الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)} وقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا...} الآية: لمَّا ذكر اللَّه سبحانه أهلَ الزيْغِ، وذكَرَ نقيضهم، وظهر ما بَيْن الحالَتَيْنِ، عقَّب ذلك؛ بأنْ علَّم عباده الدعاء إلَيْه في ألاَّ يكونوا من الطائفَةِ الذميمَةِ الَّتي ذُكِرَتْ، وهم أهلْ الزيْغِ، ويحتمل أنْ يكون هذا من تمامِ قول الراسِخِينَ، و{تُزِغْ}: معناه: تُمِلْ قلوبنا عن الهدى والحقِّ، و{مِن لَّدُنْكَ}: معناه: من عِنْدِكَ تَفَضُّلاً، لا عن سَبَبٍ منَّا، ولاَ عَمَلٍ، وفي هذا استسلامٌ وتطارُحٌ، والمرادُ: هَبْ لنا نعيماً صادراً عن الرحمة. وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}: إِقرار بالبَعْثِ ليومِ القيامةِ، والرَّيْبُ: الشكُّ، والمعنى أنه في نفْسِه حقٌّ لا رَيْبَ فيه. وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد}، يحتمل: أنْ يكون إِخباراً منه سبحانه لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، وأمته، ويحتملُ: أنْ يكون حكايةً مِنْ قول الداعين، ففي ذلك إِقرارٌ بصفة ذاتِ اللَّه تعالى، والميعادُ: من الوَعْد. وقوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مِّنَ الله شَيْئاً...} الآية: الإِشارة بالآيةِ إلى معاصِرِي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفْخَرُون بأموالهم وأبنائهم، وهي بَعْدُ متناوِلَةٌ كلَّ كافرٍ، والوَقُود؛ بفتحِ الواوِ: كلُّ ما يحترق في النار من حَطَبٍ ونحوه، والدَّأْبُ، والدَّأَبُ؛ بسكون الهمزة وفتحها: مصدرُ: دَأَبَ يَدْأَبُ، إذا لازم فعل شيءٍ، ودام عليه مجتهداً فيه، ويقال للعادة دَأْبٌ، والمعنى في الآية: تشبيهُ هؤلاء في لزومهم الكُفْر ودوامِهِم عليه بأولئك المتقدِّمين، وآخر الآية يقتضي الوعيدَ بأنْ يصيب هؤلاءِ ما أصَابَ أولئك، والكافُ في قوله: {كَدَأْبِ} في موضعِ رفعٍ، والتقدير: دَأْبُهُمْ كَدَأْبِ، والضمير في {قَبْلِهِمْ} عائد على {آلِ فِرْعَوْنَ}، ويحتمل: على معاصري رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من الكفار. وقوله: {كَذَّبُواْ بآياتنا}: يحتمل: أنْ يريد المتلوَّة، ويحتمل أن يريد العلاماتِ المنصوبَةَ.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} وقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ...} الآية: اختلف في تعيين هؤلاءِ الذين أمِرَ صلى الله عليه وسلم بالقَوْل لهم: فقيل: هم جميعُ معاصريه أمر أنْ يقول لهم هذا الذي فيه إعلامٌ بغَيْب، فوقع بحَمْدِ اللَّه كذلك، فغُلِبُوا، وصار مَنْ مات منهم على الكُفْرِ إلى جهنم. وتظاهرتْ رواياتٌ عن ابن عبَّاس وغيره؛ بأنَّ المراد يهودُ المدينةِ، لما قَدِمَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوة بَدْرٍ، جمعهم، وقال: " يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ قُرَيْشاً "، فقالوا: يَا مُحَمَّدُ، لاَ تَغُرَّنَّكَ نَفْسُكَ أَنْ قَتَلْتَ نَفَراً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَاراً لاَ يَعْرِفُونَ القِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا، لَعَرَفْتَ أَنَّا نحْنُ النَّاسُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ» والحَشْر: الجمْعُ والإِحضار. وقوله تعالى: {وَبِئْسَ المهاد}: يعني: جهنَّم؛ هذا ظاهر الآية، وقال مجاهدٌ: المعنى: بِئْسَ ما مهدوا لأنفسهم. قال * ع *: فكان المعنى: وبئس فعْلُهُم الذي أدَّاهم إِلى جهنَّم. وقوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ...} الآيةُ تحتملُ أنْ يخاطب بها المؤمنون؛ تثبيتاً لنفوسهم، وتشجيعاً لها، وأن يُخَاطَبَ بها جميعُ الكُفَّار، وأنْ يخاطب بها يهودُ المدينةِ، وبكلِّ احتمال منْها قد قال قومٌ، وقرئ شاذًّا: «تَروْنَهُمْ»؛ بضم التاء؛ فكأن معناها أنَّ اعتقادَ التضْعيف في جَمْعِ الكفَّار؛ إنما كان تخميناً وظَنًّا لا يقيناً، وذلك أنَّ «أرى»؛ بضم الهمزة: تقولها فيما بَقِيَ عندك فيه نَظَرٌ، وأرى؛ بفتح الهمزةِ: تقولها في ما قد صَحَّ نظرك فيه، ونحا هذا المنحى أبو الفَتْحِ، وهو صحيحٌ، والمراد بالفئتَيْنِ: جماعةُ المؤمنين، وجماعةُ الكفَّار ببَدْرٍ. قال * ع *: ولا خلاف أن الإِشارة بهاتين الفئَتَيْنِ هي إِلى يوم بدر؛ و{يُؤَيِّدُ}: معناه يُقَوِّي؛ من «الأَيْد»، وهو القُوَّة.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات...} الآيةُ هذه الآيةُ ابتداءُ وعظٍ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخٌ، والشهواتُ ذميمةٌ، واتباعها مُرْدٍ، وطاعتها مَهْلَكَةٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ "، فَحَسْبُكَ أَنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِهَا، فمَنْ واقعها، خلص إِلى النَّار، قلْتُ: وقد جاءت إحاديثٌ كثيرةٌ في التزْهِيدِ في الدنيا، ذكَرْنا من صحيحها وحَسَنِهَا في هذا المُخْتَصَرِ جملةً صالحةً لا توجد في غيره من التَّفَاسير، فعلَيْكَ بتحصيله، فتَطَّلعَ فيه على جواهرَ نفيسةٍ، لا توجَدُ مجموعةً في غيره؛ كما هي بحَمْدِ اللَّه حاصلةٌ فيه، وكيف لا يكونُ هذا المختصر فائقاً في الحُسْن، وأحاديثه بحَمْد اللَّه مختارةٌ، أكثرها من أصولِ الإسلامِ الستَّةِ: البخاريِّ، ومسلمٍ، وأبي داود، والتِّرمذيِّ، والنَّسائِيِّ، وابنِ مَاجَة، فهذه أصول الإِسلام، ثم مِنْ غيرها؛ كصحيح ابن حِبَّانَ، وصحيح الحاكمِ، أعني: «المُسْتَدْرَكَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ»، وأَبِي عَوَانَةَ، وابْنِ خُزَيْمَةَ، والدَّارِمِيِّ، وَالمُوَطَّإِ، وغيرِها من المسانيدِ المشهورةِ بيْن أئمَّة الحديثِ؛ حَسْبما هو معلومٌ في علْمِ الحديث، وقصْدِي من هذا نُصْحُ من اطلع على هذا الكتاب أنْ يعلم قَدْرَ ما أنعم اللَّه به علَيْه، فإِن التحدُّث بالنعم شُكْر، ولنرجَعْ إلى ما قصدناه من نَقْلِ الأحاديث: روى الترمذيُّ عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنْ أَرَدتِّ اللُّحُوقَ بِي، فَلْيَكْفِيكِ مِنَ الدُّنْيَا، كَزَادِ الرَّاكِبَ، وإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ، وَلاَ تَسْتَخْلِفِي ثَوْباً حتى تَرْقَعِيهِ " حديث غَرِيبٌ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ "، خرَّجه أبو داود وقد نقله البغويُّ في «مصابيحه»، والبَذَاذَةُ: هي رث الهَيْئَة. اه و{القَناطير}: جمع قِنْطَارٍ، وهو العُقْدة الكثيرةُ من المال؛ واختلف النَّاس في تحريرِ حَدِّه، وأصحُّ الأقوالِ فيه: ما رواه أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " القِنْطَارُ أَلْفٌ ومِائَتَا أُوقِيَّةٍ "، لكنَّ القنْطارَ على هذا يختلفُ باختلاف البلادِ في قَدْر الأَوقِيَّةِ. وقوله: {المقنطرة}، قال الطبريُّ: معناه: المُضَعَّفة، وقال الربيعُ: المالُ الكثيرُ بعْضُه على بعض. * ص *: {المقنطرة}: مُفَعْلَلَة، أو مُفَنْعَلَة؛ مِن القِنْطَار، ومعناه: المجتمعة. * م *: أبو البقاء: و{مِنَ الذهب}: في موضعِ الحالِ من {المقنطرة} اه. وقوله: {المسومة}: قال مجاهدٌ: معناه المُطَهَّمة الحِسَان، وقال ابن عبَّاس وغيره: معناه: الراعيَةُ، وقيل: المُعَدَّة، {والأنعام}: الأصنافُ الأربعةُ: الإِبلُ، والبَقَرُ، والضَّأْنُ، والمَعْز. * ص *: والأنعامُ: واحدُها نَعَمٌ، والنَّعَمُ: الإِبل فقَطْ، وإِذا جُمِعَ، انطلق على الإِبلِ والبقرِ والغنمِ. اه. {والحرث}: هنا اسمٌ لكلِّ ما يُحْرَثُ من حَبٍّ وغيره، والمَتَاعُ: ما يستمتعُ به، وينتفعُ مدَّةً مَّا منحصرة، و{المآب}: المَرْجِعُ، فمعنى الآية: تقليلُ أمر الدُّنيا وتحقيرُها، والترغيبُ في حُسْن المَرْجِع إِلى اللَّه تعالى. وقوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم...} الآية: في هذه الآية تَسْلِيَةٌ عن الدنيا، وتقويةٌ لنفوسِ تاركيها؛ ذَكَر تعالى حالَ الدُّنْيا، وكَيْف استقر تزيينُ شهواتها، ثم جاء بالإِنباءِ بخَيْرٍ من ذلك هَازًّا للنفُوس، وجامعاً لها؛ لتَسْمَعَ هذا النبأَ المستغْرَبَ النافعَ لِمَنْ عقل، وأُنَبِّئ: معناه: أُخْبِرُ. وقوله تعالى: {ورضوان مِّنَ الله}، الرِّضْوَانُ: مصدر مِنْ «رَضِيَ»، وفي الحديث الصحيحِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " أنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ، إذا استقروا فِيهَا، وَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ أنْ أُعْطِيَكُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَبَّنَا، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَداً "، هذا سياقُ الحديثِ، وقد يجيءُ مختلِفَ الألفاظِ، والمعنى قريبٌ بعضُه من بعض، قال الفَخْر: وذلك أن معرفة أهْلِ الجَنَّة، مع هذا النعيم المقيم بأنَّه تعالى راضٍ عنهم، مُثْنٍ عليهم أزيدُ عليهم في إِيجابِ السُّرور. اه. وباقي الآية بيِّن، وقد تقدَّم في سورة البقرة بيانُهُ. وقوله تعالى: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} «الَّذِينَ»: بدلٌ من «الَّذِينَ اتقوا»، وفسر سبحانه في هذه الآية أحوال المتقين الموعودِينَ بالجَنَّات، والصَّبْرُ؛ في هذه الآية: معناه: على الطَّاعاتِ، وعن المعاصي والشهواتِ، والصِّدْقُ: معناه: في الأقوالِ والأفعالِ، والقُنُوتُ: الطاعةُ والدعاءُ أيضاً، وبكلِّ ذلك يتصف المتَّقِي، والإِنْفَاقُ: معناه: في سبِيلِ اللَّه ومَظَانِّ الأجر، والاِستغفارُ: طلبُ المَغْفرة من اللَّه سبحانه، وخصَّ تعالى السَّحَر؛ لما فيه من الفَضْل؛ حسْبَما وَرَدَ فيه مِنْ صحيحِ الأحاديثِ؛ كحديث النُّزُول: " هَلْ مِنْ دَاعٍ، فَأَسْتجِيبَ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ، فَأَغْفِرَ لَهُ "، إِلى غير ذلك ممَّا ورد في فَضْله. قلت: تنبيهٌ: قال القرطبيُّ في «تذكرته»، وقد جاء حديثُ النزولِ مفسَّراً مبيَّناً في ما خرَّجه النسائِيُّ عن أبي هُرَيْرة، وأبي سَعِيدٍ، قَالاَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) يُمْهِلُ حتى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأَوَّل، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِياً يَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ يعطى "، صحَّحه أبو محمَّد عبْدُ الحقِّ. اه. وخرَّج أبو بكرِ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، عن عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: " إِنَّ نُزُولَ اللَّهِ تعالى إِلَى الشَّيْءِ إِقْبَالُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نُزُولٍ " اه. والسَّحَر: آخرُ الليل، قال نافِعٌ: «كان ابْنُ عُمَرَ يُحْيِي الليْلَ صلاةً، ثم يقولُ: يا نَافِعُ، أسْحَرْنَا، فأقول: لاَ، فَيُعَاوِدُ الصَّلاة، ثم يسأل، فَإِذا قُلْتُ: نَعَمْ، قَعَدَ يَسْتَغْفِرُ». قال * ع *: وحقيقةُ السَّحَرِ في هذه الأحكامِ الشرعيَّة من الاستغفار المحمودِ، وسُحُورِ الصَّائِمِ، ومِنْ يَمِين لَوْ وَقَعَتْ، إنما هي مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخر إِلى الفَجْر.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)} وقوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ...} الآية: معنى: {شَهِدَ الله}: أعلم عباده بهذا الأمْر الحَقِّ، وقال * ص *: {شَهِدَ}، بمعنى عَلِمَ أو قضى، أوْ حَكَم، أو بَيَّن، وهي أقوال اه. وأسند أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ في كتاب «فَضْلِ العِلْمِ»؛ عن غالبٍ القَطَّان، قَالَ: كُنْتُ أختلِفُ إِلى الأَعْمَشِ، فرأيته ليلةً قَامَ يتهجَّد من الليل، وقرأ بهذه الآية: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} قال الأعمش: وأنا أشْهَدُ بما شَهِدَ اللَّه به، وأسْتَوْدِعُ اللَّهَ هذه الشهادةَ، فقلْتُ للأعمش: إِني سمعتُكَ تقرأُ هذه الآية تردِّدها، فما بَلَغَكَ فيها؟ قال: حدَّثني أبو وَائِلٍ، عن ابنِ مَسْعُودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: " يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: عَبْدِي عهدَ إلَيَّ، وَأَنَا أَحَقُّ مِنْ وفى بِالعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي الجَنَّةَ " اه. وقرأ جميعُ القرَّاء «أَنَّهُ»؛ بفتح الهمزةِ؛ وبكَسْرها من قوله: {إِنَّ الدِّينَ}؛ على استئناف الكلامِ، وقرأ الكِسَائيُّ وحْده: «أَنَّ الدِّينَ»؛ بفتح الهمزةِ بَدَلاً من «أَنَّهُ» الأولى، {والملائكة وَأُوْلُواْ العلم}: عطْفٌ على اسم الله، قال الفَخْر: المراد بِأُولِي العِلْمِ هنا: الذينَ عَرَفُوا اللَّه بالدَّلاَلة القطعيَّة؛ لأن الشهادة، إنما تكونُ مقبولةً، إِذا كان الإِخبار مقروناً بالعلْمِ، وهذا يدلُّ أنَّ هذه الدرجةَ الشريفَةَ لَيْسَتْ إِلا للعلماء بالأُصُولِ، وتكرَّرت «لا إِله إِلا اللَّه» هنا، وفائدةُ هذا التكرير الإِعلامُ بأنَّ المسلم يجبُ أنْ يكون أَبداً في تكرير هذه الكلمة، فإِنَّ أشرفَ كلمةٍ يذكرها الإِنسان هي هذه الكلمةُ، وإذا كان في أكثر الأوقات مُشْتَغِلاً بذكْرِها، وبتكريرها، كان مُشْتَغِلاً بأعظمِ أنواعِ العباداتِ، فكان من التكريرِ في هذه الآيةِ حضُّ العبادِ على تكريرها. اه. وصحَّ في البخاريِّ، عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصاً مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ "، وروى زيْدُ بن أرْقَم، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: " مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصاً دَخَلَ الجَنَّةَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إخْلاَصُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَحْجِزَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ "، خرَّجه الترمذيُّ الحَكِيمُ في «نَوَادِرِ الأُصُولِ» اه من «التَّذْكرة». و {قَائِمَاً}: حالٌ من اسمِهِ تعالى في قوله: {شَهِدَ الله}، أو مِنْ قوله: {إِلاَّ هُوَ}، و{القسط}: العَدْل، وقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام...} الآية: الدِّينُ؛ في هذه الآية: الطاعةُ والمِلَّة، والمعنى: أنَّ الدين المَقْبُول أو النافع هو الإِسلام، والإِسلام في هذه الآية هو الإِيمانُ والطَّاعات، قاله أبو العالية؛ وعليه جمهور المتكلِّمين، وحديثُ: " بُنِيَ الإِسْلاَمُ على خَمْسٍ "، وحديثُ مَجِيءِ جِبْريلَ يعلِّم النَّاسَ دينَهُمْ يفسِّر ذلك، ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهْلِ الكتابِ بَعْد علمهم بالحقائقِ، وأنه كان بَغْياً وطلباً للدنيا؛ قاله ابن عُمَر وغيره، و{الذين أُوتُواْ الكتاب}: لفظٌ يعُمُّ اليهودَ والنصارى، لكنَّ الرَّبِيعَ بنَ أنسٍ قال: المرادُ بهذه الآية اليهودُ؛ اختلفوا بعد مَوْتِ موسى، وبعد مُضِيِّ ثلاثة قرون، وقيل: الآيةُ توبيخٌ لنصارى نَجْرَانَ، وسُرْعَةُ الحسَاب: يحتمل أنْ يراد بها: مَجِيءُ القيامةِ والحِسَابِ؛ إذ كل آت قريبٌ، ويحتمل أنْ يراد بسُرْعَةِ الحِسَابِ: أنَّ اللَّه تعالى بإِحاطته بكلِّ شَيْءٍ عِلْماً لا يحتاجُ إلى عَدٍّ ولا فكْرة؛ قاله مجاهد. وقوله تعالى: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتبعن...} الآية: الضميرُ في «حَاجُّوكَ» لليهودِ، ولنصارى نَجْرَانَ، والمعنى: إنْ جادَلُوك وتعنَّتوا بالأقاويلِ المزوَّرة والمغالطاتِ، فأسند إلى ما كُلِّفْتَ من الإِيمانِ، والتبليغِ، وعلى اللَّه نَصْرُكَ. وقوله: {وَجْهِيَ}: يحتمل أنْ يراد به المَقْصِدُ، أي: جعلتُ مقصدي للَّه، ويحتمل أنْ يراد به الذاتُ، أي: أَسْلَمْتُ شخْصي وَذاتِي للَّه، وأسلَمْتُ؛ في هذا الموضعِ بمعنى: دَفَعْتُ، وأمضَيْتُ، وليستْ بمعنى دَخَلْتُ في السِّلْم؛ لأنَّ تلك لا تتعدى، ومَنِ اتبعني: في موضع رفعٍ؛ عطْفاً على الضميرِ في «أَسْلَمْتُ»، والَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ، في هذا الموضعِ: يجمعُ اليهودَ والنصارى؛ باتفاق، والأميُّونَ: الذين لا يكتبون، وهم العَرَبُ في هذه الآيةِ، وقوله: {ءَأَسْلَمْتُمْ}: تقريرٌ في ضمنه الأمْرُ، وقال الزَّجَّاج: {ءَأَسْلَمْتُمْ}: تهدُّد، وهو حسن، و{البلاغ}: مَصْدَرُ بَلَغَ؛ بتخفيف عَيْنِ الفعل. وفي قوله تعالى: {والله بَصِيرٌ بالعباد} وعدٌ للمؤمنين، ووعيد للكافرين.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)} وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله...} الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ في اليهودِ والنصارى، وتعمُّ كلَّ من كان بهذه الحال، وفيها توبيخٌ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ «أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ قَتَلُوا ثَلاَثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا، فاجتمع مِنْ عُبَّادِهِمْ وأَحْبَارِهِمْ مِائَةٌ وعِشْرُونَ؛ لِيُغَيِّرُوا المُنْكَرَ، وَيُنْكِرُوا، فَقُتِلُوا جَمِيعاً، كُلُّ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وذَلِكَ معنى قَوْلِهِ تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس}»، و{حَبِطَتْ}: معناه: بَطَلَتْ. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله...} الآية: قال ابن عبَّاس: نزَلَتْ هذه الآيةُ بسبب أنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم دخَلَ بيْتَ المِدْرَاسِ على جماعةٍ من يَهُود، فدعاهمْ إِلى اللَّه تعالى، فقال له نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، والحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: على أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، فقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أَنا على مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم، فَقَالا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ، فَهِيَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَكُمْ، فَأَبَيَا عَلَيْهِ، وَنَزَلَتِ الآيةُ. قال * ع *: فالكتابُ؛ في قوله: {مِّنَ الكتاب}: اسمُ جنس، والكتابُ؛ في قوله: {إلى كتاب الله} هو التوراةُ، وقال قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ: هو القرآن، ورجَّح الطبريُّ الأولَ. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ}: الإشارة فيه إٍلى التولِّي والإِعراض، أي: إِنما تولَّوْا، وأعرضوا؛ لاغترارهم بأقوالهم، وافترائهم، ثم قال تعالى خطاباً لنبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأمته، على جهة التوقيفِ والتعجيب: فكيف حالُ هؤلاءِ المغترِّين بالأباطيل، إِذا حشروا يوم القيامة، واضمحلت تلك الزخارفُ والدعاوى، وجوَّزوا بما اكتسبوه مِنْ كفرهم، وأعمالهم القبيحة، قال ابن عطيَّة: والصحيحُ في يوم القيامةِ أنَّه يَوْمٌ؛ لأنَّ قبله ليلةٌ، وفيه شَمْسٌ، وقال النقَّاش: المراد باليَوْمِ الوقْتُ.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} وقوله تعالى: {قُلِ اللهم مالك الملك...} الآية: هو سبحانه وتعالى مالكُ الملكِ كلِّه مطلقاً في جميع أنواعه، وأشرفُ ملكٍ يؤتيه عباده سعادةُ الآخرة، رُوِيَ أنَّ الآية نزلَتْ بسبب أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشَّر أُمَّتَه؛ بفتح مُلْك فارس وغيره، فقالَتِ اليهودُ والمنافقُونَ: هَيْهَاتَ، وكذَّبوا بذلك. ومذهب البصريِّين أن الأصل في «اللَّهُمَّ»: يَا أَللَّهُ، فعوِّض من ياء النداءِ ميماً مشدَّدة. و {مالك}: نصْبٌ على النداء، وخص تعالى الخَيْر بالذكْر، وهو تعالى بيده كلُّ شيء؛ إِذ الآية في معنى دعاء ورغبة، فكأنَّ المعنى: بِيَدِكَ الخَيْرُ فأجزِلْ حظِّي منه، قال النوويُّ: ورُوِّينَا في كتاب «التِّرْمذيِّ» وغيره، عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب (رضي اللَّه عنه)؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَحْده لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ، وهو على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ "، ورواه الحاكمُ أبو عبد اللَّه في «المُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ»؛ من طرق كثيرةٍ، وزاد فيه في بعْضِ طرقه: " وبنى لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ " قال الحاكمُ: وفي البابِ، عن جابرٍ، وأبي هريرة، وبُرَيْدَة الأسلميِّ. اه من «الحلية». وقال ابن عبَّاس وغيره في معنى قوله تعالى: {تُولِجُ الليل فِي النهار...} الآية: إنه ما ينتقصُ من النهار، فيزيد في الليل، وما ينتقصُ من الليلِ، فيزيدُ في النَّهار دَأَباً كلَّ فَصْلٍ من السنة، وتحتملُ ألفاظُ الآية أنْ يدخل فيها تعاقُبُ الليلِ والنهارِ؛ كأن زوالَ أحدهما وُلُوجٌ في الآخر. واختلف في معنى قوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت...} الآيةَ: فقال الحسَنُ: معناهُ: يُخْرِجُ المؤمِنَ من الكافر، والكافِرَ من المؤمن، وروي نحْوَه، عن سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، وروى الزُّهْرِيُّ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لمَّا سَمِعَ نَغْمَةَ خَالِدَةَ بِنْتِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ " فأُخْبِرَ بِهَا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ "، وكَانَتِ امرأة صَالِحَةً، وكَانَ أَبُوهَا كَافِراً، والمرادُ على هذا: موتُ قلبِ الكافرِ، وحياةُ قَلْب المؤمن. وذهب جمهورٌ كثيرٌ إِلى أنَّ الحياة والمَوْتَ في الآية حقيقةٌ، لا أنها استعارةٌ، ثم اختلفوا في المُثُلِ التي فسَّروا بها. فقال ابن مسعود: هي النُّطْفة، تخْرُج من الرجُلِ، وهي ميتة، وهو حيٌّ، ويخرج الرجلُ منْها، وهي ميتة. وقال عكرمة: هو إِخراج الدَّجَاجة، وهي حية، مِن البَيْضَة، وهي ميتة، وإِخراج البيضة، وهي ميتة من الدَّجَاجة، وهي حية. وروى السُّدِّيُّ، عن أبي مالكٍ، قال: هي الحبَّة تَخْرُجُ من السنبلةِ، والسنبلةُ تخرجُ من الحبَّة، وكذلك النَّوَاة. وقوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ...} الآية: هذا النهْيُ عن الاِتخاذِ، إِنما هو عن إِظهار اللُّطْفِ للكفَّار، والميلِ إِليهم، فأما أنْ يتخذوا بالقَلْب، فلا يفعل ذلك مؤمن، ولفظ الآية عامٌّ في جميع الأعصار. واختلف في سَبَب نزولها، فقال ابنُ عَبَّاس في كَعْبِ بْنِ الأَشْرَف وغيره، قد بطنوا بنَفَرٍ من الأنصار، ليفتنُوهم عن دِينِهِمْ، فنزلَتْ في ذلك الآيةُ، وقال قومٌ: نزلَتْ في قصَّة حاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وكتابِه إلى أهْل مكَّة، والآيةُ عامَّة في جميع هذا. وقوله تعالى: {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ}: معناه: في شيءٍ: مَرْضِيٍّ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا "، ثم أباح سبحانه إِظهار اتخاذهم بشرط الاِتقاءِ، فأما إِبطانه، فلا يصحُّ أن يتصف به مؤمنٌ في حالٍ. وقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله...} إلى آخر الآية: وعيدٌ وتنبيهٌ ووعظٌ وتذكيرٌ بالآخرة. وقوله: {نَفْسَهُ}: نائبةٌ عن «إيَّاهُ»، وهذه مخاطبةٌ على معهود ما يفهمه البشَرُ والنَّفْسُ في مثْلِ هذا راجعٌ إِلى الذاتِ، وفي الكلامِ حذْفُ مضافٍ؛ لأن التحذير إِنما هو من عقابٍ وتنكيلٍ ونحوه، قال ابنُ عَبَّاس، والحسن: ويحذِّركم اللَّه عقابه. وقوله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ...} الآية: الضميرُ في «تُخْفُوا» هو للمؤمنين الذين نُهُوا عن الكافرين، والمعنى: إِنكم إِن أبطنتم الحرْصَ على إِظهار موالاتهم، فإِن اللَّه يعلم ذلك، وَيَكْرَهُهُ منكم.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} وقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً}، قال ابنُ هِشَامٍ في «المُغْنِي»: «يَوْم»: نصْبٌ بمحذوفٍ، تقديره: اذكُروا أو احذروا، ولا يصحُّ أنْ يكون ظرفًا ل «يحذِّركم»؛ كما زعم بعضُهم؛ لأن التحذير في الدنيا وَقعَ لا في الآخرة. اه. وقوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ}، يحتمل أنْ تكون «مَا» معطوفةً على «مَا» الأولى، فهي في موضعِ نَصْب، ويكون «تَوَدُّ» في موضعِ الحالِ، وإِليه ذهب الطبريُّ وغيره، ويحتملُ أنْ تكون «مَا» رُفِعَ بالاِبتدَاء، والخبر في قوله: «تَوَدُّ». وما بعده، والأَمَدُ: الغايةُ المحْدُودة من المكانِ أو الزَّمَان. وقوله تعالى: {والله رَءُوفٌ بالعباد} يحتمل أنْ يكون إشارةً إِلى أنَّ تحذيره رأْفَةٌ منه سبحانه بعباده، ويحتملُ أنْ يكونَ ابتداء إِعلام بهذه الصفَةِ، فمقتضى ذلك: التأنيسُ؛ لئلا يفرطَ الوعيدُ على نَفْس مؤمن، فسبحانه مَا أرحمه بعبادها. وعن مَنْصُورِ بْنِ عَمَّار؛ أنه قال: أعقلُ النَّاس مُحْسِنٌ خَائِفٌ، وأجْهَلُ النَّاسِ مُسِيءٌ آمنٌ، فلما سمع عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَان منْه هذا الكلامَ؛ بكى حتى بَلَّ ثيابه، ثم قال له: اتل عَلَيَّ، يا مَنْصُورُ، شَيْئاً منْ كتابِ اللَّهِ، فتلا عليه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً...} الآيَةَ، فَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ: قَتَلْتَنِي، يَا مَنْصُورُ، ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ. اه. وقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني...} الآية: قال الشيخُ العارفُ باللَّه ابْنُ أبي جَمْرَةَ (رضي اللَّه عنه): مِنْ علامةِ السعادةِ للشخْصِ: أنْ يكون مُعْتَنِياً بمعرفة السُّنَّة في جميعِ تصرُّفاته، والذي يكونُ كذلك هو دائمٌ في عبادة؛ في كلِّ حركاته وسكناته، وهذا هو طريق أهل الفَضْلِ؛ حتى حُكِيَ عن بعضهم؛ أنه لم يأكُلِ البطِّيخَ سنين؛ لَمَّا لَمْ يبلُغْه كيفيَّةُ السُّنَّة في أَكْله، وكيف لاَ، واللَّه سبحانه يَقُولُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} والاِتباعية الكاملةُ إِنما تصحُّ بأنْ تكون عامَّة في كلِّ الأشياء، يعني: إِلا ما خصَّصه به الدليلُ، جعلنا اللَّه من أهْلها في الدَّارَيْن. انتهى. قال * ع *: قال الحَسَنُ بْنُ أَبِي الحَسَنِ، وابنُ جُرَيْج: إِنَّ قوماً على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا، فنزلَتْ هذه الآيةُ، وقيل: أمر صلى الله عليه وسلم أنْ يقولَ هذا القولَ لنصارى نَجْرَان. قال * ع *: ويحتملُ أنْ تكون الآيةُ عامَّة لأهل الكتاب اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا يدَّعُون أنَّهم يحبُّون اللَّه، ويحبهم. قال عِيَاضٌ: اعلم أَنَّ مَنْ أَحبَّ شيئاً، آثره، وآثر موافقته، وإِلا لم يكن صادقاً في حُبِّه، وكان مدَّعياً، فالصادقُ في حبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مَنْ تظهر علاماتُ ذلك عليه، وأولُها الاِقتداءُ به، واتباع سنَّته، واتباع أقوالِهِ وأفعالِهِ، والتأدُّبُ بآدابه في عُسره ويُسْره؛ قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني. ..} الآية، قال عِيَاضٌ: رُويَ في الحديثِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " مَنِ استمسك بِحَدِيثِي، وَفَهِمَهُ وَحَفِظَهُ، جَاءَ مَعَ القُرْآنِ، وَمَنْ تَهَاوَنَ بالقُرْآنِ، وَحَدِيثِيَ، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ... " الحديثَ، وعن أبي هريرةَ (رضي اللَّه عنه)، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " المُسْتَمْسِكُ بسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي، لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ "، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: " عليكُمْ بالسبيلِ والسُّنَّةِ، فإِنه ما على الأرضِ مِنْ عَبْدٍ على السبيل والسُّنَّة، ذَكَر اللَّه في نَفْسِهِ، ففاضَتْ عيناه مِنْ خَشْية ربه، فيعذِّبه اللَّه أبداً، وما على الأرضِ مِنْ عبدٍ على السبيلِ والسُّنَّةِ، ذَكَرَ اللَّه في نَفْسه، فاقشعر جِلْدُهُ مِنْ خَشْية اللَّه، إلا كان مَثَلُهُ كَمَثَلِ شجرة، قَدْ يَبِسَ ورَقُهَا، فهي كَذَلِكَ؛ إِذ أصابتها ريحٌ شديدةٌ فتحاتَّ عنها ورقُها إِلاَّ حَطَّ اللَّه عنه خَطَايَاهُ؛ كما تَحَاتَّ عن الشجرة وَرَقُهَا " الحديث. قال عِيَاضٌ: ومن علامات محَبَّته صلى الله عليه وسلم: زُهْدُ مدَّعيها في الدُّنْيا، وإِيثاره الفَقْر، واتصافه به؛ ففي حديثِ أبي سَعِيدٍ: " إِنَّ الفَقْرَ إلى مَنْ يُحِبُّنِي مِنْكُمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ مِنْ أَعْلَى الوَادِي، أَوِ الجَبَل إلى أَسْفَلِهِ "، وفي حديثِ عبدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: " قال رجُلٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إٍنِّي أُحِبُّكَ، فَقَالَ: انظر مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لأُحِبُّكَ»؛ ثَلاَثَ مَرَّات؛ قَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي، فَأَعِدَّ لِلفَقْرِ تَجْفَافاً» "، ثم ذكر نَحْوَ حديثِ أبِي سَعِيدٍ بمعناه اه من «الشِّفَا». قال * ع *: والمحبَّةُ: إِرادةٌ يقترنُ بها إِقبالٌ من النَّفْس ومَيْلٌ بالمعتَقِدِ، وقد تكونُ الإِرادة المجرَّدة فيما يكره المريدُ، واللَّه تعالى يريدُ وقوع الكُفْر، ولا يحبُّه، ومحبَّة العَبْد للَّه تعالى يلزمُ عَنْها، ولا بدَّ أنْ يطيعه، ومحبَّةُ اللَّه تعالى أمارتُها للمتأمِّلِ أنْ يُرَى العَبْدُ مَهْدِيًّا مسدِّداً ذا قبولٍ في الأرض، فَلُطْفُ اللَّهِ تعالى بالعَبْدِ ورحمته إِيَّاه هي ثمرةُ محبَّته، وبهذا النظَر يفسَّر لفظُ المَحَبَّةِ؛ حيثُ وقعَتْ من كتاب اللَّه عَزَّ وجَلَّ.
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)} وقوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً...} الآية: لما مضى صدْرٌ مِنْ مُحَاجَّةِ نصارى نَجْرَانَ، والردُّ عليهم وبيانُ فسادِ ما هُمْ عليه، جاءَتْ هذه الآياتُ مُعْلِمَةً بصورةِ الأمر الذي قد ضَلُّوا فيه، ومُنْبِئَةً عن حقيقته، كيف كانَتْ، فبدأ تعالى بذكْرِ فضْل آدم ومَنْ ذُكِرَ بعده، ثم خَصَّ امرأة عِمْرَانَ بالذكْرِ؛ لأنَّ القصْدَ وصْفُ قصَّة القَوْم إِلى أنْ يبيِّن أمر عيسى (عليه السلام)، وكيف كان، وانصرف «نُوحٌ»، مع عُجْمَتِهِ وتعريفِهِ؛ لخفَّة الاِسم؛ كَهُودٍ وَلُوطٍ، قال الفَخْرُ هنا: اعلم أنَّ المخلوقاتِ على قسمَيْنِ: مكلَّفٍ، وغيْرِ مكلَّفٍ، واتفقوا على أنَّ المكلَّف أفْضَلُ من غير المكلَّفِ، واتفقوا على أنَّ أصنافَ المكلَّفين أربعةٌ: الملائكةُ، والإِنْسُ، والْجِنُّ، والشَّيَاطِين. * ت *: تأمَّلْه جَعَلَ الشياطين قسيماً للجِنِّ. اه. والآلُ؛ في اللغة: الأَهْلُ، والقَرَابَة، ويقال للأَتْبَاعِ، وأهل الطَّاعة: آل، والآلُ؛ في الآيةِ: يحتملُ الوجهَيْنِ، فَإِنْ أُريدَ بالآلِ: القَرَابَةُ، فالتقديرُ أنَّ اللَّهَ اصطفى هؤلاءِ على عَالِمِي زمانِهِمْ، أو على العَالَمِينَ جميعاً؛ بأنْ يقدَّر نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم من آل إِبراهيم، وإِن أُرِيدَ بالآلِ: الأَتْبَاعُ، فيستقيمُ دُخُول أمَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم في الآلِ؛ لأنها على ملَّةِ إِبراهيم. وقوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}، أي: متشابهينَ في الدِّين، والحالِ، وعِمْرَانُ هو رجلٌ من بني إِسرائيل، وامرأة عِمْرَانَ اسمها حَنَّةُ، ومعنى: {نَذَرْتُ}: جعلْتُ لكَ ما في بطْنِي محرَّراً، أي: حَبِيساً على خدْمةِ بَيْتِكَ، محرَّراً من كلِّ خدمةً وشُغْلٍ من أشغال الدنيا، والبَيْتُ الذي نَذَرَتْهُ له هو بَيْتُ المَقْدِسِ، {فَتَقَبَّلْ مِنِّي}، أي: ارض عَنِّي في ذلِكَ، واجعله فعلاً مقبولاً مُجَازًى به، و{السميع}: إِشارةٌ إِلى دعائها، و{العليم}: إِشارةٌ إلى نيَّتها.
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)} وقوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}: الوضْعُ: الولادةُ، وقولها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أنثى}: لفظ خبر في ضِمْنِهِ التحسُّر والتلهُّف، وبيَّن اللَّه ذلك بقوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}، وقولها: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى}، تريد في امتناع نَذْرها؛ إِذ الأنثى تحيضُ ولا تصلُحُ لِصُحْبَة الرُّهْبَان، قاله قتادة وغيره، وبدأَتْ بذكْرِ الأَهَمِّ في نفْسها، وإِلاَّ فسياق قصَّتها يقتضي أنْ تقول: وليس الأنثى كالذَّكَر، وفي قولها: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}: سنةُ تسميةِ الأطفالِ قُرْبَ الولادةِ؛ ونحوُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ، فَسَمَّيْتُهُ باسم أَبِي إِبْرَاهِيمَ "، وباقي الآيةِ إعاذةٌ، قال النووي: ورُوِّينَا فِي سُنَن أبِي دَاوُدَ؛ بإسناد جيِّدٍ، عن أبي الدرداء، عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فأحْسِنُوا أسْمَاءَكُمْ " وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن ابن عُمَرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللَّهِ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ " وفي سنن أبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيّ، وغيرِهِمَا، عن أبِي وَهْب الجُشَمِيِّ، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تعالى عبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ ومُرَّة " اه. وفي الحديثِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مِنْ روايةِ أبي هُرَيْرة، قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ، وابنها؛ فَإِنَّ أُمَّهَا قَالَتْ حِينَ وَضَعْتَها: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم}، فَضُرِبَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ، فَطَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي الحَجابِ "، وَقَدِ اختلفت ألفاظُ هذا الحديثِ، والمعنى واحد؛ كما ذكرته، قال النوويُّ: بَاب مَا يُقَالُ عنْد الولادةِ: رُوِّينَا في كتاب ابْنِ السُّنِّيِّ، عن فاطمة (رضي اللَّه عنها)؛ " أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لمَّا دَنَا ولاَدَهَا، أَمَر أُمَّ سَلْمَة، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ؛ أنْ تَأْتِيَاهَا، فَتَقْرَآ عِنْدَهَا آيَةَ الكُرْسيِّ، و{إِنَّ رَبَّكُمُ الله...} إلى آخر الآيَةِ، وتُعَوِّذَانِهَا بِالمُعَوِّذَتَيْنِ«. انتهى. وقوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}: إخبار منه سبحانه لمحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ بأنه رَضِيَ مَرْيَمَ لخدمة المَسْجد؛ كما نذَرَتْ أُمُّهَا وسنى لها الأمَلَ في ذلك. وقوله سبحانه: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}: عبارةٌ عن حُسْن النشأة في خِلْقَةٍ وخُلُقٍ. * ص *: {بِقَبُولٍ} مصدر على غير الصَّدْرِ، والجاري على: تَقَبَّلَ تَقَبُّلاً، وعلى قَبِلَ قَبُولاً، و{نَبَاتاً}: مصدرٌ منصوبٌ ب «أَنْبَتَهَا»؛ على غير الصَّدْر. انتهى. وقوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} معناه: ضمَّها إِلى إِنفاقه وحِضْنِهِ، والكَافِلُ: هو المربِّي، قال السُّدِّيُّ وغيره: إِنَّ زكريَّا كان زَوْجَ أختها؛ وَيَعْضُدُ هذا القوْلَ قولُهُ صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى: «ابنا الخَالَةِ»، والذي عليه النَّاس: أنَّ زكريَّا إنما كفَّلها بالاِستهامِ؛ لتشاحِّهم حينئذٍ فيمَنْ يكفُلُ المحرَّر. وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا}: المِحْرَابُ: المَبْنَى الحَسَنُ، ومِحْرَابُ القَصْر: أشرف ما فيه؛ ولذلك قيل لأَشْرَفِ مَا في المصلى؛ وهو موقِفُ الإِمامِ: مِحْرَاب، ومعنى {رِزْقاً}، أيْ: طعاماً يتعذَّى به، لم يَعْهَدْهُ، ولا عَرفَ كيف جُلِبَ إليها، قال مجاهد وغيره: كان يجدُ عندها فاكهةَ الشِّتاءِ في الصَّيْفِ، وفاكهةَ الصَّيْفِ في الشتاءِ، ونحوه عن ابن عَبَّاس إِلاَّ أنه قال: ثِمَار الجَنَّة، وقوله: {أنى}: معناه: كَيْفَ، ومِنْ أَيْنَ، وقولها: {مِنْ عِندِ الله} دليلٌ على أنه ليس مِنْ جَلْب بَشَرٍ، قال الزَّجَّاج. وهذا من الآية الَّتي قال اللَّه تعالى: {وجعلناها وابنها ءَايَةً للعالمين} [الأنبياء: 91] وقولها: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: تقرير لكون ذلك الرزْقِ من عند اللَّه، وذهب الطَّبَرِيُّ إِلى أنَّ ذلك ليس من قولِ مرْيَمَ، وأنَّه خبر من اللَّه تعالى لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، واللَّه سبحانه لا تنتقصُ خزائنه، فليس يَحْسُبُ ما خرج منها، وقد يُعَبَّر بهذه العبارة عن المُكْثِرِينَ مِنَ النَّاسِ؛ أنهم ينفقون بغَيْرِ حِسَابٍ، وذلك مجازٌ وتشبيهٌ، والحقيقةُ هي فيما ينتفقُ من خزائنِ اللَّه سبحانه، قال الشيخُ ابْنُ أبي جَمْرَةَ (رضي اللَّه عنه)، وقد قال العلماءُ في معنى قوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: إِنه الفتوحُ، إِذا كان على وجهه. اه، ذكر هذا عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ دُعِيْتُ إلى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ، لأَجَبْتُ». وقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} هُنَالِكَ؛ في كلامِ العربِ: إِشارةٌ إِلى مكانٍ أو زمانٍ فيه بُعْدٌ، ومعنى هذه الآية: إِنَّ في الوقْتِ الذي رأى زكريَّاء رزْقَ اللَّهِ لمَرْيَمَ ومكانَتَها مِنَ اللَّه، وفَكَّر في أنَّها جاءَتْ أُمَّها بَعْدَ أَنْ أَسَنَّتْ، وأن اللَّه تعالى تقَبَّلها، وجعَلَها من الصالحاتِ، تحرَّك أملُهُ لطَلَبِ الولدِ، وقَوِيَ رجاؤه، وذلك منْه على حالِ سِنٍّ وَوَهْنِ عَظْمٍ، واشتعال شَيْب، فدعا ربَّه أنْ يَهَبَ له ذريَّةً طيِّبَةً يرثه، والذُّرِّيَّةُ: اسم جنسٍ، يقع على واحد فصاعدًا؛ كما أن الوَلَدَ: اسمُ جنسٍ كذلك، وطَيِّبة: معناه: سَلِيمَة في الخَلْق والدِّين، تَقِيَّة، ثم قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الملائكة} [آل عمران: 39]، وتُرِكَ محذوفٌ كثيرٌ دَلَّ علَيْه ما ذُكِرَ، تقديره: فَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وبَعَثَ المَلَكَ، أو الملائكة، فنادتْهُ، وذكر جمهورُ المفسِّرين؛ أنَّ المنادِي إِنما هو جبريلُ، وقال قومٌ: بل نادته ملائكةٌ كثيرةٌ؛ حسْبما تقتضيه ألفاظ الآيةِ، قلت: وهذا هو الظاهرُ، ولا يعدل عنه إِلا أن يصحَّ في ذلك حديثٌ عنه صلى الله عليه وسلم، فيتَّبَع.
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)} وقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ} عبارةٌ تستعملُ في التبشيرِ، وفي ما ينبغي أنْ يسرع به، وينهى إِلى نفس السامعِ ليسرَّ به، فلم يكُنْ هذا في الملائكةِ إِخباراً على عرف الوحْيِ، بل نداء كما نادَى الرَّجُلُ الأنصاريُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ أعلى الجَبَلِ. وقوله تعالى: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب}، يعني: ب «المِحْرَابِ»؛ في هذا الموضعِ: موقفَ الإِمامِ من المسجدِ، ويَحْيَى: اسم سمَّاه اللَّه به قَبْلَ أنْ يولَدَ، و{مُصَدِّقًا} نصْبٌ على الحال، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الكلمةُ هنا يرادُ بها عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. قال * ع *: وسَمَّى اللَّه تعالى عيسى كلمةً، إِذْ صدر عن كَلِمةٍ منه تعالى، وهي «كُنْ»، لا بسبب إِنسان. وقوله تعالى: {وَسَيِّداً}: قال قتادة: أيْ: واللَّهِ سَيِّدٌ في الحِلْمِ والعبادةِ والوَرَعِ. قال * ع *: مَنْ فَسَّر السؤدد بالحِلْمِ، فقَدْ أحرز أكْثَر معنى السؤددِ، ومَنْ جَرَّد تفسيره بالعِلْمِ والتقى ونحوه، فلم يفسِّره بحَسَب كلامِ العربِ، وقد تحصَّل العلْم ليحيى عليه السلام بقوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله}، وتحصَّل التقى بباقِي الآية، وخصَّه اللَّه بذكْرِ السؤددِ الذي هو الاعتمال في رِضَا النَّاس على أشْرَفِ الوجوهِ، دون أنْ يوقعِ في باطِل هذا اللفظ يعمُّ السؤددَ، وتفصيلُهُ أن يقالَ: بذل الندى، وهذا هو الكَرَمُ، وكَفُّ الأذى، وهنا هي العفةُ بالفَرْج، واليَدِ، وَاللِّسان، واحتمال العظائم، وهنا هو الحِلْمُ وغيرُهُ مِنْ تحمُّلِ الغراماتِ والإِنقاذِ من الهَلَكَاتِ، وجَبْرِ الكَسِيرِ، والإفضالِ على المُسْتَرْفد، وانظر قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلاَ فَخْرَ "، وذكر حديثَ الشفاعةِ في إِطلاق الموقِفِ، وذلك منه اعتمال في رِضَا ولد آدم، ثم: قال * ع *: أما أنه يحسن بالتقيِّ العَالِمِ أنْ يأخُذَ من السؤدد بكلِّ ما لا يخلُّ بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى عليه السلام. وقوله تعالى: {وَحَصُوراً} أصل هذه اللفظة: الحَبْسُ والمَنْعُ، ومنه: حصر العدو. قال * ع *: وأجمعَ مَنْ يعتدُّ بقوله من المفسِّرين على أنَّ هذه الصفة ليحيى عليه السلام إِنما هي الاِمتناعُ من وطْءِ النِّسَاءِ إِلاَّ ما حكى مكِّيٌّ من قول من قَالَ: إِنه الحُصُور عن الذنوب، وذهب بَعْضُ العلماءِ إلى أنَّ حَصْرَهُ كان بأنه يُمْسِكُ نفسه؛ تُقًى وجَلَداً في طاعة اللَّه سبحانه، وكانتْ به القُدْرة على جِمَاعِ النساءِ، قالوا: وهذه أمْدَحُ له، قال الإِمام الفَخْر: وهذا القولُ هو اختيار المحقِّقين؛ أنه لا يأتِي النِّساء، لا للعَجْز، بل للعِصْمَةِ والزُّهْد. قلْتُ: قال عِيَاضٌ: اعلم أنَّ ثناء اللَّه تعالى على يحيى عليه السلام؛ بأنه حَصُورٌ، ليس كما قال بعضْهم: إِنه كان هَيُوباً أو لا ذَكَرَ لَهُ، بل قد أنكر هذا حُذَّاق المفسِّرِين، ونُقَّادُ العلماء، وقالوا: هذه نقيصةٌ وعَيْب، ولا تليقُ بالأنبياء عليهم السلام، وإِنما معناه: معصومٌ من الذُّنُوب، أي: لا يأتيها؛ كأنه حُصِرَ عنها، وقيل: مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل: ليستْ له شهوةٌ في النساءِ؛ كفَايَةً من اللَّه له؛ لكونها مَشْغَلَةً في كثير من الأوقات، حاطَّة إِلى الدنيا، ثم هي؛ في حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْها، وقام بالواجب فيها، ولم تَشْغَلْهُ عن ربِّهِ درجةٌ عُلْيَا، وهي درجةُ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، أيْ: وسائرِ النبيِّين. اه من «الشِّفَا». وباقي الآية بيِّن. ورُوِيَ مِنْ صلاحه- عليه السلام-؛ أنَّهُ كان يعيشُ من العُشْب، وأنه كان كثير البُكَاء من خَشْية اللَّه؛ حتى اتخذ الدمْعُ في وَجْهه أخدودًا. * ص *: و{مِّنَ الصالحين}، أي: من أصلاب الأنبياء، أو صالحاً من الصَّالحين، فيكون صفةً لموصوفٍ محذوفٍ. اه. قلت: والثاني أحْسَنُ، والأولُ تحصيلُ الحاصلِ، فتأمَّله. وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غلام وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر...} الآية: ذهب الطَّبَرِيُّ وغيره إِلي أنَّ زكريَّا لَمَّا رأى حال نَفْسه، وحال امرأته، وأنها ليستْ بحالِ نسلٍ، سأل عن الوَجْه الذي به يكونُ الغلامُ، أتبدلُ المرأةُ خِلْقَتَهَا أمْ كيْفَ يكُون؟ قال * ع *: وهذا تأويلٌ حسن لائقٌ بزكريَّا عليه السلام. وَ {أنى}: معناها: كَيْفَ، ومِنْ أَيْنَ، وحسن في الآية {بَلَغَنِي الكبر}؛ من حيثُ هي عبارةُ وَاهِنٍ منفعلٍ. وقوله: {كذلك}، أي: كهذه القُدْرةِ المستغْرَبَةِ قُدْرَةُ اللَّهِ، ويحتمل أن تكون الإِشارة بذلك إلى حال زكريَّا، وحالِ امرأتِهِ؛ كأنه قال: رَبِّ، على أيِّ وجه يكونُ لنا غلامٌ، ونحن بحالِ كذا، فقال له: كما أَنْتُمَا يكونُ لكُمَا الغلامُ، والكلامُ تامٌّ؛ على هذا التأويل في قوله: {كذلك}. وقوله: {الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}: جملةٌ مبيّنة مقرِّرة في النفْسِ وقوعَ هذا الأمْر المستغْرَبِ. وقوله: {قَالَ رَبِّ اجعل لِّي ءَايَةً}، أي: علامة، قالَتْ فرقة من المفسِّرين لم يكنْ هذا من زكريَّا على جهة الشكِّ، وإِنما سأل علامةً على وَقْت الحَمْلِ. وقوله تعالى: {ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس...} الآية: قال الطبريُّ وغيره: لم يكُنْ منعه الكلامَ لآفة، ولكنه مُنِعَ محاورةَ النَّاس، وكان يَقْدِرُ على ذكر اللَّه، ثم استثنى الرَّمْز، وهو استثناءٌ مُنْقَطِعٌ، والكلام المرادُ في الآية: إِنما هو النطْقُ باللِّسَان، لا الإِعلام بما في النَّفْس، والرَّمْزُ في اللغة: حركةٌ تُعْلِمُ بما في نَفْسِ الرَّامِزِ؛ كانت الحركةُ من عَيْنٍ، أو حاجبٍ، أو شَفَةٍ، أو يدٍ، أو عُودٍ، أو غيرِ ذلك، وقد قيل للكَلاَمِ المحرَّف عن ظاهره: رُمُوز. وأَمَرَهُ تعالى بالذِّكْر لربه كثيراً؛ لأنه لم يَحُلْ بينه وبين ذكْر اللَّه، وهذا قاضٍ بأنه لم تدركْهُ آفَةٌ ولا علَّة في لسانِهِ، قال محمَّد بن كَعْبٍ القُرَظِيّ: لو كان اللَّه رخَّصَ لأحدٍ في ترك الذِّكْر، لرخَّص لزكريَّاء عليه السلام؛ حيث قال: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}، لكنه قال له: {اذكر رَّبَّكَ كَثِيراً} قال الإِمام الفَخْر: وفي الآية تأويلان: أحدهما: أنَّ اللَّه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقدره علَى الذِّكْر والتَّسْبيحِ والتهليلِ؛ ليكون في تلك المدَّة مشتغلاً بذكْرِ اللَّه وطاعته؛ شُكْراً للَّه على هذه النِّعْمة، ثم أعلم أنَّ هذه الواقعة كانَتْ مشتملةً علَى المُعْجِزِ من وجوه: أحدها: أنَّ قدرته على الذكْرِ والتَّسبيحِ، وعَجْزَه عن التكلُّم بأمور الدنْيَا من المُعْجِزَات. وثانيها: أنَّ حصولَ ذلك العَجْز مع صِحَّة البِيْنَةِ من المعجزاتِ. وثالثها: أن إِخباره بأنه متى حصلَتْ تلْكَ الحالةُ، فقَدْ حصل الولد، ثم إِنَّ الأمر خرج على وفَقْ هذا الخبرِ يكون أيضاً من المعجزات. والتأويل الثَّاني: أن المراد منه الذكْر بالقَلْب؛ وذلك لأن المستغْرِقِينَ في بِحَارِ معرفة اللَّه تعالى عادتهم في أوَّل الأمر أنْ يواظِبُوا على الذكْرِ اللِّسَانِيِّ مدةً، فإِذا امتلأ القَلْبُ من نُور ذِكْرِ اللَّه تعالى، سكَتُوا باللِّسَان، وبقي الذِّكْرُ في القَلْب؛ ولذلك قالوا: «مَنْ عَرَفَ اللَّه، كَلَّ لِسَانُهُ»، فكان زكريَّاء عليه السلام أمر بالسُّكُوت باللِّسَان واستحضار معانِي الذكْرِ والمعرفةِ، واستدامتها بالقَلْب. اه. وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ}: معناه: قلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وقال قومٌ: معناه صَلِّ، والأول أصوبُ؛ لأنه يناسب الذكْرَ، ويستغربُ مع امتناع الكلام مع النَّاسِ، والعَشِيُّ، في اللغة: من زوالِ الشَّمْسِ إِلى مغيبها، والإِبْكَارُ: مصدرُ أَبْكَرَ الرَّجُلُ، إِذا بادر أمْرَهُ من لَدُنْ طلوع الفجر إِلى طلوع الشمْسِ، وتتمادَى البُكْرَة شَيْئاً بعد طلوع الشمس، يقال: أَبْكَرَ الرجُلُ وَبَكَّرَ.
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة}: العامل في «إِذْ»: «اذكر»؛ لأن هذه الآياتِ كلَّها إِنما هي إِخبارات بغَيْبٍ تدلُّ على نبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، مَقْصِدُ ذِكْرها هو الأظهر في حِفْظِ رَوْنَقِ الكلام. و {اصطفاك}: معناه: تَخَيَّرَكِ لطاعته، و{طَهَّرَكِ}: معناه: من كُلِّ ما يَصِمُ النساء في خَلْقٍ، أو خُلُقٍ، أو دِينٍ؛ قاله مجاهد وغيره، وقولُ الزَّجَّاجِ: قد جاء في التفْسير؛ أنَّ معناه: طَهَّرك من الحَيْض والنفاسِ يحتاج إِلى سند قويٍّ، وما أحفظُه، و{العالمين} يحتملُ عَالَمَ زَمانها. قال * ع *: وسائغ أنْ يتأوَّل عموم الاِصطفاء على العَالَمِينَ، وقد قال بعضُ الناس: إِن مريم نَبِيَّةٌ من أَجْلِ مخاطَبَةِ الملائكةِ لها، وجمهورُ النَّاسِ على أنها لم تُنَبَّإِ امرأة، و{اقنتي} معناه: اعبدي، وأَطِيعِي؛ قاله الحَسَن وغيره، ويحتمل أنْ يكون معناه: أطِيلِي القيامَ في الصَّلاة، وهذا هو قولُ الجمهورِ، وهو المناسبُ في المعنى لقوله: {واسجدي}، وروى مجاهدٌ؛ أنها لما خوطِبَتْ بهذا، قامَتْ حتى وَرِمَتْ قَدَماها، وروى الأوزاعيُّ: حتى سَالَ الدَّمُ والقَيْحُ من قَدَمَيْهَا، وروي أنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ، تنزلُ على رَأْسِهَا تظُنُّها جَمَاداً. واختلف المتأوِّلون، لِمَ قُدِّمَ السُّجودُ على الركوع. فقال قوم: كان ذلك في شرِعِهِمْ، والقول عنْدي في ذلك: أنَّ مريم أُمِرَتْ بفَصْلَيْنِ ومَعْلَمَيْنِ مِن مَعَالِمِ الصلاة، وهما طُولُ القيامِ، والسُّجُودُ، وخُصَّا بالذكْرِ لشرفهما، وهذانِ يَخْتَصَّان بصلاتها مفْرَدةً وإِلاَّ فمن يصلِّي وراء إِمامٍ، فليس يقال له: أَطِلْ قِيَامَكَ، ثم أمرتْ بعدُ بالصَّلاة في الجماعةِ، فقيل لها: {واركعي مَعَ الراكعين}، وقُصِدَ هنا مَعْلَمٌ آخر من مَعَالِمِ الصلاةِ لئلاَّ يتكرَّر اللفظ، ولم يرد في الآية الركوع والسجود الذي هو منتظمٌ في ركْعَةٍ واحدةٍ، واللَّه أعلم. وقال * ص *: قوله: {واركعي}، الواو: لا ترتّب، فلا يسأل، لِمَ قُدِّم السجود، إِلا من جهة علْمِ البيانِ، وجوابه أنه قدّم؛ لأنه أقربُ ما يكونُ العَبْدُ فيه مِنْ ربِّه، فكان أشْرَفَ، وقيل: كان مقدَّماً في شرعهم. اه.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)} وقوله تعالى: {ذلك مِنْ أَنبَاءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ...} الآية: هذه المخاطبةُ لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، والإِشارة بذلك إِلى ما تقدَّم ذكْرُهُ من القصصِ، والأنباء: الأخبار، والغَيْبُ: ما غَاب عن مدارك الإِنسان، ونُوحِيهِ: معناه: نُلْقِيهِ في نَفْسِك في خفاءٍ، وَحَدُّ الوَحْيِِ: إِلقاء المعنى في النَّفْس في خفاءٍ، فمنه بالمَلَكِ، ومنه بالإِلهام، ومنه بالإِشارة، ومنه بالكِتَابِ. وفي هذه الآية بيانٌ لنبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ إِذ جاءهم بغُيُوب لا يعلمها إِلا مَنْ شاهدها، وهو لَمْ يَكُنْ لديهم، أوْ مَنْ قرأها في كتبهم، وهو صلى الله عليه وسلم أُمِّيٌّ من قومٍ أُمِّيِّينَ، أوْ: من أعلمه اللَّه بها، وهو ذاك صلى الله عليه وسلم، و{لَدَيْهِمْ}: معناه: عندهم ومَعَهُمْ. وقوله: {إِذْ يُلْقُون أقلامهم...} الآية: جمهورُ العلماء على أنه استهام لأخذِها والمنافَسَةِ فيها، فروي أنهم أَلْقَوْا أقلامَهُمُ الَّتي كانوا يَكْتُبُونَ بها التوراةَ في النَّهْرِ، فروي أنَّ قَلَمَ زكريَّا صاعد الجرية، ومضَتْ أقلام الآخَرِينَ، وقيل غير هذا، قُلْتُ: ولفظ ابْنِ العَرَبِيِّ في «الأحكام» قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَجَرَتِ الأَقْلاَمُ وَعَلاَ قَلَمُ زَكَرِيَّا " اه، وإِذا ثبت الحديثُ، فلا نظر لأحدٍ معه. و {يَخْتَصِمُونَ}: معناه: يتراجَعُونَ القَوْلَ الجهيرَ في أمْرها. وفي هذه الآية استعمال القُرْعَةِ، والقُرعَةُ سُنَّة، " وكان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، إِذَا سَافَرَ، أقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ " وقال صلى الله عليه وسلم: " لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ، لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ ". واختلف أيضاً، هل الملائكةُ هنا عبارةٌ عن جِبْرِيلَ وحْده أوْ عن جماعةٍ من الملائكة؟ و {وَجِيهاً}: نصبٌ على الحال، وهو من الوَجْهِ، أيْ: له وجْهٌ ومنزلةٌ عند اللَّه، وقال البخاريُّ: وجيهاً: شَريفاً اه. {وَمِنَ المقربين}: معناه: مِنَ اللَّه تعالى، وكلامه في المَهْدِ: آيةٌ دالَّة على براءة أُمِّه، وأَخبر تعالى عنه أنَّه أيضًا يكلِّم الناس كَهْلاً، وفائدةُ ذلك أنَّه إِخبار لها بحَيَاتِهِ إلى سِنِّ الكهولة، قال جمهورُ النَّاس: الكَهْلُ الذي بَلَغَ سِنَّ الكهولةِ، وقال مجاهد: الكَهْلُ: الحليمُ؛ قال * ع *: وهذا تفسيرٌ للكُهُولة بعَرضٍ مصاحِبٍ لها في الأغلب، واختلف النَّاسُ في حَدِّ الكهولة، فقيل: الكَهْلُ ابن أَرْبَعِينَ، وقيل: ابنُ خَمْسَةٍ وثلاثينَ، وقيل: ابن ثلاثةٍ وثلاثين، وقيل: ابن اثنين وثلاثينَ، هذا حدُّ أَوَّلِهَا، وأمَّا آخرها، فاثنان وخمسونَ، ثم يدْخُلُ سنُّ الشيخوخة. وقولُ مَرْيَمَ: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}: استفهام عن جهة حَمْلها، واستغراب للحَمْلِ على بَكَارتها، و«يَمْسَسْ»: معناه: يَطَأ ويُجَامِع. * ص *: والبَشَر يُطْلَقُ على الواحِدِ والجمع. اه. والكلامُ في قولِهِ: {كذلك} كالكلامِ في أمر زكريَّا، وجاءَتِ العبارةُ في أمر زكريَّا: «يَفْعَلُ»، وجاءت هنا: «يَخْلُقُ»؛ من حيث إِنَّ أمر زكريَّا داخلٌ في الإِمكان الذي يتعارَفُ، وإنْ قَلَّ، وقصَّة مريم لا تتعارَفُ البتَّة، فلفظ الخَلْق أقربُ إِلى الاِختراعِ، وأدَلُّ عليه. وقوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْراً}: معناه: إِذا أراد إِيجاده، والأمر واحدُ الأمور، وهو مَصْدَرٌ سُمِّيَ به، والضميرُ في «لَهُ» عائدٌ على الأمْر والقول؛ على جهة المخاطبة. وقوله: {كُنْ}: خطابٌ للمَقْضِيِّ. وقوله: {فَيَكُونُ}؛ بالرفع: خطابٌ للمُخْبَر. وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب...} الآية: الكِتَابُ هنا: هو الخَطُّ باليد، وهو مصدر: كَتَبَ يَكْتُبُ؛ قاله جمهور المفسِّرين.
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} وقوله: {وَرَسُولاً إلى بَنِي إسراءيل}، أي: ويجعله رسولاً، وكانت رسالةُ عيسى عليه السلام إلى بني إِسرائيل مبيِّناً حُكْمَ التوراة، ونَادِباً إِلى العَمَل بها، ومُحَلِّلاً أشياءَ ممَّا حرم فيها؛ كَالثُّرُوبِ ولُحُومِ الإِبل، وأشياء من الحِيتَانِ والطَّيْر، ومن أول القول لِمَرْيم إِلى قوله: «إِسرائيل»: خطابٌ لمريم، ومن قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} إِلى قوله: {مُّسْتَقِيمٌ}: يحتملُ أنْ يكون خطاباً لمريم؛ على معنى: يَكُونُ من قوله لِبَنِي إِسرائيل كَيْتَ وَكَيْتَ، ويكون في آخر الكلام محذوفٌ يدُلُّ عليه الظاهرُ، تقديره: فجاء عيسى بني إِسرائيل رسولاً، فقال لهم ما تقدَّم ذكْرُهُ، ويحتملُ أنْ يكون المحذوفُ مقدَّراً في صَدْرِ الكلامِ بعد قوله: {إلى بَنِي إسراءيل}، فيكون تقديره: فجاء عيسى؛ كما بَشَّر اللَّهُ رسولاً إلى بني إِسرائيل؛ بأنِّي قد جئتكم، ويكون قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} ليس بخِطَابٍ لِمَرْيَمَ، والأول أظهر. وقوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين...} الآية: قرأ نافعٌ: «إِنِّي أَخْلُقُ» بكسر الهمزة، وقرأ باقي السَّبْعة بفَتْحها، فوجه قراءةِ نافعٍ إِمَّا القَطْعُ والاستئناف، وإِما أنه فسَّر الآية بقوله: «إِنِّي»، كما فسر المَثَلَ في قوله: {كَمَثَلِ ءادَمَ} [آل عمران: 59] ووجْه قراءة الباقين البَدَلُ من «آية»؛ كأنه قال: وجئْتكم بِأَنِّي أخلْقُ، و{أَخْلُقُ}: معناه: أقدِّر وأهيئ بيَدِي. * ص *: {كَهَيْئَةِ}: الهيئةُ: الشَّكْل والصُّورة، وهو مصدر: هَاءَ الشَّيْءُ يَهِيئ هَيْئَةً، وَهَيَّأَ، إِذا ترتَّب واستقر على حالٍ مَّا، وتعدِّيه بالتضْعيف، قال تعالى: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا} [الكهف: 16] اه. وقرأ نافعٌ وحْده: «فَيَكُونُ طَائِراً»؛ بالإِفراد؛ أي: يكون طائراً من الطيورِ، وقرأ الباقونَ: «فَيَكُونُ طَيْراً»؛ بالجمع؛ وكذلك في «سورة المائدة» والطير: اسمُ جمعٍ، وليس من أبنيةِ الجُمُوع، وإِنما البنَاءُ في جَمْعِ طائرٍ: أَطْيارٌ، وجَمْعُ الجَمْعِ: طُيُورٌ. وقوله: {فَأَنفُخُ فِيهِ}، ذكَّر الضميرَ؛ لأنه يحتملُ أنْ يعود على الطِّينِ المهيِّئ، ويحتملُ أنْ يريد: فأنفُخُ في المذكور، وأنَّثَ الضميرَ في «سورة المائدة»؛ لأنه يحتمل أنْ يعود على الهيئة، أوْ على تأنيثِ لَفْظ الجَمَاعة، وكَوْنُ عيسى يخلُقُ بيده، وينفُخُ بِفِيهِ، إِنما هو ليبيِّن تلبُّسه بالمعجزةِ، وأنها جاءَتْ من قِبَلِهِ، وأمَّا الإِيجاد من العَدَمِ، وخَلْقُ الحياةِ في ذلك الطِّينِ، فمِنَ اللَّهِ تعالى وحده، لا شريك له. ورُوِيَ في قَصَصٍ هذه الآية، أنَّ عيسى عليه السلام كانَ يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَيُّ الطَّيْرِ أَشَدُّ خِلْقَةً، وَأَصْعَبُ أنْ يحكى؟ فيَقُولُونَ: الخُفَّاشُ؛ لأَنَّهُ طَائِرٌ لاَ رِيشَ لَهُ، فَكَانَ يَصْنَعُ مِنَ الطِّينِ خَفَافِيشَ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهَا فَتَطِيرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَمُعَايَنَتِهِمْ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: «هَذَا سَاحِرٌ» {أُبْرِئ} معناه: أزيلُ المَرَض، و{الأكمه}: هو الَّذِي يُولَدُ أعمى مضمومَ العَيْنَيْنِ؛ قاله ابن عَبَّاسٍ وقتادة، قال * ع *: والأَكْمَهُ؛ في اللغة: هو الأعمى، وقد كان عيسى عليه السلام يبرئ بدعائِهِ، ومَسْحِ يدِهِ على كل عاهة، ولكنَّ الاحتجاج على بني إِسرائيل في معنى النبوَّة لا يقومُ إِلاَّ بالإِبراء من العِلَلِ التي لا يُبْرِئ منها طبيبٌ بوجْهٍ، ورُوِيَ في إِحيائه الموتى؛ أنه كان يَضْرِبُ بعَصَاهُ الميِّتَ، أو القَبْرَ، أو الجُمْجُمَةَ؛ فَيَحْيَى الإِنسانُ، ويكلِّمه بإِذن اللَّه، وفي قصص الإِحياء أحاديثُ كثيرةٌ لا يوقَفُ على صحَّتها، وآياتُ عيسى عليه السلام إِنما تَجْرِي فيما يُعَارِضُ الطِّبَّ؛ لأن علْمَ الطِّبِّ كان شَرَفَ النَّاس في ذلك الزَّمَان، وشُغْلَهُمْ، وحينئذ أُثِيرَتْ فيه العجائبُ، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائبَ لا تقتضيها الأمزجةُ وأصولُ الطِّبِّ؛ وذلك إِحياءُ الموتى، وإِبراء الأكْمَهِ والأَبْرَصِ، عَلِمَتِ الأطبَّاء؛ أن هذه القوَّة من عند اللَّه، وهذا كأمْرِ السَّحَرَةِ مع موسى، والفُصَحَاءِ مع نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، ووقع في التواريخِ المُتَرْجَمَة عن الأطبَّاء؛ أنَّ جَالِينُوسَ كانَ في زمنِ عيسى عليه السلام، وأنه رحَل إِلَيْهِ مِنْ رُومِيَّةَ إِلَى الشَّامِ، فَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ ذلك. وقوله: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} قال مجاهدٌ وغيره: كان عيسى عليه السلام مِنْ لَدُنْ طفوليَّته، وهو في الكُتَّابِ، يخبرُ الصِّبْيان بما يفعل آباؤهم في منازِلِهِمْ، وبما يُؤْكَلُ من الطعامِ، ويُدَّخَرُ، وكذلك إلى أنْ نُبِّئى، فكان يقول لكلِّ من سأله عن هذا المعنى: أَكَلْتَ البارحةَ كَذَا، وادخرت كذا، وقال قتادةُ: معنَى الآية: إِنما هو في نزول المائدةِ علَيْهم، وذلك أنَّها لما نزلَتْ، أخذ عليهم عَهْدَ أنْ يَأْكُلُوا ولا يَخْبَأَ أَحدٌ شيئاً، ولا يدَّخره ولا يَحْمِله إلى بيته، فَخَانُوا، وجعلوا يُخَبِّئُون، فكان عيسى عليه السلام يُخْبِرُ كلَّ أحدٍ عمَّا أكل، وعمَّا ادخر في بَيْته من ذلك، وعوقبوا على ذلك. وقوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}: تحذيرٌ، ودعاءٌ إِلى اللَّه عزَّ وجلَّ. وقوله: {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ}: إشارةٌ إلى قوله: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه}، لأن ألفاظه جمعتِ الإِيمان والطَّاعاتِ، والصِّرَاطُ: الطريقُ، والمُسْتَقِيم: الذي لا اعوجاج فيه.
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} قبل هذه الآية محذوفٌ، به يتمُّ اتساق الآيات، تقديره: فجاء عيسى؛ كما بَشَّر اللَّه به، فقالَ جميعَ ما ذُكِرَ لبنِي إسرائيل، {فَلَمَّا أَحَسَّ}، ومعنى: {أَحَسَّ}: عَلِمَ من جهة الحَوَاسِّ بما سَمِعَ من أقوالهم في تكذيبه، ورأى من قرائن أحوالهم، وشدَّة عدَاوتِهِم، وإعراضهم، {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله} وقوله: {إِلَى الله}: يحتملُ معنيين: أحدهما: مَنْ ينصرنِي فِي السَّبيل إلى اللَّه. والثاني: أنْ يكون التقديرُ: مَنْ يضيفُ نُصْرته إلى نصرة اللَّهِ لِي، فإلى دَالَّة على الغاية في كِلاَ التقديرَيْن، وليس يُبَاحُ أنْ يُقَالَ: «إلى» بمعنى «مع»؛ كما غلط في ذلك بَعْضُ الفقهاءِ في تَأْويلِ قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} [المائدة: 6]، فقال: «إلى» بمعنى «مَعَ»، وهذه عُجْمَة. والحواريُّون قَوْمٌ مرَّ بهم عيسى صلى الله عليه وسلم، فدَعَاهم إلى نصرِهِ واتباع ملَّته، فأجَابوه، وقَامُوا بذلك خَيْرَ قيامٍ، وصَبَرُوا في ذاتِ اللَّه، واختلف، لِمَ قِيلَ لهم حواريُّون؟ فقال ابنُ جُبَيْرٍ: لبياضِ ثيابِهِمْ، وقال أبو أرْطاةَ: لأنَّهم كانوا قَصَّارِينَ يَحُورُونَ الثِّياب، أيْ: يبيِّضونها، وقال قتادة: الحواريُّون: أصفياء الأنبياء الَّذِينَ تَصْلُحُ لهم الخلافةُ، وقال الضَّحَّاك نحوه، قال * ع *: وهذا القولُ تقريرُ حالِ القومِ، وليس بتَفْسِيرِ اللَّفْظَة، وعلى هذا الحدِّ شبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابن عَمَّتِهِ بِهِمْ في قوله: «وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ». والأقوال الأَوَلُ هي تفسيرُ اللفظة؛ إذ هي من الحَوَر، وهو البَيَاضُ، حَوَّرْتُ الثَّوْبَ: بَيَّضْته؛ ومنْه الحُوَاري، وقد تسمِّي العرب النِّسَاءَ السَّاكِنَاتِ في الأمْصَارِ: الحَوَارِيَّاتِ؛ لغلبة البَيَاض علَيْهِنَّ؛ ومنه قولُ أبِي جِلْدَةَ اليَشْكُرِيِّ: [الطويل] فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا *** وَلاَ تَبْكِنَا إلاَّ الْكِلاَبُ النَّوَابِحُ وقولُ الحواريِّين: {واشهد} يحتملُ أنْ يكون خطَاباً لعيسى عليه السلام، أي: اشهد لَنَا عنْدَ اللَّهِ، ويحتملُ أنْ يكونَ خطَاباً للَّه تعالى؛ كقوله صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: " اللَّهُمَّ، اشهد "، وقولهم: {رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ} يريدون: الإنجيل، وآياتِ عيسى، {فاكتبنا مَعَ الشاهدين}، أي: في عِدَادِ مَنْ شهد بالحَقِّ مِنْ مؤمني الأمم، ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرِينَ بعيسى عليه السلام، فقال: {وَمَكَرُواْ}، يريدُ في تحيُّلهم في قتله بزعمهم فهذا هو مَكْرُهُمْ، فجازاهم اللَّه تعالى؛ بأنْ طرح شَبَهَ عيسى على أحد الحواريِّين؛ في قول الجمهور، أو على يهوديٍّ منهم كَانَ جَاسُوساً، وأعقبَ بَنِي إسرائيل مذلَّةً وهَوَاناً في الدُّنيا والآخرة، فهذه العُقُوبة هي التي سَمَّاها اللَّه تعالى مَكْراً في قوله: {وَمَكَرَ الله}، وذلك مَهْيَعٌ أنْ تسمَّى العقوبةُ باسم الذنب. وقوله: {والله خَيْرُ الماكرين}: معناه: فاعلُ حقٍّ في ذلك، وذكر أبو القَاسِمِ القُشَيْرِيُّ في «تحبيره»، قال: سُئِلَ مَيْمُونٌ، أحسبه: ابن مِهْرَانَ؛ عن قولِهِ تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} فقال: تخليتُهُ إياهم، مع مَكْرهم هو مَكْرُهُ بهم. انتهى. ونحوه عن الجُنَيْدِ، قال الفَرَّاء: المَكْرُ من المخْلُوقِ الْخِبُّ والحِيلَة، ومِنَ الإله الاِسْتِدْرَاجُ، قال اللَّه تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] قال ابن عبَّاس: كُلَّما أحْدَثُوا خطيئةً، أحدثنا لَهُمْ نعمة. انتهى.
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)} وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ...} الاية: اختلف في هذا التِّوفِّي. فقال الرَّبيع: هي وفاةُ نَوْمٍ، وقال الحَسَن وغيره: هو توفِّي قَبْضٍ وتَحْصِيلٍ، أي: قابضك منَ الأرْضِ، ومحصِّلك في السماءِ وقال ابنُ عبَّاس: هي وفاةُ مَوْتٍ، ونحوه لمالك في «العَتَبِيَّة»، وقال وهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ: توفَّاه اللَّه بالمَوْتِ ثلاثَ ساعاتٍ، ورفعه فيها، ثُمَّ أحياه بعد ذلك، وقال الفَرَّاء: هي وفاةُ مَوْتٍ، ولكنَّ المعنى: إني متوفِّيك في آخر أمْرِكَ عنْد نزولِكَ وقَتْلِك الدَّجَّال، ففي الكلامِ تقديمٌ وتأخير. قال * ع *: وأجمعتِ الأمة على ما تضمَّنه الحديثُ المتواتر؛ منْ أنَّ عيسى عليه السلام في السَّمَاءِ حَيٌّ، وأنه يَنْزِلُ في آخِرِ الزَّمَانِ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيُفِيضُ العَدْلَ، وَيُظْهِرُ هَذِهِ المِلَّةَ مِلَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ ويَححُجُّ البَيْتَ ويَعْتَمِرُ، ويبقى في الأَرْضِ أَرْبَعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُمَيتُهُ اللَّهُ تعالى، قال * ع *: فقول ابن عباس: هي وفاةُ مَوْتٍ لا بدَّ أنْ يتمِّم إما على قول وهْبِ بن مُنَبِّهٍ، وإما على قول الفَرَّاء. وقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} عبارةٌ عَنْ نَقْلِهِ من سُفْلٍ إلى عُلْو، وإضافه اللَّه سبحانه إضافةُ تشريفٍ، وإلا فمعلومٌ أنه سبحانه غَيْرُ متحيِّزٍ في جهةٍ، {وَمُطَهِّرُكَ}، أي: مِنْ: دعاوى الكَفَرَةِ ومعاشَرَتِهِمْ. وقوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} الآية: قال جمهورُ المفسِّرين بعموم اللفظ في المتَّبِعِينَ، فتدخُلُ في ذلك أمةُ محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مُتَّبِعَةٌ لعيسى؛ قاله قتادة وغيره؛ وكذلك قالوا بعموم اللفظِ في الكَافِرِينَ، فمقتضَى الآيَةِ إعلامُ عيسى عليه السلام؛ أنَّ أهْلَ الإيمانِ به، كما يجب، هم فوق الذين كَفَرُوا بالحُجَّة، والبُرْهَان، والعِزِّ والغَلَبَةِ، ويظْهَرُ منْ عبارة ابن جُرَيْج وغيره؛ أنَّ المراد المتبعون لَهُ في وقْتِ استنصاره، وهم الحواريُّون. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} خَطَابٌ لعيسى، والمرادُ: الإخبار بالقيامة، والحَشْرِ، وباقي الآيةِ بيِّن، وتوفيةُ الأجور هي قَسْم المَنَازِلِ في الجَنَّة، فذلك هو بحَسَب الأعمال، وأما نَفْسُ دخولِ الجَنَّةَ، فبرحْمَةِ اللَّه وتفضُّله سبحانه. وقوله تعالى: {ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيات} الآية: «ذَلِكَ»: إشارة إلى ما تقدَّم من الأنباء، و{نَتْلُوهُ}: معناه: نَسْرُدُهُ، و{مِنَ الآيات}: ظاهره آيات القُرآن، ويحتملُ أنْ يريدَ: من المعجزاتِ والمُسْتَغْرَبَاتِ؛ أن تأتيهم بهذه الغُيُوبِ من قِبَلِنَا، وبسبَبِ تلاوتنا، و{الذكر}: ما ينزلُ من عند اللَّه. قال ابن عبَّاس: الذِّكْر: القرآن، و{الحكيم}: الذي قد كَمَل في حكمته.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله...} الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: سبَبُ نزولها مُحَاجَّة نصارى نَجْرَانَ في أمر عيسى، وقولُهم: يا محمَّد، هل رأَيْتَ بَشَراً قَطُّ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، أَوْ سَمِعْتَ بِهِ، ومعنى الآية أنَّ المَثَلَ الذي تتصوَّره النفُوسُ والعقولُ من عيسى هو كَالمُتَصَوَّرِ من آدَمَ؛ إذ الناسُ مُجْمِعُونَ على أنَّ اللَّه تعالى خَلَقَهُ مِنْ ترابٍ من غير فَحْلٍ، وفي هذه الآية صحَّةُ القياس. وقوله تعالى: {ثُمَّ قَالَ} ترتيبٌ للأخبار لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، المعنى: خَلَقَهُ من تُرَابٍ، ثم كان مِنْ أمره في الأزَلِ أنْ قال له: كُنْ وقْتَ كذا. وقوله تعالى: {الحق مِن رَّبّكَ}، أي: هذا هو الحقُّ، و{الممترين}: هم الشاكُّونَ، ونُهِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في عبارةٍ اقتضت ذَمَّ الممترين؛ وهذا يدلُّ على أنَّ المراد بالامتراء غَيْرُهُ ونُهِيَ عن الامتراء، مع بُعْده عنه على جهة التثْبِيتِ والدَّوام على حاله. وقوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ}، أي: في عيسى، ويحتملُ في الحقِّ، والعِلْمُ الذي أشير إلَيْه بالمجيء هو ما تضمَّنته هذه الآياتُ المتقدِّمة. وقوله: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ}: استدعاءٌ للمُبَاهَلَة، و{تَعَالَوْاْ}: تَفَاعَلُوا؛ من العُلُوِّ، وهي كلمةٌ قُصِدَ بها أولاً تحسينُ الأدَب مع المدعوِّ، ثم اطردت؛ حتى يقولها الإنسان لعدُوِّه، وللبهيمةِ، و{نَبْتَهِلْ}: معناه: نَلْتَعِن، ويقال: عَلَيْهِمْ بهلة اللَّه، والابتهال: الجِدُّ في الدُّعاء بالبهلة، روى محمَّد بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ وغيره: «إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لما دَعَا نصارى نَجْرَانَ إلى المباهلة، قالوا: دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتِكَ بما نَفْعَلُ، فَذَهَبُوا إلَى العَاقِب، وهو ذُو رَأْيِهِمْ، فَقَالُوا: يَا عَبْدَ المَسِيحِ، مَا ترى، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النصارى، وَاللَّهِ، لَقَدْ عَرَفْتُمْ أنَّ محمَّداً النَّبيُّ المُرْسَلُ، ولَقَدْ جَاءَكُمْ بِالفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لاَعَنَ قَوْمٌ قَطُّ نَبِيًّا، فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلاَ نَبَتَ صَغِيرُهُمْ، وَأَنَّهُ الاستئصال إنْ فَعَلْتُمْ، فَإنْ أَبَيْتُمْ إلاَّ إلْفَ دِينِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ عيْهِ مِنَ القَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ، فَوَادِعُوا الرَّجُلَ، وانصرفوا إلى بِلاَدِكُمْ؛ حتى يُرِيَكُمْ زمن رَأْيه، فَأْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا أَبَا القَاسِمِ، قَدْ رَأَيْنَا أَلاَّ نُلاَعِنَكَ، وَأَنْ نبقى على دِينِنَا، وَصَالَحُوهُ على أَمْوَالٍ، وَقَالُوا لَهُ: ابعث مَعَنَا رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لَنَا، يَحْكُم بَيْنَنَا فِي أَشْيَاء قَدِ اختلفنا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِنَا؛ فَإنَّكُمْ عِنْدَنَا رِضًى». قال * ع *: وفي ترك النصارَى الملاعَنَةَ لعلمهم بنبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم شاهدٌ عظيمٌ على صحَّة نبوَّته صلى الله عليه وسلم عندهم، ودعاءُ النِّساء والأبناء أهَزُّ للنفوسِ، وأدعى لرحمة اللَّه للمُحِقِّين، أو لغضبه على المُبْطِلِينَ.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} وقوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} الآية: هذا خبرٌ من اللَّه تعالى، جزمٌ مؤكَّد، فَصَل به بين المختَصِمَيْن، والإشارةُ بهذا هي إلى ما تقدَّم في أمر عيسى عليه السلام، والقصص معناه الإخبار. وقال * ص *: {إِنَّ هذا لَهُوَ}: هذا، إشارةً إلى القرآن. اه. واختلف المفسِّرون من المُرَاد بأهْلِ الكِتَابِ هنا. فروى قتادةُ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنهم يهودُ المدينَة. وقال ابنُ زَيْدٍ وغيره: المرادُ نصارى نجران. قال * ع *: والذي يظهر لي أنَّ الآية نزلَتْ في وَفْد نَجْرَان، لكن لفظُ الآية يعمُّهم، وسواهم من النصارى واليهود، وقد كتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّومِ، وكذا ينبغي أنْ يدعى بها أهل الكِتَابِ إلى يوم القيامة، «والكلمةُ» هنا؛ عند الجمهور: عبارةٌ عن الألفاظ التي تتضمَّن المعانِيَ المدعوَّ إليها، وهي ما فسر بعد ذلك، وهذا كما تسمِّي العربُ القصيدةَ «كَلِمَةً»، وقوله: {سَوَآءٍ} نعتٌ للكلمةِ، قال قتادةُ وغيره: معناه: إلى كلمةٍ عَدْلٍ، وفي مُصْحَف ابنِ مَسْعود: «إلى كلمةٍ عَدْلٍ»؛ كما فسر قتادة، قال * ع *: والذي أقوله في لفظة {سَوَآء}: إنها ينبغي أنْ تفسَّر بتفسير خاصٍّ بها في هذا الموضِعِ، وهو أنه دعاهم إلى معانٍ، جميعُ الناسِ فيها مُسْتَوُونَ. وقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} هو في موضعِ خفضٍ على البَدَلِ مِنْ {كَلِمَة}، أو في موضعِ رفعٍ؛ بمعنى هِيَ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّه، واتخاذُ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتبَ، أشدُّها: اعتقادهم الألوهيَّة، وعبادتهم لهم؛ كَعُزَيْرٍ، وعيسى، ومريمَ، وأدنى ذلك: طاعتهم لأساقفتهم في كلِّ ما أَمَرُوا بِهِ مِنَ الكُفْر والمعاصِي، والتزامهم طاعتهم شرعاً. * م *: {فَإِن تَوَلَّوْاْ}: أبو البقاءِ: تَوَلَّوْا: فعلٌ ماضٍ، ولا يجوزُ أنْ يكون التقديرُ: «تَتَوَلَّوا»؛ لفساد المعنى؛ لأنَّ قوله: {فَقُولُواْ اشهدوا} خطابٌ للمؤمنين، و{تَوَلَّوْاْ} للمشركينَ. اه. وقوله: {فَقُولُوا اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: أمر بالإعلان بمخالفتهم، ومواجهتهم بذلك وإشهادهم؛ على معنى التوبيخ والتهديد.
|