الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الوجه الثالث: أنَّ قوله: {بحَقٍّ} متعلقٌ بقوله: {عَلِمْتَهُ}، ويكون الوقْفُ على هذا على قوله: {لِي}، والمعنى: فققد عَلِمْتَهُ بِحَقٍّ، وقد رُدَّ هذا بأنَّ الأصْل عدمِ التقديم والتأخير، وهذا لا ينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا، بل الذي منه من ذلك: أنَّ معمول الشرط أو جوابه لا يتقدَّم على أداة الشرط، لاسيما والمَرْوِيُّ عن الأئمةِ القُرَّاءِ الوقفُ على {بِحَقٍّ}، ويَبْتَدئُونَ بـ {إِن كُنتُ قُلْتُهُ}، وهذا مَرْوِيٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجَبَ اتِّباعه.والوجه الثاني في خبر {لَيْسَ}: أنه {بِحَقٍّ}، وعلى هذا، ففي {لِي} ثلاثةُ أوجه:أحدها: أنه «يَتَبيَّنُ»؛ كما في قولهم: «سُقْيًا لَهُ»، أي: فيتعلَّقُ بمحذوف.والثاني: أنه حالٌ من {بِحَقٍّ}؛ لأنه لو تأخَّر، لكان صفةً له، قال أبو البقاء: «وهذا مُخَرَّجٌ على قول من يجُوِّزُ تقديم حال المجرُورِ عليه» قلتُ: قد تقدَّم لك خلافُ النَّاسِ فيه، وما أوردوه من الشواهد، وفيه أيضًا تقديمُ الحالِ على عاملها المعنويِّ، فإنَّ {بِحَقٍّ} هو العاملُ؛ إذ {لَيْسَ} لا يجوز أن تعمل في شيء، وإن قلنا: إنَّ «كان» أختها قد تعمل لأن «لَيْسَ» لا حدثَ لها بالإجماع.والثالث: أنه متعلِّقٌ بنفسِ «حَقّ»؛ لأنَّ الباءَ زائدةٌ، و«حَقّ» بمعنى «مُسْتَحقّ»، أي: ما لَيْسَ مستحِقًّا لي.قوله: {إن كنت قلته}: {كنت} وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى، والتقدير: إن تَصِحَّ دعواي لما ذُكر، وقدَّره الفارسي بقوله: «إن أكن الآن قلتُه فيما مضى» لأنَّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في المستقبل.وقوله: «فقد عَلِمْتَ» أي: فقد تبيَّن وظهر علمُك به كقوله: {فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26] و{فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] و{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90].قوله: {تعلمُ ما في نفسي} هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، لأنَّ العرفان كما تقدم يستدعي سَبْقَ جهل، أو يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ، أي: تعلمُ ما في نفسي كائنًا موجودًا على حقيقته لا يخفى عليك منه شيءٌ، وأمَّا: {ولا أعلم} فهي وإن كان يجوزُ أن تكون عرفانيةً، إلا أنها لمَّا صارت مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكون مثلها، والمرادُ بالنفس هنا ما قاله الزجاج أنها تُطْلقُ ويُراد بها حقيقةُ الشيء، والمعنى في قوله: {تعلم ما في نفسي} إلى آخره واضحٌ. اهـ. باختصار.
.تفسير الآية رقم (117): قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما نفى عن نفسه ما يستحق النفي ودل عليه، أثبت ما قاله لهم على وجه مصرح بنفي غيره ليكون ما نسب إليه من دعوى الإلهية منفيًا مرتين: إشارة وعبارة، فقال معبرًا عن الأمر بالقول مطابقة للسؤال، وفسر بالأمر بيانًا لأن كل ما قاله من مباح أو غيره دائر على الأمر من حيث الاعتقاد بمعنى أن المخاطب بما قاله الرسول مأمور بأن يعتقد فيه أنه بتلك المنزلة، لا يجوز أن يعتقد فيه أنه فوقها ولا دونها، يعبد الله تعالى بذلك: {ما قلت لهم} أي ما أمرتهم بشيء من الأشياء {إلا ما أمرتني به} ثم فسره دالًا بشأن المراد بالقول الأمر بالتعبير في تفسيره بحرف التفسير بقوله: {أن اعبدوا} أي ما أمرتهم إلا بعبادة {الله} أي الذي لم يستجمع نعوت الجلال والجمال أحد غيره؛ ثم أشار إلى أنه كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فقال: {ربي وربكم} أي أنا وأنتم في عبوديته سواء، وهذا الحصر يصح أن يكون للقلب على أن دون بمعنى غير، وللإفراد على أنها بمعنى سفول المنزلة، وهو من بدائع الأمثلة.ولما فهم صلى الله عليه وسلم من هذا السؤال أن أتباعه غلوا في شأنه، فنزه الله سبحانه وعز شأنه من ذلك وأخبره بما أمر الناس به في حقه سبحانه من الحق، اعتذر عن نفسه بما يؤكد ما مضى نفيًا وإثباتًا فقال: {وكنت عليهم} أي خاصة لا على غيرهم.ولما كان سبحانه قد أرسله شاهدًا، زاد في الطاعة في ذلك إلى أن بلغ جهده كإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال معبرًا بصيغة المبالغة: {شهيدًا} أي بالغ الشهادة، لا أرى فيهم منكرًا إلا اجتهدت في إزالته {ما دمت فيهم} وأشار إلى الثناء على الله بقوله: {فلما توفيتني} أي رفعتني إلى السماء كامل الذات والمعنى مع بذلهم جهدهم في قتلي {كنت أنت} أي وحدك {الرقيب} أي الحفيظ القدير {عليهم} لا يغيب عليك شيء من أحوالهم، وقد منعتهم أنت أن يقولوا شيئًا غير ما أمرتهم أنا به من عبادتك بما نصبت لهم من الأدلة وأنزلت عليهم على لساني من البينات {وأنت على كل شيء} أي منهم ومن غيرهم حيوان وجماد {شهيد} أي مطلع غاية الاطلاع، لا يغيب عنك شيء منه سواء كان في عالم الغيب أو الشهادة، فإن كانوا قالوا ذلك فأنت تعلمه دوني، لأني لما بعدت عنهم في المسافة انقطع علمي عن أحوالهم. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الماوردي: قوله عز وجل: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} لم يذكر عيسى ذلك على وجه الإِخبار به لأن الله عالم به، ويحتمل وجهين:أحدهما: تكذيبًا لمن اتخذ إلهًا معبودًا.والثاني: الشهادة بذلك على أمته فيما أمرهم به من عبادة ربه.قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} يحتمل وجهين:أحدهما: إعلامهم أن الله ربه وربهم واحد.والثاني: أن عليه وعليهم أن يعبدوا ربًا واحدًا حتى لا يخالفوا فيما عبدوه.{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيِهِمْ} يحتمل وجهين:أحدهما: يعني شاهدًا.والثاني: شاهدًا عليهم.{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} فيه وجهان:أحدهما: أنه الموت.والثاني: أنه رفعه إلى السماء.{... الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} فيه وجهان:أحدهما: الحافظ عليهم.والثاني: العالم بهم.{وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} يحتمل وجهين:أحدهما: شاهدًا لما حضر وغاب.والثاني: شاهدًا على من عصى، وأطاع. اهـ..قال الفخر: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} أن مفسرة والمفسر هو الهاء في به الراجع إلى القول المأمور به والمعنى ما قلت لهم إلا قولًا أمرتني به وذلك القول هو أن أقول لهم: اعبدوا الله ربي وربكم.واعلم أنه كان الأصل أن يقال: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه وضع القول موضع الأمر، نزولًا على موجب الأدب الحسن، لئلا يجعل نفسه وربه أمرين معًا، ودلّ على الأصل بذكر أن المفسرة.ثم قال تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أي كنت أشهد على ما يفعلون ما دمت مقيمًا فيهم.{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى} والمراد منه، وفاة الرفع إلى السماء، من قوله: {إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} [آل عمران: 55].{كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} قال الزجاج: الحافظ عليهم المراقب لأحوالهم.{وَأَنتَ على كُلّ شيء شَهِيدٌ} يعني أنت الشهيد لي حين كنت فيهم وأنت الشهيد عليهم بعد مفارقتي لهم، فالشهيد الشاهد ويجوز حمله على الرؤية، ويجوز حمله على العلم، ويجوز حمله على الكلام بمعنى الشهادة فالشهيد من أسماء الصفات الحقيقية على جميع التقديرات. اهـ..قال في الميزان: قوله تعالى: {ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم} لما نفى عليه السلام القول المسؤول عنه عن نفسه بنفى سببه أولا نفاه ببيان وظيفته التي لم يتعدها ثانيا فقال: {ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به} الخ، وأتى فيه بالحصر بطريق النفى والإثبات ليدل على الجواب بنفى ما سئل عنه وهو القول: «أن اتخذوني وأمى إلهين من دون الله».وفسر ما أمره به ربه من القول بقوله: {أن اعبدوا الله} ثم وصف الله سبحانه بقوله: {ربى وربكم} لئلا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنه عبد رسول يدعو إلى الله ربه ورب جميع الناس وحده لا شريك له.وعلى هذه الصراحة كان يسلك عيسى ابن مريم عليه السلام في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكى عنه القرآن الشريف، قال تعالى حكاية عنه: {إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} (الزخرف: 64) وقال: {وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} (مريم: 36).قوله تعالى: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} ثم ذكر عليه السلام وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه وهو الشهادة على أعمال أمته كما قال تعالى: {ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} (النساء: 159).يقول عليه السلام ما كان لى من الوظيفة فيهم إلا الرسالة إليهم والشهادة على أعمالهم: أما الرسالة فقد أديتها على أصرح ما يمكن، وأما الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم، ولم أتعد ما رسمت لى من الوظيفة فأنا براء من أن أكون القى إليهم أن اتخذوني وامى إلهين من دون الله.وقوله: {فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم} الرقوب والرقابة هو الحفظ، والمراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الأعمال، وكأنه أبدل الشهيد من الرقيب احتراز عن تكرر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد: {وأنت على كل شيء شهيد}، ولا نكتة تستدعى الاتيان بلفظ «الشهيد» ثانيا بالخصوص.واللفظ أعنى قوله: {كنت أنت الرقيب عليهم} يدل على الحصر، ولازمه أنه تعالى كان شهيدا ما دام عيسى عليه السلام شهيدا وشهيدا بعده، فشهادته عليه السلام كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلة على حد سائر التدبيرات الإلهية التي وكل عليها بعض عبادة ثم هو على كل شيء وكيل كالرزق والاحياء والاماتة والحفظ والدعوة والهداية وغيرها، والآيات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.ولذلك عقب عليه السلام قوله: {فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم} بقوله: {وأنت على كل شيء شهيد} ليدل بذلك على أن الشهادة على أعمال أمته التي كان يتصداها مادام فيهم كانت حصة يسيرة من الشهادة العامة المطلقة إلى هي شهادة الله سبحانه على شيء فإنه تعالى شهيد على أعيان الأشياء وعلى أفعالها التي منها أعمال عباده التي منها أعمال امة عيسى ما دام فيهم وبعد توفيه، وهو تعالى شهيد مع الشهداء وشهيد بدونهم.ومن هنا يظهر أن الحصر صادق في حقه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنه عليه السلام حصر الشهادة بعد توفيه في الله سبحانه مع أن لله بعده شهداء من عباده ورسله وهو عليه السلام يعلم ذلك.ومن الدليل على ذلك بشارته عليه السلام بمجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم- على ما يحكيه القرآن- بقوله: {يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد} (الصف: 6) وقد نص القرآن على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشهداء قال تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} (النساء: 41).على أن الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر: {فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم} ولم يرده بالابطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كل شهيد أي إن حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أن حقيقة كل كمال وخير هو لله سبحانه، وأن ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك ولا زوال ملكه وبطلانه، وعليك بالتدبر في أطراف ما ذكرناه.فبان بما أورده من بيان حاله المحكى عنه في الآيتين أنه برئ مما قاله الناس في حقه وأن لا عهدة عليه فيما فعلوه، ولذلك ختم عليه السلام كلامه بقوله: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} إلى آخر الآية. اهـ.
|