الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76)}. قوله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ} أفترجون؟ يريد: محمدا وأصحابه {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} يعني التوراة {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} يغيرون ما فيها من الأحكام {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} علموه كما غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون، هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة والسدي وجماعة وقال ابن عباس ومقاتل: نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه، وذلك أنهم لما رجعوا- بعدما سمعوا كلام الله- إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم، وأما الصادقون منهم فأدوا كما سمعوا، وقالت طائفة منهم: سمعنا الله يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، فهذا تحريفهم وهم يعلمون أنه الحق. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس والحسن وقتادة: يعني منافقي اليهود الذين آمنوا بألسنتهم إذا لقوا المؤمنين المخلصين {قَالُوا آمَنَّا} كإيمانكم {وَإِذَا خَلا} رجع {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}- كعب بن الأشراف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود- لأمرهم على ذلك {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بما قص الله عليكم في كتابكم: أن محمدا حق وقوله صدق. والفتاح القاضي. وقال الكسائي: بما بينه الله لكم من العلم بصفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، وقال: الواقدي: بما أنزل الله عليكم، ونظيره: "لفتحنا عليهم بركات من السماء" (44- الأنعام) أي أنزلنا، وقال أبو عبيدة: بما من الله عليكم وأعطاكم {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} ليخاصموكم، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحتجوا بقولكم عليكم فيقولوا: قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثم لا تتبعونه!! وذلك أنهم قالوا لأهل المدينة حين شاوروهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم: آمنوا به فإنه حق ثم قال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم لتكون لهم الحجة عليكم {عِنْدَ رَبِّكُمْ} في الدنيا والآخرة وقيل: إنهم أخبروا المؤمنين بما عذبهم الله به، على الجنايات فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به عند ربكم، ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله وقال مجاهد: هو قول يهود قريظة قال بعضهم لبعض حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "يا إخوان القردة والخنازير" فقالوا: من أخبر محمدا بهذا؟ ما خرج هذا إلا منكم، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}. قال الله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} يخفون {وَمَا يُعْلِنُونَ} يبدون يعني اليهود. وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي من اليهود أميون لا يحسنون القراءة والكتابة، جمع أمي منسوب إلى الأم كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يتعلم كتابة ولا قراءة. وروي عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال "إنا أمة أمية أي لا نكتب ولا نحسب وقيل: هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} قرأ أبو جعفر: أماني بتخفيف الياء كل القرآن حذف إحدى الياءين تخفيفا وقراءة العامة بالتشديد، وهي جمع الأمنية وهي التلاوة، قال الله تعالى: "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" (52- الحج) أي في قراءته، قال أبو عبيدة: إلا تلاوته وقراءته عن ظهر القلب لا يقرءونه من كتاب، وقيل: يعلمونه حفظا وقراءة لا يعرفون معناه. وقال ابن عباس: يعني غير عارفين بمعاني الكتاب، وقال مجاهد وقتادة: إلا كذبا وباطلا قال الفراء: الأماني: الأحاديث المفتعلة، قال عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت منذ أسلمت أي ما كذبت، وأراد بها الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم ثم أضافوها إلى الله عز وجل من تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وقال الحسن وأبو العالية: هي من التمني، وهي أمانيهم الباطلة التي تمنوها على الله عز وجل مثل قولهم "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" (111- البقرة) وقولهم: "لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" (80- البقرة) وقولهم "نحن أبناء الله وأحباؤه" (18- المائدة) فعلى هذا تكون إلا بمعنى لكن أي لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أشياء لا تحصل لهم {وَإِنْ هُمْ} وما هم {إِلا يَظُنُّونَ} وما هم إلا يظنون ظنا وتوهما لا يقينا، قاله قتادة والربيع، قال مجاهد: يكذبون. قوله تعالى: {فَوَيْل} قال الزجاج: ويل كلمة يقولها كل واقع في هلكة، وقيل: هو دعاء الكفار على أنفسهم بالويل والثبور، وقال ابن عباس: شدة العذاب، وقال سعيد بن المسيب: ويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت من شدة حره. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث أنه حدث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، والصعود جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فهو كذلك". {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم وسلم المدينة، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة، وكانت صفته فيها: حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعة، فغيروها وكتبوا مكانها طوال أزرق سبط الشعر فإذا سألهم سفلتهم عن صفته قرءوا ما كتبوا فيجدونه مخالفا لصفته فيكذبونه وينكرونه، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني ما كتبوا بأنفسهم اختراعا من تغيير نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} المآكل ويقال: من المعاصي.
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}. {وَقَالُوا} يعني اليهود {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} لن تصيبنا النار {إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} قدرا مقدرا ثم يزول عنا العذاب ويعقبه النعيم واختلفوا في هذه الآية، قال ابن عباس ومجاهد: كانت اليهود يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام. وقال قتادة وعطاء: يعنون أربعين يوما التي عبد فيها آباؤهم العجل، وقال الحسن وأبو العالية: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا، فأقسم ليعذبنا أربعين يوما فلن تمسنا النار إلا أربعين يوما تحلة القسم، فقال الله عز وجل تكذيبا لهم: {قُلْ} يا محمد {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ} ألف استفهام دخلت على ألف الوصل، عند الله {عَهْدًا} موثقا أن لا يعذبكم إلا هذه المدة {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} ووعده قال ابن مسعود: عهدا بالتوحيد، يدل عليه قوله تعالى: "إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا" (87- مريم) يعني: قوله لا إله إلا الله {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}. ثم قال {بَلَى} وبل وبلى: حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي وإثبات الخبر المستقبل {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} يعني الشرك {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قرأ أهل المدينة خطيئاته بالجمع، والإحاطة الإحداق بالشيء من جميع نواحيه، قال ابن عباس وعطاء والضحاك وأبو العالية والربيع وجماعة: هي الشرك يموت عليه، وقيل: السيئة الكبيرة. والإحاطة به أن يصر عليها فيموت غير تائب، قاله عكرمة والربيع بن خيثم وقال مجاهد: هي الذنوب تحيط بالقلب، كلما أذنب ذنبا ارتفعت حتى تغشى القلب وهي الرين. قال الكلبي: أوبقته ذنوبه، دليله قوله تعالى "إلا أن يحاط بكم" (66- يوسف) أي تهلكوا {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} في التوراة، والميثاق العهد الشديد {لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {لا يعبدون} بالياء وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى "وقولوا للناس حسنا" معناه ألا تعبدوا فلما حذف أن صار الفعل مرفوعا، وقرأ أبي بن كعب: لا تعبدوا إلا الله على النهي {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي ووصيناهم بالوالدين إحسانا، برا بهما وعطفا عليهما ونزولا عند أمرهما، فيما لا يخالف أمر الله تعالى {وَذِي الْقُرْبَى} أي وبذي القرابة والقربى مصدر كالحسنى {وَالْيَتَامَى} جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له {وَالْمَسَاكِينِ} يعني الفقراء {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} صدقا وحقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا صفته ولا تكتموا أمره، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وابن جريج ومقاتل، وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقيل: هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسنا بفتح الحاء والسين أي قولا حسنا {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن العهد والميثاق {إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ} وذلك أن قوما منهم آمنوا {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} كإعراض آبائكم.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}. قوله عز وجل {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أي لا تريقون دماءكم أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، وقيل: لا تسفكوا دماء غيركم فتسفك دماءكم، فكأنكم سفكتم دماء أنفسكم، {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره، وقيل: لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجؤوهم إلى الخروج بسوء جواركم {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد أنه حق وقبلتم {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} اليوم على ذلك يا معشر اليهود وتقرون بالقبول. قوله عز وجل {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} يعني: يا هؤلاء، وهؤلاء للتنبيه {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي يقتل بعضكم بعضا {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} بتشديد الظاء أي تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء فحذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله تعالى: "ولا تعاونوا" معناهما جميعا: تتعاونون، والظهير: العون {بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المعصية والظلم {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى} وقرأ حمزة: اسرى، وهما جمع أسير، ومعناهما واحد {تُفَادُوهُم} بالمال وتنقذوهم وقرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي ويعقوب تفادوهم أي تبادلوهم، أراد: مفاداة الأسير بالأسير، وقيل: معنى القراءتين واحد. ومعنى الآية قال السدي: إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في حرب سمير؟ فيقاتل بنو قريظة وحلفاؤهم وبنو النضير وحلفاؤهم وإذا غلبوا أخربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم، فتعيرهم العرب وتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم فيقولون: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن يستذل حلفاؤنا، فعيرهم الله تعالى بذلك فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} وفي الآية تقديم وتأخير ونظمها {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وإن يأتوكم أسارى تفادوهم، فكأن الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتال، وترك الإخراج، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء. قال الله تعالى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} قال مجاهد: يقول إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} يا معشر اليهود {إِلا خِزْيٌ} عذاب وهوان {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فكان خزي قريظة القتل والسبي وخزي النضير الجلاء والنفي من منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} عذاب النار {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عما تعملون} قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالياء والباقون بالتاء. قوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} استبدلوا {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ} يهون {عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} يمنعون من عذاب الله عز وجل.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}. {وَلَقَدْ آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة، جملة واحدة {وقفينا} وأتبعنا {مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} رسولا بعد رسول {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} الدلالات الواضحات وهي ما ذكر الله في سورة آل عمران والمائدة وقيل: أراد الإنجيل {وَأَيَّدْنَاه} قويناه {بِرُوحِ الْقُدُسِ} قرأ ابن كثير القدس بسكون الدال والآخرون بضمها وهما لغتان مثل الرعب والرعب، واختلفوا في روح القدس، قال الربيع وغيره: أراد بالروح الذي نفخ فيه، والقدس هو الله أضافه إلى نفسه تكريما وتخصيصا نحو بيت الله، وناقة الله، كما قال: "فنفخنا فيه من روحنا" (12- التحريم) "وروح منه" (171- النساء) وقيل: أراد بالقدس الطهارة، يعني الروح الطاهرة سمى روحه قدسا، لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحولة ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث، إنما كان أمرا من أمر الله تعالى، قال قتادة والسدي والضحاك: روح القدس جبريل عليه السلام قيل: وصف جبريل بالقدس أي بالطهارة لأنه لم يقترف ذنبا، وقال الحسن: القدس هو الله وروحه جبريل قال الله تعالى: "قل نزله روح القدس من ربك بالحق" (102- النحل) وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام أنه أمر أن يسير معه حيث سار حتى صعد به الله {إلى السماء} وقيل: سمي جبريل عليه السلام روحا للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: روح القدس هو اسم الله تعالى الأعظم به كان يحيي الموتى ويري الناس به العجائب، وقيل: هو الإنجيل جعل له روحا كما {جعل القرآن روحا لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه سبب لحياة القلوب} قال تعالى: "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" (52- الشورى) فلما سمع اليهود ذكر عيسى عليه السلام فقالوا: يا محمد لا مثل عيسى- كما تزعم- عملت، ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا. قال الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ} يا معشر اليهود {رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} تكبرتم وتعظمتم عن الإيمان {فَفَرِيقًا} طائفة {كَذَّبْتُم} مثل عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أي قتلتم مثل زكريا ويحيى وشعيبا وسائر من قتلوه من الأنبياء عليهم السلام. {وَقَالُوا} يعني اليهود {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع الأغلف وهو الذي عليه غشاء، معناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول، قاله مجاهد وقتادة، نظيره قوله تعالى: "وقالوا قلوبنا في أكنة" (5- فصلت) وقرأ ابن عباس غلف بضم اللام وهي قراءة الأعرج وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي: معناه أوعية لكل علم فلا تسمع حديثا إلا تعيه إلا حديثك لا تعقله ولا تعيه ولو كان فيه {خير} لوعته وفهمته. قال الله عز وجل {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم الله وأبعدهم عن كل خير {بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ} قال قتادة: معناه لن يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود، أي فقليلا يؤمنون، ونصب قليلا على الحال وقال معمر: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، أي فقليل يؤمنون ونصب قليلا بنزع الخافض، وما صلة على قولهما، وقال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا كقول الرجل للآخر: ما أقل ما تفعل كذا أي لا تفعله أصلا. {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني القرآن {مُصَدِّق} موافق {لِمَا مَعَهُمْ} يعني التوراة {وَكَانُوا} يعني اليهود {مِنْ قَبْلُ} قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم {يَسْتَفْتِحُون} يستنصرون {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} على مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا يقولون إذا حزبهم أمر ودهمهم عدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد صفته في التوراة، فكانوا ينصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل وعرفوا نعته وصفته {كَفَرُوا بِهِ} بغيا وحسدا. {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}. {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} بئس ونعم: فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم، لا يتصرفان تصرف الأفعال، معناه: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق. وقيل: الاشتراء هاهنا بمعنى البيع والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أي حين اختاروا الكفر {وبذلوا أنفسهم للنار} {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يعني القرآن {بَغْيًا} أي حسدا وأصل البغي: الفساد ويقال بغى الجرح إذا فسد والبغي: الظلم، وأصله الطلب، والباغي طالب الظلم، والحاسد يظلم المحسود جهده، طلبا لإزالة نعمة الله تعالى عنه {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي النبوة والكتاب {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم، قرأ أهل مكة والبصرة ينزل بالتخفيف إلا {في سبحان الذي} في موضعين "وننزل من القرآن" (82- الإسراء) و"حتى تنزل" (93- الإسراء) فإن ابن كثير يشددهما، وشدد البصريون في الأنعام "على أن ينزل آية" (37- الأنعام) زاد يعقوب تشديد {بما ينزل} في النحل ووافق حمزة والكسائي في تخفيف {وينزل الغيث} في سورة لقمان وحم عسق، والآخرون يشددون الكل، ولم يختلفوا في تشديد "وما ننزله إلا بقدر" في الحجر (21) {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ} أي رجعوا بغضب {عَلَى غَضَبٍ} قال ابن عباس ومجاهد: الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلهم، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقال قتادة: الأول بكفرهم بعيسى الإنجيل، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقال السدي: الأول بعبادة العجل والثاني بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَلِلْكَافِرِينَ} الجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم {عَذَابٌ مُهِينٌ} مخز يهانون فيه.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}. قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يعني القرآن {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعني التوراة، يكفينا ذلك {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} أي بما سواه من الكتب كقوله عز وجل "فمن ابتغى وراء ذلك" (7- المؤمنون) أي سواه، وقال أبو عبيدة: بما وراءه أي: بما سواه من الكتب {وَهُوَ الْحَقُّ} يعني القرآن {مُصَدِّقًا} نصب على الحال {لِمَا مَعَهُمْ} من التوراة {قُلْ} يا محمد {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} أي قتلتم. {أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} ولم أصله لما فحذفت الألف فرقا بين الجر والاستفهام كقولهم فيم وبم؟ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بالتوراة، وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء عليهم السلام.
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}. قوله عز وجل {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} أي استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة والإجابة سمعا على المجاورة لأنه سبب للطاعة والإجابة {قَالُوا سَمِعْنَا} {وَعَصَيْنَا} أمرك، وقيل: سمعنا بالأذن وعصينا بالقلوب، قال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوه وتلقوه بالعصيان فنسب ذلك إلى القول اتساعا {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أي حب العجل، أي معناه: أدخل في قلوبهم حب العجل وخالطها، كإشراب اللون لشدة الملازمة يقال: فلان مشرب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة، وفي القصص: أن موسى أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذره في النهر وأمرهم بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه. قوله عز وجل {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أن تعبدوا العجل من دون الله أي بئس إيمان يأمركم بعبادة العجل {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بزعمكم، وذلك أنهم قالوا: {نؤمن بما أنزل علينا} فكذبهم الله عز وجل. قوله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ} وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم "لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" (80- البقرة) "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" (111- البقرة) وقولهم: "نحن أبناء الله وأحباؤه" (18- المائدة) فكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال: قل لهم يا محمد {إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله} يعني الجنة عند الله {خَالِصَة} أي خاصة {مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أي فأريدوه واسألوه لأن من علم أن الجنة مأواه حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم، وقيل: فتمنوا الموت أي ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة. وروي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو تمنوا الموت لغص كل انسان منهم بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات".
{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}. قال الله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} لعلمهم أنهم في دعواهم كاذبون وأراد {بما قدمت أيديهم} أي ما قدموه من الأعمال وأضافها إلى اليد دون سائر الأعضاء لأن أكثر جنايات الإنسان تكون باليد فأضيف إلى اليد أعماله وإن لم يكن لليد فيها عمل {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} اللام لام القسم والنون تأكيد للقسم، تقديره: والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قيل: هو متصل بالأول، وأحرص من الذين أشركوا، وقيل: تم الكلام بقوله {على حياة} ثم ابتدأ {من الذين أشركوا} وأراد بالذين أشركوا المجوس قاله أبو العالية والربيع سموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة. {يَوَد} يريد ويتمنى {أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني تعمير ألف سنة وهي تحية المجوس فيما بينهم يقولون عش ألف سنة وكل ألف نيروز ومهرجان، يقول الله تعالى: اليهود أحرص على الحياة من المجوس الذي يقولون ذلك {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} مباعده {مِنَ الْعَذَابِ} النار {أَنْ يُعَمَّرَ} أي طول عمره لا ينقذه. زحزحه وتزحزح من العذاب أو وزحزح: لازم ومتعد، ويقال زحزحته فتزحزح {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99)}. قوله عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن حبرا من أحبار اليهود يقال له عبد الله بن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أي ملك {نزل} من السماء؟ قال {جبريل} قال: ذلك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لآمنا بك، إن جبريل ينزل العذاب والقتال والشدة وإنه عادانا مرارا وكان من أشد ذلك علينا، أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له بختنصر، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رجلا من اقوياء بني إسرائيل في طلبه لقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاما مسكينا فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وكبر بختنصر وقوي وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدوا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: قالت اليهود: إن جبريل عدونا لأنه أمر بجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا، وقال قتادة وعكرمة والسدي: كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة وممرها على مدارس اليهود فكان إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم كلاما فقالوا له: ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك، إنهم يمرون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا وإنا لنطمع فيك فقال عمر: والله ما آتيكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم وأنتم تكتمونها فقالوا: من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة؟ قال: جبريل فقالوا: ذلك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وسنة وشدة، وإن ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والمغنم فقال لهم عمر: تعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ قالوا: نعم قال: فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله عز وجل؟ قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره قال عمر: فإني أشهد أن من كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكائيل، ومن كان عدوا لميكائيل فإنه عدو لجبريل، ومن كان عدوا لهما كان الله عدوا له، ثم رجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال "لقد وافقك ربك يا عمر" فقال عمر: لقد رأيتني بعد ذلك، في دين الله أصلب من الحجر. قال الله تعالى {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ} يعني: جبريل {نزلَه} يعني: القرآن، كناية عن غير مذكور {عَلَى قَلْبِكَ} يا محمد {بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمر الله {مُصَدِّقًا} موافقا {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما قبله من الكتب {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. قوله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} خصهما بالذكر من جملة الملائكة مع دخولهما في قوله {وَمَلائِكَتِه} تفضيلا وتخصيصا، كقوله تعالى "فيهما فاكهة ونخل ورمان" (68- الرحمن) خص النخل والرمان بالذكر مع دخولهما في ذكر الفاكهة، والواو فيهما بمعنى: أو، يعني من كان عدوا لأحد هؤلاء فإنه عدو للكل، لأن الكافر بالواحد كافر بالكل {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} قال عكرمة: جير وميك وإسراف هي العبد بالسريانية، وايل هو الله تعالى ومعناهما عبد الله وعبد الرحمن. وقرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم غير مهموز بوزن فعليل قال حسان: وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء وقرأ حمزة والكسائي بالهمز والإشباع بوزن سلسبيل، وقرأ أبو بكر بالاختلاس، وقرأ الآخرون بكسر الجيم غير مهموز، وميكائيل قرأ أبو عمرو ويعقوب وحفص ميكال بغير همز قال جرير: عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد *** وبجبرائيل وكذبوا ميكالا وقال آخر: ويوم بدر لقيناكم لنا مدد *** فيه مع النصر جبريل وميكال وقرأ نافع: بالهمزة والاختلاس، بوزن ميفاعل، وقرأ الآخرون: بالهمز والإشباع بوزن ميكائيل، وقال ابن صوريا: ما جئتنا بشيء نعرفه، فأنزل الله تعالى {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} الخارجون عن أمر الله عز وجل.
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)}. قوله تعالى {أَوَكُلَّمَا} واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام {عَاهَدُوا عَهْدًا} يعني اليهود عاهدوا لئن خرج محمد ليؤمنن به، فلما خرج كفروا به. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ الله عليهم من الميثاق وعهد إليهم في محمد أن يؤمنوا، به قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا في محمد عهد، فأنزل الله تعالى هذه الآية يدل عليه قراءة أبي رجاء العطاردي "أو كلما عاهدوا" فجعلهم مفعولين، وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود أن لا يعاونوا المشركين على قتاله فنقضوها كفعل بني قريظة والنضير دليله قوله تعالى "الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم" (56- الأنفال)، {نَبَذَه} طرحه ونقضه {فَرِيقٌ} طوائف {مِنْهُم} اليهود {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}. {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني محمدا {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} يعني التوراة وقيل: القرآن {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} قال الشعبي: كانوا يقرءون التوراة ولا يعملون بها، وقال سفيان بن عيينة: أدرجوها في الحرير والديباج وحلوها بالذهب والفضة ولم يعملوا بها فذلك نبذهم لها. قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا} يعني اليهود {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} أي: ما تلت، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي، والماضي موضع المستقبل، وقيل: ما كنت تتلو أي تقرأ، قال ابن عباس رضي الله عنه: تتبع وتعمل به، وقال عطاء تحدث وتكلم به {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي: في ملكه وعهده. وقصة الآية أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك، ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس: إنما ملكهم سليمان بها فتعلموه فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا من علم الله وأما السفلة، فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعلمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشت الملامة على سليمان فلم يزل هذا حالهم وفعلهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان، هذا قول الكلبي. وقال السدي: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره، فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فكتب ذلك وفشا في بني إسرائيل أن الجن يعلمون الغيب، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال: لا أسمع أحدا يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب، وخلف من بعدهم خلف، تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفرا من بني إسرائيل فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا قالوا: نعم فذهب معهم فأراهم المكان الذي تحت كرسيه، فحفروا فأقام ناحية فقالوا له: ادن وقال: لا أحضر، فإن لم تجدوه فاقتلوني، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق، فحفروا وأخرجوا تلك الكتب، فقال الشيطان لعنه الله: إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا، ثم طار الشيطان عنهم، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، وأخذوا تلك الكتب واستعملوها فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالى سليمان من ذلك، وأنزل في عذر سليمان: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بالسحر، وقيل: لم يكن سليمان كافرا بالسحر ويعمل به {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} قرأ ابن عباس رضي الله عنه والكسائي وحمزة، "لكن" خفيفة النون "والشياطين" رفع، وقرأ الآخرون ولكن مشددة النون "والشياطين" نصب وكذلك "ولكن الله قتلهم" (17- الأنفال) ومعنى لكن: نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل. {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ} قيل: معنى السحر العلم والحذق بالشيء قال الله تعالى "وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك" (49- الزخرف) أي العالم، والصحيح: أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة، وعليه أكثر الأمم، ولكن العمل به كفر، حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: السحر يخيل ويمرض وقد يقتل، حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان، يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره، وقيل: إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب، والأصح أن ذلك تخييل قال الله تعالى: "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" (66- طه) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمى ويغضب وربما يحم منه، وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان. قوله عز وجل {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} أي ويعلمون الذي أنزل على الملكين أي إلهاما وعلما، فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم، وقيل: واتبعوا ما أنزل على الملكين وقرأ ابن عباس والحسن الملكين بكسر اللام، وقال ابن عباس: هما رجلان ساحران كانا ببابل، وقال الحسن: علجان لأن الملائكة لا يعلمون السحر. وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها، قال ابن مسعود: بابل أرض الكوفة، وقيل جبل دماوند، والقراءة المعروفة على الملكين بالفتح. فإن قيل كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة؟ قيل: له تأويلان: أحدهما، أنهما لا يتعمدان التعليم لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه، والتعليم بمعنى الإعلام، فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما. والتأويل الثاني: وهو الأصح: أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى يتعلم السحر منهما ويأخذه عنهما ويعمل به فيكفر به، ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان، ويزداد المعلمان بالتعليم عذابا، ففيه ابتلاء للمعلم والمتعلم ولله أن يمتحن عباده بما شاء، فله الأمر والحكم. قوله عز وجل {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسمان سريانيان وهما في محل الخفض على تفسير الملكين إلا أنهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما، وكانت قصتهما على ما ذكر ابن عباس والمفسرون أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام فعيروهم وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يعصونك فقال الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال لهم الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم، وقال الكلبي: قال الله تعالى لهم: اختاروا ثلاثة فاختاروا عزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت- غير اسمهما لما قارفا الذنب- وعزائيل، فركب الله فيهم الشهوة وأهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر، فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقبل ربه وسأله أن يرفعه إلى السماء، فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه، ولم يزل بعد مطأطئا رأسه حياء من الله تعالى. وأما الآخران: فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء، قال قتادة: فما مر عليهما شهر حتى افتتنا. قالوا جميعا إنه اختصمت إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت: لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعهأ قدح من خمر، وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا الصلاة لغير الله عظيم، وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة، فزنيا فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه، قال الربيع بن أنس وسجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكبا- وقال بعضهم: جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها فقال أحدهما للآخر: هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي من حب هذه؟ قال: نعم فقال: وهل لك أن تقضي لها على زوجها بما تقول؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها نفسها، فقالت: لا إلا أن تقتلاه فقال أحدهما: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاها نفسها، فقالت: لا إن لي صنما أعبده، إن أنتما صليتما معي له: فعلت، فقال: أحدهما لصاحبه مثل القول الأول فقال صاحبه مثله، فصليا معها له فمسخت شهابا. قال ابن أبي طالب رضي الله عنه والكلبي والسدي: إنها قالت لهما حين سألاها نفسها: لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا باسم الله الأكبر، قالت: فما أنتم تدركاني حتى تعلمانيه، فقال أحدهما لصاحبه: علمها فقال: إني أخاف الله رب العالمن، قال الآخر: فأين رحمة الله تعالى؟ فعلماها ذلك فتكلمت، فصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكبا، فذهب بعضهم إلى أنها الزهرة بعينها وأنكر الآخرون هذا وقالوا: إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله بها فقال "فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس" (15- التكوير) والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها فلما بغت مسخها الله تعالى شهابا، قالوا: فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما من الغضب فقصدا إدريس النبي عليه السلام، فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل وقالا له: إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا، إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان. واختلفوا في كيفية عذابهما فقال عبد الله بن مسعود: هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة، وقال عطاء بن أبي رباح: رءوسهما مصوبة تحت أجنحتهما، وقال قتادة كبلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما، وقال مجاهد: جعلا في جب ملئت نارا، وقال عمر بن سعد: منكوسان يضربان بسياط من الحديد. وروي أن رجلا قصد هاروت وماروت لتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، مزرقة أعينهما، مسودة جلودهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش، فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال: لا إله إلا الله، فلما سمعا كلامه قالا له: من أنت؟ قال: رجل من الناس، قالا من أي أمة أنت؟ قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا أو قد بعث محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قالا الحمد لله، وأظهر الاستبشار فقال الرجل: ومم استبشاركما؟ قالا إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا. قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أي أحدا، و"من" صلة {حَتَّى} ينصحاه أولا و {يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} ابتلاء ومحنة {فَلا تَكْفُرْ} أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر، وأصل الفتنة: الاختبار والامتحان، من قولهم: فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار، ليتميز الجيد من الرديء وإنما وحد الفتنة وهما اثنان، لأن الفتنة مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، وقيل: إنهما يقولان "إنما نحن فتنة فلا تكفر" سبع مرات. قال عطاء والسدي: فإن أبى إلا التعلم قالا له: ائت هذا الرماد وأقبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة، وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى، قال مجاهد: إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} أن يؤخذ كل واحد عن صاحبه، ويبغض كل واحد إلى صاحبه قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ} قيل أي: السحرة وقيل: الشياطين {بِضَارِّينَ بِهِ} أي بالسحر {مِنْ أَحَدٍ} أي أحدا، {إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بعلمه وتكوينه، فالساحر يسحر والله يكون. قال سفيان الثوري: معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته، {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} يعني: أن السحر يضرهم {وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا} يعني اليهود {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أي اختار السحر {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي في الجنة من نصيب {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ} باعوا به {أَنْفُسَهُم} حظ أنفسهم، حيث اختارواالسحر والكفر على الدين والحق {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فإن قيل: أليس قد قال "ولقد علموا لمن اشتراه" فما معنى قوله تعالى "لو كانوا يعلمون" بعدما أخبر أنهم علموا؟ قيل: أراد بقوله "ولقد علموا" يعني الشياطين وقوله "لو كانوا يعلمون" يعني اليهود وقيل: كلاهما في اليهود يعني: لكنهم لما لم يعلموا بما علموا فكأنهم لم يعلموا. {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {وَاتَّقَوْا} اليهودية والسحر {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} لكان ثواب الله إياهم خيرا لهم {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} وذلك أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله، من المراعاة أي أرعنا سمعك، أي فرغ سمعك لكلامنا، يقال: أرعى إلى الشيء، ورعاه، وراعاه، أي أصغى إليه واستمعه، وكانت هذه اللفظة شيئا قبيحا بلغة اليهود، وقيل: كان معناها عندهم اسمع لا سمعت. وقيل: هي من الرعونة إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا له: راعنا بمعنى يا أحمق! فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهم: كنا نسب محمدا سرا، فأعلنوا به الآن، فكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: لئن سمعتها من أحدكم يقولها لرسول صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} كيلا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أي انظر إلينا وقيل: انتظرنا وتأن بنا، يقال: نظرت فلانا وانتظرته، ومنه قوله تعالى "انظرونا نقتبس من نوركم" (13- الحديد) قال مجاهد: معناها فهمناه {وَاسْمَعُوا} ما تؤمرون به وأطيعوا {وَلِلْكَافِرِينَ} يعني اليهود {عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وذلك أن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا: ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل الله تكذيبا لهم {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ} أي ما يحب ويتمنى الذين كفروا من أهل الكتاب يعني اليهود {وَلا الْمُشْرِكِينَ} جره بالنسق على من {أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي خير ونبوة، ومن صلة {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} بنبوته {مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والفضل ابتداء إحسان بلا علة. وقيل: المراد بالرحمة الإسلام والهداية وقيل: معنى الآية إن الله تعالى بعث الأنبياء من ولد إسحاق فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل لم يقع ذلك بود اليهود ومحبتهم، فنزلت الآية وأما المشركون فإنما لم تقع بودهم لأنه جاء بتضليلهم وعيب آلهتهم.
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}. قوله عز وجل {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدا ما يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلاف ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا كما أخبر الله "وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا: إنما أنت مفتر" (101- النحل) وأنزل {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} فبين وجه الحكمة من النسخ بهذه الآية. والنسخ في اللغة شيئان: أحدهما: بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ. والثاني: يكون بمعنى الرفع يقال: نسخت الشمس الظل أي ذهبت به وأبطلته. فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخا وبعضه منسوخا وهو المراد من الآية وهذا على وجوه، أحدها: أن يثبت الخط وينسخ الحكم مثل آية الوصية للأقارب. وآية عدة الوفاة بالحول وآية التخفيف في القتال وآية الممتحنة ونحوها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ما نثبت خطها ونبدل حكمها، ومنها أن ترفع تلاوتها ويبقى حكمها مثل آية الرجم، ومنها أن ترفع تلاوته أصلا عن المصحف وعن القلوب كما روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن قوما من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها" وقيل: كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة، فرفع أكثرها تلاوة وحكما، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة، والوصية للأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، ومصابرة الواحد العشر في القتال نسخت بمصابرة الإثنين، ومنها ما يرفع ولا يقام غيره مقامه، كامتحان النساء. والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار. أما معنى الآية فقوله {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قراءة العامة بفتح النون وكسر السين من النسخ، أي: نرفعها، وقرأ ابن عامر بضم النون وكسر السين من الإنساخ وله وجهان: أحدهما: أن نجعله كالمنسوخ. والثاني: أن نجعله نسخة له يقال: نسخت الكتاب أي كتبته، وأنسخته غيري إذا جعلته نسخة له {أَوْ نُنْسِهَا} أي ننسها على قلبك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما، نتركها لا ننسخها، قال الله تعالى "نسوا الله فنسيهم" (67- التوبة) أي تركوه فتركهم وقيل {نُنْسِهَا} أي: نأمر بتركها، يقال: أنسيت الشيء إذا أمرت بتركه، فيكون النسخ الأول من رفع الحكم وإقامة غيره مقامه، والإنساء يكون ناسخا من غير إقامة غيره مقامه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أو ننسأها بفتح النون الأول والسين مهموزا أي نؤخرها فلا نبدلها يقال: نسأ الله في أجله وأنسأ الله أجله، وفي معناه قولان: أحدهما: نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كما فعل في آية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم، والقول الثاني: قال سعيد بن المسيب وعطاء: أما ما نسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة أو ننسأها أي نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ ولا تنزل. {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم، لا أن آية خير من آية، لأن كلام الله واحد وكله خير {أَوْ مِثْلِهَا} في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من النسخ والتبديل، لفظه استفهام، ومعناه تقرير، أي: إنك تعلم. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ} يا معشر الكفار عند نزول العذاب {مِنْ دُونِ اللَّهِ} مما سوى الله {مِنْ وَلِيٍّ} قريب وصديق وقيل: من وال وهو القيم بالأمور {وَلا نَصِيرٍ} ناصر يمنعكم من العذاب. قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} نزلت في اليهود حين قالوا: يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة فقال تعالى {أَمْ تُرِيدُونَ} يعني أتريدون فالميم صلة وقيل: بل تريدون أن تسألوا رسولكم محمدا صلى الله عليه وسلم {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} سأله قومه: أرنا الله جهرة وقيل: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا، كما أن موسى سأله قومه فقالوا: أرنا الله جهرة ففيه منعهم عن السؤالات المقبوحة بعد ظهور الدلائل والبراهين {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ} يستبدل الكفر بالإيمان {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أخطأ وسط الطريق وقيل: قصد السبيل.
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}. قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآية نزلت في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: لو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم فقال لهم عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت. فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة: أما أنا فقد رضيت بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد أصبتما الخير وأفلحتما" فأنزل الله تعالى "ود كثير من أهل الكتاب" أي تمنى وأراد كثير من أهل الكتاب من اليهود {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} يا معشر المؤمنين {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا} نصب على المصدر، أي يحسدونكم حسدا {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} أي من تلقاء أنفسهم ولم يأمرهم الله بذلك، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} في التوراة أن قول محمد صلى الله عليه وسلم صدق ودينه حق {فَاعْفُوا} فاتركوا {وَاصْفَحُوا} وتجاوزوا، فالعفو: المحو والصفح: الإعراض، وكان هذا قبل آية القتال {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بعذابه: القتل والسبي لبني قريظة، والجلاء والنفي لبني النضير، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقال قتادة هو أمره بقتالهم في قوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر- إلى قوله- وهم صاغرون" (29- التوبة) وقال ابن كيسان: بعلمه وحكمه فيهم حكم لبعضهم بالإسلام ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا} تسلفوا {لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} طاعة وعمل صالح {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} وقيل: أراد بالخير المال كقوله تعالى "إن ترك خيرا" (180- البقرة) وأراد من زكاة أو صدقه {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} حتى الثمرة واللقمة مثل أحد {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}. {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا} أي يهوديا، قال الفراء: حذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهودية، وقال الأخفش: الهود: جمع هائد، مثل عائد وعود، وحائل وحول {أَوْ نَصَارَى} وذلك أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ولا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ولا دين إلا دين النصرانية. وقيل: نزلت في وفد نجران وكانوا نصارى اجتمعوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود فكذب بعضهم بعضا، قال الله تعالى {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله بغير الحق {قُل} يا محمد {هَاتُوا} أصله آتوا {بُرْهَانَكُمْ} حجتكم على ما زعمتم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال ردا عليهم. {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي ليس الأمر كما قالوا، بل الحكم للإسلام وإنما يدخل الجنة من أسلم وجهه {لِلَّه} أي أخلص دينه لله وقيل: أخلص عبادته لله وقيل: خضع وتواضع لله، وأصل الإسلام: الاستسلام والخضوع، وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله، وقيل: مؤمن وقيل: مخلص {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. قوله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} نزلت في يهود المدينة ونصارى أهل نجران وذلك أن وفد نجران لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود: فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت لهم اليهود، ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بموسى والتوراة فأنزل الله تعالى {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} وكلا الفريقين يقرءون الكتاب، قيل: معناه ليس في كتبهم هذا الاختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم ما فيه على كونهم على الباطل {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} يعني: آباءهم الذين مضوا {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} قال مجاهد: يعني: عوام النصارى، وقال مقاتل: يعني مشركي العرب، كذلك قالوا في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إنهم ليسوا على شيء من الدين. وقال عطاء:أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام قالوا لنبيهم: إنه ليس على شيء {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقضي بين المحق والمبطل {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} الدين.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}. قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ} الآية نزلت في طيطوس بن اسبيسبانوس الرومي وأصحابه، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير، فكان خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال قتادة والسدي: هو بختنصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك النصارى، طيطوس الرومي وأصحابه من أهل الروم، قال السدي: من أجل أنهم قتلوا يحيى بن زكريا، وقال قتادة: حملهم بعض اليهود على معاونة بختنصر البابلي المجوسي فأنزل الله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي أكفر وأعتى {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} يعني بيت المقدس ومحاربيه. {أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى} عمل {فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى ومحل زيارتهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يدخلها يعني بيت المقدس بعد عمارتها رومي إلا خائفأ لو علم به لقتل. وقال قتادة ومقاتل: لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكر لو قدر عليه لعوقب، قال السدي: أخيفوا بالجزية. وقيل: هذا خبر بمعنى الأمر، أي أجهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلا خائفا من القتل والسبي أي ما ينبغي {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} عذاب وهوان، قال قتادة: هو القتل للحربي والجزية للذمي، قال مقاتل والكلبي تفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينية، ورومية، وعمورية {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} النار، وقال عطاء وعبد الرحمن بن زيد: نزلت في مشركي مكة، وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبية، وإذا منعوا من أن يعمره بذكر فقد سعوا في خرابه {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} يعني أهل مكة يقول أفتحها عليكم حتى تدخلوها وتكونوا أولى بها منهم، ففتحها عليهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: "ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك" فهذا خوفهم، وثبت في الشرع أن لا يمكن مشرك من دخول الحرم، {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} الذل والهوان والقتل والسبي والنفي.
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}. قوله عز وجل {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا وأنهم مخطئون في تحريهم فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: نزلت في المسافر يصلي التطوع حيث ما توجهت به راحلته. أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به. قال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة، قال أبو العالية: لما صرفت القبلة إلى الكعبة عيرت اليهود المؤمنين وقالوا: ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة هكذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال مجاهد والحسن: لما نزلت {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (60- غافر) قالوا: أين ندعوه فأنزل الله عز وجل {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ملكا وخلقا {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} يعني أينما تحولوا وجوهكم فثم أي: هناك {رحمة} الله، قال الكلبي: فثم الله يعلم ويرى والوجه صلة كقوله تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه" (88- القصص) أي إلا هو، وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حبان: فثم قبلة الله، والوجه والوجهة والجهة القبلة، وقيل: رضا الله تعالى. {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ} أي غني يعطي من السعة، قال الفراء: الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء، قال الكلبي: واسع المغفرة {عَلِيم} بنياتهم حيثما صلوا ودعوا. قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} قرأ ابن عامر قالوا اتخذ الله بغير واو، وقرأ الآخرون بالواو وقالوا اتخذ الله ولدا نزلت في يهود المدينة حيث قالوا: "عزير ابن الله" وفي نصارى نجران حيث قالوا: "المسيح ابن الله" وفي مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ} نزه وعظم نفسه. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن عبد الرحمن بن أبي حسن نافع بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا". قوله تعالى {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْض} عبيدا وملكا {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قال مجاهد وعطاء والسدي: مطيعون وقال عكرمة ومقاتل: مقرون له بالعبودية، وقال ابن كيسان: قائمون بالشهادة، وأصل القنوت القيام قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة طول القنوت"، واختلفوا في حكم الآية فذهب جماعة إلى أن حكم الآية خاص، وقال مقاتل: هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الناس، وذهب جماعة إلى أن حكم الآية عام في جميع الخلق لأن "كل" تقتضي الإحاطة بالشيء بحيث لا يشذ منه شيء، ثم سلكوا في الكفار طريقين: فقال مجاهد: يسجد ظلالهم لله على كره منهم قال الله تعالى: "وظلالهم بالغدو والآصال" (15- الرعد) وقال السدي: هذا يوم القيامة دليله "وعنت الوجوه للحي القيوم" (111- طه) وقيل {قانتون} مذللون مسخرون لما خلقوا له.
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}. قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي مبدعها ومنشئها من غير مثال سبق {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} أي قدره، وقيل: أحكمه وقدره وأتقنه، وأصل القضاء: الفراغ، ومنه قيل لمن مات: قضي عليه لفراغه من الدنيا، ومنه قضاء الله وقدره لأنه فرغ منه تقديرا وتدبيرا. {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قرأ ابن عامر كن فيكون بنصب النون في جميع المواضع إلا في آل عمران "كن فيكون، الحق من ربك" وفي سورة الأنعام "كن فيكون، قوله الحق" وإنما نصبها لأن جواب الأمر بالفاء يكون منصوبا وافقه الكسائي في النحل ويس، وقرأ الآخرون بالرفع على معنى فهو يكون، فإن قيل كيف قال {فإنما يقول له كن فيكون} والمعدوم لا يخاطب، قال ابن الأنباري: معناه فإنما يقول له أي لأجل تكوينه، فعلى هذا ذهب معنى الخطاب، وقيل: هو وإن كان معدوما ولكنه لما قدر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فصح الخطاب. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: اليهود، وقال مجاهد: النصارى، وقال قتادة: مشركو العرب {لَوْلا} هلا {يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} عيانا بأنك رسوله وكل ما في القرآن "لولا" فهو بمعنى هلا إلا واحدا، وهو قوله "فلولا أنه كان من المسبحين" (143- الصافات) معناه فلو لم يكن {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} دلالة وعلامة على صدقك في ادعائك النبوة. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كفار الأمم الخالية {مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي أشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة وطلب المحال {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق كقوله "ويستنبئونك أحق هو" (53- يونس) أي صدق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بالقرآن دليله "بل كذبوا بالحق لما جاءهم" (5- ق) وقال ابن كيسان: بالإسلام وشرائعه، دليله قوله عز وجل: "وقل جاء الحق" (81- الإسراء) وقال مقاتل: معناه لم نرسلك عبثا، إنما أرسلناك بالحق كما قال: "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق" (85- الحجر). قوله عز وجل {بَشِيرًا} أي مبشرا لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم {وَنَذِيرًا} أي منذرا مخوفا لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم، قرأ نافع ويعقوب {وَلا تُسْأَلُ} على النهي قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "ليت شعري ما فعل أبواي" فنزلت هذه الآية، وقيل: هو على معنى قولهم ولا تسأل عن شر فلان فإنه فوق ما تحسب وليس على النهي، وقرأ الآخرون "ولا تسأل" بالرفع على النفي بمعنى ولست بمسئول عنهم كما قال الله تعالى: " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" (20- آل عمران)، {عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} والجحيم معظم النار.
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)}. قوله عز وجل {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وذلك أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعونه في أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل الله تعالى هذه الآية، معناه وإنك إن هادنتهم فلا يرضون بها وإنما يطلبون ذلك تعللا ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا في القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا في أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} إلا باليهودية {وَلا النَّصَارَى} إلا بالنصرانية والملة الطريقة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} قيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة كقوله "لئن أشركت ليحبطن عملك" (65- الزمر) {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} البيان بأن دين الله هو الإسلام والقبلة قبلة إبراهيم عليه السلام وهي الكعبة {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا، وقال الضحاك: هم من آمن من اليهود عبد الله بن سلام وسعية بن عمرو وتمام بن يهودا وأسد وأسيد ابنا كعب وابن يامين وعبد الله بن صوريا، وقال قتادة وعكرمة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: هم المؤمنون عامة {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال الكلبي: يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس، والهاء راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الآخرون: هي عائدة إلى الكتاب، واختلفوا في معناه فقال ابن مسعود رضي الله عنه: يقرءونه كما أنزل ولا يحرفونه، ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، وقال الحسن: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون علم ما أشكل عليهم إلى عالمه، وقال مجاهد: يتبعونه حق اتباعه. قوله {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قرأ ابن عامر إبراهام بالألف في أكثر المواضع وهو اسم أعجمي ولذلك لا يجر وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز وقيل بابل وقيل: كوفي، وقيل: لشكر، وقيل حران، وكان أبوه نقله إلى أرض بابل أرض نمرود بن كنعان، ومعنى الابتلاء الاختبار والامتحان والأمر، وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء، لأنه عالم بهم، ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضا. واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام، فقال عكرمة وابن عباس رضي الله عنهما: هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام، ولم يبتل بها أحد فأقامها كلها إلا إبراهيم فكتب له البراءة، فقال تعالى: "وإبراهيم الذي وفى" (37- النجم) عشر في براءة "التائبون العابدون" إلى آخرها، وعشر في الأحزاب "إن المسلمين والمسلمات" وعشر في سورة المؤمنين في قوله: "قد أفلح المؤمنون" الآيات، وقوله "إلا المصلين" في سأل سائل. وقال طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما: ابتلاه الله بعشرة أشياء وهي: الفطرة خمس في الرأس: قص الشارب، والمضمضة والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وخمس في الجسد: تقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء بالماء. وفي الخبر: "أن إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب، وأول من اختتن، وأول من قلم الأظافر، وأول من رأى الشيب، فلما رآه قال: يا رب ما هذا؟ قال سمة الوقار، قال: يا رب زدني وقارا" قال مجاهد: هي الآيات التي بعدها في قوله عز وجل "إني جاعلك للناس إماما" (124- البقرة) إلى آخر القصة، وقال الربيع وقتادة: مناسك الحج، وقال الحسن: ابتلاه الله بسبعة أشياء: بالكواكب والقمر والشمس، فأحسن فيها النظر وعلم أن ربه دائم لا يزول، وبالنار فصبر عليها، وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها، قال سعيد بن جبير: هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت "ربنا تقبل منا" (127- البقرة) الآية فرفعاها بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال يمان بن رباب: هن محاجة قومه قال الله تعالى: "وحاجه قومه" إلى قوله تعالى- "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم" (83- الأنعام) وقيل هي قوله: "الذي خلقني فهو يهدين" (78- الشعراء) إلى آخر الآيات. {فَأَتَمَّهُنَّ} قال قتادة: أداهن، قال الضحاك: قام بهن وقال: نعمان عمل بهن. قال الله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} يقتدى بك في الخير {قَالَ} إبراهيم {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي ومن أولادي أيضا فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم في الخير {قَالَ} اللَّهِ تَعَالَى {لا يَنَال} لا يصيب {عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قرأ حمزة وحفص بإسكان الياء والباقون بفتحها أي من كان منهم ظالما لا يصيبهُ قال عطاء بن أبي رباح: عهدي رحمتيُ وقال السدي: نبوتيُ وقيل: الإمامةُ قال مجاهد: ليس لظالم أن يطاع في ظلمه. ومعنى الآية لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالما من ولدكُ وقيل: أراد بالعهد الأمان من النارُ وبالظالم المشرك كقوله تعالى: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن" (82- الأنعام).
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}. قال الله تعالى {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} يعني الكعبة {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} مرجعا لهم، قال مجاهد وسعيد بن جبير: يأتون إليه من كل جانب ويحجون، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معاذا وملجأ وقال قتادة وعكرمة: مجمعا {وَأَمْنًا} أي مأمنا يأمنون فيه من إيذاء المشركين، فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة ويقولون: هم أهل الله ويتعرضون لمن حوله كما قال الله تعالى: "أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم" (67- العنكبوت). أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه" فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر". قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا} قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الخبر، وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال ابن يمان المسجد كله مقام إبراهيم، وقال إبراهيم النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج، مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد. والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت، وقيل: كان أثر أصابع رجليه بينا فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، قال قتادة ومقاتل والسدي: أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد عن يحيى بن حميد عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث- قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت لهن: إن انتهيتن، وليبدلنه الله خيرا منكن، فأنزل الله تعالى: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" الآية (5- التحريم). ورواه محمد بن إسماعيل أيضا عن عمرو بن عوف أنا هشيم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. وأما بدء قصة المقام فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى إبرهيم عليه وسلم بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم مكة، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قال ذهب للصيد وكان إسماعيل عليه السلام يخرج من الحرم فيصيد، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت ليس عندي ضيافة، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، فذهب إبراهيم فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه قال فما قال لك؟ قالت قال اقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، قال ذلك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك؟ قالت ذهب يتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله فانزل يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير وتمر لكانت أكثر أرض الله برا أو شعيرا أو تمرا، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل، وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، وقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال: ذاك إبراهيم النبي أبي، وأنت العتبة أمرني أن أمسكك. وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثم لبثت عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دومة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال: أعينك قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم حتى ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم على الحجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} وفي الخبر: "الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا مامسته أيدي المشركين لأضاء ما بين المشرق والمغرب". قوله عز وجل {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي أمرناهما وأوحينا إليهما، قيل: سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولدا ويقول: إسمع يا إيل وإيل هو الله فلما رزق سماه الله به {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} يعني الكعبة أضافه إليه تخصيصا وتفضيلا أي ابنياه على الطهارة والتوحيد، وقال سعيد بن جبير وعطاء: طهراه من الأوثان والريب وقول الزور، وقيل: بخراه وخلقاه، قرأ أهل المدينة وحفص {بيتي} بفتح الياء هاهنا وفي سورة الحج، وزاد حفص في سورة نوح {لِلطَّائِفِينَ} الدائرين حوله {وَالْعَاكِفِينَ} المقيمين المجاورين {وَالرُّكَّع} جمع راكع {السُّجُودِ} جمع ساجد وهم المصلون قال الكلبي ومقاتل: الطائفين هم الغرباء والعاكفين أهل مكة، قال عطاء ومجاهد وعكرمة: الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا} يعني مكة وقيل: الحرم {بَلَدًا آمِنًا} أي ذا أمن يأمن فيه أهله {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} إنما دعا بذلك لأنه كان بواد غير ذي زرع، وفي القصص أن الطائف كانت من مداين الشام بأردن فلما دعا إبراهيم عليه السلام هذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل عليه السلام حتى قلعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعا ثم وضعها موضعها الذي هي الآن فيه، فمنها أكثر ثمرات مكة {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} دعا للمؤمنين خاصة {قَالَ} الله تعالى {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} قرأ ابن عامر فأمتعه خفيفا بضم الهمزة والباقون مشددا ومعناهما واحد قليلا أي سأرزق الكافر أيضا قليلا إلى منتهى أجله وذلك أن الله تعالى وعد الرزق للخلق كافة مؤمنهم وكافرهم، وإنما قيد بالقلة لأن متاع الدنيا قليل {ثُمَّ أَضْطَرُّه} أي ألجئه في الآخرة {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي المرجع يصير إليه قال مجاهد: وجد عند المقام كتاب فيه: أن الله ذو بكة صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر، وحرمتها يوم خلقت السماوات والأرض، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، مبارك لها في اللحم والماء. قوله عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيل} قال الرواة: إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله آدم عليه السلام إلى الأرض استوحش، فشكا إلى الله تعالى فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال: يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، تصلي عنده كما يصلى عند عرشي وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيا وقيض الله له ملكا يدله على البيت فحج البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا: بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، وبعث جبريل عليه السلام حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه، فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت وهي ريح خجوج لها رأسان شبه الحية فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوت السكينة على موضع البيت كتطوي الحجفة هذا قول علي والحسن. وقال ابن عباس: بعث الله تعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافق مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص، وقيل: أرسل الله جبريل ليدله على موضع البيت كقوله تعالى {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر، فذلك قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} يعني أسسه واحدتها قاعدة. وقال الكسائي: جدر البيت، قال ابن عباس: إنما بني البيت من خمسة أجبل، طورسيناء وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام، والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنيا قواعده من حراء وهو جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل ائتني بحجر حسن يكون للناس علما فأتاه بحجر فقال: ائتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه وقيل: إن الله تعالى بنى في السماء بيتا وهو البيت المعمور ويسمى الضراح وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله، وقيل أول من بنى الكعبة آدم واندرس زمن الطوفان ثم أظهره الله لإبراهيم حتى بناه. قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} فيه إضمار أي ويقولان: ربنا تقبل منا بناءنا {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ} لدعائنا {الْعَلِيمُ} بنياتنا.
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}. {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} موحدين مطيعين مخلصين خاضعين لك. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} أي أولادنا {أُمَّة} جماعة والأمة أتباع الأنبياء {مُسْلِمَةً لَك} خاضعة لك. {وَأَرِنَا} علمنا وعرفنا، قرأ ابن كثير ساكنة الراء وأبو عمرو بالاختلاس والباقون بكسرها ووافق ابن عامر وأبو بكر في الإسكان في حم السجدة، وأصله أرئنا فحذفت الهمزة طلبا للخفة ونقلت حركتها إلى الراء ومن سكنها قال: ذهبت الهمزة فذهبت حركتها، {مَنَاسِكَنَا} شرائع ديننا وأعلام حجنا. وقيل: مواضع حجنا، وقال مجاهد: مذابحنا والنسك الذبيحة، وقيل: متعبداتنا، وأصل النسك العبادة، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما فبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم؟ قال: نعم فسمى الوقت عرفة والموضع عرفات. {وَتُبْ عَلَيْنَا} تجاوز عنا {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِم}.
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}. أي في الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل وقيل: من أهل مكة {رَسُولا مِنْهُم} أي مرسلا منهم أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم. حدثنا السيد أبو القاسم علي بن موسى الموسوي حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن عباس البلخي أنا الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي أنا محمد بن المكي أنا إسحاق بن إبراهيم أنا ابن أخي ابن وهب أنا عمي أنا معاوية عن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام" وأراد بدعوة إبراهيم هذا فإنه دعا أن يبعث في بني إسماعيل رسولا منهم، قال ابن عباس: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. {يَتْلُو} يقرأ {عَلَيْهِمْ آيَاتِك} كتابك يعني القرآن والآية من القرآن كلام متصل إلى انقطاعه وقيل هي جماعة حروف يقال خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} يعني القرآن {وَالْحِكْمَة} قال مجاهد: فهم القرآن، وقال مقاتل: مواعظ القرآن وما فيه من الأحكام، قال ابن قتيبة: هي العلم والعمل، ولا يكون الرجل حكيما حتى يجمعهما، وقيل: هي السنة، وقيل: هي الأحكام والقضاء وقيل: الحكمة الفقه. قال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من الشرك والذنوب، وقيل: يأخذ الزكاة من أموالهم، وقال ابن كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ من التزكية، وهي التعديل إنك أنت العزيز الحكيم قال ابن عباس: العزيز الذي لا يوجد مثله، وقال الكلبي: المنتقم بيانه قوله تعالى "والله عزيز ذو انتقام" (4- آل عمران) وقيل: المنيع الذي لا تناله الأيدي ولا يصل إليه شيء وقيل: القوي، والعزة القوة قال الله تعالى "فعززنا بثالث" (14- يس) أي قوينا وقيل: الغالب قال الله تعالى إخبارا "وعزني في الخطاب" (23- ص) أي غلبني، ويقال في المثل: "من عز بز" أي من غلب سلب.
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}. {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} وذلك أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله عز وجل قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله عز وجل {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} أي يترك دينه وشريعته يقال رغب في الشيء إذا أراده، ورغب عنه إذا تركه. وقوله {وَمَن} لفظه استفهام معناه التقريع والتوبيخ يعني: ما يرغب عن ملة إبراهيم {إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال ابن عباس: من خسر نفسه، وقال الكلبي: ضل من قبل نفسه، وقال أبو عبيدة: أهلك نفسه، وقال ابن كيسان والزجاج: معناه جهل نفسه والسفاهة: الجهل وضعف الرأي: وكل سفيه جاهل، وذلك أن من عبد غير الله فقد جهل نفسه. لأنه لم يعرف أن الله خلقها، وقد جاء: "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، وفي الأخبار: "إن الله تعالى أوحى إلى داود اعرف نفسك واعرفني، فقال يا رب كيف أعرف نفسي؟ وكيف أعرفك؟ فأوحى الله إليه اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء، واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء". وقال الأخفش: معناه سفه في نفسه، ونفسه على هذا القول نصب بنزع حرف الصفة وقال الفراء: نصب على التفسير، وكان الأصل سفهت نفسه فلما أضاف الفعل إلى صاحبها خرجت النفس المفسرة ليعلم موضع السفه، كما يقال: ضقت به ذرعا، أي ضاق ذرعي به. {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} اخترناه في الدنيا {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} يعني مع الأنبياء في الجنة، وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أي استقم على الإسلام، واثبت عليه لأنه كان مسلما. قال ابن عباس: قال له حين خرج من السرب، وقال الكلبي: أخلص دينك وعبادتك لله، وقال عطاء أسلم إلى الله عز وجل وفوض أمورك إليه. {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فوضت، قال ابن عباس: وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار.
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}. {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} قرأ أهل المدينة والشام: "وأوصى" بالألف، وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ الباقون: "ووصى" مشددا، وهما لغتان مثل أنزل ونزل، معناه ووصى بها إبراهيم بنيه ووصى يعقوب بنيه، قال الكلبي ومقاتل: يعني بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله، قال أبو عبيدة: إن شئت رددت الكناية إلى الملة لأنه ذكر ملة إبراهيم، وإن شئت رددتها إلى الوصية: أي وصى إبراهيم بنيه الثمانية إسماعيل وأمه هاجر القبطية، وإسحاق وأمه سارة، وستة أمهم قنطورة بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة ويعقوب، سمي بذلك لأنه والعيص كانا توأمين فتقدم عيص في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه قاله ابن عباس، وقيل: سمي يعقوب لكثرة عقبه يعني: ووصى أيضا يعقوب بنيه الاثنى عشر {يَا بَنِي} معناه أن يا بني {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى} اختار {لَكُمُ الدِّينَ} أي دين الإسلام {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} مؤمنون وقيل: مخلصون وقيل: مفوضون والنهي في ظاهر الكلام وقع على الموت، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام، معناه: داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا وأنتم مسلمون، وعن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال: {إلا وأنتم مسلمون} أي محسنون بربكم الظن. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل".
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}. {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} يعني أكنتم شهداء، يريد ما كنتم شهداء حضورا {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي حين قرب يعقوب من الموت، قيل: نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فعلى هذا القول يكون الخطاب لليهود، وقال الكلبي: لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران، فجمع ولده وخاف عليهم ذلك فقال عز وجل {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} قال عطاء إن الله تعالى لم يقبض نبيا حتى يخيره بين الحياة والموت فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم، ففعل الله ذلك به فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وكان إسماعيل عما لهم والعرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عم الرجل صنو أبيه" وقال في عمه العباس: "ردوا علي أبي فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود". وذلك أنهم قتلوه. {إِلَهًا وَاحِدًا} نصب على البدل من قوله إلهك وقيل نعرفه إلها واحدا {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. {تِلْكَ أُمَّةٌ} جماعة {قَدْ خَلَتْ} مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من العمل {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني: يسأل كل عن عمله لا عن عمل غيره.
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}. قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} قال ابن عباس: نزلت في رؤساء يهود المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب، وفي نصارى أهل نجران السيد والعاقب وأصحابهما، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقالت النصارى: نبينا أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك فقال تعالى {قُل} يا محمد {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} بل نتبع ملة إبراهيم، وقال الكسائي: هو نصب على الإغراء، كأنه يقول: اتبعوا ملة إبراهيم، وقيل معناه بل نكون على ملة إبراهيم فحذف "على" فصار منصوبا {حَنِيفًا} نصب على الحال عند نحاة البصرة، وعند نحاة الكوفة نصب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما سقطت الألف واللام لم يتبع المعرفة النكرة فانقطع منه فنصب. قال مجاهد: الحنيفية اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس قال ابن عباس: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصله من الحنف، وهو ميل وعوج يكون في القدم، وقال سعيد بن جبير: الحنيف هو الحاج المختتن. وقال الضحاك: إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج، وإذا لم يكن مع المسلم فهو المسلم، قال قتادة: الحنيفية: الختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وإقامة المناسك. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ثم علم المؤمنين طريق الإيمان فقال جل ذكره: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} يعني القرآن {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} عشر صحف {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ} يعني أولاد يعقوب وهم اثنا عشر سبطا واحدهم سبط سموا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة وسبط الرجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين رضي الله عنهما سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب من بني إسماعيل والشعوب من العجم، وكان في الأسباط أنبياء ولذلك قال: وما أنزل إليهم وقيل هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} يعني التوراة {وَعِيسَى} يعني الإنجيل {وَمَا أُوتِيَ} أعطي {النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي نؤمن بالكل لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن بشار أنا عثمان بن عمر أنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله الآية"
|