الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: فزع منهم لما رأى من تسورهم على موضع مرتفع جدًّا لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد.وقيل: إنهما قالا: لم نتوصل إليك إلا بالتسور لمنع الحجاب، وخفنا تفاقم الأمر بيننا، فقبل داود عذرهم.ولما أدركوا منه الفزع قالوا: {لا تخف} أي لسنا ممن جاء إلا لأجل التحاكم.{خصمان} يحتمل أن يكون هذا موصولًا بقولهما: {لاتخف} بادر بإخبار ما جاءا إليه.ويحتمل أن يكون سألهم: ما أمركم؟ فقالوا: خصمان، أي نحن خصمان.{بغى} أي جار، {بعضنا على بعض} كما قال الشاعر:
وقرأ أبو يزيد الجراد، عن الكسائي: خصمان، بكسر الخاء؛ وفي أمرهم له ونهيهم ببعض فظاظة على الحكام، حمل على ذلك ما هم فيه من التخاصم والتشاجر، واستدعوا عدله من غير ارتياب في أنه يحكم بالعدل.وقرأ الجمهور: {ولا تشطط} مفكوكًا من أشط رباعيًا؛ وأبو رجاء، وابن أبي عبلة، وقتادة، والحسن، وأبو حيوة: تشطط، من شط ثلاثيًا.وقرأ قتادة أيضًا: تشط، مدغمًا من أشط.وقرأ زر: تشاطط، بضم التاء وبالألف على وزن تفاعل، مفكوكًا.وعن قتادة أيضًا: تشطط من شطط، {سواء الصراط} وسط طريق الحق، لا ميل فيه من هنا ولا هنا.{إن هذا أخي} هو قول المدعي منهما، وأخي عطف بيان عند ابن عطية، وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري.والأخوّة هنا مستعارة، إذ هما ملكان، لكنهما لما ظهرا في صورة انسانين تكلما بالأخوّة، ومجازها أنها إخوة في الدين والإيمان، أو على معنى الصحبة والمرافقة، أو على معنى الشركة والخلطة لقوله: {وإن كثيرًا من الخلطاء} وكل واحدة من هذه الأخوات تقتضي منع الاعتداء، ويندب إلى العدل.وقرأ الجمهور: {تسع وتسعون} بكسر التاء فيهما.وقرأ الحسن، وزيد بن علي: بفتحها.وقرأ الجمهور: {نعجة} بفتح النون؛ والحسن، وابن هرمز: بكسر النون، وهي لغة لبعض بني تميم.قيل: وكنى بالنعجة عن الزوجة.{فقال أكفلنيها} أي ردها في كفالتي.وقال ابن كيسان: اجعلها كفلي، أي نصيبي.وقال ابن عباس: أعطنيها؛ وعنه، وعن ابن مسعود: تحول لي عنها؛ وعن أبي العالية: ضمها إلي حتى أكفلها.{وعزني في الخطاب} قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني.وقال ابن عطية: كان أوجه مني وأقوى، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي.وقال الزمخشري: جاءني محجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به.وأراد بالخطاب: مخاطبة المحاج المجادل، أو أراد خطيب المرأة، وخطبها هو فخاطبني خطابًا: أي غالبني في الخطبة، فغلبني حيث زوجها دوني؛ وقيل: غلبني بسلطانه، لأنه لما سأله لم يستطع خلافه.قال الحافظ أبو بكر بن العربي: كان ببلادنا أمير يقال له سيري بن أبي بكر، فكلمته في أن يسأل لي رجلًا حاجة، فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غضب لها؟ فقلت: أما إذا كان عدلًا فلا.وقرأ أبو حيوة، وطلحة: وعزني، بتخفيف الزاي.قال أبو الفتح: حذف الزاي الواحدة تخفيفًا، كما قال أبو زبيد: وقرأ عبيد الله، وأبو وائل، ومسروق، والضحاك، والحسن، وعبيد بن عمير: وعازني، بألف وتشديد الزاي: أي وغالبني.والظاهر إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن، ولا يكنى بها عن المرأة، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك لأن ذلك الإخبار كان صادرًا من الملائكة، على سبيل التصوير للمسئلة والفرض لها مرة غير تلبس بشيء منها، فمثلوا بقصة رجل له نعجة، ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة، فطمع في نعجة خليطة، وأراد انتزاعها منه؛ وحاجة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده، ويدل على ذلك قوله: {وإن كثيرًا من الخلطاء} وهذا التصوير والتمثيل أبلغ في المقصود وأدل على المراد.{قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} ليس هذا ابتداء من داود، عليه السلام، إثر فراغ لفظ المدعي، ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور ما يجب، فقيل ذلك على تقدير، أي لئن كان ما تقول، {لقد ظلمك}.وقيل: ثم محذوف، أي فأقر المدعي عليه فقال: {لقد ظلمك} ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدّعي عليه، لأنه معلوم من الشرائع كلها، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدّعى عليه.فأما ما قاله الحليمي من أنه رأى في المدّعي مخايل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم، كما تقول، فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه، فاستعجل بقوله: {لقد ظلمك} فقوله ضعيف لا يعول عليه.وروي أن داود، عليه السلام، لما سمع كلام الشاكي قال للآخر: ما تقول؟ فأقر فقال له: لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك، وقال للثاني: {لقد ظلمك} فتبسما عند ذلك وذهبا، ولم يرهما لحينه، ورأى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه.وأضاف المصدر إلى المفعول، وضمن السؤال معنى الإضافة، أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال والطلب، ولذلك عداه بإلى.{وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض} هذا من كلام داود، ويدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيرًا.والخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، الواحد خليط.قصد داود بهذا الكلام الموعظة الحسنة، والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكره إليهم الظلم، وأن يسلي المظلوم عن ما جرى عليه من خليطه، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة.وقرئ: ليبغي، بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة، وأصله: ليبغين، كما قال: يريد: اضربن، ويكون على تقدير قسم محذوف ذلك القسم، وجوابه خير لأن.وعلى قراءة الجمهور، يكون {ليبغي} خبرًا لأن.وقرئ: {ليبغ} بحذف الياء كقوله: أي: تفدي على أحد القولين.و{قليل} خبره مقدّم، وما زائدة تفيد معنى التعظيم والتعجب، وهم مبتدأ.{وظنّ داود} لما كان الظن الغالب يقارب العلم، استعير له، ومعناه: وعلم داود وأيقن أنا ابتليناه بمحاكمة الخصمين.وأنكر ابن عطية مجيء الظن بمعنى اليقين.وقال: لسنا نجده في كلام العرب، وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ودلالة اليقين التام، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون: ظن بمعنى أيقن، وطول ابن عطية في ذلك بما يوقف عليه في كتابه.وقرأ الجمهور: {فتناه} وعمر بن الخطاب، وأبو رجاء، والحسن: بخلاف عنه، شد التاء والنون مبالغة؛ والضحاك: أفتناه، كقوله: وقتادة، وأبو عمرو في رواية؛ يخفف التاء والنون، والألف ضمير الخصمين.{فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب} راكعًا: حال، والخرور: الهويّ إلى الأرض.فإما أنه عبر بالركوع عن السجود، وإما أنه ذكر أول أحوال الخرور، أي راكعًا ليسجد.وقال الحسن: لأنه لا يكون ساجدًّا حتى يركع.وقال الحسن بن الفضل: أخر من ركوعه، أي سجد بعد أن كان راكعًا وقال قوم: يقال خر لمن ركع، وإن لم ينته إلى الأرض.والذي يذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس، دخلوا عليه من غير المدخل، وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظانًا أنهم يغتالونه، إذا كان منفردًا في محرابه لعبادة ربه.فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم، كما قص الله تعالى، وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنقاذ من الله له أن يغتالوه، فلم يقع ما كان ظنه، فاستغفر من ذلك الظن، حيث أخلف ولم يكن يقع مظنونه، وخر ساجدًّا، أو رجع إلى الله تعالى فغفر له ذلك الظن؛ ولذلك أشار بقوله: {فغفرنا له ذلك} ولم يتقدّم سوى قوله: {وظن داود إنما فتناه} ويعلم قطعًا أن الأنبياء، عليهم السلام، معصومون من الخطايا، لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة أن لو جوزنا عليهم شيئًا من ذلك، بطلت الشرائع، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم، فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده تعالى، وما حكى القصاص مما فيه غض عن منصب النبوة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر: . اهـ. .قال الشوكاني في الآيات السابقة: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)} لما ذكر سبحانه أحوال الكفار المعاصرين لرسول الله ذكر أمثالهم ممن تقدّمهم، وعمل عملهم من الكفر والتكذيب، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد} قال المفسرون: كانت له أوتاد يعذب بها الناس، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد، وتد يديه، ورجليه، ورأسه على الأرض.وقيل: المراد بالأوتاد: الجموع، والجنود الكثيرة، يعني: أنهم كانوا يقوّون أمره، ويشدّون سلطانه كما تقوى الأوتاد ما ضربت عليه، فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا.قال ابن قتيبة: العرب تقول: هم في عزّ ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد، يريدون ملكًا دائمًا شديدًا، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت، ويقوم بالأوتاد.وقيل: المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم، أي: وفرعون ذو الأبنية المحكمة.قال الضحاك: والبنيان يسمى أوتادًا، والأوتاد جمع وتد أفصحها فتح الواو، وكسر التاء، ويقال: وتد بفتحهما، وودّ بإدغام التاء في الدال، وودت.قال الأصمعي: ويقال: وتد واتد مثل شغل شاغل، وأنشد:{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب الأَيْكَةِ} الأيكة: الغيضة، وقد تقدّم تفسيرها، واختلاف القرّاء في قراءتها في سورة الشعراء، ومعنى {أُوْلَئِكَ الأحزاب} أنهم الموصوفون بالقوّة، والكثرة كقولهم: فلان هو الرجل، وقريش وإن كانوا حزبًا كما قال الله سبحانه فيما تقدّم: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحزاب} [ص: 11]؛ ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عددًا، وأقوى أبدانًا، وأوسع أموالًا، وأعمارًا، وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة، ويجوز أن تكون خبرًا، والمبتدأ قوله: {وَعَادٌ} كذا قال أبو البقاء، وهو ضعيف، بل الظاهر أن {عاد} وما بعده معطوفات على {قوم نوح} والأولى أن تكون هذه الجملة خبرًا لمبتدأ محذوف، أو بدلًا من الأمم المذكورة {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} إن هي: النافية، والمعنى: ما كلّ حزب من هذه الأحزاب إلا كذب الرسل، لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل، أو هو من مقابلة الجمع بالجمع، والمراد: تكذيب كلّ حزب لرسوله، والاستثناء مفرغ من أعمّ الأحوال، أي: ما كلّ أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل {فَحَقَّ عِقَابِ} أي: فحقّ عليهم عقابي بتكذيبهم، ومعنى حقّ: ثبت، ووجب، وإن تأخر، فكأنه واقع بهم، وكلّ ما هو آتٍ قريب.قرأ يعقوب بإثبات الياء في {عقاب} وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي.{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} أي: ما ينتظرون إلا صيحة، وهي: النفخة الكائنة عند قيام الساعة.وقيل: هي النفخة الثانية، وعلى الأوّل المراد: من عاصر نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفار، وعلى الثاني المراد: كفار الأمم المذكورة، أي: ليس بينهم، وبين حلول ما أعدّ الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية.وقيل: المراد بالصيحة: عذاب يفجؤهم في الدنيا كما قال الشاعر: وجملة: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} في محل نصب صفة لصيحة.قال الزجاج: فواق، وفواق بفتح الفاء، وضمها أي: ما لها من رجوع، والفواق ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتقّ من الرجوع أيضًا، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، وأفاق من مرضه، أي: رجع إلى الصحة، ولهذا قال مجاهد، ومقاتل: إن الفواق: الرجوع.وقال قتادة: ما لها من مثنوية.وقال السدّي: ما لها من إفاقة، وقيل: ما لها من مردّ.قال الجوهري: ما لها من نظرة، وراحة وإفاقة، ومعنى الآية: أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم، فإذا جاءت لم ترجع، ولا تردّ عنهم، ولا تصرف منهم، ولا تتوقف مقدار فواق ناقة، وهي ما بين حلبتي الحالب لها، ومنه قول الأعشى: والفيقة: اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، وجمعها فيق، وأفواق.
|