الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقوله: {برحمة منه ورضوان} أشارة المرتبة الوسطى وهم العاكفون على عتبة اللذات الروحانية العقلية. وقوله: {جنات} إلى آخره إشارة إلى المرتبة السفلى وهم الواقفون عند ساحات مواقع اللذات الحسيات. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن الذين رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها يبشركم بخيرات دائمة وسعادات باقية لا حصر لها. ويجوز أن تكون الرحمة إشارة إلى رضا العبد بقضائه فيسهل عليه الغموم والآفات، والرضوان إشارة إلى رضاه عن العبد فيكون كقوله: {ارجعي إلى ربك راضية مرضية} [الفجر: 28] ثم أكد المعاني المذكورة بقوله: {الله عنده أجر عظيم} وفي تصدير الجملة الاسمية بأن وفي لفظ عند وتقديمه وتنكير أجر ووصفه بالعظم مبالغات لا تخفى.قال الكلبي: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون: ننشدك الله أن لا تدعنا إلى غير شيء فنضيع فيرق فيجلس معهم ويدع فنزل فيهم {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا} الآيتين. وذكروا في وجه النظم أن هذه الآية جواب عن شبهة أخرى قالوها وهي أنه كيف يمكن دعوى البراءة من الكفار وبينهم وبين المسلمين قرابات ومواصلات ومعاملات؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأبناء والإخوان واجب بسبب الكفر. ومعنى استحبوا اختاروا وهو في الأصل طلب المحبة. ثم إن النهي كان يحتمل أن يكون نهي تنزيه لا تحريم فلإزالة الوهم ختم الآية بقوله: {ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} قال ابن عباس: يريد أنه يكون مشركًا مثلهم لأن الرضا بالشرك شرك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس» وعن ابن عباس: هي في المهاجرين خاصة كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم.. فقالوا: يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ضائعين فنزلت: {قل إن كان آباؤكم} الآية. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه وأبوه وأخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة فنهى الله عزّ وجلّ عن موالاتهم. قال الواحدي: عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه. ومن قرأ على الوحدة فلأن العشيرة اسم جمع.ومن قرأ على الجمع فلأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة. قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر القرآن حجة عليه. والاقتراب الاكتساب والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه. والترتيب المذكور في الآية غاية الحسن لأن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة القريبة ثم البعيدة، ثم إنه يتوسل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال المكتسبة ثم إلى التجارات المثمرة، وفي آخر المراتب الرغبة في الأوطان التي بنيت للسكنى، فبيّن تعالى أنه يجب تحمل هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سليمًا، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندهم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله: {فتربصوا} انتظروا بما تحبون {حتى يأتي الله بأمره} عن الحسن هو عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل: يعني القتال. وعن ابن عباس: هو فتح مكة وفيه بعد لما روي أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة {والله لا يهدي القوم الفاسقين} الخارجين عن طاعة الله إلى معصيته ولا يخفى ما فيه من التهديد. ثم لما أوجب ترك مصالح الدنيا لأجل الدين أراد أن يبين أن كل من أعرض عن الدنيا لأجل مصالح دينه فإن الله تعالى يراعي مصالح دنياه فيفوز بسعادة الدارين وضرب لنا مثلًا فقال: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} قال الواحدي: النصر المعونة على الأعداء خاصة، والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر. ومواطن الحرب مقاماتها ومواقعها. وامتناعها من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ولا هاء كمساجد. والمواطن الكثيرة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي على ما في الصحاح تسع عشرة منها: غزوة بدر وقريظة والنضير وأحد وغزوة الخندق وذات الرقاع وغزوة بني المصطلق وغزوة أنمار وغزوة ذي قرد وخيبر والحديبية والفتح.{ويوم حنين} أي يوم حنين. واستبعد صاحب الكشاف عطف الزمان على المكان فقال: معناه في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين، وجوّز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين رضي الله عنه قال علي: أن الواجب أن يكون يوم {حنين} منصوبًا بالفعل مضمر لا بهذا الظاهر أي ونصركم يوم حنين لأن قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم} بدل من {يوم حنين} فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع المواطن ولم يكونوا كثيرًا في جميعها، وجوّز أن يكون إذ منصوبًا بإضمار اذكر.قلت: ولعله لا حاجة إلى هذه التكلفات فلا استبعاد في عطف الزمان والمكان، وما جعل بدلًا عن الزمان لا يلزم أن يكون بدلًا عن المكان حتى يكون الفعل الأوّل مقيدًا بهما جميعًا. وحنين ودًا بين مكة والطائف.قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجهًا إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ فعن عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفًا. وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفًا وعشرة الآف من الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء الأسارى الذين أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف. وبالجملة كانوا عددًا كثيرين وكانت هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة. فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المراد من قوله: {إذ أعجبتكم} وقيل: قالها أبو بكر. وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعيد لأنه كان في جميع الأحوال متوكلًا على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها. ثم قال: {فلم تغن عنكم شيئًا} والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة أي لم تعطكم الكثرة شيئًا يدفع حاجتكم ولم تفدكم {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} ما مصدرية والباء بمعنى مع والرحب السعة والجار والمجرور في موضع الحال أي متلبسة برحبها كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا في الأرض ذات الطول والعرض موضعًا يصلح لهربكم إليه وكأنها ضاقت عليكم {ثم وليتم مدبرين} أي انهزمتم انهزامًا. قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث، والذي لا إله إلا الله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط، ولقد رأيته وأبو سفيان أخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام الدابة وهو يقول:
وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس: ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلًا صيتًا فنادى يا أصحاب الشجرة فرجعوا ونزلت الملائكة عليهم ثياب بيض وهم على خيول بلق، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده كفًا من الحصباء فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما زال جدهم مدبرًا وحدهم كليلًا ولم يبق منهم أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فانهزموا وذلك قوله سبحانه: {ثم أنزل الله سكينته} رحمته التي سكنوا بها وآمنوا {على رسوله وعلى المؤمنين} الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب.{وأنزل الله جنودًا لم تروها} يعني الملائكة ستة عشر ألفًا أو ثمانية آلاف أو خمسة آلاف على اختلاف الروايات.وعن سعيد بن المسيب قال: حدّثني رجل كان من المشركين يوم حنين: قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البلغة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا. واختلفوا في قتال الملائكة فقيل: قاتلوا. وقيل: ما قاتلوا إلا يوم بدر وإنما نزلوا في هذا اليوم لتكثير السواد ولإلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين. ثم قال: {وعذب الذين كفروا} أي بالقتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذراري. واحتجت الأشاعرة بإنزال السكينة وهي داعية السكون والثبات وبقوله: {وعذب} على أن الدواعي والأفعال كلها بخلق الله تعالى. ثم ختم الآية بقوله: {وذلك جزاء الكافرين} واعلم أن الحنفية تمسكوا في مسألة الجلد مع التغريب بقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] قالوا الفاء للجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافيًا يمنع أن يكون غيره مشروعًا معه. وأجابت الشافعية بأنه قال تعالى في غير كافٍ لأن العذاب الآجل باقٍ. أما قوله: {ثم يتوب الله من بعد ذلك} أي يسلم ناس منهم.روي أن ناسًا جاؤا تائبين فأسلموا وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل سبي يومئذ آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى. فقال: إن عندي ما ترون العساكر الفقراء وإن خير القول أصدقه، اختاروا وإما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئًا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاؤا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا. فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضًا علينا حتى نصيب شيئًا فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا فقال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أن قد رضوا.ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهة أخرى لهم وذلك أن عليًا عليه السلام حين قرأ عليهم براءة فنبذ إليهم عهدهم قال أناس: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} قال في الكشاف: هو مصدر كالقذر ومعناه ذو ونجس. وقال الليث: إنه صفة يستوي فيه الواحد وغيره: رجل الوصف. واختلف في تفسير كون المشرك نجسًا فعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن من صافح مشركًا توضأ وهو قول الهادي من أئمة الزيدية. وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم واحتج القاضي على ذلك بما روي أنه صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم وبأنه لو كان نجس العين لما تبدلت النجاسة بسبب الإسلام، وأوّلوا الآية بأن معناها أنهم لا يغتسلون عن الجنابة ولا يتوضؤون عن الحدث، أو أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب الاجتناب والاحتراز عنهم، أو أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} وهي السنة التاسعة من الهجرة التي وقع النداء فيها بالبراءة من المشركين واختلفوا في هذا النهي فعن أبي حنيفة وأصحابه أن المراد أن لا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، والدليل عليه قول علي عليه السلام في النداء: ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك.وقال الشافعي: المراد المنع من الدخول فيه وهو ظاهر النصر. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع من الدخول فيه. وقيل: المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك. وعن عطاء أن المراد بالمسجد الحرام والحرم وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه لقوله: {وإن خفتم عيلة} أي فقرًا بسبب منع المشركين وموضع التجارات ليس هو عين المسجد بل الحرم كله. ومن قال إن المراد منعهم من الحج قال إنهم إذا لم يحضروا الموسم لم يحصل للمسلمين ما كان لهم في قدومهم عليهم من الأرفاق والمكاسب فلهذا خافوا الفقر، ثم وعدهم الله إزالة الفقر بقوله: {فسوف يغنيكم الله من فضله} أي من تفضله بوجه آخر قال عكرمة: أنزل الله عليهم المطر فكثر خيرهم. وعن الحسن: جعل الله لهم أخذ الجزية بدلًا عن ذلك. وقيل: أغناهم من الفيء. وعن مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش وحملوا الطعام إلى مكة فكان ذلك أعود عليهم. واعلم أن هذا إخبار بالغيب وقد وقع فكان معجزًا. ومعنى {إن شاء} تعليم وإرشاد وأن لا يغتر المسلمون بذلك فيتركوا التضرع إلى الله واللجأ إليه، وليعلم أن حصول ذلك لا يكون في كل الأوقات لأغراض ومقاصد لا يعلمها إلا ضابط الأمور ورابط الأسباب، ولهذا ختم الآية بقوله: {إن الله عليم} أي بأحوالكم {حكيم} لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب. اهـ. .قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة: ذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء} أقوالًا:فقال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة، وقال ابن عباس رضي الله تعنهما: لما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من تعلق به أهله وولده يقولون: ننشدك الله أن لا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عندهم ويدع الهجرة فنزلت، فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقربائه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه حتى رخص لهم بعد ذلك. قال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة أي: لا تتخذوهم أولياء يمنعوكم عن الإيمان ويصدوكم عن الطاعة لقوله تعالى: {إن استحبوا} أي: اختاروا {الكفر على الإيمان} أي: أقاموا عليه، تركوا الإيمان بالله ورسوله {ومن يتولهم منكم} أي: ومن يختر المقام معهم على الهجرة والجهاد {فأولئك هم الظالمون} أي: فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر الله تعالى واختيار الكفار على المؤمنين.
|