الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [251] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِبَعْضِ النَّاسِ وَهُمْ أَهْلُ الطَّاعَةِ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِهِ بَعْضًا، وَهُمْ أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ لِلَّهِ وَالشِّرْكِ بِهِ- كَمَا دَفَعَ عَنِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ طَالُوتَ يَوْمَ جَالُوتَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْمَعْصِيَةِ لَهُ، وَقَدْ أَعْطَاهُمْ مَا سَأَلُوا رَبَّهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ بَعْثَةِ مَلِكً عَلَيْهِمْ لِيُجَاهِدُوا مَعَهُ فِي سَبِيلِهِ بِمَنْ جَاهَدَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَقِينِ وَالصَّبْرِ، جَالُوتَ وَجُنُودَهُ “ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ“، يَعْنِي: لَهَلَكَ أَهْلُهَا بِعُقُوبَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَفَسَدَتْ بِذَلِكَ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو مَنٍّ عَلَى خَلْقِهِ وَتَطَوُّلٍ عَلَيْهِمْ، بِدَفْعِهِ بِالْبَرِّ مِنْ خَلْقِهِ عَنِ الْفَاجِرِ، وَبِالْمُطِيعِ عَنِ الْعَاصِي مِنْهُمْ، وَبِالْمُؤْمِنِ عَنِ الْكَافِرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَهْلَ النِّفَاقِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ مَشَاهِدِهِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ لِلشَّكِّ الَّذِي فِي نُفُوسِهِمْ وَمَرَضِ قُلُوبِهِمْ، وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مُعَاجَلَتَهُمُ الْعُقُوبَةَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْبَصَائِرِ وَالْجَدِّ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَذَوُو الْيَقِينِ بِإِنْجَازِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَعْدَهُ عَلَى جِهَادِ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ، مِنَ النَّصْرِ فِي الْعَاجِلِ، وَالْفَوْزِ بِجِنَانِهِ فِي الْآجِلِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}، يَقُولُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بِالْبَرِّ عَنِ الْفَاجِرِ، وَبِبَقِيَّةِ أَخْلَافِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، “ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ“، بِهَلَاكِ أَهْلِهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}، يَقُولُ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ بِالْبَرِّ عَنِ الْفَاجِرِ، وَبِبَقِيَّةِ أَخْلَافِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ لَهَلَكَ أَهْلُهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: لَوْلَا بَقِيَّةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ فِيكُمْ لَهَلَكْتُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}، يَقُولُ: لَهَلَكَ مَنْ فِي الْأَرْضِ. حَدَّثَنِي أَبُو حُمَيْدٍ الْحِمْصِيُّ أَحْمَدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ عَنْ مِئَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلَاء)، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ أَبُو حُمَيدٍ الْحِمْصِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لِيُصْلِحُ بِصَلَاحِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَأَهَّلَ دُوَيْرَتِهِ ودُويْراتٍ حَوْلَهُ، وَلَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِم). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى قَوْلِهِ: “الْعَالَمِينَ“، وَذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ فِيهِ. وَأَمَّا الْقَرَأَةُ، فَإِنَّهَا اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}. فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَرَأَةِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ} عَلَى وَجْهِ الْمَصْدَرِ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “دَفَعَ اللَّهُ عَنْ خَلْقِهِ فَهُوَ يَدْفَعُ دَفْعًا“. وَاحْتَجْتْ لِاخْتِيَارِهَا ذَلِكَ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالدَّفْعِ عَنْ خَلْقِهِ، وَلَا أَحَدَ يُدافِعُهُ فَيُغَالِبُهُ. وَقَرَأَتْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ أُخَرُ مِنَ الْقَرَأَةِ: (وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ) عَلَى وَجْهِ الْمَصْدَرِ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “دَافَعَ اللَّهُ عَنْ خَلْقِهِ فَهُوَ يُدَافِعُ مُدَافَعَةً وَدِفَاعًا “ وَاحْتَجَّتْ لِاخْتِيَارِهَا ذَلِكَ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ خَلْقِهِ يُعَادُونَ أَهْلَ دِينِ اللَّهِ وَوِلَايَتِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَهُمْ بِمُحَارَبَتِهِمْ إِيَّاهُمْ وَمُعَاداَتِهِمْ لَهُمْ، لِلَّهِ مُدَافِعُونَ بِظُنُونِهِمْ، وَمُغَالِبُونَ بِجَهْلِهِمْ، وَاللَّهُ مُدَافِعُهُمْ عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ قَرَأَتْ بِهِمَا الْقَرَأَةُ، وَجَاءَتْ بِهِمَا جَمَاعَةُ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ بِأَحَدِ الْحَرْفَيْنِ إِحَالَةُ مَعْنَى الْآخَرِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ دَافَعَ غَيْرَهُ عَنْ شَيْءٍ فَمُدَافِعُهُ عَنْهُ بِشَيْءٍ دَافَعَ. وَمَتَى امْتَنَعَ الْمَدْفُوعُ عَنِ الِانْدِفَاعِ، فَهُوَ لِمُدَافِعِهِ مُدَافِعٌ. وَلَا شَكَّ أَنَّ جَالُوتَ وَجُنُودَهُ كَانُوا بِقِتَالِهِمْ طَالُوتَ وَجُنُودَهُ مُحَاوِلِينَ مُغَالَبَةَ حِزْبِ اللَّهِ وَجُنْدِهِ، وَكَانَ فِي مُحَاوَلَتِهِمْ ذَلِكَ مُحَاوَلَةُ مُغَالَبَةِ اللَّهِ وَدِفَاعِهِ عَمَّا قَدْ تَضَمَّنَ لَهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ. وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى “ مُدَافَعَةِ اللَّهِ “ عَنِ الَّذِينَ دَافَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَنْ قَاتَلَ جَالُوتَ وَجُنُودَهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. فَبَيِّنٌ إذًا أَنَّ سَوَاءً قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)، فِي التَّأْوِيلِ وَالْمَعْنَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [252] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ “ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَصَّ اللَّهُ فِيهَا أَمْرَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَأَمْرَ الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى الَّذِينَ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: “آيَاتُ اللَّهِ“، حُجَجَهُ وَأَعْلَامَهُ وَأَدِلَّتَهُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَهَذِهِ الْحُجَجُ الَّتِي أَخْبَرْتُكَ بِهَا يَا مُحَمَّدُ، وَأَعْلَمْتُكَ مِنْ قُدْرَتِي عَلَى إِمَاتَةِ مِنْ هَرَبَ مِنَ المَوْتِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمْ أُلُوفٌ، وَإِحْيَائِي إِيَّاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَمْلِيكِي طَالُوتَ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعْدَ إِذْ كَانَ سَقَّاءً أَوْ دَبَّاغًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ، وَسَلْبِي ذَلِكَ إِيَّاهُ بِمَعْصِيَتِهِ أَمْرِي، وَصَرْفِي مُلْكَهُ إِلَى دَاوُدَ لِطَاعَتِهِ إِيَّايَ، وَنُصْرَتِي أَصْحَابَ طَالُوتَ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَضَعْفِ شَوْكَتِهِمْ عَلَى جَالُوتَ وَجُنُودِهِ، مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، وَشِدَّةِ بَطْشِهِمْ حُجَجِي عَلَى مَنْ جَحَدَ نِعْمَتِي، وَخَالَفَ أَمْرِي، وَكَفَرَ بِرَسُولِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، الْعَالِمِينَ بِمَا اقْتَصَصْتُ عَلَيْكَ مِنَ الأَنْبَاءِ الْخَفِيَّةِ، الَّتِي يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِي لَمْ تَتَخَرَّصْهَا وَلَمْ تَتَقَوَّلْهَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، لِأَنَّكَ أُمِّيٌّ، وَلَسْتَ مِمَّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ، فَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ أَمْرُكَ، وَيَدَّعُوَا أَنَّكَ قَرَأْتَ ذَلِكَ فَعَلِمْتَهُ مِنْ بَعْضِ أَسْفَارِهِمْ وَلَكِنَّهَا حُجَجِي عَلَيْهِمْ أَتْلُوهَا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، بِالْحَقِّ الْيَقِينِ كَمَا كَانَ، لَا زِيَادَةَ فِيهِ، وَلَا تَحْرِيفَ، وَلَا تَغْيِيرَ شَيْءٍ مِنْهُ عَمَّا كَانَ “ وَإِنَّكَ “ يَا مُحَمَّدُ “ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ“، يَقُولُ: إِنَّكَ لَمُرْسَلٌ مُتَّبِعٌ فِي طَاعَتِي، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِي عَلَى هَوَاكَ، فَسَالِكٌ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِكَ سَبِيلَ مَنْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِي الَّذِينَ أَقَامُوا عَلَى أَمْرِي، وَآثَرُوا رِضَايَ عَلَى هَوَاهُمْ، وَلَمْ تُغَيِّرْهُمُ الْأَهْوَاءُ، وَمَطَامِعُ الدُّنْيَا، كَمَا غَيَّرَ طَالُوتَ هَوَاهُ، وَإِيثَارُهُ مُلْكَهُ، عَلَى مَا عِنْدِي لِأَهْلِ وَلَايَتِي، وَلَكِنَّكَ مُؤْثِرٌ أَمْرِي كَمَا آثَرَهُ الْمُرْسَلُونَ الَّذِينَ قَبْلَكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “تِلْكَ“، الرُّسُلَ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ قِصَصَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، كَمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وشَمْوِيلَ وَدَاوُدَ، وَسَائِرَ مَنْ ذَكَرَ نَبَأَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ رُسُلِي فَضَّلْتُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَكَلَّمْتُ بَعْضَهُمْ وَالَّذِي كَلَّمْتُهُ مِنْهُمْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعْتُ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ عَلَى بَعْضٍ بِالْكَرَامَةِ وَرِفْعَةِ الْمَنْـزِلَةِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “تِلْكَ {الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، قَالَ: يَقُولُ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ. يَقُولُ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، وَأَرْسَلَ مُحَمَّدًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ لِيُرْعَبُ مِنِّي عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَقِيلَ لِي: سَلْ تُعْطَهُ، فَاخْتَبَأْتُهَا شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، فَهِيَ نَائِلَةٌ مِنْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا).
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}، وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ عَلَى نُبُوَّتِهِ: مِنْ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مَعَ الْإِنْجِيلِ الَّذِي أَنْـزَلْتُهُ إِلَيْهِ، فَبَيَّنْتُ فِيهِ مَا فَرَضْتُ عَلَيْهِ. وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “وَأَيَّدْنَاهُ“، وَقَوَّيْنَاهُ وَأَعَنَّاهُ “ بِرُوحِ الْقُدُسِ“، يَعْنِي بِرَوْحِ اللَّهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى رُوحِ الْقُدُسِ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ القَوْلِ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ “ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ“، يَعْنِي مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، وَبَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَا أَبَانَ لَهُمُ الْحَقَّ، وَأَوْضَحَ لَهُمُ السَّبِيلَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ “ الْهَاءَ “ وَ“ الْمِيمَ “ فِي قَوْلِهِ: “مِنْ بَعْدِهِمْ“، مِنْ ذِكْرِ مُوسَى وَعِيسَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مُوسَى وَعِيسَى. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مُوسَى وَعِيسَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [253] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَلَكِنِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ، لَمَّا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ مِنْهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْ لَا يَقْتَتِلُوا، فَاقْتَتَلُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ بِتَحْرِيمِ الِاقْتِتَالِ وَالِاخْتِلَافِ، وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَرِسَالَةِ رُسُلِهِ وَوَحْيِ كِتَابِهِ، فَكَفَرَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ بَعْضُهُمْ، وَآمَنَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُمْ أَتَوْا مَا أَتَوْا مِنَ الكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى خَطَأٍ، تَعَمُدًا مِنْهُمْ لِلْكُفْرِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعِبَادِهِ: “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا“، يَقُولُ: وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَحْجِزَهُمْ- بِعِصْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ- عَنْ مَعْصِيَتِهِ فَلَا يَقْتَتِلُوا، مَا اقْتَتَلُوا وَلَا اخْتَلَفُوا “ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ“، بِأَنْ يُوَفِّقَ هَذَا لِطَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُطِيعُهُ، وَيَخْذُلُ هَذَا فَيَكْفُرُ بِهِ وَيَعْصِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [254] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَتَصَدَّقُوا مِنْهَا، وَآتُوا مِنْهَا الْحُقُوقَ الَّتِي فَرَضْنَاهَا عَلَيْكُمْ. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}، قَالَ: مِنَ الزَّكَاةِ وَالتَّطَوُّعِ. “ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}، يَقُولُ: ادَّخِرُوا لِأَنْفُسِكُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي دُنْيَاكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، بِالنَّفَقَةِ مِنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ، وَإِيتَاءِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِيهَا، وَابْتَاعُوا بِهَا مَا عِنْدَهُ مِمَّا أَعَدَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنَ الكَرَامَةِ، بِتَقْدِيمِ ذَلِكَ لِأَنْفُسِكُمْ، مَا دَامَ لَكُمُ السَّبِيلُ إِلَى ابْتِيَاعِهِ، بِمَا نَدَبْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ “ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ“، يَعْنِي مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ يَوْمٍ لَا بَيْعَ فِيهِ، يَقُولُ: لَا تَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى ابْتِيَاعِ مَا كُنْتُمْ عَلَى ابْتِيَاعِهِ- بِالنَّفَقَةِ مِنْ أَمْوَالِكُمُ الَّتِي رَزَقَتْكُمُوهَا- بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، أَوْ نَدَبْتُكُمْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرِينَ، لِأَنَّهُ يَوْمَ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ، لَا يَوْمَ عَمَلٍ وَاكْتِسَابٍ وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، فَيَكُونُ لَكُمْ إِلَى ابْتِيَاعِ مَنَازِلِ أَهْلِ الْكَرَامَةِ بِالنَّفَقَةِ حِينَئِذٍ- أَوْ بِالْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، سَبِيلٌ. ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَمَلِ الَّذِي يُنَالُ بِهِ رِضَا اللَّهِ أَوِ الْوُصُولُ إِلَى كَرَامَتِهِ بِالنَّفَقَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ، إِذْ كَانَ لَا مَالَ هُنَالِكَ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ ذَلِكَ بِهِ يَوْمٌ لَا مُخَالَّةَ فِيهِ نَافِعَةٌ كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ خَلِيلَ الرَّجُلِ فِي الدُّنْيَا قَدْ كَانَ يَنْفَعُهُ فِيهَا بِالنُّصْرَةِ لَهُ عَلَى مَنْ حَاوَلَهُ بِمَكْرُوهٍ وَأَرَادَهُ بِسُوءٍ، وَالْمُظَاهَرَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ. فَآيَسَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْصُرُ أَحَدًا مِنَ اللَّهِ، بَلِ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَوْمئِذٍ مَعَ فَقْدِهِمُ السَّبِيلَ إِلَى ابْتِيَاعِ مَا كَانَ لَهُمْ إِلَى ابْتِيَاعِهِ سَبِيلٌ فِي الدُّنْيَا بِالنَّفَقَةِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَالْعَمَلِ بِأَبْدَانِهِمْ، وَعُدْمِهُمُ النُّصَرَاءَ مِنَ الخِلَّانِ، وَالظُّهَرَاءِ مِنَ الإِخْوَانِ لَا شَافِعَ لَهُمْ يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَشْفَعُ فِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ بِالْقَرَابَةِ وَالْجِوَارِ وَالْخُلَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَسْبَابِ، فَبَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ يَوْمئِذٍ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قِيلِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ فِي الْآخِرَةِ إِذَا صَارُوا فِيهَا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 1101] وَهَذِهِ الْآيَةُ مَخْرَجُهَا فِي الشَّفَاعَةِ عَامٌّ وَالْمُرَادُ بِهَا خَاصٌّ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}، لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ أَهْلَ وَلَايَةِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، يَشْفَعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ نَاسًا يَتَحَابُّونَ فِي الدُّنْيَا، وَيَشْفَعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَأَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا خُلَّةَ إِلَّا خُلَّةَ الْمُتَّقِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَالْجَاحِدُونَ لِلَّهِ الْمُكَذِّبُونَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ “ هُمُ الظَّالِمُونَ“، يَقُولُ: هُمُ الْوَاضِعُونَ جُحُودَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْفَاعِلُونَ غَيْرَ مَا لَهُمْ فِعْلُهُ، وَالْقَائِلُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ قَوْلُهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى “ الظُّلْمِ “ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: “وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ“، دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: “وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ“، إِنَّمَا هُوَ مُرَادٌ بِهِ أَهْلُ الْكُفْرِ، فَلِذَلِكَ أَتْبَعَ قَوْلَهُ ذَلِكَ: “وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ“. فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: حَرَمْنَا الْكُفَّارَ النُّصْرَةَ مِنَ الْأَخِلَّاءِ، وَالشَّفَاعَةَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَقْرِبَاءِ، وَلَمْ نَكُنْ لَهُمْ فِي فِعْلِنَا ذَلِكَ بِهِمْ ظَالِمِينَ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ جَزَاءً مِنَّا لِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا، بَلِ الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَا أَتَوْا مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَوْجَبُوا لَهَا الْعُقُوبَةَ مِنْ رَبِّهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ صَرَفَ الْوَعِيدَ إِلَى الْكَفَّارِ وَالْآيَةُ مُبْتَدَأَةٌ بِذِكْرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْآيَةَ قَدْ تَقَدَّمَهَا ذِكْرُ صِنْفَيْنِ مِنَ النَّاسِ: أَحَدُهُمَا أَهْلُ كُفْرٍ، وَالْآخِرُ أَهْلُ إِيمَانٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}. ثُمَّ عَقَّبَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الصِّنْفَيْنِ بِمَا ذَكَرَهُمْ بِهِ، بِحَضِّ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ عَلَى مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ فِي طَاعَتِهِ وَفِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، قَبْلَ مَجِيءِ الْيَوْمِ الَّذِي وَصَفَ صِفَتَهُ. وَأَخْبَرَ فِيهِ عَنْ حَالِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، إِذْ كَانَ قِتَالُ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ فِي مَعْصِيَتِهِ وَنَفَقَتِهِمْ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا أَنْتُمْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ فِي طَاعَتِي، إِذْ كَانَ أَهْلُ الْكُفْرِ بِي يُنْفِقُونَ فِي مَعْصِيَتِي مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعَ فِيهِ فَيُدْرِكُ أَهْلُ الْكُفْرِ فِيهِ ابْتِيَاعَ مَا فَرَّطُوا فِي ابْتِيَاعِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا خُلَّةَ لَهُمْ يَوْمئِذٍ تَنْصُرُهُمْ مِنِّي، وَلَا شَافِعَ لَهُمْ يَشْفَعُ عِنْدِي فَتُنْجِيهِمْ شَفَاعَتُهُ لَهُمْ مِنْ عِقَابِي. وَهَذَا يَوْمئِذٍ فِعْلِي بِهِمْ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَهُمُ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ دُونِي، لِأَنِّي غَيْرُ ظَلَّامٍ لِعَبِيدِي. وَقَدْ:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: “وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ“، وَلَمْ يَقُلْ: “الظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ“.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “اللَّهُ“. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: “لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ “ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُعْبَدَ شَيْءٌ غَيْرُ اللَّهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي صِفَتُهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. يَقُولُ: “اللَّهُ “ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ الْخَلْقِ “ الْحَيُّ الْقَيُّومُ“، لَا إِلَهَ سِوَاهُ، لَا مَعْبُودَ سِوَاهُ، يَعْنِي: وَلَا تَعْبُدُوا شَيْئًا سِوَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَا يَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، وَالَّذِي صِفَتُهُ مَا وَصَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ إِبَانَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْبَيِّنَاتِ مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَخْبَرَنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَاقْتَتَلُوا فِيهِ كُفْرًا بِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِيمَانًا بِهِ مِنْ بَعْضٍ. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلتَّصْدِيقِ بِهِ، وَوَفَّقَنَا لِلْإِقْرَارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “الْحَيُّ “ فَإِنَّهُ يَعْنِي: الَّذِي لَهُ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ، وَالْبَقَاءُ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ بِحَدٍّ، وَلَا آخِرَ لَهُ بِأَمَدٍ، إِذْ كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَلِحَيَاتِهِ أَوَّلٌ مَحْدُودٌ، وَآخِرٌ مَمْدُودٌ، يَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعٍ أَمَدِهَا، وَيَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ غَايَتِهَا. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: “الْحَيُّ “ حَيٌّ لَا يَمُوتُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مَثَلُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَحْثِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ “ حَيًّا“، لِصَرْفِهِ الْأُمُورَ مَصَارِفَهَا وَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ مَقَادِيرَهَا، فَهُوَ حَيٌّ بِالتَّدْبِيرِ لَا بِحَيَاةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ حَيٌّ بِحَيَاةٍ هِيَ لَهُ صِفَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ اسْمٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ تَسَمَّى بِهِ، فَقُلْنَاهُ تَسْلِيمًا لِأَمْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “الْقَيُّومُ“، فَإِنَّهُ “ الْفَيْعُولُ “ مِنَ “ الْقِيَامِ “ وَأَصْلُهُ “ الْقَيْوُومُ“،: سَبَقَ عَيْنَ الْفِعْلِ، وَهِيَ “ وَاوٌ“، “ يَاءٌ “ سَاكِنَةٌ، فَأُدْغِمَتَا فَصَارَتَا “ يَاءً “ مُشَدَّدَةً. وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ “ وَاوٍ “ كَانَتْ لِلْفِعْلِ عَيْنًا، سَبَقَتْهَا “ يَاءٌ “ سَاكِنَةٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: “الْقَيُّومُ“، الْقَائِمُ بِرِزْقِ مَا خَلَقَ وَحَفِظِهِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ: لَـمْ تُخْـلَقُ السَّـمَاءُ وَالنُّجـومُ *** وَالشَّـمْسُ مَعَهَـا قَمَـرٌ يَعُـومُ قَـدَّرَهُ الْمُهَيْمِـنُ الْقَيُّـومُ *** وَالْجِسْـرُ وَالْجَنَّـةُ وَالْجَحِـيمُ إِلَّا لِأَمْـرٍ شَـأْنُهُ عَظِيـمُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: “الْقَيُّومُ“، قَالَ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: “الْقَيُّومُ“، قَيِّمُ كُلِّ شَيْءٍ، يَكْلَؤُهُ وَيَرْزُقُهُ وَيَحْفَظُهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: “الْقَيُّومُ “ وَهُوَ الْقَائِمُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ: “الْحَيُّ الْقَيُّومُ“، قَالَ: الْقَائِمُ الدَّائِمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ“، لَا يَأْخُذُهُ نُعَاسٌ فَيَنْعَسُ، وَلَا نَوْمٌ فَيَسْتَثْقِلُ نَوْمًا. “ وَالْوَسَنُ “ خُثُورَةُ النَّوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُدَيِّ بْنِ الرِّقَاعِ: وَسْـنَانُ أَقْصَـدَهُ النُّعَـاسُ فَـرَنَّقَتْ *** فِـي عَيْنِـهِ سِـنَةٌ وَلَيْسَ بِنَـائِمِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهَا خُثُورَةُ النَّوْمِ فِي عَيْنِ الْإِنْسَانِ، قَوْلُ الْأَعْشَى مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ: تُعَـاطِي الضَّجِـيعَ إِذَا أَقْبَلَـتْ *** بُعَيْـدَ النُّعَـاسِ وَقَبْـلَ الْوَسَـنِ وَقَالَ آخَرُ: بَاكَرَتْهَـا الْأَغْـرَابُ فِـي سِـنَةِ النَّـوْ *** مِ فَتَجْـرِي خِـلَالَ شَـوْكِ السَّـيَّالِ يَعْنِي عِنْدَ هُبُوبِهَا مِنَ النَّوْمِ وَوَسَنُ النَّوْمِ فِي عَيْنِهَا، يُقَالُ مِنْهُ: “وَسَنَ فُلَانٌ فَهُوَ يَوْسَنُ وَسَنًا وَسِنَةً وَهُوَ وَسْنَانُ“، إِذَا كَانَ كَذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: “لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ “ قَالَ: السِّنَةُ: النُّعَاسُ، وَالنَّوْمُ: هُوَ النَّوْمُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ “ السِّنَةُ: النُّعَاسُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحُسْنِ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قَالَا نَعْسَةٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} قَالَ: السِّنَةُ: الْوَسْنَةُ، وَهُوَ دُونَ النَّوْمِ، وَالنَّوْمُ: الِاسْتِثْقَالُ، حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} السِّنَةُ: النُّعَاسُ، وَالنَّوْمُ: الِاسْتِثْقَالُ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَاكِ، مَثَلَهُ سَوَاءً. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} أَمَّا “ سِنَةٌ“، فَهُوَ رِيحُ النَّوْمِ الَّذِي يَأْخُذُ فِي الْوَجْهِ فَيَنْعَسُ الْإِنْسَانُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} قَالَ: “السِّنَةُ“، الْوَسْنَانُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ. حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَرْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَحْيَى بْنِ رَافِعٍ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قَالَ: النُّعَاسُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “لَا {تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} قَالَ: “الْوَسْنَانُ“: الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ لَا يَعْقِلُ، حَتَّى رُبَّمَا أَخَذَ السَّيْفَ عَلَى أَهْلِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا عَنَى تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} لَا تَحُلُّهُ الْآفَاتُ، وَلَا تَنَالُهُ الْعَاهَاتُ. وَذَلِكَ أَنَّ “ السِّنَةَ “ وَ“ النَّوْمَ“، مَعْنَيَانِ يَغْمُرَانِ فَهْمَ ذِي الْفَهْمِ، وَيُزِيلَانِ مَنْ أَصَابَاهُ عَنِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَاهُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} الَّذِي لَا يَمُوتُ “ الْقَيُّومُ “ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ دُونَهُ بِالرِّزْقِ وَالْكَلَاءَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ “ {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، لَا يُغَيِّرُهُ مَا يُغَيِّرُ غَيْرَهُ، وَلَا يُزِيلُهُ عَمَّا لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ تَنَقُّلُ الْأَحْوَالِ وَتَصْرِيفُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، بَلْ هُوَ الدَّائِمُ عَلَى حَالٍ، وَالْقَيُّومُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، لَوْ نَامَ كَانَ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا، لَأَنَّ النَّوْمَ غَالِبُ النَّائِمِ قَاهِرُهُ، وَلَوْ وَسَنَ لَكَانَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِمَا دَكًّا، لِأَنَّ قِيَامَ جَمِيعِ ذَلِكَ بِتَدْبِيرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَالنَّوْمُ شَاغِلُ الْمُدَبِّرِ عَنِ التَّدْبِيرِ، وَالنُّعَاسُ مَانِعُ الْمُقَدِّرِ عَنِ التَّقْدِيرِ بِوَسَنِهِ. كَمَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمَّرٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: “لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ “ أَنَّ مُوسَى سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ: هَلْ يَنَامُ اللَّهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَرِّقُوهُ ثَلَاثًا فَلَا يَتْرُكُوهُ يَنَامُ. فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَعْطَوْهُ قَارُورَتَيْنِ فَأَمْسَكُوهُ، ثُمَّ تَرَكُوهُ وَحَذَّرُوهُ أَنْ يَكْسِرَهُمَا. قَالَ: فَجَعَلَ يَنْعَسُ وَهُمَا فِي يَدَيْهِ، فِي كُلِّ يَدٍ وَاحِدَةٌ. قَالَ: فَجَعَلَ يَنْعَسُ وَيَنْتَبِهُ، وَيَنْعَسُ وَيَنْتَبِهُ، حَتَّى نَعَسَ نَعْسَةً، فَضَرَبَ بِإِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَكَسَرَهُمَا قَالَ مُعَمِّرٌ: إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، يَقُولُ: فَكَذَلِكَ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي يَدَيْهِ. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيل، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ شِبْلٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: (وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى: هَلْ يَنَامُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ فِي كُلِّ يَدِ قَارُورَةٌ، أَمْرَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا. قَالَ: فَجَعَلَ يَنَامُ وَتَكَادُ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى، ثُمَّ نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ وَانْكَسَرَتِ الْقَارُورَتَانِ. قَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَوْ كَانَ يَنَامُ لَمْ تَسْتَمْسِكِ السَّمَاءُ وَالْأَرْض).
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَنَّهُ مَالِكُ جَمِيعِ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَرِيكٍ وَلَا نَدِيدٍ، وَخَالِقُ جَمِيعَهُ دُونَ كُلِّ آلِهَةٍ وَمَعْبُودٍ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ لِشَيْءٍ سِوَاهُ، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ إِنَّمَا هُوَ طَوْعُ يَدِ مَالِكِهِ، وَلَيْسَ لَهُ خِدْمَةُ غَيْرِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ. يَقُولُ: فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكِي وَخَلْقِي، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِي غَيْرِي وَأَنَا مَالِكُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ مَالِكِهِ، وَلَا يُطِيعَ سِوَى مَوْلَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} يَعْنِي بِذَلِكَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ لِمَمَالِيكِهِ إِنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ، إِلَّا أَنْ يُخَلِّيَهُ، وَيَأْذَنَ لَهُ بِالشَّفَاعَةِ لَهُمْ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: مَا نَعْبُدُ أَوْثَانَنَا هَذِهِ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى! فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ: لِي مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكًا، فَلَا يَنْبَغِي الْعِبَادَةُ لِغَيْرِي، فَلَا تَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُكُمْ مِنِّي زُلْفَى، فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُكُمْ عِنْدِي وَلَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، وَلَا يَشْفَعُ عِنْدِي أَحَدٌ لِأَحَدٍ إِلَّا بِتَخْلِيَتَيْ إِيَّاهُ وَالشَّفَاعَةَ لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ، مِنْ رُسُلِي وَأَوْلِيَائِي وَأَهْلِ طَاعَتِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ الْمُحِيطُ بِكُلِّ مَا كَانَ وَبِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ عِلْمًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، الدُّنْيَا “ وَمَا خَلْفَهُمْ“، الْآخِرَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا “ وَمَا خَلْفَهُمْ “ مِنَ الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} مَا مَضَى أَمَامَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا “ وَمَا خَلْفَهُمْ “ مَا يَكُونُ بَعْدَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، قَالَ: [وَأَمَّا] “ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ“، فَالدُّنْيَا “ وَمَا خَلْفَهُمْ“، فَالْآخِرَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، مُحْصٍ لَهُ دُونَ سَائِرِ مَنْ دُونَهُ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ سِوَاهُ شَيْئًا إِلَّا بِمَا شَاءَ هُوَ أَنْ يُعْلِمَهُ، فَأَرَادَ فَعَلَّمَهُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ بِالْأَشْيَاءِ جَاهِلًا فَكَيْفَ يُعْبَدُ مَنْ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ مِنْ وَثَنٍ وَصَنَمٍ؟! يَقُولُ: أَخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لِمَنْ هُوَ مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، يَعْلَمُهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} يَقُولُ: لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ “ إِلَّا بِمَا شَاءَ“، هُوَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى “ الْكُرْسِيِّ “ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَسَلَمُ بْنُ جُنَادَةَ، قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} قَالَ: كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلُهُ وَزَادَ فِيهِ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: “وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا“؟ وَقَالَ آخَرُونَ: “الْكُرْسِيُّ“: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: الْكُرْسِيُّ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَلَهُ أَطِيطٌ كَأَطِيطِ الرَّحْلِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ، وَالْكُرْسِيُّ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ، وَهُوَ مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ قَوْلُهُ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، قَالَ: كُرْسِيُّهُ الَّذِي يُوضَعُ تَحْتَ الْعَرْشِ، الَّذِي يَجْعَلُ الْمُلُوكُ عَلَيْهِ أَقْدَامَهُمْ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبُطَيْنِ، قَالَ: الْكُرْسِيُّ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. حَدَّثَنِي عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، (عَنِ الرَّبِيعِ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ: “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ “ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَكَيْفَ الْعَرْشُ؟ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}» [الزُّمَرِ: 67]. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَحَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أَلْقَيَتْ فِي تُرْس» قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْض). وَقَالَ آخَرُونَ: الْكُرْسِيُّ: هُوَ الْعَرْشُ نَفْسُهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: الْكُرْسِيُّ هُوَ الْعَرْشُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَجْهٌ وَمَذْهَبٌ، غَيْرَ أَنَّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَطَوَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبَى إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: (أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ! فَعَظَّمَ الرَّبَّ تَعَالَى ذِكْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّهُ لِيَقْعُدُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ مِقْدَارُ أَرْبَعَ أَصَابِعَ- ثُمَّ قَالَ بِأَصَابِعِهِ فَجَمَعَهَا- وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ، إِذَا رُكِبَ، مِنْ ثِقَلِه). حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَى زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عُمْرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: “هُوَ عِلْمُهُ“. وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذِكْرُهُ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَئُودُهُ حِفْظُ مَا عَلِمَ، وَأَحَاطَ بِهِ مِمَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكَمَا أَخْبَرَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي دُعَائِهِمْ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غَافِرِ: 7]، فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ عِلْمَهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ“. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَصْلُ “ الْكُرْسِيِّ “ الْعِلْمُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّحِيفَةِ يَكُونُ فِيهَا عِلْمٌ مَكْتُوبٌ “ كُرَّاسَةٌ“، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ فِي صِفَةِ قَانِصٍ: حَتَّى إِذَا مَا احْتَازَهَا تَكَرَّسَا يَعْنِي عَلِمَ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعُلَمَاءِ “ الْكَرَاسِيُّ“، لِأَنَّهُمُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: “أَوْتَادُ الْأَرْضِ“. يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ تَصْلُحُ بِهِمُ الْأَرْضُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَحُـفُّ بِهِـمْ بِيـضُ الْوُجُـوهِ وَعُصْبَةٌ *** كَرَاسِـيُّ بِـالْأَحْدَاثِ حِـينَ تَنُـوبُ يَعْنِي بِذَلِكَ عُلَمَاءَ بِحَوَادِثِ الْأُمُورِ وَنَوَازِلِهَا. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ “ الْكِرْسَ“، يُقَالُ مِنْهُ: “فُلَانٌ كَرِيمُ الْكِرْسِ“، أَيْ كَرِيمُ الْأَصْلِ، قَالَ الْعَجَّاجُ: قَـدْ عَلِـمَ الْقُـدُّوسِ مَـوْلَى الْقُـدْسِ *** أَنَّ أَبَـا الْعَبَّـاسِ أَوْلَـى نَفْسِ بِمَعْدِنِ الْمَلِكِ الْكَرِيمِ الْكِرْسِ *** يَعْنِي بِذَلِكَ: الْكَرِيمُ الْأَصْلِ، وَيُرْوَى: فِي مَعْدِنِ الْعِزِّ الْكَرِيمِ الْكِرْسِ ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [255] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا“، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَا يُثْقِلُهُ. يُقَالُ مِنْهُ: “قَدْ آدَنِي هَذَا الْأَمْرُ فَهُوَ يَؤُودُنِي أَوْدًا وَإِيَادًا“، وَيُقَالُ: “مَا آدَكَ فَهُوَ لِي آئَدُ“، يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا أَثْقَلَكَ فَهُوَ لِي مُثْقِلٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} يَقُولُ: لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} قَالَ: لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا “ لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ لَا يُجْهِدُهُ حِفْظُهُمَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} قَالَ: لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السِّمَتِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} قَالَ: لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَا جَمِيعًا: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَاكِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} قَالَ: لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ عُبَيْدٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَعْنِي خَلَادًا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدِينِيَّ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، قَالَ: لَا يَكْبُرُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} قَالَ: لَا يَكْرُثُهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} قَالَ: لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} يَقُولُ: لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} قَالَ: لَا يَعِزُّ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: “وَالْهَاءُ “وَ “ الْمِيمُ “ وَ“ الْأَلِفُ “ فِي قَوْلِهِ: “حِفْظُهُمَا“، مِنْ ذِكْرِ “ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ“. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: “وَهُوَ الْعَلِيُّ “ فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَاللَّهُ الْعَلِيُّ. و “ الْعَلِيُّ “ “ الْفَعِيلُ “ مِنْ قَوْلِكَ: “عَلَا يَعْلُو عُلُوًّا“، إِذَا ارْتَفَعَ، “ فَهُوَ عَالٍ وَعَلِيٌّ“، “ وَالْعَلِيُّ “ ذُو الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ عَلَى خَلْقِهِ بِقُدْرَتِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: “الْعَظِيمُ“، ذُو الْعَظَمَةِ، الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، فَلَا شَيْءَ أَعْظَمَ مِنْهُ. كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “الْعَظِيمُ“، الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُُ الْبَحْثِ فِي مَعْنَى ُقَوْلِهِ: “ وَهُوَ الْعَلِيُّ“. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِذَلِكَ; وَهُوَ الْعَلِيُّ عَنِ النَّظِيرِ وَالْأَشْبَاهِ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: “وَهُوَ الْعَلِيُّ الْمَكَانِ“. وَقَالُوا: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَكَانٌ، وَلَا مَعْنَى لِوَصْفِهِ بِعُلُوِّ الْمَكَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ عَلَى خَلْقِهِ بِارْتِفَاعِ مَكَانِهِ عَنْ أَمَاكِنِ خَلْقِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ وَخَلْقُهُ دُونَهُ، كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ، فَهُوَ عَالٍ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: “الْعَظِيمُ“. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى “ الْعَظِيمُ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْمُعَظَّمُ، صَرَفَ “ الْمُفْعَّلَ “ إِلَى “ فَعِيلٍ“، كَمَا قِيلَ لِلْخَمْرِ الْمُعَتَّقَةِ: “خَمْرٌ عَتِيقٌ“، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وَكَـأَنَّ الْخَـمْرَ الْعَتِيـقَ مِـنَ الْإِسْـ *** ـفِنْـطِ مَمْزَوجَـةً بِمَـاءٍ زُلَالٍ وَإِنَّمَا هِيَ “ مُعَتَّقَةٌ“. قَالُوا: فَقَوْلُهُ “ الْعَظِيمُ “ مَعْنَاهُ: الْمُعْظَّمُ الَّذِي يُعَظِّمُهُ خَلْقُهُ وَيَهَابُونَهُ وَيَتَّقُونَهُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ قَوْلُ الْقَائِلِ: “هُوَ عَظِيمٌ“، أَحَدَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّهُ مُعْظَّمٌ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الْمِسَاحَةِ وَالْوَزْنِ. قَالُوا: وَفِي بِطُولِ الْقَوْلِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الْمِسَاحَةِ وَالْوَزْنِ، صِحَّةُ الْقَوْلِ بِمَا قُلْنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: “الْعَظِيمُ “ هُوَ أَنَّ لَهُ عَظَمَةً هِيَ لَهُ صِفَةٌ. وَقَالُوا: لَا نَصِفُ عَظَمَتَهُ بِكَيْفِيَّةٍ، وَلَكِنَّا نُضِيفُ ذَلِكَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى مُشَابَهَةِ الْعِظَمِ الْمَعْرُوفِ مِنَ العِبَادِ. لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لَهُ بِخَلْقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْمُقَالَةِ الَّتِي قَدَّمَنَا ذِكْرَهَا، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ “ مُعْظَّمٌ“، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ غَيْرَ عَظِيمٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَأَنْ يَبْطُلَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ لَا مُعْظِّمَ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْلُهُ: إِنَّهُ “ الْعَظِيمُ “ وَصْفٌ مِنْهُ نَفْسَهُ بِالْعِظَمِ. وَقَالُوا: كُلُّ مَا دُونَهُ مِنْ خَلْقِهِ فَبِمَعْنَى الصِّغَرِ لِصِغَرِهِمْ عَنْ عَظَمَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ- أَوْ فِي رَجُلٍ مِنْهُمْ- كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ قَدْ هَوَّدُوهُمْ أَوْ نَصَّرُوهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ أَرَادُوا إِكْرَاهَهُمْ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونُوا هُمْ يَخْتَارُونَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ. فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلًى وَلَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ قَالَ شُعْبَةُ. وَإِنَّمَا هُوَ مِقْلَاتٌ فَتَجْعَلُ عَلَيْهَا إِنْ بَقِيَ لَهَا وَلَدٌ لَتُهَوِّدَنَّهُ. قَالَ: فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْهُمْ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَبْنَائِنَا؟ فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. قَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ ذَهَبَ. حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاتًا لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَتَنْذُرُ إِنْ عَاشَ وَلَدُهَا أَنْ تَجْعَلَهُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى دِينِهِمْ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَطَوَائِفُ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ عَلَى دِينِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ دِينِنَا! وَإِذْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَنُكْرِهَنَّهُمْ! فَنَـزَلَتْ: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ“، فَكَانَ فَصْلُ مَا بَيْنَ مَنِ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، فَمَنْ لَحِقَ بِهِمُ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ، وَمَنْ أَقَامَ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لِحُمَيْدٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، بِنَحْوِ مَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَكَانَ فَصْلُ مَا بَيْنَهُمْ، إِجْلَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَحِقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا وَلَمْ يُسَلِمْ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ مَنْ أَسْلَمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِجْلَاءَ النَّضِيرِ إِلَى خَيْبَرَ، فَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ أَقَامَ، وَمِنْ كَرِهَ لَحِقَ بِخَيْبَرَ. حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَرَشِيِّ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، قَالَ: نَـزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنُ، كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ، وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أَسْتَكْرِهُهُمَا فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ؟ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِيهِ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} قَالَ: نَـزَلَتْ هَذِهِ فِي الْأَنْصَارِ، قَالَ: قُلْتُ خَاصَّةً! قَالَ: خَاصَّةً! قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَنْذِرُ إِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا أَنْ تَجْعَلَهُ فِي الْيَهُودِ، تَلْتَمِسُ بِذَلِكَ طُولَ بَقَائِهِ. قَالَ: فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَفِيهِمْ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ النَّضِيرُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَانُنَا فِيهِمْ، قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “قَدْ خُيِّرَ أَصْحَابُكُمْ، فَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ، وَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ “ قَالَ: فَأَجْلَوْهُمْ مَعَهُمْ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} إِلَى: “لَا انْفِصَامَ لَهَا “ قَالَ: نَـزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْحُصَيْنِ: كَانَ لَهُ ابْنَانِ، فَقَدِمَ تُجَّارٌ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَحْمِلُونَ الزَّيْتَ. فَلَمَّا بَاعُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَرْجِعُوا أَتَاهُمُ ابْنَا أَبِي الْحُصَيْنِ، فَدَعَوْهُمَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَتَنَصَّرَا فَرَجَعَا إِلَى الشَّامِ مَعَهُمْ. فَأَتَى أَبُوهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ إِنَّ ابْنَيَّ تَنَصَّرَا وَخَرَجَا، فَأَطْلُبُهُمَا؟ فَقَالَ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. وَلَمْ يُؤْمَرْ يَوْمئِذَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: أَبْعَدَهُمَا اللَّهُ ! هُمَا أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ! فَوَجَدَ أَبُو الْحُصَيْنِ فِي نَفْسِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَمَّ يَبْعَثْ فِي طَلَبِهِمَا، فَنَـزَلَتْ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 65] ثُمَّ إِنَّهُ نُسِخَ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فَأُمِرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي “ سُورَةِ بَرَاءَةٍ“. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قَالَ: كَانَتْ فِي الْيَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ، أَرْضَعُوا رِجَالًا مِنَ الْأَوْسِ، فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلَائِهِمْ، قَالَ أَبْنَاؤُهُمْ مِنَ الْأَوْسِ: لَنَذْهَبَنَّ مَعَهُمْ، وَلَنَدِينَنَّ بِدِينِهِمْ! فَمَنَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ، وَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَفِيهِمْ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانََ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَصِيفٍٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مُسْتَرْضَعِينَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَرَادُوا أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَنَـزَلَتْ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ النَّضِيرُ يَهُودًا فَأَرْضَعُوا، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ دَانَ بِدِينِهِمْ أَبْنَاءُ الْأَوْسِ، دَانُوا بِدِينِ النَّضِيرِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: لَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ تُنْذِرُ إِنْ عَاشَ وَلَدُهَا لَتَجْعَلْنَّهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُكْرِهُ أَوْلَادَنَا الَّذِينَ هُمْ فِي يَهُودَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّا إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ فِيهَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ؟ فَأَمَّا إِذْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ أَفَلَا نُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مَثَلَهُ وَزَادَ: قَالَ: كَانَ فَصْلُ مَا بَيْنَ مَنِ اخْتَارَ الْيَهُودَ مِنْهُمْ وَبَيْنَ مَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ، إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ، فَمَنْ خَرَجَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ مِنْهُمْ، وَمَنْ تَرَكَهُمُ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} إِلَى قَوْلِهِ: “الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى “ قَالَ: قَالَ مَنْسُوخٌ. حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَوَائِلٌ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا مُسْتَرْضَعِينَ فِي بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمَّا أُجْلُوا أَرَادَ أَهْلُوهُمْ أَنْ يُلْحِقُوهُمْ بِدِينِهِمْ، فَنَـزَلَتْ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يُكْرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الدِّينِ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ، وَلَكِنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ. وَقَالُوا: الْآيَةُ فِي خَاصٍّ مِنَ الكُفَّارِ، وَلَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، قَالَ: أُكْرِهَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَيُّ مِنَ العَرَبِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً أُمِّيَّةً لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ يَعْرِفُونَهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ غَيْرُ الْإِسْلَامِ. وَلَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ إِذَا أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ أَوْ بِالْخَرَاجِ، وَلَمْ يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ، فَيُخْلَّى عَنْهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، قَالَ: هُوَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ العَرَبِ، أُكْرِهُوا عَلَى الدِّينِ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَتْلُ أَوِ الْإِسْلَامُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ قُبِلَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلَمْ يُقْتَلُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ فِي قَوْلِهِ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، قَالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَاتِلَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إِلَّا “ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ“، أَوِ السَّيْفَ. ثُمَّ أُمِرَ فِي مَنْ سِوَاهُمْ بِأَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَقَالَ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ لَيْسَ لَهَا دِينٌ، فَأُكْرِهُوا عَلَى الدِّينِ بِالسَّيْفِ. قَالَ: وَلَا يُكْرَهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، إِذَا أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ لِغُلَامٍ لَهُ نَصْرَانِيٍّ: يَا جَرِيرُ أَسْلِمْ. ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، قَالَ: وَذَلِكَ لَمَّا دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَعْطَى أَهْلُ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَإِنَّمَا نَـزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يُكْرِهُ أَحَدًا فِي الدِّينِ، فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَاسْتَأْذَنَ اللَّهَ فِي قِتَالِهِمْ فَأَذِنَ لَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي خَاصٍّ مِنَ النَّاسِ- وَقَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذِكْرُهُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ وَالْمَجُوسَ وَكُلَّ مَنْ جَاءَ إِقْرَارُهُ عَلَى دِينِهِ الْمُخَالِفِ دِينَ الْحَقِّ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهَا مَنْسُوخًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لِمَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِنَا (كِتَابِ اللَّطِيفِ مِنَ البَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ): مِنْ أَنَّ النَّاسِخَ غَيْرُ كَائِنٍ نَاسِخًا إِلَّا مَا نَفَى حُكْمَ الْمَنْسُوخِ، فَلَمْ يَجُزِ اجْتِمَاعُهُمَا. فَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَبَاطِنُهُ الْخُصُوصَ، فَهُوَ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ بِمَعْزِلٍ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يُقَالَ: لَا إِكْرَاهَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا قَدْ نَقَلُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكْرَهَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَوْمًا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَحَكَمَ بِقَتْلِهِمْ إِنِ امْتَنَعُوا مِنْهُ، وَذَلِكَ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَكَالْمُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ دِينِ الْحَقِّ إِلَى الْكُفْرِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، وَأَنَّهُ تَرَكَ إِكْرَاهَ الْآخَرِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِقَبُولِهِ الْجِزْيَةَ مِنْهُ وَإِقْرَارِهِ عَلَى دِينِهِ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ كَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَمِنْ أَشْبَهَهُمْ كَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، إِنَّمَا هُوَ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ لِأَحَدٍ مِمَّنْ حَلَّ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِأَدَائِهِ الْجِزْيَةَ، وَرِضَاهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةُ الْحُكْمِ، بِالْإِذْنِ بِالْمُحَارَبَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَنَّهَا نَـزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرَادُوا أَنْ يُكْرِهُوا أَوْلَادَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قُلْنَا: ذَلِكَ غَيْرُ مَدْفُوعَةٍ صِحَّتُهُ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ قَدْ تَنْـزِلُ فِي خَاصٍّ مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ يَكُونُ حُكْمُهَا عَامًّا فِي كُلِّ مَا جَانَسَ الْمَعْنَى الَّذِي أُنْـزِلَتْ فِيهِ. فَالَّذِينَ أُنْـزِلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ- عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ- إِنَّمَا كَانُوا قَوْمًا دَانُوا بِدِينِ أَهْلِ التَّوْرَاةِ قَبْلَ ثُبُوتِ عَقْدِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْـزَلَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ آيَةً يَعُمُّ حُكْمُهَا كُلَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُمْ، مِمَّنْ كَانَ عَلَى دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ“. لَا يُكْرَهُ أَحَدٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ “ الْأَلِفُ وَاللَّامُ “ فِي “ الدِّينِ“، تَعْرِيفًا لِلدِّينِ الَّذِي عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ لَا إِكْرَاهَ فِيهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُدْخِلَتَا عَقِيبًا مِنَ “ الْهَاءِ “ الْمَنْوِيَّةِ فِي “ الدِّينِ“، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِكْرَاهَ فِي دِينِهِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ. وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ عِنْدِي. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: “قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ “ فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “رَشَدْتُ فَأَنَا أَرْشَدُ رَشَدًا وَرُشْدًا وَرَشَادًا “ وَذَلِكَ إِذَا أَصَابَ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ. وَأَمَّا “ الْغَيُّ“، فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “قَدْ غَوَى فُلَانٌ فَهُوَ يَغْوَى غَيًّا وَغِوَايَةً“، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: “غَوِيَ فُلَانٌ يَغْوَى“، وَالَّذِي عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْقَرَأَةِ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [سُورَةُ النَّجْمِ: 2] بِالْفَتْحِ، وَهِيَ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ، وَذَلِكَ إِذَا عَدَا الْحَقَّ وَتَجَاوَزَهُ، فَضَلَّ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: قَدْ وَضَحَ الْحَقُّ مِنَ البَاطِلِ، وَاسْتَبَانَ لِطَالِبِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ وَجْهُ مَطْلَبِهِ، فَتَمَيَّزَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْغِوَايَةِ، فَلَا تُكْرِهُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ-وَمَنْ أَبَحْتُ لَكُمْ أَخْذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُ- [أَحَدًا] عَلَى دِينِكُمْ، دِينِ الْحَقِّ، فَإِنَّ مَنْ حَادَ عَنِ الرَّشَادِ بَعْدَ اسْتِبَانَتِهِ لَهُ، فَإِلَى رَبِّهِ أَمْرُهُ، وَهُوَ وَلِيُّ عُقُوبَتِهِ فِي مَعَادِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى “ الطَّاغُوتِ“. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الشَّيْطَانُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ فَائِدٍ الْعَبْسِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ عُمْرَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} قَالَ: الشَّيْطَانُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} بِالشَّيْطَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الطَّاغُوتُ: هُوَ السَّاحِرُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، أَنَّهُ قَالَ: الطَّاغُوتُ: السَّاحِرُ. وَقَدّ خُولِفَ عَبْدُ الْأَعْلَى فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَنَا أَذْكُرُ الْخِلَافَ بَعْدُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: الطَّاغُوتُ: السَّاحِرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ “ الطَّاغُوتُ “ هُوَ الْكَاهِنُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: الطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ رَفِيعٍ، قَالَ: الطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}، قَالَ: كُهَّانٌ تَنَـزَّلُ عَلَيْهَا شَيَاطِينُ، يُلْقُونَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ:- وَسُئِلَ عَنِ الطَّوَاغِيتِ الَّتِي كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا فَقَالَ-: كَانَ فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ، وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ، وَهِيَ كُهَّانٌ يَنْـزِلُ عَلَيْهَا الشَّيْطَانُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ القَوْلِ عِنْدِي فِي “ الطَّاغُوتِ“، أَنَّهُ كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى اللَّهِ، فَعُبِدَ مِنْ دُونِهِ، إِمَّا بِقَهْرٍ مِنْهُ لِمَنْ عَبَدَهُ، وَإِمَّا بِطَاعَةٍ مِمَّنْ عَبَدَهُ لَهُ، وَإِنْسَانًا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْبُودُ، أَوْ شَيْطَانًا، أَوْ وَثَنًا، أَوْ صَنَمًا، أَوْ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ. وَأَرَى أَنَّ أَصْلَ “ الطَّاغُوتِ“، “ الطَّغَوُوتُ “ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “طَغَا فُلَانٌ يَطْغُو“، إِذَا عَدَا قَدْرَهُ، فَتَجَاوَزَ حَدَّهُ، كَـ “ الْجَبَرُوتِ “ “ مِنَ التَّجَبُّرِ “وَ “ الْخَلَبُوتِ “ مِنَ “ الْخَلَبِ“، . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى تَقْدِيرِ “ فَعَلُوتٍ “ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ وَالتَّاءِ. ثُمَّ نُقِلَتْ لَامُهُ- أَعْنِي لَامَ “ الطَّغَوُوتِ “ فَجُعِلَتْ لَهُ عَيْنًا، وَحُوِّلَتْ عَيْنُهُ فَجُعِلَتْ مَكَانَ لَامِهِ، كَمَا قِيلَ: “جَذَبَ وَجَبَذَ“، وَ“ جَاذَبَ وَجَابَذَ“، وَ“ صَاعِقَةٌ وَصَاقِعَةٌ“، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَى هَذَا الْمِثَالِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: فَمَنْ يَجْحَدُ رُبُوبِيَّةَ كُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَكْفُرُ بِهِ “ وَيُؤْمِنُ بِاللَّهِ“، يَقُولُ: وَيُصَدِّقُ بِاللَّهِ أَنَّهُ إِلَهُهُ وَرَبُّهُ وَمَعْبُودُهُ “ {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، يَقُولُ: فَقَدْ تَمَسَّكَ بِأَوْثَقِ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ مِنْ طَلَبِ الْخَلَاصِ لِنَفْسِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: أَنَّهُ عَادَ مَرِيضًا مِنْ جِيرَتِهِ، فَوَجَدَهُ فِي السَّوْقِ وَهُوَ يُغَرْغِرُ، لَا يَفْقَهُونَ مَا يُرِيدُ. فَسَأَلَهُمْ: يُرِيدُ أَنْ يَنْطِقَ؟ قَالُوا: نَعَمْ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ: “آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَفَرْتُ بِالطَّاغُوتِ“. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَمَا عِلْمُكُمْ بِذَلِكَ؟ قَالُوا: لَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى انْكَسَرَ لِسَانُهُ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَنْطِقَ بِهَا. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَفْلَحَ صَاحِبُكُمْ! إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: “وَالْعُرْوَةُ“، فِي هَذَا الْمَكَانِ، مَثَلٌ لِلْإِيمَانِ الَّذِي اعْتَصَمَ بِهِ الْمُؤْمِنُ، فَشَبَّهَهُ فِي تَعَلُّقِهِ بِهِ وَتَمَسُّكِهِ بِهِ، بِالْمُتَمَسِّكِ بِعُرْوَةِ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ عُرْوَةٌ يَتَمَسَّكُ بِهَا، إِذْ كَانَ كُلُّ ذِي عُرْوَةٍ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ مَنْ أَرَادَهُ بِعُرْوَتِهِ. وَجَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْإِيمَانَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْكَافِرُ بِالطَّاغُوتِ الْمُؤْمِنِ بِاللَّهِ، وَمِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْأَشْيَاءِ بِقَوْلِهِ: “الْوُثْقَى “ وَ “ الْوُثْقَى“، “ فُعْلَى “ مِنَ “ الْوَثَاقَةِ“. يُقَالُ فِي الذَّكَرِ: “هُوَ الْأَوْثَقُ“، وَفِي الْأُنْثَى: “هِيَ الْوُثْقَى“، كَمَا يُقَالُ: “فُلَانٌ الْأَفْضَلً، وَفُلَانَةٌ الْفُضْلَى“. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، قَالَ: الْإِيمَانُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: “الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى “ هُوَ الْإِسْلَامُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي السَّوْدَاءِ، عَنْ جَعْفَرٍ- يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْمُغِيرَةِ- عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي السَّوْدَاءِ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَا انْفِصَامَ لَهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {لَا انْفِصَامَ لَهَا}، لَا انْكِسَارَ لَهَا. “ وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ“، فِي قَوْلِهِ: “لَهَا “ عَائِدٌ عَلَى “ الْعُرْوَةِ“. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَقَدِ اعْتَصَمَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ بِمَا لَا يَخْشَى مَعَ اعْتِصَامِهِ خِذْلَانَهُ إِيَّاهُ، وَإِسْلَامَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ فِي أَهْوَالِ الْآخِرَةِ، كَالْمُتَمَسِّكِ بِالْوَثِيقِ مِنْ عُرَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَخْشَى انْكِسَارَ عُرَاهَا. وَأَصْلُ “ الْفَصْمِ “ الْكَسْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ: وَمَبْسِـمَهَا عَـنْ شَـتِيتِ النَّبَـاتِ *** غَـيْرَ أَكَـسَّ وَلَا مُنْفَصِـمْ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَا انْفِصَامَ لَهَا}، قَالَ: لَا يُغَيِّرُ اللَّهُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَا انْفِصَامَ لَهَا}، قَالَ: لَا انْقِطَاعَ لَهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [256] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: “وَاللَّهُ سَمِيعٌ “ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، الْكَافِرِ بِالطَّاغُوتِ، عِنْدَ إِقْرَارِهِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَتَبَرُّئِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ “ عَلِيمٌ “ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ رُبُوبِيَّتِهِ قَلْبُهُ، وَمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ البَرَاءَةِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ وَالطَّوَاغِيتِ ضَمِيرُهُ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَخْفَتْهُ نَفْسُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، لَا يَنْكَتِمُ عَنْهُ سِرٌّ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرٌ، حَتَّى يُجَازِيَ كُلًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا نَطَقَ بِهِ لِسَانُهُ، وَأَضْمَرَتْهُ نَفْسُهُ، إِنْ خَيْرَا فَخَيْرًا، وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، نَصِيرُهُمْ وَظَهِيرُهُم، يَتَوَلَّاهُمْ بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ “ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ “ يَعْنِي بِذَلِكَ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ. وَإِنَّمَا عَنَى بِـ “ الظُّلُمَاتِ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْكُفْرَ. وَإِنَّمَا جَعَلَ “ الظُّلُمَاتِ “ لِلْكُفْرِ مَثَلًا لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ حَاجِبَةٌ لِلْأَبْصَارِ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ وَإِثْبَاتِهَا، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَاجِبٌ أَبْصَارَ الْقُلُوبِ عَنْ إِدْرَاكِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ وَصِحَّةِ أَسْبَابِهِ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُبَصِّرُهُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَسُبُلَهُ وَشَرَائِعَهُ وَحُجَجَهُ، وَهَادِيهِمْ، فَمُوَفِقُهُمْ لِأَدِلَّتِهِ الْمُزِيلَةِ عَنْهُمُ الشُّكُوكَ، بِكَشْفِهِ عَنْهُمْ دَوَاعِيَ الْكُفْرِ، وَظُلَمَ سَوَاتِرِهِ [عَنْ] أَبْصَارِ الْقُلُوبِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، فَقَالَ: “وَالَّذِينَ كَفَرُوا “ يَعْنِي الْجَاحِدِينَ وَحْدَانِيَّتَهُ “ أَوْلِيَاؤُهُمْ“، يَعْنِي نُصَرَاؤُهُمْ وَظُهَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُمُ “ الطَّاغُوتُ“، يَعْنِي الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ “ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ“، يَعْنِي بِـ “ النُّورِ “ الْإِيمَانَ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا “ إِلَى الظُّلُمَاتِ “وَيَعْنِي بِـ “ الظُّلُمَاتِ “ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَشُكُوكَهُ، الْحَائِلَةَ دُونَ أَبْصَارِ الْقُلُوبِ وَرُؤْيَةِ ضِيَاءِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِ أَدِلَّتِهِ وَسُبُلِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ:
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، يَقُولُ: مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى “ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}، الشَّيْطَانُ: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، يَقُولُ: مِنَ الهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، الظُّلُمَاتُ: الْكَفْرُ، وَالنُّورُ: الْإِيمَانُ “ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ“، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ الإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذِكْرُهُ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، يَقُولُ: مِنَ الكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ “ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، يَقُولُ: مِنَ الإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبَدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ مِقْسَمٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، قَالَ: كَانَ قَوْمٌ آمَنُوا بِعِيسَى، وَقَوْمٌ كَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى، وَكَفَرَ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا بِعِيسَى أَيْ: يُخْرِجُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى إِلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ“، آمَنُوا بِعِيسَى وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ“. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَبَدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، إِلَى “ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، قَالَ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا آمَنُوا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهِ، وَأُنْـزِلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَعْنَاهَا الْخُصُوصُ، وَأَنَّهَا-إِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفْنَا- نَـزَلَتْ فِيمَنْ كَفَرَ مِنَ النَّصَارَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيمَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ عِيسَى، وَسَائِرِ الْمِلَلِ الَّتِي كَانَ أَهْلُهَا يُكَذِّبُ بِعِيسَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَكَانَتِ النَّصَارَى عَلَى حَقٍّ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَّبُوا بِهِ؟ قِيلَ: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى مِلَّةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ عَلَى حَقٍّ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النِّسَاءِ: 136]. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ غَيْرُ الَّذِينَ ذَكَرَ مُجَاهِدٌ وَعَبُدَةُ: أَنَّهُمْ عُنُوا بِهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِعِيسَى، أَوْ غَيْرِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ؟. قِيلَ: نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ، وَيُضِلُّونَهُمْ فَيَكْفُرُونَ، فَيَكُونُ تَضْلِيلُهُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَكْفُرُوا إِخْرَاجًا مِنْهُمْ لَهُمْ مِنَ الإِيمَانِ، يَعْنِي صَدَّهُمْ إِيَّاهُمْ عَنْهُ، وَحِرْمَانَهُمْ إِيَّاهُمْ خَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَانُوا فِيهِ قَبْلُ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: “أَخْرَجَنِي وَالِدِي مِنْ مِيرَاثِهِ“، إِذَا مَلَّكَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَهُ، فَحَرَمَهُ مِنْهُ حَظَّهُ وَلَمْ يُمَلِّكْ ذَلِكَ الْقَائِلَ هَذَا الْمِيرَاثَ قَطُّ فَيَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا حَرَمَهُ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ يَكُونُ لَهُ لَوْ لَمْ يَحْرِمْهُ، قِيلَ: “أَخْرَجَهُ مِنْهُ“، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: “أَخَرَجَنِي فُلَانٌ مِنْ كَتِيبَتِهِ“، يَعْنِي لَمْ يَجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: “يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ“، مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ إِيَّاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ أَشْبَهَ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ}، فَجَمَعَ خَبَرَ “ الطَّاغُوتِ “ بِقَوْلِهِ: “يُخْرِجُونَهُمْ“، وَ“ الطَّاغُوتُ “ وَاحِدٌ؟ قِيلَ: إِنَّ “ الطَّاغُوتَ “ اسْمٌ لِجِمَاعٍ وَوَاحِدٍ، وَقَدْ يُجْمَعُ “ طَوَاغِيتَ“. وَإِذَا جُعِلَ وَاحِدُهُ وَجَمْعُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، كَانَ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: “رَجُلٌ عَدْلٌ، وَقَوْمٌ عَدْلٌ “ وَ“ رَجُلٌ فِطْرٌ وَقَوْمٌ فِطْرٌ“، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَأْتِي مُوَحَّدًا فِي اللَّفْظِ وَاحِدُهَا وَجَمْعُهَا، وَكَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: فَقُلْنَـا أَسْـلِمُوا إِنَّـا أَخُـوكُمْ *** فَقَـدْ بَـرِئَتْ مِـنَ الْإِحَـنِ الصُّـدُورُ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [257] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا “ أَصْحَابَ النَّارِ“، أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ يَخْلُدُونَ فِيهَا- يَعْنِي فِي نَارِ جَهَنَّمَ- دُونَ غَيْرِهِمْ مَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ وَلَا نِهَايَةٍ أَبَدًا.
|