.باب فِي سَدْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعْرَهُ وَفَرْقِهِ:
4307- قَوْله:
«كَانَ أَهْل الْكِتَاب يَسْدُلُونَ أَشْعَارهمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسهمْ، وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَة أَهْل الْكِتَاب فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، فَسَدَلَ نَاصِيَته، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: سَدَلَ يَسْدُلُ وَيُسْدِل بِضَمِّ الدَّال وَكَسْرهَا.قَالَ الْقَاضِي: سَدْل الشَّعْر إِرْسَاله.قَالَ: وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا عِنْد الْعُلَمَاء إِرْسَاله عَلَى الْجَبِين وَاِتِّخَاذه كَالْقُصَّةِ يُقَالُ: سَدَلَ شَعْره وَثَوْبه إِذَا أَرْسَلَهُ، وَلَمْ يَضُمَّ جَوَانِبه، وَأَمَّا الْفَرْق فَهُوَ فَرْق الشَّعْر بَعْضه مِنْ بَعْض.قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْفَرْق سُنَّة لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: فَالظَّاهِر أَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ بِوَحْيٍ لِقَوْلِهِ:
«إِنَّهُ كَانَ يُوَافِقُ أَهْل الْكِتَاب فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ».قَالَ الْقَاضِي: حَتَّى قَالَ بَعْضهمْ نُسِخَ الْمُسْدَل، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، وَلَا اِتِّخَاذ النَّاصِيَة وَالْجُمَّة.قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَاد جَوَاز الْفَرْق لَا وُجُوبه، وَيَحْتَمِل أَنَّ الْفَرْق كَانَ بِاجْتِهَادٍ فِي مُخَالَفَة أَهْل الْكِتَاب لَا بِوَحْيٍ، وَيَكُون الْفَرْق مُسْتَحَبًّا، وَلِهَذَا اِخْتَلَفَ السَّلَف فيه، فَفَرَقَ مِنْهُمْ جَمَاعَة، وَاِتَّخَذَ اللِّمَّة آخَرُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَّة، فَإِنْ اِنْفَرَقَتْ فَرَّقَهَا، وَإِلَّا تَرَكَهَا.قَالَ مَالِك: فَرْق الرَّجُل أَحَبّ إِلَيَّ. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَالْحَاصِل أَنَّ الصَّحِيح الْمُخْتَار جَوَاز السَّدْل وَالْفَرْق، وَأَنَّ الْفَرْق أَفْضَل. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل مُوَافَقَة أَهْل الْكِتَاب فِيمَا لَمْ يَنْزِل عَلَيْهِ شَيْء، فَقِيلَ: فَعَلَهُ اِسْتِئْلَافًا لَهُمْ فِي أَوَّل الْإِسْلَام، وَمُوَافَقَة لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَة عَبَدَة الْأَوْثَان، فَلَمَّا أَغْنَى اللَّه تَعَالَى عَنْ اِسْتِئْلَافهمْ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَام عَلَى الدِّين كُلّه، صَرَّحَ بِمُخَالَفَتِهِمْ فِي غَيْر شَيْء، مِنْهَا صَبْغ الشَّيْب.وَقَالَ آخَرُونَ: يَحْتَمِل أَنَّهُ أُمِرَ بِاتِّبَاعِ شَرَائِعهمْ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْء، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِيمَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوهُ. وَاسْتَدَلَّ بَعْض الْأُصُولِيِّينَ بِهَذَا الْحَدِيث أَنَّ شَرْع مَنْ قَبْلنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ.وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا دَلِيل أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا لِأَنَّهُ قَالَ: يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ إِلَى خِيرَته، وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا لَتَحَتَّمَ اِتِّبَاعه. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.باب فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا:
4308- قَوْله:
«كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعًا» هُوَ بِمَعْنَى قَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة:
«لَيْسَ بِالطَّوِيلِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ».قَوْله:
«عَظِيم الْجُمَّة إِلَى شَحْمَة أُذُنَيْهِ» وَفِي رِوَايَة.
«مَا رَأَيْت مِنْ ذِي لِمَّة أَحْسَن مِنْهُ»، وَفِي رِوَايَة:
«كَانَ يَضْرِبُ شَعْره مَنْكِبَيْهِ»، وَفِي رِوَايَة:
«إِلَى أَنْصَاف أُذُنَيْهِ»، وَفِي رِوَايَة:
«بَيْن أُذُنَيْهِ وَعَاتِقه».قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْجُمَّة أَكْثَر مِنْ الْوَفْرَة، فَالْجُمَّة الشَّعْر الَّذِي نَزَلَ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَالْوَفْرَة مَا نَزَلَ إِلَى شَحْمَة الْأُذُنَيْنِ، وَاللِّمَّة الَّتِي أَلَمَّتْ بِالْمَنْكِبَيْنِ.قَالَ الْقَاضِي: وَالْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات أَنَّ مَا يَلِي الْأُذُن هُوَ الَّذِي يَبْلُغُ شَحْمَة أُذُنَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي بَيْن أُذُنَيْهِ وَعَاتِقه، وَمَا خَلْفَهُ هُوَ الَّذِي يَضْرِب مَنْكِبَيْهِ.قَالَ: وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْأَوْقَات، فَإِذَا غَفَلَ عَنْ تَقْصِيرهَا بَلَغَتْ الْمَنْكِب، وَإِذَا قَصَّرَهَا كَانَتْ إِلَى أَنْصَاف الْأُذُنَيْنِ، فَكَانَ يُقَصِّرُ وَيُطَوِّلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَالْعَاتِق مَا بَيْن الْمَنْكِب وَالْعُنُق.وَأَمَّا شَحْمَة الْأُذُن فَهُوَ اللَّيِّن مِنْهَا فِي أَسْفَلهَا، وَهُوَ مُعَلَّق الْقُرْط مِنْهَا. وَتُوَضِّحُ هَذِهِ الرِّوَايَات رِوَايَة إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ:
«كَانَ شَعْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْق الْوَفْرَة، وَدُون الْجُمَّة».4310- قَوْله فِي حَدِيث الْبَرَاء:
«كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَن النَّاس وَجْهًا وَأَحْسَنهمْ خَلْقًا» قَالَ الْقَاضِي: ضَبَطْنَاهُ خَلْقًا بِفَتْحِ الْخَاء وَإِسْكَان اللَّام هُنَا لِأَنَّ مُرَاده صِفَات جِسْمه.قَالَ: وَأَمَّا فِي حَدِيث أَنَس فَرَوَيْنَاهُ بِالضَّمِّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُسْن مُعَاشَرَته.وَأَمَّا قَوْله:
«وَأَحْسَنه» فَقَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيْره هَكَذَا تَقُولهُ الْعَرَب: وَأَحْسَنه، يُرِيدُونَ: وَأَحْسَنهمْ، وَلَكِنْ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: أَجْمَل النَّاس وَأَحْسَنه، وَمِنْهُ الْحَدِيث:
«خَيْر نِسَاء رَكِبْنَ الْإِبِل نِسَاء قُرَيْش، أَشْفَقَهُ عَلَى وَلَد، وَأَعْطَفَهَ عَلَى زَوْج» حَدِيث أَبِي سُفْيَان: عِنْدِي أَحْسَن نِسَاء الْعَرَب وَأَجْمَله.
.باب صِفَةِ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
4311- قَوْله:
«كَانَ شَعَرًا رَجِلًا لَيْسَ بِالْجَعْدِ وَلَا السَّبْط» هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَكَسْر الْجِيم، وَهُوَ الَّذِي بَيْن الْجُعُودَة وَالسُّبُوطَة، قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره.
.باب فِي صِفَةِ فَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْنَيْهِ وَعَقِبَيْهِ:
4314- قَوْله: عَنْ شُعْبَة عَنْ سِمَاك بْن حَرْب قَالَ: سَمِعْت جَابِر بْن سَمُرَة قَالَ:
«كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَلِيع الْفَم، أَشْكَلَ الْعَيْن، مَنْهُوس الْعَقِبَيْنِ. قَالَ: قُلْت لِسِمَاكٍ: مَا ضَلِيع الْفَم؟ قَالَ: عَظِيم الْفَم قُلْت: مَا أَشْكَلَ الْعَيْن؟ قَالَ. طَوِيل شَقّ الْعَيْن. قُلْت: مَا مَنْهُوس الْعَقِب؟ قَالَ: قَلِيل لَحْم الْعَقِب».وَأَمَّا قَوْله فِي ضَلِيع الْفَم فَكَذَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الْأَظْهَر. قَالُوا: وَالْعَرَب تَمْدَحُ بِذَلِكَ، وَتَذُمُّ صِغَر الْفَم، وَهُوَ مَعْنَى قَوْل ثَعْلَب فِي ضَلِيع الْفَم وَاسِع الْفَم.وَقَالَ شَمِر: عَظِيم الْأَسْنَان.وَأَمَّا قَوْله فِي أَشْكَل الْعَيْن فَقَالَ الْقَاضِي هَذَا وَهْم مِنْ سِمَاك بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء، وَغَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَصَوَابه مَا اِتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء، وَنَقَلَهُ أَبُو عُبَيْد وَجَمِيع أَصْحَاب الْغَرِيب أَنَّ الشُّكْلَة حُمْرَة فِي بَيَاض الْعَيْنَيْنِ، وَهُوَ مَحْمُود، وَالشُّهْلَة بِالْهَاءِ حُمْرَة فِي سَوَاد الْعَيْن.وَأَمَّا (الْمَنْهُوس) فَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَة. هَكَذَا ضَبَطَهُ الْجُمْهُور.وَقَالَ صَاحِب التَّحْرِير وَابْن الْأَثِير: رُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَة، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، وَمَعْنَاهُ قَلِيل لَحْم الْعَقِب كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.باب كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْيَضَ مَلِيحَ الْوَجْهِ:
4316- قَوْله:
«كَانَ أَبْيَض مَلِيحًا مُقَصَّدًا» هُوَ بِفَتْحِ الصَّاد الْمُشَدَّدَة، وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ بِجَسِيمٍ وَلَا نَحِيفٍ، وَلَا طَوِيلٍ وَلَا قَصِيرٍ.وَقَالَ شَمِر: هُوَ نَحْو الرَّبَعَة، وَالْقَصْدُ بِمَعْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.باب شَيْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
4317- سبق شرحه بالباب.4318- قَوْله:
«سَأَلْت أَنَس بْن مَالِك: هَلْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَضَبَ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغ الْخِضَاب، كَانَ فِي لِحْيَته شَعَرَات بِيض» وَفِي رِوَايَة:
«لَمْ يَرَ مِنْ الشَّيْب إِلَّا قَلِيلًا»، وَفِي رِوَايَة:
«لَوْ شِئْت أَنْ أَعُدَّ شَمَطَات كُنَّ فِي رَأْسه، وَلَمْ يَخْضِبْ»، وَفِي رِوَايَة:
«لَمْ يَخْضِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ، وَفِي الصُّدْغَيْنِ، وَفِي الرَّأْس نَبْذ». وَفِي رِوَايَة:
«مَا شَانَهُ اللَّه بِبَيْضَاء». وَفِي رِوَايَة أَبِي جُحَيْفَةَ:
«رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاء»، وَوَضَعَ الرَّاوِي بَعْض أَصَابِعه عَلَى عَنْفَقَته. وَفِي رِوَايَة لَهُ:
«رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْيَض قَدْ شَابَ». وَفِي رِوَايَة جَابِر بْن سَمُرَة:
«أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَ إِذَا دَهَنَ رَأْسه لَمْ يُرَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِذَا لَمْ يَدْهُنْ رُئِيَ مِنْهُ». وَفِي رِوَايَة لَهُ:
«كَانَ قَدْ شَمِطَ مُقَدَّم رَأْسه وَلِحْيَته». وَفِي رِوَايَة لِأَنَسٍ:
«يُعَدُّ عَدًّا، تُوُفِّيَ وَلَيْسَ فِي رَأْسه وَلِحْيَته عِشْرُونَ شَعْرَة بَيْضَاء». وَفِي حَدِيث أُمِّ سَلَمَة:
«أَنَّهَا أَخْرَجَتْ لَهُمْ شَعَرَات مِنْ شَعْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمْرًا مَخْضُوبَة بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَم».قَالَ الْقَاضِي: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ خَضَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ بِحَدِيثِ أَنَس، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك.وَقَالَ بَعْض الْمُحَدِّثِينَ: خَضَبَ لِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَة هَذَا، وَلِحَدِيثِ اِبْن عُمَر أَنَّهُ رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغ بِالصُّفْرَةِ.قَالَ: وَجَمَعَ بَعْضهمْ بَيْن الْأَحَادِيث بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي حَدِيث أُمّ سَلَمَة مِنْ كَلَامِ أَنَس فِي قَوْله: فَقَالَ مَا أَدْرِي فِي هَذَا الَّذِي يُحَدِّثُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْء مِنْ الطِّيب الَّذِي كَانَ يُطَيِّبُ بِهِ شَعْره، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الطِّيب كَثِيرًا، وَهُوَ يُزِيلُ سَوَاد الشَّعْر. فَأَشَارَ أَنَس إِلَى أَنَّ تَغْيِير ذَلِكَ لَيْسَ بِصَبْغٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِضَعْفِ لَوْن سَوَاده بِسَبَبِ الطِّيب.قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنَّ تِلْكَ الشَّعَرَات تَغَيَّرَتْ بَعْده لِكَثْرَةِ تَطْيِيب أُمّ سَلَمَة لَهَا إِكْرَامًا. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي. وَالْمُخْتَار أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَغَ فِي وَقْت، وَتَرَكَهُ فِي مُعْظَم الْأَوْقَات، فَأَخْبَرَ كُلٌّ بِمَا رَأَى، وَهُوَ صَادِق وَهَذَا التَّأْوِيل كَالْمُتَعَيِّنِ، فَحَدِيث اِبْن عُمَر فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْكه، وَلَا تَأْوِيل لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَأَمَّا اِخْتِلَاف الرِّوَايَة فِي قَدْر شَيْبه فَالْجَمْع بَيْنهَا أَنَّهُ رَأَى شَيْئًا يَسِيرًا، فَمَنْ أَثْبَتَ شَيْبه أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ الْيَسِير، وَمَنْ نَفَاهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَكْثُرْ فيه كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: لَمْ يَشْتَدَّ الشَّيْب أَيْ لَمْ يَكْثُرْ، وَلَمْ يَخْرُجْ شَعْره عَنْ سَوَاده وَحُسْنه. كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى:
«لَمْ يُرَ مِنْ الشَّيْب إِلَّا قَلِيلًا».4319- سبق شرحه بالباب.4320- قَوْله:
«أَعُدُّ شَمَطَاتِهِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى:
«كَانَ قَدْ شَمِطَ» بِكَسْرِ الْمِيم. اِتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالشَّمَطِ هُنَا اِبْتِدَاء الشَّيْب. يُقَالُ مِنْهُ: شَمِطَ وَأَشْمَطَ.قَوْله:
«خَضَبَ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَم» أَمَّا (الْحِنَّاء) فَمَمْدُود، وَهُوَ مَعْرُوف.وَأَمَّا (الْكَتَم) فَبِفَتْحِ الْكَاف وَالتَّاء الْمُثَنَّاة مِنْ فَوْقُ الْمُخَفَّفَةُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور.وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ بِتَشْدِيدِ التَّاء، وَحَكَاهُ غَيْره، وَهُوَ نَبَاتٌ يُصْبَغُ بِهِ الشَّعْر، يَكْثُرُ بَيَاضه أَوْ حُمْرَته إِلَى الدُّهْمَة.قَوْله:
«اِخْتَضَبَ عُمَر بِالْحِنَّاءِ» هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة مَعْنَاهُ خَالِصًا لَمْ يُخْلَطْ بِغَيْرِهِ.4321- قَوْله:
«عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يَنْتِفَ الرَّجُل الشَّعْرَة الْبَيْضَاء مِنْ رَأْسه وَلِحْيَته» هَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ.قَالَ أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب مَالِك: يُكْرَه وَلَا يَحْرُم.قَوْله:
«وَفِي الرَّأْس نَبْذ» ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا ضَمّ النُّون وَفَتْح الْبَاء، وَالثَّانِي بِفَتْحِ النُّون وَإِسْكَان الْبَاء، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي، وَمَعْنَاهُ شَعَرَات مُتَفَرِّقَةٌ.4322- قَوْله: (سَمِعَ أَبَا إِيَاس) هُوَ مُعَاوِيَة بْن قُرَّة.4323- قَوْله:
«أَبْرِي النَّبْل وَأَرِيشُهَا» أَمَّا (أَبْرِي) فَبِفَتْحِ الْهَمْزَة، وَأَمَّا (أَرِيشُهَا) فَبِفَتْحِ الْهَمْزَة أَيْضًا وَكَسْر الرَّاء وَإِسْكَان الْيَاء أَيْ أَجْعَلُ لِلنَّبْلِ رِيشًا.
.باب إِثْبَاتِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ وَصِفَتِهِ وَمَحِلِّهِ مِنْ جَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
4326- قَوْله:
«وَرَأَيْت الْخَاتَم عِنْد كَتِفه مِثْل بَيْضَة الْحَمَامَة يُشْبِهُ جَسَده».أَمَّا:
«بَيْضَة الْحَمَامَة» فَهُوَ بَيْضَتهَا الْمَعْرُوفَة.4327- أَمَّا (بَيْضَة الْحَمَامَة) فَهُوَ بَيْضَتُهَا الْمَعْرُوفَة.4328- قَوْله:
«بَيْن كَتِفيه مِثْل زِرّ الْحَجَلَة»، أَمَّا زِرّ الْحَجَلَة فَبِزَايٍ ثُمَّ رَاءٍ. وَالْحَجَلَة بِفَتْحِ الْحَاء وَالْجِيم، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَالْمُرَاد بِالْحَجْلَةِ وَاحِدَة الْحِجَال، وَهِيَ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ لَهَا أَزْرَار كِبَار وَعُرَى، هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُور.وَقَالَ بَعْضهمْ: الْمُرَاد بِالْحَجَلَةِ الطَّائِر الْمَعْرُوف، وَزِرّهَا بَيْضَتهَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء.وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: رُوِيَ أَيْضًا بِتَقْدِيمِ الرَّاء عَلَى الزَّاي، وَيَكُونُ الْمُرَاد الْبَيْض. يُقَالُ: أَرَزَّتْ الْجَرَادَة بِفَتْحِ الرَّاء وَتَشْدِيد الزَّاي إِذَا كَبَسَتْ ذَنَبَهَا فِي الْأَرْض فَبَاضَتْ. وَجَاءَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: كَانَتْ بِضْعَة نَاشِزَة أَيْ مُرْتَفِعَة عَلَى جَسَده.4329- قَوْلُهُ:
«فَنَظَرْت إِلَى خَاتَم النُّبُوَّة بَيْن كَتِفيه عِنْد نَاغِض كَتِفه الْيُسْرَى جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَان كَأَمْثَالِ الثَّآلِيل» وَأَمَّا:
«نَاغِض كَتِفه» فَبِالنُّونِ وَالْغَيْن وَالضَّاد الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَالْغَيْن مَكْسُورَة.وَقَالَ الْجُمْهُور: النُّغْض وَالنَّغْض وَالنَّاغِض أَعْلَى الْكَتِف، وَقِيلَ: هُوَ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي أَعْلَى طَرَفه، وَقِيلَ: مَا يَظْهَرُ مِنْهُ عِنْد التَّحَرُّك.وَأَمَّا قَوْله: (جُمْعًا) فَبِضَمِّ الْجِيم وَإِسْكَان الْمِيم وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَجَمْعِ الْكَفّ، وَهُوَ صُورَته بَعْد أَنْ تَجْمَعَ الْأَصَابِع وَتَضُمَّهَا.وَأَمَّا (الْخِيلَان) فَبِكَسْرِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْيَاء جَمْع (خَال)، وَهُوَ الشَّامَة فِي الْجَسَد. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الرِّوَايَات مُتَقَارِبَة مُتَّفِقَة عَلَى أَنَّهَا شَاخِص فِي جَسَده قَدْر بَيْضَة الْحَمَامَة، وَهُوَ نَحْو بَيْضَة الْحَجَلَة، وَزِرّ الْحَجَلَة.وَأَمَّا رِوَايَة:
«جَمْع الْكَفّ وَنَاشِز» فَظَاهِرهَا الْمُخَالَفَة، فَتُؤَوَّل عَلَى وَفْق الرِّوَايَات الْكَثِيرَة، وَيَكُون مَعْنَاهُ عَلَى هَيْئَة جَمْع الْكَفّ، لَكِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْهُ فِي قَدْر بَيْضَة الْحَمَامَة.قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْخَاتَم هُوَ أَثَر شَقّ الْمَلَكَيْنِ بَيْن الْكَتِفَيْنِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيف، بَلْ بَاطِل، لِأَنَّ شَقَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا كَانَ فِي صَدْره وَبَطْنه. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.باب فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَسِنِّهِ:
ذَكَرَ فِي الْبَاب ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهَا:
«أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ اِبْن سِتِّينَ سَنَة»، وَالثَّانِيَة:
«خَمْس وَسِتُّونَ»، وَالثَّالِثَة:
«ثَلَاثُونَ وَسِتُّونَ»، وَهِيَ أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا. رَوَاهُ مُسْلِم هُنَا مِنْ رِوَايَة عَائِشَة وَأَنَس وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ أَصَحّهَا ثَلَاث وَسِتُّونَ، وَتَأَوَّلُوا الْبَاقِي عَلَيْهِ. فَرِوَايَة سِتِّينَ اِقْتَصَرَ فيها عَلَى الْعُقُود وَتَرْك الْكَسْر، وَرِوَايَة الْخَمْس مُتَأَوَّلَة أَيْضًا، وَحَصَلَ فيها اِشْتِبَاه، وَقَدْ أَنْكَرَ عُرْوَة عَلَى اِبْن عَبَّاس قَوْله:
«خَمْس وَسِتُّونَ» وَنَسَبَهُ إِلَى الْغَلَط، وَأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَوَّل النُّبُوَّة، وَلَا كَثُرَتْ صُحْبَته بِخِلَافِ الْبَاقِينَ. وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَعْد الْهِجْرَة عَشْر سِنِينَ، وَبِمَكَّة قَبْل النُّبُوَّة أَرْبَعِينَ سَنَة، وَإِنَّمَا الْخِلَاف فِي قَدْر إِقَامَته بِمَكَّة بَعْد النُّبُوَّة، وَقِيلَ الْهِجْرَة. وَالصَّحِيح أَنَّهَا ثَلَاث عَشْرَة، فَيَكُون عُمْره ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْس أَرْبَعِينَ سَنَة هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب رِوَايَة شَاذَّة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ عَلَى رَأْس ثَلَاث وَأَرْبَعِينَ سَنَة، وَالصَّوَاب أَرْبَعُونَ كَمَا سَبَقَ، وَوُلِدَ عَام الْفِيل عَلَى الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَقِيلَ: بَعْد الْفِيل بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِأَرْبَعِ سِنِينَ. وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاض الْإِجْمَاع عَلَى عَام الْفِيل، وَلَيْسَ كَمَا اِدَّعَى. وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ وُلِدَ يَوْم الِاثْنَيْنِ فِي شَهْر رَبِيع الْأَوَّل، وَتُوُفِّيَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْر رَبِيع الْأَوَّل، وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْم الْوِلَادَة هَلْ هُوَ ثَانِي الشَّهْر، أَمْ ثَامِنه، أَمْ عَاشِره، أَمْ ثَانِي عَشَره؟ وَيَوْم الْوَفَاة ثَانِي عَشَرَة ضُحَى وَاَللَّه أَعْلَم.4330- قَوْلهُ:
«لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِن، وَلَا بِالْقَصِيرِ» الْمُرَاد بِالْبَائِنِ زَائِد الطُّول أَيْ هُوَ بَيْن زَائِد الطُّول وَالْقَصِير، وَهُوَ بِمَعْنَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ كَانَ مُقَصَّدًا.قَوْله:
«وَلَا الْأَبْيَض الْأَمْهَق وَلَا بِالْآدَمِ» (الْأَمْهَق) بِالْمِيمِ هُوَ شَدِيد الْبَيَاض كَلَوْنِ الْجِصّ، وَهُوَ كَرِيه الْمَنْظَر، وَرُبَّمَا تَوَهَّمَهُ النَّاظِر أَبْرَص. وَالْآدَم الْأَسْمَر، مَعْنَاهُ لَيْسَ بِأَسْمَرَ، وَلَا بِأَبْيَض كَرِيه الْبَيَاض، بَلْ أَبْيَض بَيَاضًا نَيِّرًا. كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث السَّابِق: إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَزْهَر اللَّوْن، وَكَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْده:
«كَانَ أَزْهَر».
.باب فِي: أقام النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة والمدينة:
4334- قَوْله: (قُلْت لِعُرْوَة: كَمْ لَبِثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة؟ قَالَ: عَشْرًا قُلْت: فَإِنَّ اِبْن عَبَّاس يَقُول: بِضْع عَشْرَة. قَالَ: فَغَفَرَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْل الشَّاعِر) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا: (فَغَفَّرَهُ) بَالِغَيْنِ وَالْفَاء، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْجُلُودِيّ، وَمَعْنَاهُ دَعَا لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّه لَهُ، وَهَذِهِ اللَّفْظَة يَقُولُونَهَا غَالِبًا لِمَنْ غَلِطَ فِي شَيْء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَخْطَأَ غَفَرَ اللَّه لَهُ.قَالَ الْقَاضِي: وَفِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان: (فَصَغَّرَهُ) بِصَادٍ ثُمَّ غَيْن أَيْ اِسْتَصْغَرَهُ عَنْ مَعْرِفَته هَذَا، وَإِدْرَاكه ذَلِكَ، وَضَبْطه، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ فيه إِلَى قَوْل الشَّاعِر، وَلَيْسَ لَهُ عِلْم بِذَلِكَ، وَيُرَجِّحُ الْقَاضِي هَذَا الْقَوْل.قَالَ: وَالشَّاعِر هُوَ أَبُو قَيْس صِرْمَة بْن أَبِي أَنَس حَيْثُ يَقُولُ: ثَوَى فِي قُرَيْش بِضْع عَشْرَة حُجَّة يَذْكُرُ لَوْ يَلْقَى خَلِيلًا مُوَاتِيًا وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْبَيْت فِي بَعْض نُسَخ صَحِيح مُسْلِم، وَلَيْسَ هُوَ فِي عَامَّتهَا. قُلْت: وَأَبُو قَيْس هَذَا هُوَ صِرْمَة بْن أَبِي أَنَس بْن مَالِك بْن عَدِيّ بْن عَامِر بْن غَنَم بْن عَدِيّ بْن النَّجَّار الْأَنْصَارِيّ. هَكَذَا نَسَبَهُ اِبْن إِسْحَاق.قَالَ: كَانَ قَدْ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَلَبِسَ الْمُسُوح، وَفَارَقَ الْأَوْثَان، وَاغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَة، وَاِتَّخَذَ بَيْتًا لَهُ مَسْجِدًا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَائِض، وَلَا جُنُب، وَقَالَ: أَعْبُدُ رَبّ إِبْرَاهِيم. فَلَمَّا قَدَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة أَسْلَمَ، فَحَسُنَ إِسْلَامه، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ، وَكَانَ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْجَاهِلِيَّة، يَقُولُ الشِّعْر فِي تَعْظِيمه سُبْحَانه وَتَعَالَى.4338- قَوْله: (سَمِعَ مُعَاوِيَة يَخْطُبُ، فَقَالَ: مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ اِبْن ثَلَاث وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْر وَعُمَر، وَأَنَا اِبْن ثَلَاث وَسِتِّينَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ، وَهُوَ صَحِيح، وَتَقْدِيره: وَأَبُو بَكْر وَعُمَر كَذَلِكَ، ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ، فَقَالَ: وَأَنَا اِبْن ثَلَاث وَسِتِّينَ أَيْ وَأَنَا مُتَوَقِّع مُوَافَقَتهمْ، وَإِنِّي أَمُوت فِي سَنَتِي هَذِهِ.4341- قَوْله:
«يَسْمَع الصَّوْت، وَيَرَى الضَّوْء» قَالَ الْقَاضِي: أَيْ صَوْت الْهَاتِف بِهِ مِنْ الْمَلَائِكَة، وَيَرَى الضَّوْء أَيْ نُور الْمَلَائِكَة وَنُور آيَات اللَّه تَعَالَى حَتَّى رَأَى الْمَلَك بِعَيْنِهِ وَشَافَهَهُ بِوَحْيِ اللَّه تَعَالَى.
.باب فِي أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ذَكَرَ هُنَا هَذِهِ الْأَسْمَاء، وَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاء أُخَر، ذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ الْمَالِكِيّ فِي كِتَابه الْأَحْوَذِيّ فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَلْف اِسْم، وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْف اِسْم أَيْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيل بِضْعًا وَسِتِّينَ.قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: رَجُل مُحَمَّد وَمَحْمُود إِذَا كَثُرَتْ خِصَاله الْمَحْمُودَة.وَقَالَ اِبْن فَارِس وَغَيْره: وَبِهِ سُمِّيَ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا وَأَحْمَد، أَيْ أَلْهَمَ اللَّه تَعَالَى أَهْله أَنْ سَمَّوْهُ بِهِ لِمَا عُلِمَ مِنْ جَمِيل صِفَاته.4342- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِي الْكُفْر» قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد مَحْو الْكُفْر مِنْ مَكَّة وَالْمَدِينَة وَسَائِر بِلَاد الْعَرَب، وَمَا زُوِيَ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَرْض، وَوُعِدَ أَنْ يَبْلُغهُ مُلْك أُمَّته. قَالُوا: وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد الْمَحْو الْعَامّ بِمَعْنَى الظُّهُور بِالْحُجَّةِ وَالْغَلَبَة كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وَجَاءَ فِي حَدِيث آخَر تَفْسِير الْمَاحِي بِأَنَّهُ الَّذِي مُحِيَتْ بِهِ سَيِّئَات مَنْ اِتَّبَعَهُ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَحْوِ الْكُفْر هَذَا، وَيَكُون كَقَوْله تَعَالَى:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَالْحَدِيث الصَّحِيح:
«الْإِسْلَام يَهْدِم مَا كَانَ قَبْله».قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَأَنَا الْحَاشِر الَّذِي يُحْشَر النَّاس عَلَى عَقِبِي» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة:
«عَلَى قَدَمِي» فَأَمَّا الثَّانِيَة فَاتَّفَقَتْ النُّسَخ عَلَى أَنَّهَا:
«عَلَى قَدَمِي»، لَكِنْ ضَبَطُوهُ بِتَخْفِيفِ الْيَاء عَلَى الْإِفْرَاد، وَتَشْدِيدهَا عَلَى التَّثْنِيَة.وَأَمَّا الرِّوَايَة الْأُولَى فَهِيَ فِي مُعْظَم النُّسَخ، وَفِي بَعْضهَا:
«قَدَمِي» كَالثَّانِيَةِ.قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُمَا يُحْشَرُونَ عَلَى أَثَرِي وَزَمَان نُبُوَّتِي، وَرِسَالَتِي، وَلَيْسَ بَعْدِي نَبِيّ، وَقِيلَ: يَتْبَعُونَنِي.4343- أَمَّا:
«الْعَاقِب» فَفَسَّرَهُ فِي الْحَدِيث بِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْده نَبِيّ أَيْ جَاءَ عَقِبَهُمْ.قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: الْعَاقِب وَالْعُقُوب الَّذِي يَخْلُفُ فِي الْخَيْر مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَمِنْهُ عَقِب الرَّجُل لِوَلَدِهِ.4344- قَوْله:
«وَالْمُقَفِّي وَنَبِيّ التَّوْبَة وَنَبِيّ الرَّحْمَة» وَأَمَّا:
«الْمُقَفِّي» فَقَالَ شَمِر: هُوَ بِمَعْنَى الْعَاقِب، وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: هُوَ الْمُتَّبِع لِلْأَنْبِيَاءِ. يُقَالُ: قَفَوْته أَقْفُوهُ، وَقَفَّيْته أُقَفيه إِذَا اِتَّبَعْته. وَقَافِيَةُ كُلّ شَيْء آخِره.وَأَمَّا:
«نَبِيّ التَّوْبَة، وَنَبِيّ الرَّحْمَة»، وَنَبِيّ الْمَرْحَمَة فَمَعْنَاهَا مُتَقَارِب، وَمَقْصُودهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّرَاحُمِ.قَالَ اللَّه تَعَالَى:
{رُحَمَاء بَيْنهمْ} {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي حَدِيث آخَر:
«نَبِيّ الْمَلَاحِم» لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِالْقِتَالِ.قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَسْمَاء مَعَ أَنَّهُ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاء غَيْرهَا كَمَا سَبَقَ لِأَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الْكُتُب الْمُتَقَدِّمَة، وَمَوْجُودَة لِلْأُمَمِ السَّالِفَة.
.باب عِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَشِدَّةِ خَشْيَتِهِ:
4346- قَوْله:
«فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَب فِي وَجْهه، ثُمَّ قَالَ: مَا بَال أَقْوَام يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فيه؟ فَوَاَللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمهُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدّهمْ لَهُ خَشْيَة» فيه الْحَثّ عَلَى الِاقْتِدَاء بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّهْي عَنْ التَّعَمُّق فِي الْعِبَادَة، وَذَمّ التَّنَزُّه عَنْ الْمُبَاح شَكًّا فِي إِبَاحَته. وَفيه الْغَضَب عِنْد اِنْتَهَاك حُرُمَات الشَّرْع، وَإِنْ كَانَ الْمُنْتَهِك مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا بَاطِلًا. وَفيه حُسْن الْمُعَاشَرَة بِإِرْسَالِ التَّعْزِير وَالْإِنْكَار فِي الْجَمْع، وَلَا يُعَيَّن فَاعِله، فَيُقَال: مَا بَال أَقْوَام؟ وَنَحْوه. وَفيه أَنَّ الْقُرْب إِلَى اللَّه تَعَالَى سَبَب لِزِيَادَةِ الْعِلْم بِهِ وَشِدَّة خَشْيَته.وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فَوَاَللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمهُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدّهمْ لَهُ خَشْيَة» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ سُنَنهمْ عَمَّا فَعَلْت أَقْرَب لَهُمْ عِنْد اللَّه، وَإِنْ فَعَلَ خِلَاف ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوا، بَلْ أَنَا أَعْلَمهُمْ بِاَللَّهِ، وَأَشَدّهمْ لَهُ خَشْيَة. وَإِنَّمَا يَكُون الْقُرْب إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَالْخَشْيَة لَهُ عَلَى حَسَبِ مَا أَمَرَ، لَا بِمُخَيَّلَاتِ النُّفُوس، وَتَكَلُّف أَعْمَال لَمْ يَأْمُرْ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.باب وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
4347- قَوْله:
«شِرَاج الْحَرَّة» بِكَسْرِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَبِالْجِيمِ هِيَ مَسَايِل الْمَاء، وَاحِدهَا شَرْجَة. وَالْحَرَّة هِيَ الْأَرْض الْمَلْسَة فيها حِجَارَة سُود.قَوْله:
«سَرِّحْ الْمَاء» أَيْ أَرْسِلْهُ.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اِسْقِ يَا زُبَيْر، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاء إِلَى جَارك فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيّ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه أَنْ كَانَ اِبْن عَمَّتك، فَتَلَوَّنَ وَجْه نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: يَا زُبَيْر اِسْقِ ثُمَّ اِحْبِسْ الْمَاء حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْر» أَمَّا قَوْله:
«أَنْ كَانَ اِبْن عَمَّتك» فَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة أَيْ فَعَلْت هَذَا لِكَوْنِهِ اِبْن عَمَّتك.وَقَوْله:
«تَلَوَّنَ وَجْهه» أَيْ تَغَيَّرَ مِنْ الْغَضَب لَانْتَهَاك حُرُمَات النُّبُوَّة وَقُبْح كَلَام هَذَا الْإِنْسَان.وَأَمَّا:
«الْجَدْر» فَبِفَتْحِ الْجِيم وَكَسْرهَا وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة، وَهُوَ الْجِدَار، وَجَمْعُ الْجِدَار جُدُر، كَكِتَابٍ وَكُتُب، وَجَمْع الْجُدُر جُدُور، كَفَلْسٍ وَفُلُوس. وَمَعْنَى:
«يَرْجِعُ إِلَى الْجَدْر» أَيْ يَصِير إِلَيْهِ، وَالْمُرَاد بِالْجَدْرِ أَصْل الْحَائِط، وَقِيلَ: أُصُول الشَّجَر، وَالصَّحِيح الْأَوَّل، وَقَدَّرَهُ الْعُلَمَاء أَنْ يَرْتَفِعَ الْمَاءُ فِي الْأَرْض كُلِّهَا حَتَّى يَبْتَلَّ كَعْب رِجْل الْإِنْسَان. فَلِصَاحِبِ الْأَرْض الْأُولَى الَّتِي تَلِي الْمَاء أَنْ يَحْبِسَ الْمَاء فِي الْأَرْض إِلَى هَذَا الْحَدّ، ثُمَّ يُرْسِلَهُ إِلَى جَاره الَّذِي وَرَاءَهُ. وَكَانَ الزُّبَيْر صَاحِب الْأَرْض الْأُولَى، فَأَدَلَّ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ:
«اِسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاء إِلَى جَارك» أَيْ اِسْقِ شَيْئًا يَسِيرًا دُونَ قَدْرِ حَقِّك، ثُمَّ أَرْسِلْهُ إِلَى جَارك إِدْلَالًا عَلَى الزُّبَيْر، وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ، وَيُؤْثِرُ الْإِحْسَان إِلَى جَاره، فَلَمَّا قَالَ الْجَار مَا قَالَ، أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ حَقِّهِ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْح هَذَا الْحَدِيث وَاضِحًا فِي بَابه.قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَوْ صَدَرَ مِثْل هَذَا الْكَلَام الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ الْأَنْصَارِيّ الْيَوْم مِنْ إِنْسَان مِنْ نِسْبَتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَوًى كَانَ كُفْرًا، وَجَرَتْ عَلَى قَائِله أَحْكَام الْمُرْتَدِّينَ، فَيَجِبُ قَتْلُهُ بِشَرْطِهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا تَرَكَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام يَتَأَلَّفُ النَّاس، وَيَدْفَعُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ فِي قَلْبه مَرَض، وَيَقُول:
«يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» وَيَقُولُ:
«لَا يَتَحَدَّث النَّاس أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابه» وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى:
{وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قَالَ الْقَاضِي: وَحَكَى الدَّاوُدِيّ أَنَّ هَذَا الرَّجُل الَّذِي خَاصَمَ الزُّبَيْر كَانَ مُنَافِقًا، وَقَوْله فِي الْحَدِيث إِنَّهُ أَنْصَارِيّ لَا يُخَالِفُ هَذَا، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ قَبِيلَتهمْ، لَا مِنْ الْأَنْصَار الْمُسْلِمِينَ.وَأَمَّا قَوْله فِي آخِرِ الْحَدِيث: فَقَالَ الزُّبَيْر: وَاَللَّه إِنِّي لَأَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فيه:
{فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ} الْآيَة فَهَكَذَا قَالَ طَائِفَةٌ فِي سَبَب نُزُولهَا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَمَ عَلَى أَحَدهمَا، فَقَالَ: اِرْفَعْنِي إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب.وَقِيلَ: فِي يَهُودِيّ وَمُنَافِق اِخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرْضَ الْمُنَافِق بِحُكْمِهِ وَطَلَبَ الْحُكْم عِنْد الْكَاهِن.قَالَ اِبْن جَرِير: يَجُوزُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْجَمِيع وَاَللَّه أَعْلَم.
.باب تَوْقِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ إِكْثَارِ سُؤَالِهِ عَمَّا لاَ ضَرُورَةَ إِلَيْهِ:
مَقْصُود أَحَادِيث الْبَاب أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنْ إِكْثَار السُّؤَال؛ وَالِابْتِدَاء بِالسُّؤَالِ عَمَّا لَا يَقَعُ، وَكَرِهَ ذَلِكَ لِمَعَانٍ مِنْهَا أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ شَيْء عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَلْحَقُهُمْ بِهِ الْمَشَقَّة، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الْأَوَّل:
«أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْء لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»، وَمِنْهَا أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي الْجَوَاب مَا يَكْرَهُهُ السَّائِلُ، وَيَسُوؤُه وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث فِي سَبَب نُزُولهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَحْفَوْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسْأَلَةِ، وَالْحَفْوَى الْمَشَقَّة وَالْأَذَى، فَيَكُون ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي حَدِيث أَنَس الْمَذْكُور فِي الْكِتَاب فِي قَوْله:
«سَأَلُوا نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ» إِلَى آخِره.وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}.4348- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ» هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ شَرْحه وَاضِحًا فِي كِتَاب الْحَجّ، وَهُوَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام.4349- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ أَعْظَم الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْء لَمْ يَحْرُم عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْل مَسْأَلَته» وَفِي رِوَايَة:
«مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْء وَنَقَّرَ عَنْهُ» أَيْ بَالَغَ فِي الْبَحْث عَنْهُ وَالِاسْتِقْصَاء.قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الْمُرَاد بِالْجُرْمِ هُنَا الْحَرَج عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَا أَنَّهُ الْجُرْم الَّذِي هُوَ الْإِثْم الْمُعَاقَب عَلَيْهِ، لِأَنَّ السُّؤَال كَانَ مُبَاحًا، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«سَلُونِي» هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي ضَعِيف، بَلْ بَاطِل. وَالصَّوَاب الَّذِي قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَصَاحِب التَّحْرِير وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء فِي شَرْح هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْمُرَاد بِالْجُرْمِ هُنَا الْإِثْم وَالذَّنْب. قَالُوا: وَيُقَالُ مِنْهُ: جَرَمَ بِالْفَتْحِ، وَاجْتَرَمَ، وَتَجَرَّمَ، إِذَا أَثِمَ.قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: هَذَا الْحَدِيث فِيمَنْ سَأَلَ تَكَلُّفًا أَوْ تَعَنُّتًا فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ. فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ لِضَرُورَةٍ، بِأَنْ وَقَعَتْ لَهُ مَسْأَلَة، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَلَا عُتْبَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}.قَالَ صَاحِب التَّحْرِير وَغَيْره: فيه دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ مَا فيه إِضْرَار بِغَيْرِهِ كَانَ آثِمًا.4350- سبق شرحه بالباب.4351- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّة وَالنَّار، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْر وَالشَّرّ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» فيه أَنَّ الْجَنَّة وَالنَّار مَخْلُوقَتَانِ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْح عَرْضهمَا. وَمَعْنَى الْحَدِيث لَمْ أَرَ خَيْرًا أَكْثَر مِمَّا رَأَيْته الْيَوْم فِي الْجَنَّة، وَلَا شَرًّا أَكْثَر مِمَّا رَأَيْته الْيَوْم فِي النَّار، وَلَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْت، وَعَلِمْتُمْ مَا عَلِمْت مِمَّا رَأَيْته الْيَوْم، وَقَبْل الْيَوْم، لَأَشْفَقْتُمْ إِشْفَاقًا بَلِيغًا، وَلَقَلَّ ضَحِكُكُمْ، وَكَثُرَ بُكَاؤُكُمْ. وَفيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَة فِي اِسْتِعْمَال لَفْظَة (لَوْ) فِي مِثْل هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.قَوْله:
«غَطَّوْا رُءُوسهمْ وَلَهُمْ خَنِين» هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ، وَلِمُعْظَمِ الرُّوَاة، وَلِبَعْضِهِمْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْقَاضِي وَصَاحِب التَّحْرِير وَآخَرُونَ. قَالُوا: وَمَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ صَوْت الْبُكَاء، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْبُكَاء دُون الِانْتِحَاب. قَالُوا: وَأَصْل الْخَنِين خُرُوج الصَّوْت مِنْ الْأَنْف كَالْحَنِينِ بِالْمُهْمَلَةِ مِنْ الْفَم.وَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ صَوْت فيه غُنَّة، وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: إِذَا تَرَدَّدَ بُكَاؤُهُ، فَصَارَ فِي كَوْنه غُنَّة، فَهُوَ خَنِين.وَقَالَ أَبُو زَيْد: الْخَنِين مِثْل الْحَنِين، وَهُوَ شَدِيد الْبُكَاء.4353- قَوْله:
«فَلَمَّا أَكْثَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي بَرَكَ عُمَر، فَقَالَ رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، فَسَكَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَالَ عُمَر ذَلِكَ» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا الْقَوْل مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا يَعْلَم كُلّ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ الْمُغَيِّبَات إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّه تَعَالَى.قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِر الْحَدِيث أَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«سَلُونِي» إِنَّمَا كَانَ غَضَبًا كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاء كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَر عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ:
«سَلُونِي» وَكَانَ اِخْتِيَاره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْك تِلْكَ الْمَسَائِل، لَكِنْ وَافَقَهُمْ فِي جَوَابهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن رَدّ السُّؤَال، وَلِمَا رَآهُ مِنْ حِرْصهمْ عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَأَمَّا بُرُوك عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَوْله فَإِنَّمَا فَعَلَهُ أَدَبًا وَإِكْرَامًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَفَقَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يُؤْذُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهلَكُوا. وَمَعْنَى كَلَامه رَضِينَا بِمَا عِنْدنَا مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى، وَسُنَّة نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاكْتَفَيْنَا بِهِ عَنْ السُّؤَال، فَفيه أَبْلَغُ كِفَايَة.قَوْلهمْ:
«قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْلَى وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضْت عَلَيَّ الْجَنَّة وَالنَّار آنِفًا فِي عُرْض هَذَا الْحَائِط» أَمَّا لَفْظَة (أَوْلَى) فَهِيَ تَهْدِيد وَوَعِيد، وَقِيلَ: كَلِمَة تَلَهُّف، فَعَلَى هَذَا يَسْتَعْمِلهَا مَنْ نَجَا مِنْ أَمْر عَظِيم. وَالصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّهَا لِلتَّهْدِيدِ، وَمَعْنَاهَا قَرُبَ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:
{أَوْلَى لَك فَأَوْلَى} أَيْ قَارَبَك مَا تَكْرَهُ فَاحْذَرْهُ، مَأْخُوذ مِنْ الْوَلِيّ، وَهُوَ الْقُرْب.وَأَمَّا (آنِفًا) فَمَعْنَاهُ قَرِيبًا السَّاعَة، وَالْمَشْهُور فيه الْمَدّ، وَيُقَالُ بِالْقَصْرِ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع، الْأَكْثَرُونَ بِالْمَدِّ. و
«عُرْض الْحَائِط» بِضَمِّ الْعَيْن جَانِبه.قَوْله:
«أَنَّ أُمّ عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة قَالَتْ لَهُ: أَأَمِنْت أَنْ تَكُونَ أُمّك قَدْ قَارَفَتْ بَعْض مَا يُقَارِفُ نِسَاء الْجَاهِلِيَّة فَتَفْضَحهَا عَلَى أَعْيُن النَّاس؟ فَقَالَ اِبْنهَا: وَاَللَّه لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَد لَلَحِقْته». أَمَّا قَوْلهَا:
«قَارَفَتْ» مَعْنَاهُ عَمِلَتْ سُوءًا، وَالْمُرَاد الزِّنَا، وَالْجَاهِلِيَّة هُمْ مِنْ قِبَل النُّبُوَّة، سُمُّوا بِهِ لِكَثْرَةِ جَهَالَاتهمْ. وَكَانَ سَبَب سُؤَاله أَنَّ بَعْض النَّاس كَانَ يَطْعَن فِي نَسَبه عَلَى عَادَة الْجَاهِلِيَّة مِنْ الطَّعْن فِي الْأَنْسَاب، وَقَدْ بُيِّنَ هَذَا فِي الْحَدِيث الْآخَر بِقَوْلِهِ:
«كَانَ يُلَاحَى، فَيُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ»، وَالْمُلَاحَاة الْمُخَاصَمَة وَالسِّبَاب. وَقَوْلهَا:
«فَتَفْضَحهَا» مَعْنَاهُ لَوْ كُنْت مِنْ زِنَا فَنَفَاك عَنْ أَبِيك حُذَافَة فَضَحْتنِي، وَأَمَّا قَوْله:
«لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ لَلَحِقْته» فَقَدْ يُقَالُ: هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ، لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَب. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّ اِبْن حُذَافَة مَا كَانَ بَلَغَهُ هَذَا الْحُكْم، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ وَلَد الزِّنَا يَلْحَق الزَّانِي، وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَلَى أَكْبَرَ مِنْهُ، وَهُوَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص حِين خَاصَمَ فِي اِبْن وَلِيدَة زَمْعَة، فَظَنَّ أَنَّهُ يَلْحَق أَخَاهُ بِالزِّنَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ يُتَصَوَّر الْإِلْحَاق بَعْد وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، فَيَثْبُتُ النَّسَب مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.4354- قَوْله: (حَدَّثَنَا يُوسُف بْن حَمَّاد الْمَعْنِيّ) هُوَ بِكَسْرِ النُّون وَتَشْدِيد الْيَاء.قَالَ السَّمْعَانِيّ: مَنْسُوب إِلَى مَعْن بْن زَائِدَة. وَهَذَا الْإِسْنَاد كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.قَوْله:
«أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ» أَيْ أَكْثَرُوا فِي الْإِلْحَاح وَالْمُبَالَغَة فيه. وَيُقَال: أَحْفَى وَأَلْحَفَ وَأَلَحَّ بِمَعْنًى.قَوْله:
«فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْم أَرَمُّوا» هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَتَشْدِيد الْمِيم الْمَضْمُومَة أَيْ سَكَتُوا، وَأَصْله مِنْ الْمَرَمَّة، وَهِيَ الشُّقَّة، أَيْ ضَمُّوا شِفَاههمْ بَعْضهَا عَلَى بَعْض، فَلَمْ يَتَكَلَّمُوا، وَمِنْهُ رَمَّتْ الشَّاة الْحَشِيش ضَمَّتْهُ بِشَفَتَيْهَا.قَوْله:
«أَنْشَأَ رَجُل ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَر» قَالَ أَهْل اللُّغَة: مَعْنَاة اِبْتَدَأَ، وَمِنْهُ أَنْشَأَ اللَّه الْخَلْق أَيْ اِبْتَدَأَهُمْ.4355- سبق شرحه بالباب.