الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلَُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَمْ تَرَ) يَا مُحَمَّدُ {أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي} يَعْنِي: يَسُوقُ (سَحَابًا) حَيْثُ يُرِيدُ {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} يَقُولُ: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَ السَّحَابِ، وَأَضَافَ بَيْنَ إِلَى السَّحَابِ، وَلَمْ يُذْكُرْ مَعَ غَيْرِهِ، وَبَيْنَ لَا تَكُونُ مُضَافَةً إِلَّا إِلَى جَمَاعَةٍ أَوِ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ السَّحَابَ فِي مَعْنَى جَمْعٍ، وَاحِدُهُ سَحَابَةٌ، كَمَا يَجْمَعُ النَّخْلَةَ: نَخْلُ، وَالتَّمْرَةُ تَمْرٌ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ قَائِلٍ: جَلَسَ فَلَانٌ بَيْنَ النَّخْلِ، وَتَأْلِيفُ اللَّهِ السَّحَابَ: جَمْعُهُ بَيْنَ مُتَفَرِّقِهَا. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} يَقُولُ: ثُمَّ يَجْعَلُ السَّحَابَ الَّذِي يُزْجِيهِ، وَيُؤَلِّفُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ رُكَامًا، يَعْنِي: مُتَرَاكِمًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، قَالَ: ثَنَا مَطَرٌ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: الرِّيَاحُ أَرْبَعٌ: يَبْعَثُ اللَّهُ الرِّيحَ الْأُولَى فَتَقُمُّ الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ الثَّانِيَةَ فَتُنْشِئُ سَحَابًا، ثُمَّ يَبْعَثُ الثَّالِثَةَ فَتُؤَلِّفُ بَيْنَهُ فَتَجْعَلُهُ رُكَامًا، ثُمَّ يَبْعَثُ الرَّابِعَةَ فَتُمْطِرُهُ. وَقَوْلُهُ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} يَقُولُ: فَتَرَى الْمَطَرَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ السَّحَابِ، وَهُوَ الْوَدْقُ، قَالَ: الشَّاعِرُ: فَلَا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا *** وَلَا أَرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالَهِا وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: (مِنْ خِلَالِهِ) مِنْ ذِكْرِ السَّحَابِ، وَالْخِلَالِ: جَمْعُ خَلَلٍ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ ذَلِكَ: "مِنْ خَلَلِهِ". حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: ثَنَا قَتَادَةُ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ}: "مِنْ خَلَلِهِ". قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ}: "مِنْ خَلَلِهِ". حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا: "مِنْ خَلَلِهِ" بِفَتْحِ الْخَاءِ، مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ. قَالَ هَارُونُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي عَمْرٍو، فَقَالَ: إِنَّهَا لَحَسَنَةٌ، وَلَكِنَّ خِلَالَهُ أَعَمُّ. وَأَمَّا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى مِنْ خِلَالِهِ، وَهِيَ الَّتِي نَخْتَارُ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} قَالَ: الْوَدْقُ: الْقَطْرُ، وَالْخِلَالُ: السَّحَابُ. وَقَوْلُهُ: {وَيُنَزِّلَُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ}: قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِي السَّمَاءِ مَنْ بَرَدٍ مَخْلُوقَةٍ هُنَالِكَ خَلْقُهُ، كَأَنَّ الْجِبَالَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هِيَ مِنْ بَرَدٍ، كَمَا يُقَالُ: جِبَالٌ مِنْ طِينٍ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ قَدْرَ جِبَالٍ، وَأَمْثَالَ جِبَالٍ مِنْ بَرَدٍ إِلَى الْأَرْضِ، كَمَا يُقَالُ: عِنْدِي بَيْتَانِ تِبْنًا، وَالْمَعْنَى قَدْرَ بَيْتَيْنِ مِنَ التِّبْنِ، وَالْبَيْتَانِ لَيْسَا مِنَ التِّبْنِ. وَقَوْلُهُ: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} يَقُولُ: فَيُعَذِّبُ بِذَلِكَ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مَنْ بَرَدٍ، مَنْ يَشَاءُ فَيُهْلِكُهُ، أَوْ يُهْلِكُ بِهِ زُرُوعَهُ وَمَالَهُ {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} مِنْ خَلْقِهِ، يَعْنِي: عَنْ زُرُوعِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} يَقُولُ: يَكَادُ شِدَّةُ ضَوْءِ بَرْقِ هَذَا السَّحَابِ يَذْهَبُ بِأَبْصَارِ مَنْ لَاقَى بَصَرَهُ، وَالسَّنَا مَقْصُورٌ، وَهُوَ ضَوْءُ الْبَرْقِ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} قَالَ: ضَوْءُ بِرْقِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} يَقُولُ: لَمَعَانُ الْبَرْقِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} قَالَ: سَنَاهُ ضَوْءٌ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ. وَقَرَأَتْ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ} بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ يَذْهَبُ سِوَى أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ، فَإِنَّهُ قَرَأَهُ بِضَمِّ الْيَاءِ "يُذْهِبُ بِالْأَبْصَارِ". وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَخْتَارُ غَيْرَهَا هِيَ فَتْحُهَا؛ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَدْخَلَتِ الْبَاءَ فِي مَفْعُولِ ذَهَبَتْ، لَمْ يَقُولُوا: إِلَّا ذَهَبَتْ بِهِ، دُونَ أَذْهَبَتْ بِهِ، وَإِذَا أَدْخَلُوا الْأَلِفَ فِي أَذْهَبَتْ لَمْ يَكَادُوا أَنْ يُدْخِلُوا الْبَاءَ فِي مَفْعُولِهِ، فَيَقُولُونَ: أَذْهَبَتْهُ وَذَهَبَتْ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يَقُولُ: يُعَقِّبُ اللَّهُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَيَصْرِفُهُمَا، إِذَا أَذْهَبَ هَذَا جَاءَ هَذَا، وَإِذَا أَذْهَبَ هَذَا جَاءَ هَذَا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} يَقُولُ: إِنَّ فِي إِنْشَاءِ اللَّهِ السَّحَابَ، وَإِنْزَالِهِ مِنْهُ الْوَدْقَ، وَمِنَ السَّمَاءِ الْبَرَدَ، وَفِي تَقْلِيبِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِعِبْرَةٌ لِمَنِ اعْتَبَرَ بِهِ، وَعِظَةٌ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِ. مِمَّنْ لَهُ فَهْمٌ وَعَقْلٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْبِئُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَهُ مُدَبِّرًا وَمُصَرِّفًا وَمُقَلِّبًا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ غَيْرَ عَاصِمٍ: "وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ". وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَعَاصِمٍ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} بِنَصْبِ كَلِّ، وَخَلَقَ عَلَى مِثَالٍ فَعَلَ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ "خَالِقُ" تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْمُضِيُّ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} يَعْنِي: مِنْ نُطْفَةٍ، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كَالْحَيَّاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} وَالْمَشْي لَا يَكُونُ عَلَى الْبَطْنِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَا لَهُ قَوَائِمُ عَلَى التَّشْبِيهِ وَأَنَّهُ لَمَّا خَالَطَ مَا لَهُ قَوَائِمُ مَا لَا قَوَائِمَ لَهُ جَازَ، كَمَا قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كَالطَّيْرِ، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كَالْبَهَائِمِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ قِيلَ: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي}، و"مَنْ" لِلنَّاسِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَوْ أَكْثَرِهَا لِغَيْرِهِمْ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ تَفْرِيقُ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} وَكَانَ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ النَّاسُ وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: (فَمِنْهُمْ)، لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَاطِهِمْ، فَكَنَّى عَنْ جَمِيعِهِمْ كِنَايَتَهُ عَنْ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ فَسَرَّهُمْ بـ"مَنْ"، إِذْ كَانَ قَدْ كَنَّى عَنْهُمْ كِنَايَةَ بَنِي آدَمَ خَاصَّةً {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} يَقُولُ: يُحْدِثُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْخَلْقِ {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى إِحْدَاثٍ ذَلِكَ وَخَلْقِهِ، وَخَلْقِ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهُ، ذُو قُدْرَةٍ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَقَدْ أَنْزَلْنَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَامَاتٍ وَاضِحَاتٍ دَالَاتٍ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَسَبِيلِ الرَّشَادِ {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يَقُولُ: وَاللَّهُ يُرْشِدُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ بِتَوْفِيقِهِ، فَيَهْدِيهِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَالطَّرِيقُ الْقَاصِدُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ: صَدَّقْنَا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ، وَأَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} يَقُولُ: ثُمَّ تُدْبِرُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَدْعُو إِلَى الْمُحَاكَمَةِ إِلَى غَيْرِهِ خَصْمِهَا {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} يَقُولُ: وَلَيْسَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} بِالْمُؤْمِنِينَ؛ لِتَرْكِهِمُ الِاحْتِكَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} يَقُولُ: وَإِذَا دُعِيَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) فِيمَا اخْتَصَمُوا فِيهِ بِحُكْمِ اللَّهِ {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَالرِّضَا بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ يَكُنِ الْحَقُّ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَيَأْبَوْنَ وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، قَبِلَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ- يَأْتُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مُذْعِنِينَ، يَقُولُ: مُذْعِنِينَ مُنْقَادِينَ لِحُكْمِهِ، مُقِرِّينَ بِهِ طَائِعِينَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ أَذْعَنَ فُلَانٌ بِحَقِّهِ إِذَا أَقَرَّ بِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُسْتَكْرِهٍ وَانْقَادَ لَهُ وَسَلَّمَ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} قَالَ: سِرَاعً. وَقَوْلُهُ: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، شَكَّ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ، فَهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى حُكْمِهِ وَالرِّضَا بِهِ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} إِذَا احْتَكَمُوا إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ وَقَالَ: {أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} وَالْمَعْنَى: أَنْ يَحِيفَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَبَدَأَ بِاللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ، كَمَا يُقَالُ: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ، بِمَعْنَى شِئْتَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فَأَفْرَدَ الرَّسُولَ بِالْحُكْمِ، وَلَمْ يَقِلْ: لِيَحْكُمَا. وَقَوْلُهُ: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} يَقُولُ: مَا خَافَ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، إِذْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ مِمَّا دُعُوا إِلَيْهِ، أَنْ يَحِيفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَجُورُ فِي حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ أَهْلُ ظُلْمٍ لِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ مِنَ الرِّضَا بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَحَبُّوا وَكَرِهُوا، وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَإِلَى حُكْمِ رَسُولِهِ، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ، {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} مَا قِيلَ لَنَا (وَأَطَعْنَا) مَنْ دَعَانَا إِلَى ذَلِكَ. وَلَمْ يَعْنِ بـ (كَانَ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْخَبَرَ عَنْ أَمْرٍ قَدْ مَضَى فَيُقْضَى، وَلَكِنَّهُ تَأْنِيبٌ مِنَ اللَّهِ الَّذِي أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمْ، وَتَأْدِيبٌ مِنْهُ آخَرِينَ غَيْرَهُمْ.وَقَوْلُهُ: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الْمُفْلِحُونَ يَقُولُ: هُمُ الْمُنْجِحُونَ الْمُدْرِكُونَ طِلْبَاتِهِمْ، بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ، الْمُخَلَّدُونَ فِي جَنَّاتِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ، وَيُسَلِّمْ لِحُكْمِهِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَيَخَفْ عَاقِبَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَيَحْذَرْهُ، وَيَتَّقِ عَذَابَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ إِيَّاهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ (فَأُولَئِكَ) يَقُولُ: فَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ (هُمُ الْفَائِزُونَ) بِرِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمْنِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَحَلَفَ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، إِذْ دُعُوا إِلَيْهِ {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} يَقُولُ: أَغْلَظُ أَيْمَانِهِمْ وَأَشَدُّهَا (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) يَا مُحَمَّدُ بِالْخُرُوجِ إِلَى جِهَادِ عَدْوِكَ وَعَدْوِ الْمُؤْمِنِينَ {لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا} لَا تَحْلِفُوا، فَإِنَّ هَذِهِ {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} مِنْكُمْ فِيهَا التَّكْذِيبُ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ}قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ طَاعَتَكُمْ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ ذُو خِبْرَةٍ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنْ طَاعَتِكُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ خِلَافِكُمْ أَمْرَهُمَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِكُلِّ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَفَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُقْسِمِينَ بِاللَّهِ {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ}، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَمَّتِكَ (أَطِيعُوا اللَّهَ) أَيُّهَا الْقَوْمُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فَإِنَّ طَاعَتَهُ لِلَّهِ طَاعَةٌ (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يَقُولُ: فَإِنْ تُعْرِضُوا وَتُدْبِرُوا عَمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَتَأْبَوْا أَنْ تُذْعِنُوا لِحُكْمِهِ لَكُمْ وَعَلَيْكُمْ {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} يَقُولُ: فَإِنَّمَا عَلَيْهِ فِعْلُ مَا أَمَرَ بِفِعْلِهِ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ عَلَى مَا كَلَّفَهُ مِنَ التَّبْلِيغِ {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} يَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تَفْعَلُوا مَا أُلْزِمُكُمْ، وَأُوجِبُ عَلَيْكُمْ مِنَ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ. وَقُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) بِمَعْنَى فَإِنْ تَتَوَلَّوْا، فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ؛ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلَّذِينِ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: (تَوَلُّوا) فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ غَيْبٍ لَكَانَ فِي مَوْضِعِ قَوْلِهِ: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ تُطِيعُوا- أَيُّهَا النَّاسُ- رَسُولَ اللَّهِ- فِيمَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ- تَرْشُدُوا وَتُصِيبُوا الْحَقَّ فِي أُمُورِكُمْ {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} يَقُولُ: وَغَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمٍ بِرِسَالَةٍ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَهُمْ رِسَالَتَهُ بَلَاغًا يُبَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ الْبَلَاغَ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ. يَقُولُ فَلَيْسَ عَلَى مُحَمَّدٍ- أَيُّهَا النَّاسُ- إِلَّا أَدَاءَ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، وَعَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُ لِحُظُوظِ أَنْفُسِكُمْ تُصِيبُونَ، وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُ بِأَنْفُسِكُمْ فَتُوبَقُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِكَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْكُمْ) أَيُّهَا النَّاسُ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يَقُولُ: وَأَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَاهُ وَنَهَيَاهُ {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: لَيُوَرِّثَنَّهُمُ اللَّهُ أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَجْعَلُهُمْ مُلُوكَهَا وَسَاسَتَهَا {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَقُولُ: كَمَا فَعَلَ مِنْ قَبْلِهِمْ ذَلِكَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ أَهْلَكَ الْجَبَابِرَةَ بِالشَّأْمِ، وَجَعَلَهُمْ مُلُوكَهَا وَسُكَّانَهَا {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} يَقُولُ: وَلَيُوَطِّئَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ، يَعْنِي: مِلَّتَهُمُ الَّتِي ارْتَضَاهَا لَهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِهَا. وَقِيلَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، ثُمَّ تَلَقَّى ذَلِكَ بِجَوَابِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} لِأَنَّ الْوَعْدَ قَوْلٌ يَصْلُحُ فِيهِ "أَنَّ"، وَجَوَابُ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ: وَعَدْتُكَ أَنْ أُكْرِمَكَ، وَوَعَدْتُكَ لَأُكْرِمَنَّكَ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {كَمَا اسْتَخْلَفَ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ {كَمَا اسْتَخْلَفَ} بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ، بِمَعْنَى: كَمَا اسْتَخْلَفَ اللَّهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَاصِمٌ "كَمَا اسْتُخْلِفَ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، عَلَى مَذْهَبِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى عَاصِمٍ {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، بِمَعْنَى: وَلَيُغَيِّرَنَّ حَالَهُمْ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ إِلَى الْأَمْنِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ بَدَّلَ فُلَانٌ إِذَا غُيِّرَتْ حَالُهُ، وَلَمْ يَأْتِ مَكَانَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مُغَيِّرٍ عَنْ حَالِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُبَدِّلٌ بِالتَّشْدِيدِ. وَرُبَّمَا قِيلَ بِالتَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ بِالْفَصِيحِ، فَأَمَّا إِذَا جُعِلَ مَكَانَ الشَّيْءِ الْمُبْدَلِ غَيْرُهُ، فَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ أَبْدَلْتُهُ فَهُوَ مُبْدَلٌ. وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: أُبْدِلُ هَذَا الثَّوْبَ: أَيْ جُعِلَ مَكَانَهُ آخَرُ غَيْرُهُ، وَقَدْ يُقَالُ بِالتَّشْدِيدِ غَيْرَ أَنَّ الْفَصِيحَ مِنَ الْكَلَامِ مَا وَصَفْتُ. وَكَانَ عَاصِمٌ يَقْرَؤُهُ " {وَلَيُبْدِلَنَّهُمْ} " بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ التَّشْدِيدُ، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ قَبْلُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ ذَاكَ تَغْيِيرُ حَالِ الْخَوْفِ إِلَى الْأَمْنِ، وَأَرَى عَاصِمًا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَمْنَ لَمَّا كَانَ خِلَافَ الْخَوْفِ وَجَّهَ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُ ذَهَبَ بِحَالِ الْخَوْفِ، وَجَاءَ بِحَالِ الْأَمْنِ، فَخَفَّفَ ذَلِكَ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قُلْنَا، مِنْ أَنَّ التَّخْفِيفَ إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ فِي إِبْدَالِ شَيْءٍ مَكَانَ آخَرَ، قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ: عَزْلُ الْأَمِيرِ لِلْأَمِيرِ الْمُبْدَلِ وَقَوْلُهُ: (يَعْبُدُونَنِي) يَقُولُ: يَخْضَعُونَ لِي بِالطَّاعَةِ وَيَتَذَلَّلُونَ لِأَمْرِي وَنَهْيِي {لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} يَقُولُ: لَا يُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّايَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ وَلَا شَيْئًا غَيْرَهَا، بَلْ يُخْلِصُونَ لِي الْعِبَادَةَ فَيُفْرِدُونَهَا إِلَيَّ دُونِ كُلِّ مَا عَبَدَ مِنْ شَيْءٍ غَيْرِي، وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ شِكَايَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مِنَ الْعَدُوِّ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ، وَمَا يَلْقَوْنَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَوْلُهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}... الْآيَةَ، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ خَائِفًا يَدْعُو إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، قَالَ: ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَمَكَثَ بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ خَائِفُونَ، يُصْبِحُونَ فِي السِّلَاحِ، وَيُمْسُونَ فِيهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ، وَنَضَعُ عَنَّا السِّلَاحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَغْبُرُونَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا فِيهِ، لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}... إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} "قَالَ: يَقُولُ: مَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وَلَيْسَ يَعْنِي الْكُفْرَ بِاللَّهِ. قَالَ: فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَآمَنُوا، ثُمَّ تَجَبَّرُوا، فَغَيَّرَ اللَّهُ مَا بِهِمْ، وَكَفَرُوا بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَأَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ الَّذِي كَانَ رَفَعَهُ عَنْهُمْ، قَالَ الْقَاسِمُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: بِقَتْلِهِمْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ كُفْرٌ بِالنِّعْمَةِ لَا كُفْرٌ بِاللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ حُذَيْفَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: ذَهَبَ النِّفَاقُ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، قَالَ: فَضَحِكَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ: لِمَ تَقُولُ ذَلِكَ؟ قَالَ: عَلِمْتُ ذَلِكَ، قَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}... حَتَّى بَلَغَ آخِرَهَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: قَعَدْتُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: ذَهَبَ النِّفَاقُ فَلَا نِفَاقَ، وَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: تَعْلَمُ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ}... حَتَّى بَلَغَ: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) قَالَ: فَضَحِكَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: فَلَقِيتُ أَبَا الشَّعْثَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، فَقُلْتُ: مَنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ عَبْدُ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، إِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا ضَحِكَ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُعْجِبُهُ، وَرُبَّمَا ضَحِكَ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُعْجِبُهُ، فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ؟ لَا أَدْرِي. وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ مِنَ التَّأْوِيلِ أَشْبَهَ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْإِنْعَامَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ مُنْعِمٌ بِهِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: فَمَنْ كَفَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} قَالَ: لَا يَخَافُونَ غَيْرِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَأَقِيمُوا أَيُّهَا النَّاسُ الصَّلَاةَ) بِحُدُودِهَا، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، (وَآتُوا الزَّكَاةَ) الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَهَا، وَأَطِيعُوا رَسُولَ رَبِّكُمْ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يَقُولُ: كَيْ يَرْحَمَكُمْ رَبُّكُمْ، فَيُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَقَوْلِهِ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ، الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مُعْجِزِيهِ فِي الْأَرْضِ إِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَهُمْ (وَمَأْوَاهُمْ) بَعْدَ هَلَاكِهِمْ (النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الَّذِي يَصِيرُونَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْمَأْوَى. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: "لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا" بِالْيَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ "تَحْسَبَ" مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْصُوبَيْنِ. وَإِذَا قُرِئَ "يَحْسَبَنَّ" لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا إِلَّا عَلَى مَنْصُوبٍ وَاحِدٍ، غَيْرَ أَنِّي أَحْسَبُ أَنَّ قَائِلَهُ بِالْيَاءِ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ فِي "مُعْجِزِينَ" وَأَنَّ مَنْصُوبَهُ الثَّانِي " فِي الْأَرْضِ"، وَذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَصَدَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُعِنِّي بِقَوْلِهِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنِيَ بِذَلِكَ: الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ، وَنُهُوا عَنْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سُمُّوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا بِإِذْنٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَوْلُهُ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: هِيَ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِي قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: هِيَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَمَّ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) جَمِيعَ أَمْلَاكِ أَيْمَانِنَا، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى فَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ عَمَّهُ ظَاهِرُ التَنْزِيلِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِيَسْتَأْذِنْكُمْ فِي الدُّخُولِ عَلَيْكُمْ عَبِيدُكُمْ وَإِمَاؤُكُمْ، فَلَا يَدْخُلُوا عَلَيْكُمْ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْكُمْ لَهُمْ. {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يَقُولُ: وَالَّذِينَ لَمَّ يَحْتَلِمُوا مِنْ أَحْرَارِكُمْ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، يَعْنِي: ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ، مِنْ سَاعَاتِ لَيْلِكُمْ وَنَهَارِكُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: عَبِيدُكُمُ الْمَمْلُوكُونَ {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} قَالَ: لَمْ يَحْتَلِمُوا مِنْ أَحْرَارِكُمْ. قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ: قَالَ لِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: فَذَلِكَ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَصَغِيرَةٍ أَنْ يَسْتَأْذِنَ، كَمَا قَالَ {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} قَالُوا: هِيَ الْعَتَمَةُ. قُلْتُ: فَإِذَا وَضَعُوا ثِيَابَهُمْ بَعْدَ الْعَتَمَةِ اسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحُوا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: هَلِ اسْتِئْذَانُهُمْ إِلَّا عِنْدَ وَضْعِ النَّاسِ ثِيَابَهُمْ؟ قَالَ: لَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَيَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: لَا اسْتِئْذَانَ عَلَى خَدَمِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَقُولُ: إِذَا خَلَا الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ خَادِمٌ وَلَا صَبِيٌّ إِلَّا بِإِذْنٍ حَتَّى يُصَلِّيَ الْغَدَاةَ، فَإِذَا خَلَا بِأَهْلِهِ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَمِثْلُ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سُوَيْدٍ الْحَارِثِيَّ- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْإِذْنِ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، فَقَالَ: إِذَا وَضَعْتُ ثِيَابِي مِنَ الظَّهِيرَةِ لَمْ يَلِجْ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْخَدَمِ الَّذِي بَلَغَ الْحُلُمَ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ مِنَ الْأَحْرَارِ إِلَّا بِإِذْنٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَلَاثُ آيَاتٍ جَحَدَهُنَّ النَّاسُ: الْإِذْنُ كُلُّهُ، وَقَالَ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وَقَالَ النَّاسُ: أَكْرَمَكُمْ أَعْظَمُكُمْ بَيْتًا، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ. حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِذَا أَبَاتَ الرَّجُلُ خَادِمَهُ مَعَهُ فَهُوَ إِذْنُهُ، وَإِنْ لَمْ يَبِتْهُ مَعَهُ اسْتَأْذَنَ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: ثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَة َ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ، قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ، قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ! قَالَ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَة َ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قُلْتُ: مَنْسُوخَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ، قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا، قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ! قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا يَتَهَاوَنُ النَّاسُ بِهِ. قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: لَا يُعْمَلُ بِهَا الْيَوْمَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنَا حَنْظَلَةُ، أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَسْأَلُ عَنِ الْإِذْنِ، فَقَالَ: يَسْتَأْذِنُ عِنْدَ كُلِّ عَوْرَةٍ، ثُمَّ هُوَ طَوَّافٌ، يَعْنِي الرَّجُلَ عَلَى أُمِّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَّادٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلُ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، قَالَ اللَّهُ: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} وَإِنَّمَا الْعَتَمَةُ عَتَمَةُ الْإِبِل» ". وَقَوْلُهُ: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} بِرَفْعِ "الثَّلَاثِ"، بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ، قِيلَ: هَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَمَرْنَاكُمْ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْكُمْ فِيهَا مَنْ ذَكَرْنَا إِلَّا بِإِذْنٍ، ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ، لِأَنَّكُمْ تَضَعُونَ فِيهَا ثِيَابَكُمْ، وَتَخْلُونَ بِأَهْلِيكُمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ "ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ" بِنَصْبِ الثَّلَاثِ عَلَى الرَّدِّ عَلَى الثَّلَاثِ الْأُولَى. وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ لَكُمْ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَقَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) مَعْشَرَ أَرْبَابِ الْبُيُوتِ وَالْمَسَاكِنِ، (وَلَا عَلَيْهِمْ) يَعْنِي: وَلَا عَلَى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْ أَوْلَادِكُمُ الصِّغَارِ، حَرَجٌ وَلَا إِثْمٌ بَعْدَهُنَّ، يَعْنِي بَعْدَ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْهَاءُ وَالنُّونُ فِي قَوْلِهِ: (بَعْدَهُنَّ) عَائِدَتَانِ عَلَى "الثَّلَاثِ" مِنْ قَوْلِهِ: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ وَلَا جُنَاحَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ مَمَالِيكُهُمُ الْبَالِغُونَ، وَصِبْيَانُهُمُ الصِّغَارُ بِغَيْرِ إِذْنٍ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثِ اللَّاتِي ذَكَرَهُنَّ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، يَعْنِي فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إِلَى الظَّهْرِ، وَبَعْدَ الظُّهْرِ إِلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ، أَنَّهُ رَخَّصَ لِخَادِمِ الرَّجُلِ وَالصَّبِيِّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} فَأَمَّا مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ إِلَّا بِإِذْنٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَوْلُهُ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} رُفِعَ الطَّوَّافُونَ بِمُضْمَرٍ، وَذَلِكَ هُمْ. يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الْمَمَالِيكُ وَالصِّبْيَانُ الصِّغَارُ هُمْ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَيَعْنِي بِالطَّوَّافِينَ: أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ وَيَخْرُجُونَ عَلَى مَوَالِيهِمْ وَأَقْرِبَائِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً بِغَيْرِ إِذْنٍ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ، بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلُوا عَلَى سَادَاتِهِمْ وَأَقْرِبَائِهِمْ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنٍ {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: كَمَا بَيَّنْتُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَحْكَامَ الِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ جَمِيعَ أَعْلَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ وَشَرَائِعَ دِينِهِ (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِذَا بَلَغَ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَأَقْرِبَائِكُمْ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) مِنْ أَحْرَارِكُمْ (الْحُلُمَ) يَعْنِي الِاحْتِلَامَ، وَاحْتَلَمُوا {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} يَقُولُ: فَلَا يَدْخُلُوا عَلَيْكُمْ فَى وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ، لَا فِي أَوْقَاتِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ وَلَا فِي غَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَقُولُ: كَمَا اسْتَأْذَنَ الْكِبَارُ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ وَأَقْرِبَائِهِ الْأَحْرَارِ، وَخَصَّ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَطْفَالَ بِالذِّكْرِ، وَتَعْرِيفِ حُكْمِهِمْ عِبَادَهُ فِي الِاسْتِئْذَانِ دُونَ ذِكْرِ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا بِتَعْرِيفِهِمْ حُكْمَ الْأَطْفَالِ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فِي ذَلِكَ حُكْمٌ وَاحِدٌ، سَوَاءً فِيهِ حُكْمُ كِبَارِهِمْ وَصِغَارِهِمْ فِي أَنَّ الْإِذْنَ عَلَيْهِمْ فِي السَّاعَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلُ.
وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَمَّا مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ، يَعْنِي مِنَ الصِّبْيَانِ الْأَحْرَارِ إِلَّا بِإِذْنٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَقَوْلُهُ: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} قَالَ: وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا احْتَلَمُوا عَلَى مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} فِي ذَلِكَ {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} يَقُولُ: هَكَذَا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ، أَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ، كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الْأَطْفَالِ فِي الِاسْتِئْذَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يَقُولُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ خَلْقَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًافَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّوَاتِي قَدْ قَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ مِنَ الْكِبَرِ مِنَ النِّسَاءِ، فَلَا يَحِضْنَ وَلَا يَلِدْنَ، وَاحِدَتُهُنَّ قَاعِدٌ {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} يَقُولُ: اللَّاتِي قَدْ يَئِسْنَ مِنَ الْبُعُولَةِ، فَلَا يَطْمَعْنَ فِي الْأَزْوَاجِ {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} يَقُولُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ حَرَجٌ وَلَا إِثْمٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ، يَعْنِي جَلَابِيبَهُنَّ، وَهِيَ الْقِنَاعُ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ الْخِمَارِ، وَالرِّدَاءِ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ الثِّيَابِ، لَا حَرَجَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَضَعْنَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَحَارِمِ مِنَ الرِّجَالِ، وَغَيْرِ الْمَحَارِمِ مِنَ الْغُرَبَاءِ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} وَهِيَ الْمَرْأَةُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَجْلِسَ فِي بَيْتِهَا بِدِرْعٍ وَخِمَارٍ، وَتَضَعَ عَنْهَا الْجِلْبَابَ مَا لَمْ تَتَبَرَّجْ لِمَا يَكْرَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ثُمَّ قَالَ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: {يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} يَعْنِي الْجِلْبَابَ، وَهُوَ الْقِنَاعُ، وَهَذَا لِلْكَبِيرَةِ الَّتِي قَدْ قَعَدَتْ عَنِ الْوَلَدِ، فَلَا يَضُرُّهَا أَنْ لَا تُجَلْبَبَ فَوْقَ الْخِمَارِ. وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ، فَعَلَيْهَا إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ أَنَّ تُدْنِيَ الْجِلْبَابَ عَلَى الْخِمَارِ، وَقَالَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِذَا مَرَّتْ بِهِمُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْهَيْئَةِ وَالزِّيِّ، حَسِبَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّهَا مُزْنِيَةٌ وَأَنَّهَا مِنْ بُغْيَتِهِمْ، فَكَانُوا يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنَاتِ بِالرَّفَثِ وَلَا يَعْلَمُونَ الْحُرَّةَ مِنَ الْأَمَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} يَقُولُ: إِذَا كَانَ زِيُّهُنَّ حَسَنًا لَمْ يَطْمَعْ فِيهِنَّ الْمُنَافِقُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الَّتِي قَعَدَتْ مِنَ الْوَلَدِ وَكَبِرَتْ. قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} قَالَ: لَا يُرِدْنَهُ {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قَالَ: جَلَابِيبَهُنَّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} قَالَ: وَضْعُ الْخِمَارِ، قَالَ: الَّتِي لَا تَرْجُو نِكَاحًا، الَّتِي قَدْ بَلَغَتْ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا فِي الرِّجَالِ حَاجَةٌ. وَلَا لِلرِّجَالِ فِيهَا حَاجَةٌ، فَإِذَا بَلَغْنَ ذَلِكَ وَضَعْنَ الْخِمَارَ. غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} كَانَ أَبِي يَقُولُ هَذَا كُلُّهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قَالَ: الْجِلْبَابُ أَوِ الرِّدَاءُ، شَكَّ سُفْيَانُ. قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قَالَ: الرِّدَاءُ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قَالَ: هِيَ الْمِلْحَفَةُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قَالَ: الْجِلْبَابُ. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} قَالَ: هُوَ الرِّدَاءُ. قَالَ الْحَسَنُ، قَالَ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو حَصِينٍ وَسَالِمٌ الْأَفْطَسُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: هُوَ الرِّدَاءُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} قَالَ: تَضَعُ الْجِلْبَابَ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَدْ عَجَزَتْ وَلَمْ تُزَوَّجْ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَإِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقْرَأُ "أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ". حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} قَالَ: الْجِلْبَابُ، قَالَ يَعْقُوبُ: قَالَ أَبُو يُونُسَ: قُلْتُ لَهُ: عَنْ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي الدَّارِ وَالْحُجْرَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قَالَ: جَلَابِيبُهُنَّ. وَقَوْلُهُ: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ فِي وَضْعِ أَرْدَيْتِهِنَّ إِذَا لَمْ يُرِدْنَ بِوَضْعِ ذَلِكَ عَنْهُنَّ أَنْ يُبْدِينَ مَا عَلَيْهِنَّ مِنَ الزِّينَةِ لِلرِّجَالِ. وَالتَّبَرُّجُ: هُوَ أَنْ تُظْهِرَ الْمَرْأَةُ مِنْ مَحَاسِنِهَا مَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَسْتُرَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} يَقُولُ: وَإِنْ تَعْفِفْنَ عَنْ وَضْعِ جَلَابِيبِهِنَّ وَأَرْدَيْتِهِنَّ، فَيَلْبَسْنَهَا خَيْرٌ لَهُنَّ مِنْ أَنْ يَضَعْنَهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} قَالَ: أَنْ يَلْبَسْنَ جَلَابِيبَهُنَّ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} قَالَ: تَرْكُ ذَلِكَ، يَعْنِي: تَرْكَ وَضْعِ الثِّيَابِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} وَالِاسْتِعْفَافُ: لُبْسُ الْخِمَارِ عَلَى رَأْسِهَا، كَانَ أَبِي يَقُولُ هَذَا كُلَّهُ (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) مَا تَنْطِقُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ (عَلِيمٌ) بِمَا تُضْمِرُهُ صُدُورُكُمْ، فَاتَّقُوهُ أَنْ تَنْطِقُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ مَا قَدْ نَهَاكُمْ عَنْ أَنْ تَنْطِقُوا بِهَا، أَوْ تُضْمِرُوا فِي صُدُورِكُمْ مَا قَدْ كَرِهَهُ لَكُمْ، فَتَسْتَوْجِبُوا بِذَلِكَ مِنْهُ عُقُوبَةً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرْخِيصًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْأَكْلِ مَعَ الْعُمْيَانِ وَالْعُرْجَانِ وَالْمَرْضَى وَأَهْلِ الزَّمَانَةِ مِنْ طَعَامِهِمْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ امْتَنَعُوا مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَتَوْا بِأَكْلِهِمْ مَعَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا) مِنْ بُيُوتِكُمْ... إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ أَشْتَاتًا} وَذَلِكَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَالطَّعَامُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ، فَكَفَّ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ}... إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ}... الْآيَةَ، كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخَالِطُهُمْ فِي طَعَامِهِمْ أَعْمَى وَلَا مَرِيضٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ بِهِمُ التَّقَذُّرُ وَالتَّقَزُّزُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَرِيضُ لَا يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ، كَمَا يَسْتَوْفِي الصَّحِيحُ وَالْأَعْرَجُ الْمُنْحَبِسُ، لَا يَسْتَطِيعُ الْمُزَاحِمَةَ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ طَيِّبَ الطَّعَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} حَرَجٌ فِي مُؤَاكَلَةِ الْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِ هَؤُلَاءِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْأَعْمَى حَرَجٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْهُ وَمَعَهُ، وَلَا فِي الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلَا فِي الْمَرِيضِ حَرَجٌ، وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ، فَوَجَّهُوا مَعْنَى "عَلَى" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى مَعْنَى "فِي". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرْخِيصًا لِأَهْلِ الزَّمَانَةِ فِي الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْمًا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ مَا يُطْعِمُونَهُمْ، ذَهَبُوا بِهِمْ إِلَى بُيُوتِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، أَوْ بَعْضِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ أَهْلُ الزَّمَانَةِ يَتَخَوَّفُونَ مِنْ أَنْ يَطْعَمُوا ذَلِكَ الطَّعَامَ، لِأَنَّهُ أَطْعَمَهُمْ غَيْرَ مِلْكِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} قَالَ: كَانَ رِجَالٌ زَمْنَى. قَالَ ابْنُ عَمْرٍو فِي حَدِيثِهِ: عُمْيَانُ وَعُرْجَانِ. وَقَالَ الْحَارِثُ: عُمْيٌ عُرْجٌ أُولُو حَاجَةٍ، يَسْتَتْبِعُهُمْ رِجَالٌ إِلَى بُيُوتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا طَعَامًا ذَهَبُوا بِهِمْ إِلَى بُيُوتِ آبَائِهِمْ، وَمَنْ عَدَّدَ مِنْهُمْ مِنَ الْبُيُوتِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُسْتَتْبِعُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} وَأُحِلَّ لَهُمُ الطَّعَامُ حَيْثُ وَجَدُوهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِالْأَعْمَى وَالْمَرِيضِ وَالْأَعْرَجِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ إِلَى بَيْتِ أَخِيهِ، أَوْ عَمِّهِ، أَوْ خَالِهِ، أَوْ خَالَتِهِ، فَكَانَ الزَّمِنِيُّ يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَذْهَبُونَ بِنَا إِلَى بُيُوتِ غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْو حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ تَرْخِيصًا لِأَهْلِ الزَّمَانَةِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ خَلَّفَهُمْ فِي بُيُوتِهِ مِنَ الْغُزَاةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} مَا بَالُ الْأَعْمَى ذُكِرَ هَاهُنَا، وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ، يَقُولُونَ: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ، فَأُنْزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} فِيالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالُوا: وَقَوْلُهُ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} قَالَ: هَذَا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ}... إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَدِ انْقَطَعَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي الْأَوَّلِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَبْوَابٌ، وَكَانَتِ السُّتُورُ مُرْخَاةً، فَرُبَّمَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْبَيْتَ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُبَّمَا وَجَدَ الطَّعَامَ وَهُوَ جَائِعٌ، فَسَوَّغَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْكُلَهُ. قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، الْبُيُوتُ الْيَوْمَ فِيهَا أَهْلُهَا، وَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوهَا، فَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرْخِيصًا لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَّقُونَ مُؤَاكَلَةَ أَهْلِ الزَّمَانَةِ فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ إِذَا شَاءُوا ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} قَالَ: كَانُوا يَتَّقُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ، فَنَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنِيَ بِذَلِكَ: وَكَيْلُ الرَّجُلِ وَقَيِّمُهُ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِ ضَيْعَتِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} وَهُوَ الرَّجُلُ يُوكِلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالتَّمْرِ وَيَشْرَبَ اللَّبَنَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ: مَنْزِلُ الرَّجُلِ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} يَعْنِي: بَيْتُ أَحَدِهِمْ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَالْعَبِيدُ مِنْهُمْ مِمَّا مَلَكُو. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} مِمَّا تُحِبُّونَ يَا ابْنَ آدَمَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قَالَ: خَزَائِنُ لِأَنْفُسِهِمْ، لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ. وَأَشْبَهُ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ}... إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَظْهَرَ مَعَانِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سُمُّوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِيهَا، عَلَى مَا أَبَاحَ لَهُمْ مِنَ الْأَكْلِ مِنْهَا؛ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ أَظْهَرَ مَعَانِيهِ فَتَوْجِيهُ مَعْنَاهُ إِلَى الْأَغْلَبِ الْأَعْرَفِ مِنْ مَعَانِيهِ أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْأَنْكَرِ مِنْهَا. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ كَانَ مَا خَالَفَ مِنَ التَّأْوِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: لَيْسَ فِي الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ حَرَجٌ أَوْلَى بِالصَّوَابِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْأَغْلَبُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} أَنَّهُ بِمَعْنَى: وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، ثُمَّ جَمَعَ هَؤُلَاءِ وَالزَّمْنَى الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ قَبْلُ فِي الْخِطَابِ، فَقَالَ: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ إِذَا جَمَعَتْ بَيْنَ خَبَرِ الْغَائِبِ وَالْمُخَاطَبِ غَلَّبَتْ الْمُخَاطَبَ، فَقَالَتْ: أَنْتَ وَأَخُوكَ قُمْتُمَا، وَأَنْتَ وَزَيْدٌ جَلَسْتُمَا، وَلَا تَقُولُ: أَنْتَ وَأَخُوكَ جَلَسَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَالْخَبَرُ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ غَلَّبَ الْمُخَاطَبَ، فَقَالَ: أَنْ تَأْكُلُوا، وَلَمْ يَقِلْ: أَنْ يَأْكُلُوا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَذَا الْأَكْلُ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَدْ عَلِمْنَاهُ، كَانَ لَهُمْ حَلَالًا إِذْ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ، أَوْ كَانَ أَيْضًا حَلَالًا لَهُمُ الْأَكْلُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِمْ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا تَوَهَّمْتَ، وَلَكِنَّهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا غَابُوا فِي مَغَازِيهِمْ، وَتَخَلَّفَ أَهْلُ الزَّمَانَةِ مِنْهُمْ، دَفَعَ الْغَازِيَ مِفْتَاحَ مَسْكَنِهِ إِلَى الْمُتَخَلِّفِ مِنْهُمْ، فَأَطْلَقَ لَهُ فِي الْأَكْلِ مِمَّا يُخْلِفُ فِي مَنْزَلِهِ مِنَ الطَّعَامِ، فَكَانَ الْمُتَخَلِّفُونَ يَتَخَوَّفُونَ الْأَكْلَ مِنْ ذَلِكَ وَرَبُّهُ غَائِبٌ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِ كَرَاهَةِ الْمُسْتَتْبَعِ أَكْلَ طَعَامِ غَيْرِ الْمُسْتَتْبَعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، لَقِيلَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ طَعَامِ غَيْرِ مَنْ أَضَافَكُمْ، أَوْ مِنْ طَعَامِ آبَاءِ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ، وَكَذَلِكَ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (أَنْ تَأْكُلُوا) خَبَرُ لَيْسَ، وَأَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لَهَا، فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِلَيَسَ، فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَيْتِهِ، لَا مَا قَالَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ؛ فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا، تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَا ضِيقَ عَلَى الْأَعْمَى، وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ، وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ، وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ، أَوْ مِنْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ، أَوْ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهَا، أَوْ مِنْ بُيُوتِ صَدِيقِكُمْ إِذَا أَذِنُوا لَكُمْ فِي ذَلِكَ، عِنْدَ مَغِيبِهِمْ وَمَشْهَدِهِمْ. وَالْمَفَاتِحُ: الْخَزَائِنُ، وَاحِدُهَا: مِفْتَحٌ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمَفَاتِيحِ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا فَهِيَ مَفْتَحٌ وَمَفَاتِحُ، وَهِيَ هَاهُنَا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ جَمْعُ مَفْتَحٍ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {أَوْ صَدِيقِكُمْ} فَلَوْ أَكَلْتَ مِنْ بَيْتِ صَدِيقَكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ، قَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِقَتَادَةَ: أَوْ لَا أَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْحُبِّ؟ قَالَ: أَنْتَ لِي صَدِيقٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْغَنِيُّ مِنَ النَّاسِ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْفَقِيرِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مَعَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} قَالَ: كَانَ الْغَنِيُّ يَدْخُلُ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَصَدِيقِهِ، فَيَدْعُوهُ إِلَى طَعَامِهِ لِيَأْكُلَ مَعَهُ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لِأَجْنَحُ أَنْ آكُلَ مَعَكَ، وَالْجُنْحُ: الْحَرَجُ وَأَنَا غَنِيٌّ وَأَنْتَ فَقِيرٌ،، فَأُمِرُوا أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتً. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، كَانُوا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمْ وَحْدَهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مَعَ غَيْرِهِ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَحْدَهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ مَعَ غَيْرِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا يَأْنَفُونَ وَيَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ، حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ، فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: كَانَتْ بَنُو كِنَانَةَ يَسْتَحِي الرَّجُلُ مِنْهُمْ أَنَّ يَأْكُلَ وَحْدَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ إِلَّا جَمِيعًا، وَلَا يَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ دِينًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي مُؤَاكَلَةِ الْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتً. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} قَالَ: كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَأْكُلُ أَبَدًا جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْكُلُ إِلَّا جَمِيعًا. فَقَالَ اللَّهُ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} فِي حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَا يَأْكُلُ طَعَامَهُ وَحْدَهُ، كَانَ يَحْمِلُهُ بَعْضَ يَوْمٍ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يَأْكُلُهُ مَعَهُ قَالَ: وَأَحْسَبُ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ كِنَانَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ إِلَّا مَعَ ضَيْفِهِمْ، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي أَنْ يَأْكُلُوا كَيْفَ شَاءُوا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا حَفْصٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَعِكْرِمَةَ، قَالَا كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الضَّيْفُ لَا يَأْكُلُونَ حَتَّى يَأْكُلَ الضَّيْفُ مَعَهُمْ، فَرَخَّصَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَرَجَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا مَعًا إِذَا شَاءُوا، أَوْ أَشْتَاتًا مُتَفَرِّقِينَ إِذَا أَرَادُوا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَزَلَ بِسَبَبِ مَنْ كَانَ يَتَخَوَّفُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ الْأَكْلَ مَعَ الْفَقِيرِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بِسَبَبِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَطْعَمُونَ وُحْدَانًا، وَبِسَبَبِ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا خَبَرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَلَا دَلَالَةَ فِي ظَاهِرِ التَنْزِيلِ عَلَى حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالصَّوَابُ التَّسْلِيمُ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التَنْزِيلِ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيلٌ. وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَإِذَا دَخَلْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بُيُوتَ أَنْفُسِكُمْ، فَسَلَّمُوا عَلَى أَهْلِيكُمْ وَعِيَالِكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قَالَا بَيْتَكَ، إِذَا دَخَلْتَهُ فَقُلْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قَالَ: سَلِّمْ عَلَى أَهْلِكَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْحٍ: وَسُئِلَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَحَقٌّ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَهَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَتَلَوْا: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: ذَلِكَ غَيْرَ مُرَّةٍ. قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} قَالَ: مَا رَأَيْتُهُ إِلَّا يُوجِبُهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، وَأَخْبَرَنِي زِيَادٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ بَيْتَهُ فَلْيُسَلِّمْ. قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: إِذَا خَرَجْتُ أَوَاجِبٌ السَّلَامُ، هَلْ أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ فَإِنَّمَا قَالَ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا}؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ وَاجِبًا، وَلَا آثِرُ عَنْ أَحَدٍ وُجُوبَهُ وَلَكِنْ أَحَبُّ إِلَيَّ وَمَا أَدَعُهُ إِلَّا نَاسِيًا. قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: لَا قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ؟ قَالَ: سَلِّمْ، قُلْ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، قُلْتُ لَهُ: قَوْلُكَ هَذَا إِذَا دَخَلْتُ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ عَمَّنْ تَأْثُرُهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ وَلَمْ يُؤْثَرْ لِي عَنْ أَحَدٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: ثَنَا صَدَقَةُ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً. قَالَ: مَا رَأَيْتُهُ إِلَّا يُوجِبُهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الرَّازِّيُّ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ، فَذَكَرَ مِثْلُهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} يَقُولُ: سَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ، وَعَلَى غَيْرِ أَهَالِيكُمْ، فَسَلِّمُوا إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: فَإِذَا دَخَلْتُمُ الْمَسَاجِدَ فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قَالَ: هِيَ الْمَسَاجِدُ، يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا مِنْ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا نَاسٌ مِنْكُمْ، فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: لِيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْمُسَلِّمُ سَلَّمَ عَلَيْهِ، كَمِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} إِنَّمَا هُوَ: لَا تَقْتُلْ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} قَالَ: يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَصِينٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا فِيهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ مَاهَانَ، قَالَ: إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، قَالَ: تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ شُعْبَةُ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ إِذَا دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، قَالَ: ثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا فِيهِ يَهُودُ، فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا مِنْ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْ ذَلِكَ بَيْتًا دُونَ بَيْتٍ، وَقَالَ: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} يَعْنِي: بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَكَانَ مَعْلُومًا إِذْ لَمْ يُخَصَّصْ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْبُيُوتِ دُونَ بَعْضٍ، أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ جَمِيعُهَا، مَسَاجِدُهَا وَغَيْرُ مَسَاجِدِهَا.وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. وَقَوْلُهُ: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وَنُصِبَ تَحِيَّةً، بِمَعْنَى: تُحَيِّونَ أَنْفُسَكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ السَّلَامُ تَحِيَّةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيُحَيِّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: إِنَّمَا نُصِبَتْ بِمَعْنَى: أَمَرَكُمْ بِهَا تَفْعَلُونَهَا تَحِيَّةً مِنْهُ، وَوَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَذِهِ التَّحِيَّةَ الْمُبَارَكَةَ الطَّيِّبَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ. وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَكَذَا يُفَصِّلُ اللَّهُ لَكُمْ مَعَالِمَ دِينِكُمْ، فَيُبَيِّنُهَا لَكُمْ، كَمَا فَصَّلَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَحَلَّ لَكُمْ فِيهَا، وَعَرَّفَكُمْ سَبِيلَ الدُّخُولِ عَلَى مَنْ تَدْخُلُونَ عَلَيْهِ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يَقُولُ: لِكَيْ تَفْقَهُوا عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَأَدَبَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا الْمُؤْمِنُونَ حَقَّ الْإِيمَانِ، إِلَّا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ} يَقُولُ: وَإِذَا كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} يَقُولُ: عَلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ مِنْ حَرْبٍ حَضَرَتْ، أَوْ صَلَاةٍ اجْتَمَعَ لَهَا، أَوْ تَشَاوَرَ فِي أَمْرٍ نَزَلَ (لَمْ يَذْهَبُوا) يَقُولُ: لَمْ يَنْصَرِفُوا عَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} يَقُولُ: إِذَا كَانَ أَمْرَ طَاعَةٍ لِلَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} قَالَ: أَمْرٌ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَامٌّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ: سَأَلَ مَكْحُولًا الشَّامِيَّ إِنْسَانٌ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَمَكْحُولٌ جَالِسٌ مَعَ عَطَاءٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} فَقَالَ مَكْحُولٌ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةَ، وَفِي زَحْفٍ، وَفِي كُلِّ أَمْرٍ جَامِعٍ، قَدْ أَمَرَ أَنْ لَا يَذْهَبَ أَحَدٌ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ الْإِمَامَ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ جَامِعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنِي ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَالْإِمَامٌ يَخْطُبُ، قَامَ فَأَمْسَكَ بِأَنْفِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَنْ يَخْرُجَ، قَالَ: فَكَانَ رَجُلٌ قَدْ أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَامَ إِلَى هَرَمِ بْنِ حَيَّانَ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَأَخَذَ بِأَنْفِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ هَرَمٌ أَنْ يَذْهَبَ، فَخَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ فَأَقَامَ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِمَ، قَالَ لَهُ هَرَمٌ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: فِي أَهْلِي؟ قَالَ: أَبِإِذْنٍ ذَهَبْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُمْتُ إِلَيْكَ وَأَنْتَ تَخْطُبُ فَأَخَذْتُ بِأَنْفِي، فَأَشَرْتَ إِلَيَّ أَنِ اذْهَبْ فَذَهَبْتُ، فَقَالَ: أَفَاتَّخَذْتَ هَذَا دَغَلًا؟ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَخِّرْ رِجَالَ السُّوءِ إِلَى زَمَانِ السُّوءِ. حَدَّثَنِي الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} قَالَ: هُوَ الْجُمُعَةُ إِذَا كَانُوا مَعَهُ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ.
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} قَالَ: الْأَمْرُ الْجَامِعُ حِينَ يَكُونُوا مَعَهُ فِي جَمَاعَةِ الْحَرْبِ أَوْ جُمُعَةٍ، قَالَ: وَالْجُمُعَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْجَامِعِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ إِذَا قَعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ سُلْطَانٍ، إِذَا كَانَ حَيْثُ يَرَاهُ أَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَإِذَا كَانَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَنْصَرِفُونَ يَا مُحَمَّدُ إِذَا كَانُوا مَعَكَ فِي أَمْرٍ جَامِعٍ عَنْكَ إِلَّا بِإِذْنِكَ لَهُمْ طَاعَةً مِنْهُمْ لِلَّهِ وَلَكَ، وَتَصْدِيقًا بِمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَقًّا، لَا مَنْ يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ، فَيَنْصَرِفُ عَنْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْكَ لَهُ، بَعْدَ تَقَدُّمِكَ إِلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ عَنْكَ إِلَّا بِإِذْنِكَ.وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِذَا اسْتَأْذَنَكَ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ لَا يَذْهَبُونَ عَنْكَ إِلَّا بِإِذْنِكَ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ، يَعْنِي: لِبَعْضِ حَاجَاتِهِمُ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فِي الِانْصِرَافِ عَنْكَ لِقَضَائِهَا {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} يَقُولُ: وَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ بِأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ عَنْ تَبِعَاتِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لِذُنُوبِ عِبَادِهِ التَّائِبِينَ، (رَحِيمٌ) بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًاقَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَصْحَابِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تَجْعَلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَهَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: اتَّقُوا دُعَاءَهُ عَلَيْكُمْ، بِأَنْ تَفْعَلُوا مَا يُسْخِطُهُ، فَيَدْعُو لِذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَتَهْلَكُوا، فَلَا تَجْعَلُوا دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُوجِبَةٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ ثَنْيَ أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} دَعْوَةُ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ مُوجِبَةٌ، فَاحْذَرُوهَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَدْعُوَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغِلَظٍ وَجَفَاءٍ، وَأَمْرٍ لَهُمْ أَنْ يَدْعُوَهُ بِلِينٍ وَتَوَاضُعٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} قَالَ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي لَينٍ وَتَوَاضُعٍ، وَلَا يَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، فِي تَجَهُّمٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ، {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} قَالَ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي لَينٍ وَتَوَاضُعٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} قَالَ: أَمَرَهُمْ أَنْ يُفَخِّمُوهُ وَيُشَرِّفُوهُ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي التَّأْوِيلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَبْلَ قَوْلَهُ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْتُوا مِنَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ مَا يَكْرَهُهُ، وَالَّذِي بَعْدَهُ وَعِيدٌ لِلْمُنْصَرِفِينَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَنْهُ، فَالَّذِي بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ تَحْذِيرًا لَهُمْ سُخْطَهُ أَنْ يَضْطَّرَهُ إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ أَشْبَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهُمْ بِمَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ بِالْقَوْلِ وَالدُّعَاءِ. وَقَوْلُهُ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُنْصَرِفُونَ عَنْ نَبِيِّكُمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، تَسَتُّرًا وَخِفْيَةً مِنْهُ، وَإِنَّ خَفِيَ أَمْرُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ، فَلْيَتَّقِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ، الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِيالِانْصِرَافِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَيُطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَيَكْفُرُوا بِاللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} قَالَ: كَانُوا يَسْتَتِرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَيَقُومُونَ، فَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قَالَ: يُطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَظْهَرَ الْكُفْرُ بِلِسَانِهِ فَتُضْرَبُ عُنُقُهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} قَالَ: خِلَافً. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: اللِّوَاذُ: يَلُوذُ عَنْهُ، وَيَرُوغُ وَيَذْهَبُ بِغَيْرِ إِذَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذَا أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ، أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. الْفِتْنَةُ هَاهُنَا: الْكُفْرُ، وَاللِّوَاذُ: مَصْدَرُ لَاوَذْتُ بِفُلَانٍ مُلَاوَذَةً وَلِوَاذًا، وَلِذَلِكَ ظَهَرَتِ الْوَاوُ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا لِلُذْتُ لَقِيلَ: لِيَاذًا، كَمَا يُقَالُ: قُمْتُ قِيَامًا، وَإِذَا قِيلَ: قَاوَمْتُكَ، قِيلَ: قَوَامًا طَوِيلًا. وَاللِّوَاذُ: هُوَ أَنَّ يَلُوذَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، يَسْتَتِرُ هَذَا بِهَذَا، وَهَذَا بِهَذَا، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يَقُولُ: أَوْ يُصِيبُهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ مُوجِعٌ، عَلَى صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ، وَخِلَافِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} وَأُدْخِلَتْ "عَنْ "؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَلْيُحَذِّرِ الَّذِينَ يَلُوذُونَ عَنْ أَمْرِهِ، وَيُدْبِرُونَ عَنْهُ مَعْرَضَيْنِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِوَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مُلْكُ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: يَقُولُ: فَلَا يَنْبَغِي لِمَمْلُوكٍ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ مَالِكِهِ فَيَعْصِيَهِ، فَيَسْتَوْجِبَ بِذَلِكَ عُقُوبَتَهُ، يَقُولُ: فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَصْلُحُ لَكُمْ خِلَافَ رَبِّكُمُ الَّذِي هُوَ مَالِكُكُمْ فَأَطِيعُوهُ، وَأْتَمِرُوا لِأَمْرِهِ، وَلَا تَنْصَرِفُوا عَنْ رَسُولِهِ إِذَا كُنْتُمْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَوْلُهُ: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} مِنْ طَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا حَدَّثَنِي أَيْضًا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} صَنِيعُكُمْ هَذَا أَيْضًا {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} يَقُولُ: وَيَوْمَ يُرْجَعُ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (فَيُنْبِئُهُمْ) يَقُولُ: فَيُخْبِرُهُمْ حِينَئِذٍ، (بِمَا عَمِلُوا) فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوا فِيهَا، مِنْ خِلَافِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ (وَاللَّهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِكُلِّ شَيْءٍ عَمِلْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَغَيْرُكُمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ مُوَفٍّ كُلَّ عَامِلٍ مِنْكُمْ أَجْرَ عَمَلِهِ يَوْمَ تَرْجِعُونَ إِلَيْهِ. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ.
|