الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين، فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون، وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون، وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون، فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون، ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} قوله تعالى}ولقد أرسلنا موسى بآياتنا }لما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه منتقم له من عدوه وأقام الحجة باستشهاد الأنبياء واتفاق الكل على التوحيد أكد ذلك قصة موسى وفرعون، وما كان من فرعون من التكذيب، وما نزل به وبقومه من الإغراق والتعذيب: أي أرسلنا موسى بالمعجزات وهي التسع الآيات فكذب؛ فجعلت العاقبة الجميلة له، فكذلك أنت. ومعنى}يضحكون}استهزاء وسخرية؛ يوهمون أتباعهم أن تلك الآيات سحر وتخيل، وأنهم قادرون عليها. وقوله}وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها}أي كانت آيات موسى من أكبر الآيات، وكانت كل واحدة أعظم مما قبلها. وقيل}إلا وهي أكبر من أختها}لأن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما، فتضم الثانية إلى الأولى فيزداد الوضوح، ومعنى الأخوة المشاكلة المناسبة؛ كما يقال: هذه صاحبة هذه؛ أي قريبتان في المعنى. }وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون}أي على تكذيبهم بتلك الآيات؛ وهو كقوله تعالى قوله تعالى}وقالوا يا أيها الساحر}لما عاينوا العذاب قالوا يا أيها الساحر؛ نادوه بما كانوا ينادونه به من قبل ذلك على حسب عادتهم. وقيل: كانوا يسمون العلماء سحرة فنادوه بذلك على سبيل التعظيم. قال ابن عباس}يا أيها الساحر}يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يوقرونه؛ ولم يكن السحر صفة ذم. وقيل: يا أيها الذي غلبنا بسحره؛ يقال: ساحرته فسحرته؛ أي غلبته بالسحر؛ كقول العرب: خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة، وفاضلته ففضلته، ونحوها. ويحتمل أن يكون أرادوا به الساحر على الحقيقة على معنى الاستفهام، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن ثابت }وأيهُ الساحر}بغير ألف والهاء مضمومة؛ وعلتها أن الهاء خلطت بما قبلها وألزمت ضم الياء الذي أوجبه النداء المفرد. وأنشد الفراء: فضم الهاء حملا على ضم الياء؛ وقد مضى في }النور}معنى هذا. ووقف أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويحيى والكسائي }أيها}بالألف على الأصل. الباقون بغير ألف؛ لأنها كذلك وقعت في المصحف. }ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون}}ادع لنا ربك بما عهد عندك}أي بما أخبرنا عن عهده إليك إنا إن آمنا كشف عنا؛ فسله يكشف عنا }إننا لمهتدون}أي فيما يستقبل. }فلما كشفنا عنهم العذاب}أي فدعا فكشفنا. }إذا هم ينكثون}أي ينقضون العهد على أنفسهم فلم يؤمنوا. وقيل:قولهم}إننا لمهتدون}إخبار منهم عن أنفسهم بالإيمان؛ فلما كشف عنهم العذاب ارتدوا. قوله تعالى}ونادى فرعون في قومه}قيل: لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إليه فجمع قومه فقال: فنادى بمعنى قال؛ قاله أبو مالك. فيجوز أن يكون عنده عظماء القبط فرفع صوته بذلك فيما بينهم ثم ينشر عنه في جموع القبط؛ وكأنه نودي بينهم. وقيل: إنه أمر من ينادي في قومه؛ قاله ابن جريج. }قال يا قوم أليس لي ملك مصر}أي لا ينازعني فيه أحد. قيل: إنه ملك منها أربعين فرسخا في مثلها؛ حكاه النقاش. وقيل أراد بالملك هنا الإسكندرية. }وهذه الأنهار تجري من تحتي}يعني أنهار النيل، ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس. وقال قتادة: كانت جنانا وأنهارا تجري من تحت قصوره. وقيل: من تحت سريره. وقيل}من تحتي}قال القشيري: ويجوز ظهور خوارق العادة على مدعي الربوبية؛ إذ لا حاجة في التمييز الإله من غير الإله إلى فعل خارق للعادة. وقيل معنى }وهذه الأنهار تجري من تحتي}أي القواد والرؤساء والجبابرة يسيرون من تحت لوائي؛ قاله الضحاك. وقيل: أراد بالأنهار الأموال، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها. وقوله}تجري من تحتي}أي أفرقها على من يتبعني؛ لأن الترغيب والقدرة في الأموال دون الأنهار. }أفلا تبصرون}عظمتي وقوتي وضعف موسى. وقيل: قدرتي على نفقتكم وعجز موسى. والواو في }وهذه}يجوز أن تكون عاطفة للأنهار على }ملك مصر}و}تجري}نصب على الحال منها. ويجوز أن تكون واو الحال، واسم الإشارة مبتدأ، و}الأنهار}صفة لاسم الإشارة، و}تجري}خبر للمبتدأ. وفتح الياء من }تحتي}أهل المدينة والبزي وأبو عمرو، وأسكن الباقون. وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لأولينها أحسن عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبدالله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها شارفها ووقع عليها بصره قال: أهذه القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال}أليس لي ملك مصر}؟ ! والله لهي عندي أقل من أن أدخلها ! فثنى عنانه. ثم صرح بحاله فقال}أم أنا خير}قال أبو عبيدة السدي}أم}بمعنى }بل}وليست بحرف عطف؛ على قول أكثر المفسرين. والمعنى: قال فرعون لقومه بل أنا خير}من هذا الذي هو مهين}أي لا عزله فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه }ولا يكاد يبين}يعني ما كان في لسانه من العقدة؛ على ما تقدم في }طه}وقال الفراء:في }أم}وجهان: إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وإن شئت جعلتها نسقا على قوله}أليس لي ملك مصر}. وقيل: هي زائدة. وروى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون }أم}زائدة؛ والمعنى أنا خير من هذا الذي هو مهين. وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؛ كما قال: أي أنت أحسن أم أم سالم. ثم ابتداء فقال: (أنا خير). وقال الخليل وسيبويه: المعنى }أفلا تبصرون}، أم أنتم بصراء، فعطف بـ }أم}على }أفلا تبصرون}لأن معنى }أم أنا خير}أم أي تبصرون؛ وذلك أنهم إذا قالوا له أنت خير منه كانوا عنده بصراء. وروي عن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي أنهما وقفا على }أم}على أن يكون التقدير أفلا تبصرون أم تبصرون؛ فحذف تبصرون الثاني. وقيل من وقف على }أم}جعلها زائدة، وكأنه وقف على }تبصرون}من قوله}أفلا تبصرون}. ولا يتم الكلام على }تبصرون}عند الخليل وسيبويه؛ لأن }أم}تقتضي الاتصال بما قبلها. وقال قوم: الوقف على قوله}أفلا تبصرون}ثم ابتدأ }أم أنا خير}بمعنى بل أنا؛ وأنشد الفراء: فمعناه: بل أنت أملح. وذكر الفراء أن بعض القراء قرأ }أما أنا خير}؛ ومعنى هذا ألست خيرا. وروي عن مجاهد أنه وقف على }أم}ثم يبتدئ }أنا خير}وقد ذكر. {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} قوله تعالى}فلولا}أي هلا }ألقي عليه أساورة من ذهب}إنما قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. وقرأ حفص }أسورة}جمع سوار، كخمار وأخمرة. وقرأ أبي }أساور}جمع إسوار. وابن مسعود }أساوير}. الباقون }أساورة}جمع الأسورة فهو جمع الجمع. ويجوز أن يكون }أساورة}جمع }إسوار}وألحقت الهاء في الجمع عوضا من الياء؛ فهو مثل زناديق وزنادقة، وبطاريق وبطارقة، وشبهه. وقال أبو عمرو بن العلاء: واحد الأساورة والأساور والأساوير إسوار، وهي لغة في سوار. قال مجاهد: كانوا إذا سوروا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته، فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا ! }أو جاء معه الملائكة مقترنين}يعني متتابعين؛ في قول قتادة. مجاهد: يمشون معا. ابن عباس: يعاونونه على من خالفه؛ والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه حتى يتكثر بهم ويصرفهم على أمره ونهيه؛ فيكون ذلك أهيب في القلوب. فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في الشاهد، ولم يعلم أن رسل الله إنما أيدوا بالجنود السماوية؛ وكل عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده ووحدته من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن يكون له أسورة أو ملائكة يكونون معه أعوانا - في قول مقاتل - أو دليلا على صدقه - في قول الكلبي - وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كان، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما كذب مع ظهور الآيات. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى؛ لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم. {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} قوله تعالى}فاستخف قومه}قال ابن الأعرابي: المعنى فاستجهل قومه }فأطاعوه}لخفة أحلامهم وقلة عقولهم؛ يقال: استخفه الفرح أي أزعجه، واستخفه أي حمله على الجهل؛ ومنه {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} قوله تعالى}فلما آسفونا انتقمنا منهم}روى الضحاك عن ابن عباس: أي غاظونا وأغضبونا. وروى عنه علي بن أبي طلحة: أي أسخطونا. قال الماوردي: ومعناها مختلف، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة. والغضب إرادة الانتقام. القشيري: والأسف ها هنا بمعنى الغضب؛ والغضب من الله إما إرادة العقوبة فيكون من صفات الذات، وإما عين العقوبة فيكون من صفات الفعل؛ وهو معنى قول الماوردي. وقال عمر بن ذر: يا أهل معاصي الله، لا تغتروا بطول حلم الله عنكم، واحذروا أسفه؛ فإنه قال}فلما آسفونا انتقمنا منهم}. وقيل}آسفونا}أي أغضبوا رسلنا وأولياءنا المؤمنين؛ نحو السحرة وبني إسرائيل. وهو كقوله تعالى { فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} قوله تعالى}فجعلناهم سلفا}أي جعلنا قوم فرعون سلفا. قال أبو مِجْلَز}سلفا}لمن عمل عملهم، و}مثلا}لمن يعمل عملهم. وقال مجاهد}سلفا}إخبارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، }ومثلا}أي عبرة لهم. وعنه أيضا }سلفا}لكفار قومك يتقدمونهم إلى النار. قتادة}سلفا}إلى النار، }ومثلا}عظة لمن يأتي بعدهم. والسلف المتقدم؛ يقال: سلف يسلف سلفا؛ مثل طلب طلبا؛ أي تقدم ومضى. وسلف له عمل صالح أي تقدم. والقوم السلاف المتقدمون. وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون؛ والجمع أسلاف وسلاف. وقراءة العامة }سلفا} بفتح السين واللام جمع سالف؛ كخادم وخدم، وراصد ورصد، وحارس وحرس. وقرأ حمزة والكسائي }سلفا} بضم السين واللام قال الفراء هو جمع سليف، نحو سرير وسرر. وقال أبو حاتم: هو جمع سلف؛ نحو خشب وخشب، وثمر وثمر؛ ومعناهما واحد. وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس }سلفا} بضم السين وفتح اللام جمع سلفة، أي فرقة متقدمة. قال المؤرج والنضر بن شميل}سلفا}جمع سلفة، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وظلمة وظلم. {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} لما قال تعالى {وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} قوله تعالى}وقالوا أآلهتنا خير أم هو}أي ألهتنا خير أم عيسى ؟ قال السدي. وقال: خاصموه وقالوا إن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى والملائكة وعزير، فأنزل الله تعالى {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل، ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} قوله تعالى}إن هو إلا عبد أنعمنا عليه}أي ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالنبوة، وجعله مثلا لبني إسرائيل؛ أي آية وعبرة يستدل بها. على قدرة الله تعالى؛ فإن عيسى كان من غير أب، ثم جعل الله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والأسقام كلها ما لم يجعل لغيره في زمانه، مع أن بني إسرائيل كانوا يومئذ خير الخلق وأحبه إلى الله عز وجل، والناس دونهم، ليس أحد عند الله عز وجل مثلهم. وقيل المراد بالعبد المنعم عليه محمد صلى الله عليه وسلم؛ والأول أظهر. }ولو نشاء لجعلنا منكم}أي بدلا منكم }ملائكة}يكونون خلفا عنكم؛ قال السدي. ونحوه عن مجاهد قال: ملائكة يعمرون الأرض بدلا منكم. وقال الأزهري: إن }من}قد تكون للبدل؛ بدليل هذه الآية. قلت: قدم تقدم هذا المعنى في }التوبة}وغيرها. وقيل: لو نشاء لجعلنا من الإنس ملائكة وإن لم تجر العادة بذلك، والجواهر جنس واحد والاختلاف بالأوصاف؛ والمعنى: لو نشاء لأسكنا الأرض الملائكة، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا، أو يقال لهم بنات الله. ومعنى }يخلفون}يخلف بعضهم بعضا؛ قاله ابن عباس. {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم، ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين} قوله تعالى}وإنه لعلم للساعة}قال الحسن وقتادة وسعيد بن جببر: يريد القرآن؛ لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، أو به تعلم الساعة وأهوالها وأحوالها. وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة أيضا: إنه خروج عيسى عليه السلام، وذلك من أعلام الساعة. لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك }وإنه لعلم للساعة} بفتح العين واللام أي أمارة. وقد روي عن عكرمة }وإنه للعلم} بلامين وذلك خلاف للمصاحف. قلت: وقيل}وإنه لعلم للساعة}أي وإن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى؛ قال ابن إسحاق. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى }وإنه}وإن محمدا صلى الله عليه وسلم لعلم للساعة؛ بدليل قوله عليه السلام: قوله تعالى}فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم}}فلا تمترون بها}فلا تشكون فيها؛ يعني في الساعة؛ قاله يحيى بن سلام. وقال السدي: فلا تكذبون بها، ولا تجادلون فيها فإنها كائنة لا محالة. }واتبعون}أي في التوحيد وفيما أبلغكم عن الله. }هذا صراط مستقيم}أي طريق قويم إلى الله، أي إلى جنته. وأثبت الياء يعقوب في قوله}واتبعون}في الحالين، وكذلك }وأطيعون}. وأبو عمرو وإسماعيل عن نافع في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. }ولا يصدنكم الشيطان}أي لا تغتروا بوساوسه وشبه الكفار. المجادلين؛ فإن شرائع الأنبياء لم تختلف في التوحيد ولا فيما أخبروا به من علم الساعة وغيرها بما تضمنته من جنه أو نار. }إنه لكم عدو مبين}تقدم. {ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون، إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} قوله تعالى}ولما جاء عيسى بالبينات}قال ابن عباس: يريد إحياء الموتى وإبراء الأسقام، وخلق الطير، والمائدة وغيرها، والإخبار بكثير من الغيوب. وقال قتادة: البينات هنا الإنجيل. }قال قد جئتكم بالحكمة}أي النبوة؛ قاله السدي. ابن عباس: علم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح. وقيل الإنجيل؛ ذكره القشيري والماوردي. }ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه}قال مجاهد: من تبديل التوراة. الزجاج: المعنى لأبين لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوراة. قال مجاهد: وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقيل: بين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام التوراة على قدر ما سألوه. ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عنها. وقيل: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم وأشياء من أمر دنياهم فبين لهم أمر دينهم. ومذهب أبي عبيدة أن البعض بمعنى الكل؛ ومنه قوله تعالى والموت لا يعتلق بعض النفوس دون بعض. ويقال للمنية: علوق وعلاقة. قال المفضل البكري: وقال مقاتل: هو كقول {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم، هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون} قوله تعالى}فاختلف الأحزاب من بينهم}قال قتادة: يعني ما بينهم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، خالف بعضهم بعضا، قال مجاهد والسدي. الثاني: فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعاقبة، اختلفوا في عيسى؛ فقال النسطورية: هو ابن الله. وقالت اليعاقبة: هو الله. وقالت الملكية: ثالث ثلاثة أحدهم الله؛ قال الكلبي ومقاتل، وقد مضى هذا في سورة }مريم}. }فويل للذين ظلموا}أي كفروا وأشركوا؛ كما في سورة }مريم}. }من عذاب يوم أليم}أي أليم عذابه؛ مثله: ليل نائم؛ أي ينام فيه. }هل ينظرون}يريد الأحزاب لا ينتظرون. }إلا الساعة أن تأتيهم بغتة}}إلا الساعة}يريد القيامة. }أن تأتيهم بغتة}أي فجأة. }وهم لا يشعرون}يفطنون. وقد مضى في غير موضع. وقيل: المعنى لا ينتظر مشركو العرب إلا الساعة. ويكون }الأحزاب}على هذا، الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. ويتصل هذا بقوله تعالى {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} قوله تعالى}الأخلاء يومئذ}يريد يوم القيامة. }بعضهم لبعض عدو}أي أعداء، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا. }إلا المتقين}فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة؛ قال معناه ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط، كانا خليلين؛ وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط؛ فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه؛ ففعل عقبة ذلك؛ فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله فقتله يوم بدر صبرا، وقتل أمية في المعركة؛ وفيهم نزلت هذه الآية. وذكر الثعلبي رضي الله عنه في هذه الآية قال: كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب، إن فلانا كان يأمرني بطاعتك، وطاعة رسولك، وكان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر. ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي، وأهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني. فإذا مات خليله المؤمن جمع الله ببنهما، فيقول الله تعالى: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول الله تعالى: نعم الخليل ونعم الأخ ونعم الصاحب كان. قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب، إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك يا رب ألا تهده بعدي، وأن تضله كما أضللتني، وأن تهينه كما أهنتني؛ فإذا مات خليله الكافر قال الله تعالى لهما: لثين كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك أن تضاعف عليه العذاب؛ فيقول الله تعالى: بئس الصاحب والأخ والخليل كنت. فيلعن كل واحد منهما صاحبه. قلت: والآية عامة في كل مؤمن ومتق وكافر ومضل. {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} قال مقاتل ورواه المعتمر بن سليمان عن أببه: ينادي مناد في العرصات }يا عبادي لا خوف عيكم اليوم}، فيرفع أهل العرصة رؤوسهم، فيقول المنادي}الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين}فينكس أهل الأديان رؤوسهم غير المسلمين. وذكر المحاسبي في الرعاية: وقد روي في هذا الحديث أن المنادي ينادي يوم القيامة}يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون}فيرفع الخلائق رؤوسهم، يقولون: نحن عباد الله. ثم ينادي الثانية}الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين}فينكس الكفار رؤوسهم ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم. ثم ينادي الثالث {الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} قال الزجاج}الذين}نصب على النعت لـ }عبادي}لأن }عبادي}منادى مضاف. وقيل}الذين آمنوا}خبر لمبتدأ محذوف أو ابتداء وخبره محذوف؛ تقديره هم الذين آمنوا، يقال لهم}ادخلوا الجنة}أو يا عبادي الذين آمنوا ادخلوا الجنة. }أنتم وأزواجكم}المسلمات في الدنيا. وقيل: قرناؤكم من المؤمنين. وقيل: زوجاتكم من الحور العين. }تحبرون}تكرمون؛ قاله ابن عباس؛ والكرامة في المنزلة. الحسن: تفرحون. والفرح في القلب. قتادة: ينعمون؛ والنعيم في البدن. مجاهد؛ تسرون؛ والسرور في العين. ابن أبي نجيح: تعجبون؛ والعجب ها هنا درك ما يستطرف يحي بن أبي كثير: هو التلذذ بالسماع. وقد مضى. {يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} قوله تعالى}يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب}أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب وأكواب. ولم يذكر الأطعمة والأشربة؛ لأنه يعلم أنه لا معنى للإطافة بالصحاف والأكواب عليهم من غير أن يكون فيها شيء. وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب؛ كقوله تعالى {وأكواب}أي ويطاف عليهم بأكواب؛ كما قال تعالى وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أوتوا بالشراب الطهور فتضمر لذلك بطونهم، ويفيض عرقا من جلودهم أطيب من ريح المسك؛ ثم قرأ إذا كان الإناء مضببا بهما أو فيه حلقة منهما؛ فقال مالك: لا يعجبني أن يشرب فيه، وكذلك المرأة تكون فيها الحلقة من الفضة ولا يعجبني أن ينظر فيها وجهه. وقد كان عند أنس إناء مضبب بفضة وقال: لقد سقيت فيه النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين: كانت فيه حلقة حديد فأراد أنس أن يجعل فيه حلقة فضة؛ فقال أبو طلحة: لا أغير شيئا مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتركه. إذا لم يجز استعمالها لم يجز اقتناؤها؛ لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطنبور. وفي كتب علمائنا أنه يلزم الغرم في قيمتها لمن كسرها، وهو معنى فاسد، فإن كسره واجب فلا ثمن لقيمتها. ولا يجوز تقويمها في الزكاة بحال. وغير هذا لا يلتفت إليه. قوله تعالى}بصحاف}قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة طيها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف. }وأكواب}قال الجوهري: الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب قال الأعشى يصف الخمر: وقال آخر: وقال قتادة: الكوب المدور القصير العنق القصير العروة. والإبريق: المستطيل العنق الطويل العروة. وقال الأخفش: الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها. وهي الأباريق التي ليست لها عرى. وقال مجاهد: إنها الآنية المدورة الأفواه. السدي: هي التي لا آذان لها. ابن عزيز}أكواب}أباريق لا عرى لها ولا خراطيم؛ واحدها كوب. قلت: وهو معنى قول مجاهد والسدي، وهو مذهب أهل اللغة أنها التي لا آذان لها ولا عرى. قوله تعالى}وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} قوله تعالى}وتلك الجنة}أي يقال لهم هذه تلك الجنة التي كانت توصف لكم في الدنيا. وقال ابن خالَويه: أشار تعالى إلى الجنة بتلك وإلى جهنم بهذه؛ ليخوف بجهنم ويؤكد التحذير منها. وجعلها بالإشارة القريبة كالحاضرة التي ينظر إليها. }التي أورثتموها بما كنتم تعملون}قال ابن عباس: خلق الله لكل نفس جنة ونارا؛ فالكافر يرث نار المسلم، والمسلم يرث جنة الكافر؛ وقد تقدم هذا مرفوعا في {لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون} الفاكهة معروفة، وأجناسها الفواكه، والفاكِهاني الذي يبيعها. وقال ابن عباس: هي الثمار كلها، رطبها وطيبا؛ أي لهم في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة يأكلون منها. {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون، لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون، وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} قوله تعالى}إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون}لما ذكر أحوال أهل الجنة ذكر أحوال أهل النار أيضا ليبين فضل المطيع على العاصي. }لا يفتر عنهم}أي لا يخفف عنهم ذلك العذاب. }وهم فيه ملبسون}أي آيسون من الرحمة. وقيل: ساكتون سكوت يأس؛ وقد مضى. }وما ظلمناهم}بالعذاب }ولكن كانوا هم الظالمين}أنفسهم بالشرك. ويجوز }ولكن كانوا هم الظالمون}بالرفع على الابتداء والخبر والجملة خبر كان. {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} قوله تعالى}ونادوا يا مالك}وهو خازن جهنم، خلقه لغضبه؛ إذا زجر النار زجرة أكل بعضها بعضا. وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما }ونادوا يا مالِ}وذلك خلاف المصحف. وقال أبو الدرداء وابن مسعود: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم }ونادوا يا مال }باللام خاصة؛ يعني رخم الاسم وحذف الكاف. والترخيم الحذف، ومنه ترخيم الاسم في النداء، وهو أن يحذف من آخره حرف أوكثر، فتقول في مالك: يا مال، وفي حارث: يا حار، وفي فاطمة: يا فاطم، وفي عائشة يا عائش وفي مروان: يا مرو، وهكذا. قال: وقال امرؤ القيس: وقال أيضا: وقال آخر: وفي صحيح الحديث (أي فل، هلم). ولك في آخر الاسم المرخم وجهان: أحدهما: أن تبقيه على ما كان عليه قبل الحذف. والآخر: أن تبقيه على الضم؛ مثل: يا زيد؛ كأنك أنزلته منزلته ولم تراع المحذوف. وذكر أبو بكر الأنباري قال: حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد - وهو ابن سعدان - قال حدثنا حجاج عن شعبة عن الحكم بن عيينة عن مجاهد قال: كنا لا ندري ما الزخرف حتى وجدناه في قراءة عبدالله }بيت من ذهب}، وكنا لا ندري }ونادوا يا مالك}أو يا ملك بفتح اللام وكسرها حتى وجدناه في قراءة عبدالله }ونادوا يا مال}على الترخيم. قال أبو بكر: لا يعمل على هذا الحديث لأنه مقطوع لا يقبل مثله في الرواية عن الرسول عليه السلام؛ وكتاب الله أحق بأن يحتاط له وينفى عنه الباطل. قلت: وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني - أو ذكر لي - أن أهل النار استغاثوا بالخزنة فقال الله تعالى {لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} يحتمل أن يكون هذا من قول مالك لهم؛ أي إنكم ماكثون في النار لأنا جئناكم في الدنيا بالحق فلم تقبلوا. ويحتمل أن يكون من كلام الله لهم اليوم؛ أي بينا لكم الأدلة وأرسلنا إليكم الرسل. }ولكن أكثركم}قال ابن عباس}ولكن أكثركم}أي ولكن كلكم. وقيل: أراد بالكثرة الرؤساء والقادة منهم؛ وأما الأتباع فما كان لهم أثر }للحق}أي للإسلام ودين الله }كارهون}. {أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون} قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه؛ فنزلت هذه الآية، وقتل الله جميعهم ببدر. {أبرموا}أحكموا. والإبرام الإحكام. أبرمت الشيء أحكمته. وأبرم القتال إذا أحكم القتل، وهو القتل الثاني، والأول سحيل؛ كما قال: فالمعنى: أم أحكموا كيدا فإنا محكمون لهم كيدا؛ قال ابن زيد ومجاهد. قتادة: أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث. الكلبي: أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم بالعذاب. وأم بمعنى بل. وقيل}أم أبرموا}عطف على قوله {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} قوله تعالى}أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم}أي ما يسرونه في أنفسهم ويتناجون به بينهم. }بلى}نسمع ونعلم. }ورسلنا لديهم يكتبون}أي الحفظة عندهم يكتبون عليهم. وروي أن هذا نزل في ثلاثة نفر كانوا بين الكعبة وأستارها؛ فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا ؟ وقال الثاني: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع. وقال الثالث: إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم؛ قاله محمد بن كعب القرظي، وقد مضى هذا المعنى عن ابن مسعود في سورة }فصلت}. {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون} قوله تعالى}قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين}اختلف في معناه؛ فقال ابن عباس والحسن والسدي: المعنى ما كان للرحمن ولد، فـ }إن}بمعنى ما، ويكون الكلام على هذا تاما، ثم تبتدئ}فأنا أول العابدين}أي الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له. والوقف على }العابدين}تام. وقيل: المعنى قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده، ولكن يستحيل أن يكون له ولد؛ وهو كما تقول لمن تناظره: إن ثبت بالدليل فأنا أول من يعتقده؛ وهذا مبالغة في الاستبعاد؛ أي لا سبيل إلى اعتقاده. وهذا ترقيق في الكلام؛ كقوله وينشد أيضا: قال الجوهري: وقال أبو عمرو وقوله تعالى}فأنا أول العابدين}من الأنف والغضب، وقال الكسائي والقتبي، حكاه الماوردي عنهما. وقال الهروي: وقوله تعالى}فأنا أول العابدين}قيل هو من عبد يعبد؛ أي من الآنفين. وقال ابن عرفة: إنما يقال عبد يعبد فهو عبد؛ وقلما يقال عابد، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ، ولكن المعنى فأنا أول من يعبد الله عز وجل على أنه واحد لا ولد له. وروي أن امرأة دخلت على زوجها فولدت منه لستة أشهر، فذكر ذلك لعثمان رضي الله عنه فأمر برجمها؛ فقال له علي: قال الله تعالى {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} قوله تعالى}فذرهم يخوضوا ويلعبوا}يعني كفار مكة حين كذبوا بعذاب الآخرة. أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم }حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون}إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة. وقيل: إن هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو محكم، وإنما أخرج مخرج التهديد. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد وابن القعقاع وابن السميقع }حتى يلقوا}بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف؛ وفتح القاف هنا وفي}الطور}و}المعارج}. الباقون }يلاقوا}. {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم} قوله تعالى}وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}هذا تكذيب لهم في أن لله شريكا وولدا؛ أي هو المستحق للعبادة في السماء والأرض. وقال عمر رضي الله عنه وغيره: المعنى وهو الذي في السماء إله في الأرض؛ وكذلك قرأ. والمعنى أنه يعبد فيهما. وروي أنه قرأ هو وابن مسعود وغيرهما }وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله}وهذا خلاف المصحف. و}إله}رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي وهو الذي في السماء هو إله؛ قاله أبو علي. وحسن حذفه لطول الكلام. وقيل}في}بمعنى على؛ كقوله تعالى {وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون} قوله تعالى}تبارك}تفاعل من البركة؛ وقد تقدم. }وعنده علم الساعة}أي وقت قيامها. }وإليه ترجعون}قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي }وإليه يرجعون}بالياء. الباقون بالتاء. وكان ابن محيصن وحميد ويعقوب وابن أبي إسحاق يفتحون أوله على أصولهم. وضم الباقون. {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} قوله تعالى}إلا من شهد بالحق}في موضع الخفض. وأراد بـ }الذين يدعون من دونه}عيسى وعزيرا والملائكة. والمعنى ولا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة؛ قال سعيد بن جبير وغيره. قال: وشهادة الحق لا إله إلا الله. وقيل}من}في محل رفع؛ أي ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة؛ يعني الآلهة - في قول قتادة - أي لا يشفعون لعابديها إلا من شهد بالحق؛ يعني عزيرا وعيسى والملائكة فإنهم يشهدون بالحق والوحدانية لله. }وهم يعلمون}حقيقة ما شهدوا به. قيل: إنها نزلت بسبب أن النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة لنا منه؛ فأنزل الله}ولا يملك الذين، يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق}أي اعتقدوا أن الملائكة أو الأصنام أو الجن أو الشياطين تشفع لهم ولا شفاعة لأحد يوم القيامة. {إلا من شهد بالحق}يعني المؤمنين إذا أذن لهم. قال ابن عباس}إن من شهد بالحق}أي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل: أي لا يملك هؤلاء العابدون من دون الله أن يشفع لهم أحد إلا من شهد بالحق؛ فإن من شهد بالحق يشفع له ولا يشفع لمشرك. و}إلا}بمعنى لكن؛ أي لا ينال المشركون الشفاعة لكن ينال الشفاعة من شهد بالحق؛ فهو استئناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا؛ لأن في جملة }الذين يدعون من دونه}الملائكة. ويقال: شفعته وشفعت له؛ مثل كاته وكلت له. وقيل}إلا من شهد بالحق}إلا من تشهد له الملائكة بأنه كان على الحق في الدنيا، مع علمهم بذلك منه بأن يكون الله أخبرهم به، أو بأن شاهدوه على الإيمان. قوله تعالى}إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}يدل على معنيين: أحدهما: أن الشفاعة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني: أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها. ونحوه ما {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون} قوله تعالى}ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}أي لأقروا بأن الله خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا. }فأنى يؤفكون}أي كيف ينقلبون عن عبادته وينصرفون حتى أشركوا به غيره رجاء شفاعتهم له. يقال: أفكه يأفكه أفكا؛ أي قلبه وصرفه عن الشيء. ومنه قوله تعالى {وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون} قوله تعالى}وقيله}فيه ثلاث قراءات: النصب، والجر، والرفع. فأما الجر فهي قراءة عاصم وحمزة. وبقية السبعة بالنصب. وأما الرفع فهي قراءة الأعرج وقتادة وابن هرمز ومسلم بن جندب. فمن جر حمله على معنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله. ومن نصب فعلى معنى: وعنده علم الساعة ويعلم قيله؛ وهذا اختيار الزجاج. وقال الفراء والأخفش: يجوز أن يكون }قيله}عطفا على قوله أراد: ويقولون قيلهم. ومن رفع }قيله}فالتقدير: وعنده قيله، أوقيله مسموع، أوقيله هذا القول. الزمخشري: والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه. والرفع على قولهم: ايمن الله وأمانة الله ويمين الله ولعمرك، ويكون قوله}إن هؤلاء قوم لا يؤمنون}جواب القسم؛ كأنه قال: وأقسم بقيله يا رب، أو قيله يا رب قسمي، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وقال ابن الأنباري: ويجوز في العربية }وقيله}بالرفع، على أن ترفعه بإن هؤلاء قوم لا يؤمنون. المهدوي: أويكون على تقدير وقيله قيله يا رب؛ فحذف قيله الثاني الذي هو خبر، وموضع }يا رب}نصب بالخبر المضمر، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع حذف بعض الموصول وبقي بعضه؛ لأن حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور. والهاء في }قيله}لعيسى، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد جرى ذكره إذ قال {فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون} قال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم؛ فصار الصفح منسوخا بالسيف. ونحوه عن ابن عباس قال}فاصفح عنهم}أعرض عنهم. }وقل سلام}أي معروفا؛ أي قل المشركين أهل مكة }فسوف تعلمون}ثم نسخ هذا في سورة }التوبة}بقوله تعالى
|