحَدِهِمَا إِلَى النِّيَّةِ.
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ:
التَّصَرُّفَاتُ إِذَا كَانَتْ دَائِرَةً بَيْنَ جِهَاتٍ شَتَّى لَا تَنْصَرِفُ لِجِهَةٍ إِلَّا بِنِيَّةٍ كَمَنْ أَوْصَى عَلَى أَيْتَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَاشْتَرَى سِلْعَةً لَا تَتَعَيَّنُ لِأَحَدِهِمْ إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَمَتَى كَانَ التَّصَرُّفُ مُتَّحِدًا انْصَرَفَ لِجِهَتِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَإِنَّ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ كَافِيَةٌ فِي حُصُولِ مُلْكِهِ فِي السِّلْعَةِ وَمَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ بِالْوَكَالَةِ لَا يَنْصَرِفُ التَّصَرُّفُ لِلْغَيْرِ إِلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ أَغْلَبُ فَانْصَرَفَ التَّصَرُّفُ إِلَيْهِ وَالنِّيَّةُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَقْصُودُهَا التَّمْيِيزُ وَمَقْصُودُهَا فِي الْعِبَادَاتِ التَّمْيِيزُ وَالتَّقَرُّبُ مَعًا.
سُؤَالٌ:
هَذَا التَّقْرِير يُشْكِلُ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِصُورَتِهِ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلِمَ افْتَقَرَ إِلَى النِّيَّةِ؟ جَوَابُهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ خَارِجٌ عَنْ نَمَطِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا تَعْظِيمٌ وَإِجْلَالٌ وَلَيْسَ فِي مَسِّ التُّرَابِ وَمَسْحِهِ عَلَى الْوَجْهِ صُورَةُ تَعْظِيمٍ بَلْ هُوَ شِبْهُ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ فَاحْتَاجَ إِلَى النِّيَّةِ لِيُخْرِجَهُ مِنْ حَيِّزِ اللَّعِبِ إِلَى حَيِّزِ التَّقَرُّبِ.
تَنْبِيهٌ:
إِذَا ظَهَرَتْ حِكْمَةُ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مُلَاحَظَتَهَا سَبَبُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي صِيَامِ رَمَضَان وَالْوُضُوء فزفر يَقُول فِي الأول وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُولُ فِي الثَّانِي هُمَا مُتَعَيِّنَانِ بِصُوَرِهِمَا وَلَيْسَ لَهُمَا رُتَبٌ فَلَا حَاجَةَ إِلَى النِّيَّةِ، وَمَالك وَالشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولَانِ الْإِمْسَاكُ فِي رَمَضَانَ قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ الْمُفْطِرَاتِ وَالْوُضُوءُ قَدْ يَكُونُ لِلتَّعْلِيمِ فَيَحْتَاجَانِ إِلَى مَا يُمَيِّزُ كَوْنَهُمَا عِبَادَةً عَنْ غَيْرِهِمَا.